2014-04-07

اكذب ولن تصدّق أحداً بعد اليوم






سامورا غوشي ("بيتهوفن" الياباني)، المنكوب مؤخراً بافتضاح كذبه "السيمفوني"، ليس سوى طالب فاشل في إحدى زوايا المدينة الجامعية مترامية الأطراف، والتي تخرّج في كل لحظة أفواجاً من الموسيقيين والرسامين والكتّاب والراقصين والأكاديميين، ممن يتقنون حرفة الكذب بنموذجه "الطوباوي" الأمثل.

دعونا لا نقف عند غوشي الوقفة التي بُهت لها كثير من مثقفينا الشهر الفارط. فلدينا في مراكز البحوث والدراسات، العربية منها والإفرنجية، أكثر مما يسد الرمق فيما يتعلق بمسألة الانتحال أو "Pseudologia Fantastica" وشقيقتها "Mythomania" أي الكذب، إذ أننا ما زلنا قريبي عهد بما درجت عليه تلك المنابر "الأكاديمية" لعقود من الترويج لفكرة أنّه نتيجة للديكتاتوريات المستحكمة في بلداننا، وبسبب الفقر والعوز المستشريين في طبقاتنا "الكالحة"؛ واستتباعاً لمخاوف "الأسلمة" و"السلفنة"، وانكفاء شباب العرب نحو الجنس "السايبيري" وطوابير تأشيرات الهجرة، ناهيك عن قرب احتفال "أولاد عمومتنا" النوويين بأول مائوية استعمارية على أرض فلسطين؛ فإنّ شيئاً ما في منطقتنا لن يتغير. وما حصل هو أنّه للأسباب آنفة الذكر بالضبط تغيّر كل شيء.

ثم ماذا عن فلول الكتبة الكذبة الذين تزدهر صحائفهم (المتربصة بالعدو طبعاً) على حساب غابات الأمازون؟ زادهم في هذا ليس سوى قول من قال: "من السهل على الناس تصديق كذبة سمعوها في الماضي، على أن يصدّقوا حقيقة يسمعونها للمرة الأولى".

ذلك أنّ الكذب الإعلامي لا يستفحل إلا عندما يبدأ الشعب بالظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، إذ لا ضرورة لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين حتّى آذانهم في بؤس الواقع. والاقتباس السابق للفيلسوف البرازيلي باولو ريجلوس فريري، الذي توفي أواخر القرن المنصرم بعد أن صبغ لحيته البياض وهو ينادي ـ من واد آخر ـ بتحرير التعليم من الأكاذيب الرصينة الموثّقة "علمياً" و"تاريخياً".

فمنذ أيام تعليمك الأولى ـ كمثقف في "الكُتّاب" ـ تدخل المدرسة وتشاهد الكذبة "التربوية" الأولى محبّرة بحجم جدارية للأب القائد. ليدركك اللباس العسكري المدرسي سريعاً على سبيل إعدادك لمعركة مصيرية لا نيّة أصلا،ً لمن ألبسك تلك البزة، في اجتراحها ولو لفظياً. لتعلم بعد سنوات أنك أنت من أُردي ـ لا عدوك ـ لحظة ارتدائك إيّاها.

وكل هذا ولم تفتح بعد صفحة واحدة في دفترك الصغير الذي ستتسع سطوره تباعاً وبالإكراه الاستظهاري لمجلدات من النفاق القومي، والتقية الماركسية، والحتمية التاريخية المذهبية، واستشرافية التراث ومستقبليته.

الكذب هنا بوصفه آلة من آلات القهر، وسلاحاً من أسلحة الدمار "الثقافي" الشامل الذي يذوّب ـ كالكيماوي ـ مَلَكَةَ النقد وفطرته لحساب مسلمات مفبركة، أو فبركات تُلصق بالمسلمات فيصير نقضها وكأنّه نقض للبديهية نفسها.

تـَكاذبُ الإكليريوس على غاليلو وكوبرنيكوس لم يوقف دوران الأرض لا في رأسَي الفلكيَيْن ولا في عينَي تلسكوبيهما المصوبين نحو "الصدق" السارح في أعماق المجرّة؛ بل أوقف سيلان المادة العصبية لعقود في أدمغة الملايين الذين ظنوا بهذين المناضلين الشعوذة والهرطقة، قبل أن يصبح التجديف القديم ـ لاحقاً ـ مادة أصيلة لكل إيمان بالمستقبل.

والكذب يستبطن العنف ضرورة، رمزياً بحسب بورديو، أو ناعماً باجتهاد ألتوسير، إلى أن ينتهي بنا المقام متفرجين على نهاياتنا بأيدي وأرجل قبائل موظفي العلاقات العامة وعشائر الخبراء المشهود لهم من طبقة "الزبد" السياسي الطافية.

لكن دعونا لا ننسى أن الكذب في النهاية بحاجة إلى اثنين لتقوم قائمته: كذوب شارد، وصدّيق وارد.
يأخذ بيدنا إلى عينة من الكذب "المثقف" الذي تواضعنا على الفخر به، ما يقوله ابن سلام الجمحي البصري في لحظة مكاشفة (لعل لحيته ورأسه ابيضّا بسببها وله سبع وعشرون سنة): "وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة من بعد، فزادوا في الأشعار".

وتبقى المأساة الملهاة أنّ "عقاب الكاذب ليس بأنّ أحداً لن يصدقه مستقبلاً، بل بأنّه هو من سيفقد القدرة على تصديق أي شيء بعد اليوم". صدق برنارد شو. هذا أو فلنُقنع المحاصرين في مخيم اليرموك بأنّ لهم في "البسكويت" حصة. 



ليست هناك تعليقات: