فجأةً، يسارع مثقف عربي مكرّس إلى التخفّف من مكياج رزانته الثقيل، ويلم خصلات شعره الطويلة داخل قناع صوفي داكن، ويخرج من أدراجه السفلية ـ حيث ترقد أفكاره التي ستغيّر العالم ـ قفازاً أسود بنهايات مطاطية سميكة تساعده على إخفاء بصماته الثقافية المميّزة، داسّاً في جيبه كيساً من الكتان يحمل شارة آخر مؤتمر دُعي إليه منذ عقد على الأقل، قبل أن يضع جوّاله في وضعية "صامت"، منتظراً غياب الشمس.
لم يتمكن أي ناشط في الربيع العربي حتى الآن من بث فيديو المشهد السابق على "يوتيوب"، لكن هذه هي بالضبط التحضيرات التي يستقبل بها معظمنا أنباء ثبوت رؤية هلال معرض الكتاب في إحدى عواصمنا القومية. فقد باتت هذه المعارض توفّر دورات تدريبية مفتوحة لتمكين مَن يسمى بـ"المواطن العربي" من فنون اللصوصيّة والاحتيال. فرص "رسمية" عزّ أن تجد لها نظيراً في أماكن أخرى على هذا الكوكب القارئ.
فبغير هذه الطريقة كيف هو السبيل إلى الحصول على نسخة من كتاب "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد، أو معرفة أسماء "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أو السير على "درب الآلام" السوري لعزمي بشارة، أو حتى تذوّق "الخبز الحافي" لمحمد شكري يومَ جوع؟
فوفقاً لدوائر الحسبة والتحسّب في جزيرة العرب ـ وزارة الثقافة والإعلام وكذا ـ حرّمت إدارة معرض الكتاب في الرياض، على سبيل المثال، هذا العام وحده مشاركة أكثر من 350 دار نشر عربية. وهو رقم يفوق عدد الدور المشاركة في معرض الكتاب العربي في بيروت، ويقارب نصف عدد الناشرين الحلال في معرض القاهرة.
هذا كلّه ولم نقارب بعد "ميلودراما" الثقوب الغائرة في جيب القارئ العربي، الذي يستغفر راتبه كلّما مسّت يده بالخطأ مخطوطاً يحمل في زاوية "باراكوده" ـ التي تشبه قضبان الزنازين ـ أصفاراً تزوغ منها الأبصار، أو انخفاض معدل السعرات الحرارية المطبوعة للفرد في منطقتنا، أو المعدل الأكثر انخفاضاً منه والخاص بنسب القراءة للفرد ذاته وللمنطقة نفسها.
يدخل المثقف، يقف عند زاوية الجناح، يحكّ أذنه مرتين، يمسّد طرف شاربه الأيسر مرة، ثم يدسّ عشرين دولاراً تحت طبق "البرغر" الساخن على الطاولة. يقف الناشر، يستشرف منحنيات الممر النظيف بطرف عينه، يكرّج فيروز حبات سبحته، يرمي بطبق "البرغر" في القمامة طاوياً ورقة العشرين في باطن كفه. ثم يدفع الطرد الملفوف بجريدة الأمس سنتيمترين إلى الأمام وهو يتثائب.يأخذ المثقف نفساً عميقاً، ثم يسحب الطرد من تحت رزمة الفواتير الفارغة إلى داخل جيب خاص وواسع في معطفه البني بحركة واحدة، ويمضي.يجلس الناشر، يفرقع أصابعه، ويخرج طبق الـ"هوت دوغ " ويضعه على الطاولة أمامه، فيما يصدح صوت إمام مسجد المعرض شجيّاً في صلاة العشاء:"إقرأ باسم ربك الذي خلق".
نشرت في العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق