يدخل بلحيته الرماديّة المشذبة، وعطره المدروس تحت ياقة بيضاء. يفتح الـ"الباور بوينت" مباشرة على شاشة "الديجتال" 42 إنش، ويجلس بانتظار اكتمال وصول الحضور. صديقي الجديد القادم من "كفرنبل" والذي سيفقد ذراعه إن لم يستطع تأمين حجز المستشفى في طرابلس اليوم؛ ينظر إليه ويهمس لي:" شكلو الأستاز فهمان".
إنّه "الخبير".
بعد استفحال انتفاضة التِقانة بين ظهرانينا؛ أصبحت السلطةُ للمعرفةِ ومنتسبيها من فنيين وتقنيين وخبراء. آمين.
لكن أن يقتنع المرء بأنّ هؤلاء القوم ينحتون في صخر الملمات الداهمة بلا أهداف سياسية؛ أمر يصعب ابتلاعه. يتّخذ "التنكنوقراطي" المعاصر، ومثاله سوري هنا، من فرقعة "بالونات" الأيدولوجيات المتطايرة يمنة ويسرة هواية محببة إليه. وعندما يدخلُ بلداً "ما" يعيش ثورة شعبية؛ يصبح المرادف التقني لها مفردة "أزمة" أو "اضطراب"، مقارنة بعقود استقرار الديكتاتورية المحلية، والتي كان يمكن لها -برأيه- مع شيء من "الإصلاح" والشركات القابضة أن "تتغير" إلى ديكتاتو-قراطية عابرة للقارات.
إمعاناً في الابتعاد عن السياسة، ونموذجها البائس ذلك المثقف السوري العتيق الذي أضاف مؤخراً "ميكافيللي" إلى قائمة أصدقائه على "فيسبوك".
الحديث عن إعادة الإعمار -بهذه السطحية- فيما لا تزال أسقف البيوت تتهاوى تحت أطنان القذائف المرسلة؛ لا نقول إنه يزيد من وحشية "النظام" ويخدّر عيون الضحايا الدامعة فحسب؛ بل ويهمل الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية، والاقتصادية -بطبيعة الحال- التي يتوجب أن يُعاد هذا الإعمار على أساسها -وهي مسألة عقائديّة- كيلا ننجرّ إلى جمع قشٍ نبني به ذات العش المثقوب ثانية.
لكنّ الحاصل هنا هو أنّ النخبة الخبيرة تدور في هذا الربيع كالنحل الطنّان برعاية "ديموقراطية" المانحين و"أمن" البلد المضيف، مسخّرةً ورشات العمل و"الووركشوبز" لإنتاج جيل من سائقي التاكسي المستعدين لتلقف أي عابر وإيصاله إلى أي مضافة شعبية متواضعة في هذا الوطن المحرر المحتل.
وعليه فقد صار عندنا اليوم قناصٌ "تكنوقراط" يسند بندقيته الـ"شتاير" إلى كتفه ويزرع رصاصة تماماً في "البصلة السيسائيّة" للهدف الذي يتحرك أمامه أولاً من أحد المعسكرين على الجبهة.
ومسؤول إغاثة "تكنوقراط" لا يستخدم حساب منظمته الإنسانية مرتين مع ذات العشيقة، أو ذات الممول.
وناطور "تكنوقراط" يغلق هاتفه الجوّال مباشرة بعد انقطاع كهرباء المصعد في برج قيد الإنشاء، وحده الطابقُ الحادي عشر مأهولٌ فيه.
وصحافية "تكنوقراط" تقول إنّها قادمة من الداخل لتوها، وتُعَرّض بتمييع الثورة إعلاميّاً في بلجيكا، قبل أن تحزم جوائزها وتعود إلى منزلها التركي في "غازي عنتاب".
إذا كنت في بيروت، سيرن هاتفك اليوم وتصلك الرسالة النصيّة التالية: "3 أيام من التسوق بدون (TVA) في كل فروعنا". فإذا حثّك الشخص الجالس بجانبك على اغتنام الفرصة دون التوقف عند الطريقة المخزية التي تعامل فيها تلك الشركة موظفيها؛ فاعلم إذاً أنّه هو الآخر ...
..."خبير".
نشرت في العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق