لا تحلفو, محلوف عليكن...
لا يتجادل اثنان في أن الكهرباء السورية تعاني الكثير, غير ان أحدا لن يتعرض في هذه العجالة لكـمّ التراجيديا والكوارث الفنية والتقنية والتخطيطية المحيطة بهذا القطاع, إذ سنقفز حالا على سبيل المثال عن كل وساوس الخصخصة عن طريق التسلل التي تحوم حول مشاريع انتاج هذه الطاقة هذه الأيام (راجع تصريحات الوزير المختص بعد مذكرة التفاهم مع شركة الخرافي مؤخرا), كما اننا سنتستنكف عن إرسال شباكنا في محيط معاناة ما يسمى تقليديا بـ(الإخوة المواطنين) وهم يتلقون بصدور وجيوب عارية ما تتحفهم به دوائر الجباية (والاستثمار) في مؤسسة الكهرباء من فواتير باهظة, قد لا يتاح لبعضهم أحيانا حتى أن ينفذها ويدفعها ومن ثم يعترض -حسب المقولة الدارجة- مثل ما وقع مع أحمد. ح 51 عاماً, والذي أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته على كوة الدفع في فرع الشركة في دير الزور(يعني حدن بيئلك جلطوه؟!....إيه جلطوه).
وأيضا وأيضا لن نشهق عجبا أكثر منه إعجابا ونحن نسلم الفرنسيين (شركة جي أف أي على وجه التحديد) براءة اكتشاف ان بلادنا مشموسة ومشمسة أغلب أيام السنة, وبالتالي فإنه من الممكن اليوم (كما كان منذ عقود طويلة سبقت زيارة ساركوزي, بل قبل ولادة هذا الأخير حتى) بناء محطة توليد كهربائية على الطاقة الشمسية في القطر.
والغاية هنا كلها من هذين السطرين هي التعليق على تفريع وتفصيل ليس من المتوقع له ان يثير كبير جلبة, ولا ان (يكهرب) أحدا على المدى االقصير والمتوسط, والتفصيل المذكور وارد في نص المرسوم رقم 18 الصادر مؤخرا, والمتعلق بمعايير كفاءة استهلاك الطاقة للأجهزة الكهربائية.
وتهدف مواد هذا التشريع وفق نص سانا -الذي لا يطاله الباطل عادة- إلى رفع كفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربائية المستخدمة في القطاعات المنزلية والتجارية والخدمية, وذلك بتطبيق معايير كفاءة استهلاك الطاقة على جميع التجهيزات المستخدمة في سورية, إضافة إلى المساهمة في تلبية متطلبات التنمية المستدامة في إطار آلية التنمية النظيفة وتعزيز القدرة التنافسية للأجهزة المنتجة محلياً والأجهزة المستوردة, وتخفيض الآثار السلبية الناتجة عن توليد الطاقة الكهربائية.
أما الأمر الذي يستوقف المتابع فليس في أي شيء مما جاء في الديباجة السابقة, وإنما عمليا فيما سيلحق, حيث من المنتظر بحسب هذا المرسوم, ووفق مادة مخصوصة فيه أن يلزم السيد وزير الكهرباء العاملين المكلفين بتقصي المخالفات, وقبل مباشرة أعمالهم, أن يؤدوا يميناً أمام القاضي البدائي الذي يتبع له مركز عملهم بالنص الآتي:
(( أقسم بالله العظيم, أن أقوم بعملي بأمانة وكتمان تام, وأن أسلك المسلك الذي يحتمه الواجب, وأن أحترم القوانين والأنظمة النافذة وأتقيد بأحكامها في ممارسة مهامي وأعمالي. )). انتهى (علامات الترقيم من عندي)
ويمر قراء كثيرون على هذا البند بالذات مرور الكرام, على اعتبار أن المشرّع الذي خرج علينا بهذه الفكرة بالذات –فكرة اليمين- وفي هذا الموضع بالذات, قصد وفق ما اوصله إليه (اجتهاده) إلى الاسهام بنصيبه في مكافحة الفساد (الكهربائي) في البلد, والحد من التجاوزات المالية ذات الصلة والمستشرية بكثرة أنى وجه المرء بصره, وكبح العدوان المتواصل على المال العام والذي يرتفع (فولتاجه) باطراد في اوساط المتعاطين بهذا الشأن, خاصة منهم اولئك المتسلطين على (جبهات) بعينها في القطاع الصناعي (كامل الدسم), مع قصص في هذا المجال أكثر من ان تحصى او تعد.
