كأي صياد سمك في سيريلانكا، فوجئ المثقّفون السوريون بالرجفة العظيمة التي هزّت البلاد من جنوبها في آذار/ مارس 2011. وكما التقط مذياع الصياد الشارد موجة الأثير التي سحبه إليها موج الماء المتلاطم ليسمع اسم سوريا للمرة الأولى؛ وقعت بالصدفة أقلام ورِيَش وعدسات المثقّفين المحليين على صرخة "الشعب"، عارية للمرة الأولى. صرخةٌ كان قد أتلفها المجاز في عروضهم، وأنهكتها التورية والاستعارة في كتاباتهم، وأوشكنا بعد أربعين عاماً أن نقتنع بأنّ "الحرية" لا تُلفظ إلا همْساً، وأنّ هذه البحّة المزمنة في حناجرنا هي طبع "بيولوجي" كألوان العيون وطول الأصابع.
فإنْ كان إسقاط النظام الديكتاتوري في سوريا يحتاج، بعد ثلاث سنوات، إلى عسكرة وتسليح ومناطق حظر جويّ؛ فإنّ الأقدام الحافية الأولى التي تدافعت في درعا لم تواجه عناءً يُذكر في إسقاط أقنعة المثقّفين السوريين المكرسين في البلاد وخارجها.
ومع أنّ الكثرة الكاثرة من هؤلاء المثقّفين ما زالت على استنكافها عن إجراء أي مراجعة جديّة للشيء الذي كانت تدعوه "فعلها الثقافي" على مَرّ السنوات الماضية ومُرّها؛ إلا أنّ الهزّة التي زلزلت مسلّمات فكرية كان مثقفون يركنون إليها أو يتلطون وراءها، انعكست مَيلاً واضحاً لدى عديد منهم إلى العودة نحو الجذور "الميدانية" للتجريد الذي احترفوه فأسرفوا فيه. وذلك بحثاً عن "حبل سُري" مقطوع بين المثقّف ومحيطه الذي من المفترض أنّه يُنظّر له، في حين أنّه كان لسنوات ينظّر عليه.
ولا يخفى أنّ الخلفيّات "اليسارية" و"القومية" لمثقّفين سوريين ملتحقين بقطار الثورة قد يسّرت عليهم بعض الشيء التقاط تذكرة الإياب تلك. فنفضوا الغبار في رؤوسهم عن جوهر المقولات "النضالية" التي كانوا يرددونها استظهاراً من قبيل "الإرادة الشعبية"، و"الطبقات المحرومة"، و"الفئات المهمشة".
ولم يعد نادراً أن نرى مُخرجاً مسرحياً يدق المسامير في منصة اعتصام في بلدته، أو رساماً مشقق الكفّ من نقل أكياس البرغل والطحين، أو عازفاً موسيقياً خبيراً بالأصناف الطبية لأكياس الدم ومسالك تهريب إبر الكزاز. وهو مشهدٌ كان يجدد دائماً نسغ الحياة في الشرايين النازفة لأيّام التظاهر الدامية.
غير أنّ هزة أخرى ستأتي سريعاً لتنغص على كثير من المثقّفين هذه النشوة "الغرامشية" المتمثلة بعودة العضو المبتور إلى الجسد الناهض. فهذا التناغم الـ"طوباوي" الذي بدا لوهلة أنّه في طريقه إلى لمّ شمل "الجماهير" مع "طبقتها المفكرة"؛ سيفسده ـ من وجهة نظر المثقّفين بالطبع ـ "كورال" الرصاص الهادر، بعد نشاز "الله أكبر" الذي كان من الممكن "تكتيكياً" بنظرهم احتواؤه أو معادلته في الإعلام.
وهي مفاجأة أخرى، تأتي في التحليل البارد كنتيجة منطقية للوقت الطويل ـ الأشهر الستة إلى الثمانية الأولى ـ الذي استغرقه المثقّفون السوريون في إعادة ارتداء قميص "المثقّف العضوي" الفضفاض أصلاً، ومحاولة "الالتحام" ثانية مع الجموع المنتفضة.