غير أن المرء لا يتمالك نفسه –انطلاقا من تلك القصص بالذات- من السؤال هنا تحديدا عن تلك الفئة الكريمة من موظفي وزارة الكهرباء والتي يمكن وصفها بضمير غير قلق على التوالي بـ(المؤمنة) التي .... (لا تعرف الله), هكذا حرفيا!
وفيما إن كان لنا حقا أن نتعشم في أن يردع أمثال هؤلاء من عن إتيان كبائر ما درجوا على اجتراحه لعقود طويلة من فساد وإفساد؛ مجرد قسم مؤلف من سطر ونصف على ورقة A4 تتأرجح فيه الأيدي في الهواء,ويحمل في ذيله ختما رسميا (دنيويا).
هل بلغ المشرع لدينا من العجز في ضبط تفلت فساد قطاعات عريضة في مجتمعه حدا دفعه إلى تلمس (الخلاص) في أمثال هذه الاقتراحات الشفاهية الغيبية الشخصية, بدل سن قوانين مدروسة وصارمة, والخروج بتشريعات وقوانين ذات موضوع ومغزى, يمكن (وفق الأصول التشريعية) إلزام الناس –كل الناس- بها ومؤاخذتهم على مخالفتها قضائيا (وفق الأصول القانونية والجزائية)!
أم ان المطلوب منا هو أن ننتظر ملحقا تشريعيا ما لـ(القسم) إياه يحذر الحانثين به –وفق المنظومة الفكرية التي انطلق منها- من مغبة منقلب افتراضي كمنقلب (الإدعشري) في باب الحارة على سبيل التقريب, والذي شلت -أو احترقت لايهم- يمينه بقدرة قادر بعد أن أقسم يها زورا وبهتانا في إحدى الحلقات الدراماتيكية في المسلسل الشهير؟
أو ربما كان المطلوب هو ان نمد أجل انتظارنا أبعد من ذلك قليلا إلى (يوم الدين) –(قليلا) على اعتبار اننا في آخر الزمان وفق تأكيدات مطبوعات كثيرة في معرض الكتاب الأخير في دمشق- وذلك قبل أن نشفي غليلنا بإقامة الحد على لصوص المال العام, ونشهد على موافاتهم بـ(جزاءهم) وبئس المصير؟
أم لعل الأمر برمته لن يتعدى –بحسب فتاوى نافذة- أن يدفع هؤلاء (المجرمون) كفارة يمين, و(يصوموا) ثلاثة أيام في أسوأ الأحوال, في حال كانوا انفقوا ما سرقوه على (ملذاتهم الشخصية) –بالإذن من علاء الدين الأيوبي- عقابا على كذبهم ونفاقهم, و(كان الله غفورا رحيما)! من المثير حقا تخيل ما يمكن ان يؤول الحال إليه –من دون تصعيدات درامية- فيما لو سعت وزارات ومؤسسات اخرى في (الدولة) إلى اقتباس تجربة وزارة الكهرباء السورية, أواستنساخها ميدانيا, في حقول اجتماعية وخدمية اخرى, كوزارة التعليم مثلا, او الصناعة, أو الاتحاد الرياضي, أو التلفزيون السوري, أو حتى وزارة الثقافة!
فيصير لزاما على سبيل المثال على تلميذ التعليم الأساسي (الحلفان) انه سيدرس وينجح في الإملاء والحساب والتربية القومية, هو والخمسين طليعي المحشورين معه في ذات الصف, رغم أنف سبيس تون وكارتون نت وورك, وعمالة الأطفال ..
والتاجر أنه سيشتري ويبيع و(يربح) بالحلال الزلال رغم القوانين المالية الرجعية (ذات التأثير الرجعي), والتي تضرب دون سابق إنذار, ودوريات التموين (بنت السوق) التي تتغاضى عن دفتر الحسابات الأصلي المخفي في جبّة الحجي..
والصناعي أنه سيبتكر وينافس وينجح, متجاوزا الضرائب الباهظة على المواد الأولية وإغراقات رفاقنا المليار والنصف شغيل في الصين الشعبية (جدا), ناهيك عن مقاصل قوانين المناطق الحرة العربية والإفرنجية التي لا ترحم..