غافلين عن أنّهم كانوا طوال تلك الفترة مجرّد مجموعة مضطربة تجري لاهثة وراء الحشود السائرة، بعيداً عن غرف عمليات توجيه الحراك.تلك الغرف كانت تنتج ـ بمعزل عنهم مرة أخرى ـ آليات زحفها، وتقترح من عنديّاتها ـ ولنقل ترتجل ـ الحلول لما تواجهه من تحديات خطيرة على الأرض، وعلى رأسها إصرار النظام على فرض شرطه العسكري "التوراتي"، وإطلاق يد غوله الأمني اغتصاباً، وتقتيلاً، وتدميراً، استجلاباً منه لردة فعل غريزية، ليس أقلّها غريزة البقاء، وهو ما نجح فيه نهاية.
فكان لاجتماع "العسكرة" مع تنسيقيات "التأسلم" في ردة فعل الناس على الأرض وقع الصاعقة على كثير من الرؤوس المثقّفة الحالمة. ما خلق فصاماً جديداً في خطاب المثقّفين السوريين تجاه "شعبهم/جمهورهم".
خطابٌ كانت أقلامهم بالكاد قد خطّت أحرفه "الرومانسية" الأولى، والتي ستستحيل لاحقاً لدى جماعة منهم إلى معلقات تقريعيّة مقذعة، ومحض إنشائية. ولدى جماعة أخرى ـ لم تضغط زناد بندقية صيد يوماً ـ إلى تمجيد أعمى للسلاح، من دون أن تتنازل بالطبع عن "هواجسها" العلمانية التي ستظل ملتبسة في نظر مَنْ من المفترض أنّها تدعمهم "روحياً" في "كفاحهم المسلح".
في حين سينأى فصيل مثقّف آخر بنفسه عن كل هذه المعمعة، لينكص القهقرى إمّا إلى عدميّته الأصيلة السابقة على الثورة، أو إلى صفوف مثقفي السلطة القمعية، والذين انتظموا على متاريسهم في خنادق "المعركة".
وبهذا المعنى، ستغدو السيرة المؤسفة ـ حتّى الآن ـ لأحد "المثقّفين العضويين" السوريين مضرباً للمثل والعبرة لمدة طويلة ولا بدّ. فبعد أكثر من سنتين من النضال "المثقّف" في العاصمة، والعاصمة لا تعصم؛ يضطره الظرف الأمني القاهر إلى الفرار إلى بلدته ومسقط رأسه في الشرق، والتي، بحسب النظرية الغرامشية، كان من المفترض بها أن تكون أكثر أماناً بالنسبة إليه تحديداً، لكنّه لن يتمكن من الصمود فيها لأكثر من عشرين يوماً.
وللمرء أن يتخيل تلك الفجيعة المؤلمة لنا جميعاً.نعم. كان الأحرى بنصف المليون فلاح الذين نكبهم الجفاف المتواصل منذ 2005 ـ على أقرب تقدير ـ وهجّرهم من أراضيهم في شمال وشرق البلاد؛ أن يفتحوا جلابيبهم طوعاً لرصاص النظام الذي ألجأهم إلى غور الأردن على حدود فلسطين المحتلة بحثاً عن عمل.
وكان الأحرى بهم قبل ذلك، وهم المتروكون بلا مدارس أو كهرباء أو خدمات زراعية حتّى، أن يهتفوا "فولتير.. سبينوزا.. دريدا" عوضاً عن "مالنا غيرك يا الله". ومَن يعلم، ربما كانت "الثورة السورية" حينها ستكون أليَق بروايات وأشعار ما قبل النوم التي كان مثقفونا على أهبة الاستعداد لتسطيرها، بدلاً من هذا الأحمر الوحشي الذي يفترس وثير كراسي مؤتمراتهم بلا هوادة.
نشرت في العربي الجديد