ولاعب المنتخب أنه سيسجل من أرضية زاحفة تعلو العارضة بقليل –التعليق منسوب لوجيه شويكي- بعد خمس دقائق من شلفه في الملعب دون إحماء وبقميص ورشة الدهان التي ستتكفل بمصاريف عرسه بدل راتب الاحتراف الافتراضي في مجاهل إفريقيا السمراء أو أوروربا الشقراء..
والسيناريست أنه سيكتب دراما سورية شامية واقعية تقدمية, من تسعة اجزاء, لا تتعرض لـ(الأصول!) أو (الفروع!), وتحترم الخلوة الشرعية, وجرائم الشرف, وتشدد على (الكسريـّة)* ترويجا لسوق الكندرجية الآفل فلكلوريا...
والمثقف أنه سينتج شعرا ومسرحا وسينما ونقدا يليق بـ(ستاندرات) الدكتورين, الوزير الآغا, والمدير اللو, ناهيك عن الأمينة قصاب حسن, كي يتاح له لاحقا الاستفادة من العطايا والمنح والفضاءات الأصيلة منها والبديلة لكل من وزارة الثقافة, ودار الأوبرا, وعاصمة الثقافة..
على ان بعضهم يظن -وبعض الظن إثم لا كله- أن موضوع اليمين هذا ليس سوى اقتراح غير موفق من قبل مكتب التشغيل الرسمي في سبيل مكافحة بطالة بعض ممن هم في ملاك الأوقاف هذه الأيام وراء باب الاجتهاد المغلق-ـة, بحيث تتشكل منهم للتو لجان متخصصة لتأليف (أيامين) تناسب جميع الأعمار والمهن وشرائح المجتمع السوري (المعاصر), من أجل (اللحاق) بركب (الماضي) المشرق!
وإلا فما هي الفائدة المتوخاة من وراء هذا النكوص المرضي نحو مفاهيم الحلال والحرام على حساب مبادئ الحقوق والواجبات, وإلى متى هذا الاتكال المستفحل على الغيبي الماورائي, على حساب التحليل المنطقي العقلاني, والمعالجة العلمية الموضوعية والقانونية لما يعاني منه مجتمعنا من أدواء ومفاسد.
لم يكفنا (قسم) أبقراط يوما غائلة الممارسات الطبية الشاذة, ولم تحل (الأيامين) المشبعة وعدا ووعيدا دوننا وأن نقع في الحبائل (الشريرة) للمحامين والمهندسين ودكاترة الجامعة والعسكريين.
ولن أستفيض هنا بالسؤال عن فئة من السوريين (الموظفين) في وزارة الكهرباء العتيدة واخواتها, والذين لا ينظرون إلى انفسهم كمنضوين تحت أية ملة بعينها, وفيما إذا كان فرض (أيامين) من هذا القبيل عليهم يخرق إلى حد ما حقوقهم الدستورية –التي يستمد أي قانون قوته منها- في حرية اختيارهم لما يريدون الاعتقاد به أو ما لا يريدون, وفيما إذا كان قسـمٌ من هذا القبيل يعني لهم أي شيء على الاطلاق, ومدى مساهمته في دفعهم او ثنيهم عن تصرف ما, سواء أكانوا من نظيفي الكف أم غير ذلك.
صديق لي لم يبد له رغم كل شيء, أن القانون إياه يحمل كل هذه (المفاعيل) و(الهواجس) على حد تعبيره.
ومع التاكيد على أن (الحرب) على الفساد تكون بـ(يمين) الساعد واليد والعقل, لا (يمين) الغيب والمرسل, فربما كان من الأنجع لي فحسب الاكتفاء مرة اخرى -وكما أفعل عادة- بالانحناء مليا لردة فعل جدتي التي لم تتأخر لحظة واحدة وأنا أتلو عليها نص المرسوم إياه عن التمتمة في مأثرة أخرى من مآثرها المرتجلة ودون ان تتوقف عن تدريج حبات سبحتها بين أصابعها قائلة:
آلو للحرامي حليف....آل: إجاني الفرج!
_________
* حذاء أو (صرماية) عادية يتم كسر (طعج) مؤخرتها بشكل فلكلوري لأسباب غامضة تاريخيا
2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق