طـلاق شـرعي، وتـراخ اشـتراعي
ينظر كثير من محللي علم الاجتماع إلى الزواج المدني على أنه أحد مؤطرات قيام مجتمع مدني معاصر، وخطوة أساسية لفسح المجال امام التنوع المذهبي والعشائري والعرقي في أي وحدة مجتمعية كي يخرج نسيجا مؤتلفا أقرب إلى التجانس والانسجام، بما يعزز اواصر الانتماء الوطني الأشمل كما يتوخى أن يراه أبناء الوطن الواحد.
علاوة على أن الزواج المدني يحظى بمكانة متقدمة ضمن الأطر الفكرية التي تنظر لعلمانية الدولة، الدولة التي يقع في ضمن أولويات مهامها توفير فرص مجتمعية متساوية أمام مواطنيها, بغض النظر عن اعتبارات الجنس والعرق والدين، ناهيك عن أنه يطرح في أفقه الأبعد حلا نموذجيا لمعضلات اجتماعية خلافية مزمنة, ليس أقلها مسألة تعدد الزوجات، وتحريم الطلاق، ونظام المواريث غير المتوازن, ووصاية أحد الجنسين على الآخر، وغيرها.
أما واقع اليوم فشاهد للأسف على أن التعاطي مع هذه المواضيع المعاشية الملحة والحساسة في حياة كل فرد منا؛ لايزال رهنا بمعبر إجباري يمر في نفق الديني المحض, ويخضع بلا هوادة لردات الفعل على الفتاوى المتضاربة أحيانا، أوالقرارات الروحية المبرمة, والتي لا تقبل الحوار والتأويل من قبل من هم موضوعها, ومادة فعلها, أكثر منه تعاط مدنيا معاصرا، أو تشريعيا برلمانيا، أو دستوريا قانونيا، قابلا للاتفاق والاختلاف عليه، ومفتوحا كما يجب وينبغي له ان يكون امام أسئلة الحداثة, والمعاصرة.
وكل هذا في وقت يتعاظم فيه من حولنا التأثير المجتمعي النكوصي للطائفية والمذهبية والقبلية، وترتفع الأصوات من هنا وهناك في دعاوى صريحة إلى التقوقع الملي, في سبيل حفظ وصون ما يسمى (الفرقة الناجية)، وهي مقولة لا تخص طائفة بعينها، بل تتشارك مبدأها الغالب الأعم من الطوائف والملل، هذه الفرقة التي ستجد ولاشك في الزواج الديني الضيق -الممنوع عن الآخر- موئلا ومذخرا بشريا يعز عليها التفريط فيه، وإن جاء ذلك بكلفة باهظة, تتمثل تمظهراتها الأبشع في التضييق على روح المشاركة والتعايش وجسر الهوة مع الاخر داخل الحيز المجتمعي الذي تحيا بين ظهرانيه.
ففي حين لا يرى الاسلام ضيما في زواج المسلم بـ(الكتابية)؛ يميز بشكل فاقع في الحقوق مع (كتابيّ) يريد الاقتران بمسلمة، علاوة على أنه لا يعترف بأي دين آخر عدا اليهودية والمسيحة، وبالتالي يصبح زواج المسلم بمن هم خارج هذه الدائرة من أديان أخرى او من غير المتدينين نوعا من الهرطقة، والخوارجية المجتمعية.
وفي المقابل ترفض الكنيسة الزواج المختلط، ولا تباركه، وتقاطع (مرتكبيه)، وعلى المسلمة إن هي أرادت الزواج بمسيحي أن تعتنق دينه, بل ومذهبه بالذات احيانا.
أما الذين لاينتمون لذات المذهب فلا تزوجهم على سبيل المثال المحكمة المذهبية لطائفة الموحدين(الدروز)، والزواج المختلط في أحايين كثيرة, ووفق قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1953 والمعمول به حاليا, باطل، وأولاد المتزوجين هم ببساطة في عرف القانون (أولاد حرام, وزنا).
بل إنك لتجد حتى من بين أولئك المحسوبين على المجددين ضمن التيار الديني –السياسي الجديد في سوريا، والجالسين تحت قبة البرلمان الحالي ولا فخر، من لا يتورع عن تشبيه الزواج المدني بسفاد (الحيوانات)، بعد بدعة (بحفض) السياسية التي اتحف بها مشاهديه على LBC العام الماضي, وذلك قبل ان يتراجع –على عادته مؤخرا في تكذيب نفسه على وسائل الاعلام- ويطلب سحب تلك المفردة المشينة من مقابلته.
ولاينغك هؤلاء القوم يتحفوننا يوما بعد يوم بالمزيد من الشطط الذي تذهب فيه ازدواجية المعايير لديهم, إذ وعلى الضد من صاحبنا (المعتدل) إياه، نقع في المقابل وفي فرنسا تحديدا على رأي ديني آخر، يبيح الزواج المدني للمسلمين، بل ويحض على إتمامه بالعقود المدنية التي يتم إنجازها في البلديات، وذلك بعد ان أصدر رئيس دار الفتوى في اتحاد المنظمات الإسلامية باعتماد هذا الزواج المدني (شرعيا)، قائلا أنه لا يرى تعارضا بين العقد المدني والعقد الشرعي، حيث ان السلطات الفرنسية لا تعترف إداريا بالزواج الديني لأتباع أي دين، بل إن هناك مادة في قانون العقوبات تنص على معاقبة من يرتكب مخالفة من هذا النوع بالسجن مدة ستة أشهر وغرامة مالية تصل إلى ما يزيد عن السبعة آلاف يورو.
فعنصر المساواة بين المواطنين إذن أمر غير متوفر من الناحية القانونية خارج إطار الزواج المدني، وذلك في تناقض صارخ مع حقوق الانسان الأساسية والتي تمنع المس بحرية الاختيار لدى الأفراد في انتقاء شركائهم، والذي هو في الأصل منه استجابة للفطرة الطبيعية بالاقتران بالآخر بمعزل عن أي اعتبارات إثنية او دينية، وهو حق نصت عليه الشرعة الدولية لحقوق الانسان في المادة 16 والتي تقول : (تعتبر الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع، وتتمتع بحق حماية المجتمع و الدولة. ومتى أدرك الرجل و المرأة سن البلوغ، يحق لكل منهما الزواج و تأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين.).
كما انه أمر يتعارض مع أحكام الدستور السوري الحالي الذي تنص الفقرة الرابعة منه على: (حرية الوطن لا يصونها إلا المواطنون الأحرار ولا تكتمل حرية المواطن إلا بتحرره الاقتصادي والاجتماعي)، جنبا إلى جنب مع المادة 44 من الدستور ذاته والتي تنص بصريح العبارة (تحمي الدولة الزواج، وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه).
هذا أو أن يلجأ الناس إلى تبديل أديانهم ومذاهبهم، لا تمثلا لحرية الاعتقاد المصونة دستوريا، وإنما مرغمين على النفاق والكذب، بغية الحفاظ على حقهم في البقاء الى جانب الشريك الذي اختاروه أصلا، وذاكرتنا حافلة بعديد القصص التي يتداولها كثيرون عن أناس تقدموا بطلب تغيير دينهم، ليقابل طلبهم بالرفض لافتقارهم للحد الأدنى من المعرفة بهذا الدين القديم الجديد الذي يظهرون نية التحول إليه، وهو تدليس بلا شك اضطرهم إليه القانون نفسه الذي من المفترض به ان يحمي الحقيقة ويحقها، عدا عن أن هذا الأمر لا بد أن يمر عبر قنوات أمنية أيضا وأيضا، إذ لا يمكن لتبديل الدين هذا أن يصبح (شرعيا) دون موافقتها.
وهكذا تبرع تقاليدنا وقوانينا المتأخرة، في تحويل علاقات الحب, وخيارات الألفة والائتلاف إلى غابة جهنمية من المداخلات الممضة، يختلط فيها القانوني بالأمني، والتشريعي الدستوري بالاجتهادي الديني والمتعنت الروحي، في بلد يحوي ما يقارب من سبع محاكم مذهبية متباينة المشارب والأحكام.
فالزواج في القانون السوري هو زواج ديني أساسا مهما حاول بعضهم تجميل الصورة وتلميعها، أما قوانين الزواج المدني الموجودة في سوريا فهي مخصصة لغير السوريين، وعلى من يريد التنعم بها أن يحمل جنسية أخرى (مع أو بدون) جنسيته السورية، ولهذا يضطر سوريون كثر إلى استقبال اليوم الأول من حياتهم الجديدة مع شركائهم الذين اختاروهم وصادف أنهم ينتمون إلى دين آخر أو ملة مختلفة، في دول أجنبية مجاورة كاليونان، وقبرص، استفادة من قوانين الأحوال الشخصية المدنية فيها، بدل -كما ينبغي لتمام مواطنتهم- أن يكون ذلك على ترابهم الوطني، وبين ذويهم.
ولكن يظل على السوريين الذين يتزوجون بالخارج من أجنبيات بعقد مدني أن يواجهوا عند عودتهم معضلة عدم اعتراف المحاكم السورية بشرعية ارتباطهم ذاك.
وفي الوقت الذي نركن فيه نحن لمماحكاتنا التي لا تنتهي حول هذا الموضوع، نرى كيف تمكن بعض (أشقائنا) و(جيراننا) من قطع شوط لا بأس به في هذا المضمار بغرض ترسيخ هذا المفهوم في مجتمعاتهم، كتركيا على سبيل المثال، والتي تتبنى الزواج المدني في قوانينها رغم انها رسميا تعد واحدة من كبرى المجتمعات الإسلامية في العالم مع تعداد سكان يقارب المئة مليون نسمة، وكذلك الحال بالنسبة لتونس، التي يرجع العمل فيها بقانون الزواج المدني إلى ما يزيد على النصف قرن، وهي عمليا الدولة العربية الوحيدة مع هذا الانجاز، أما في لبنان فقد أدى طرح هذا الموضوع في التداول التشريعي العام 1998 كجزء من مكملات اتفاق الطائف الشهير إلى إثارة عاصفة من الانتقاد من قبل متزعمي الطوائف السياسية آنذاك، لما في ذلك من تهديد لسلطاتهم (الروح-دنيوية), ولم تجد الأحزاب العلمانية في حينه هناك عقائدها المدنية فتيلا.
وليس الوضع على ما يبدو بأحسن حالا لدينا هنا، إذ يظل الجانب التشريعي من قضية الزواج المدني -من بين كل جوانب المسألة الأخرى- هو الأفقر بالمعلومة والخبر والتحليل،وما الأمر كذلك سوى لأن المشرع السوري نفسه يكاد يكون مستقيلا تماما من مقاربة هذا المسألة الهامة والمفصلية، إن لم يكن حريصا كل الحرص على تجنبها، وتفادي التطرق إليها، ويكاد يخلو أرشيف المداولات البرلمانية السوري من أي ذكر لهذا الموضوع.
وإذا وضعنا جانبا إلى حين عددا من الأحزاب السورية والتي هي مستنكفة أساسا عن احتضان هذه القضية، بالنظر إلى أنها ليس من منطلقاتها الفكرية أصلا، نجد ان بقية الأحزاب السياسية الموجودة في ساحة العمل الميداني اليوم –أو كما يتراءى لنا أنها كذلك- ، والتي تتبنى من حيث المبدأ فكرة الزواج المدني السوري –أو كما يترائى لنا أنها كذلك- لازالت حتى اللحظة تتهرب من مناقشة هذا الموضوع صراحة، وتبدو عازفة عن الخوض فيه، ومتعففة عن تناوله، تارة بحجة أن الظرف الاجتماعي المحلي في البلد لايزال غير موات للتعاطي مع مثل هذه الطروحات، وطورا آخر عبر تأخير بند الزواج المدني بالذات، ووضعه في مرتبة متدنية على سلم أجندات العمل الحزبي المجتمعي والسياسي، بالنظر إلى ما تعتقده تلك التيارات والأحزاب من وجود مسائل أكثر إلحاحا تشغلها حاليا، وأولويات أخرى أجدر بالمتابعة والرصد.
وربما لأن تلك التيارات السياسية ببساطة لم تتوصل إلى انجاز ملموس، أو تجسيد واقعي لما درجت على التبشير به في أدبياتها التي تملأ بها دساتيرها ورؤوس محازبيها، من ضرورة قيام وضع قانوني متماسك للأحوال الشخصية عماده وحجر الأساس فيه قانون للزواج المدني.
ويكاد الناظر إلى حال تلك الأحزاب يخال أن الأمرلا يعدو كونه في النهاية سوى مجرد شعار آخر يضاف إلى دفتر شعارات المرحلة المزمنة، ناهيك عن العنت والحصاد المر الذي ينال الباحث والمتقصي وراء أية مكتسبات تدعي الأحزاب العلمانية السورية حيازتها عبر (نضالها) الميمون فيما يخص هذا الجانب بالتحديد.
ولقد كان أمرا شاقا بالفعل مجرد محاولة الحديث إلى أي برلماني سوري عن موضوع الزواج المدني، حتى ضمن تلك الأحزاب التي لا تنكر من حيث المبدأ أنها معنية بطريقة ما بالموضوع، وعندما يصل الأمر حد المصارحة بخطط العمل والاستراتيجيات الميدانية، والبرامج الحزبية التي من المفترض ان تسخر لهذا الغرض، وأن تكون الوسيلة إلى إخراج الأفكار والتنظيرات إلى حيز الوجود، وأرض الواقع، تجد فجأة كيف ان البرلماني فلان قد ازدحمت اجندته فجأة، وأن الآخر علان قد تذكر خريطة العالم فراح يتنقل بين بلدانها بلا رجعة، والثالث في عيادته، والرابع ليس من اختصاصه، والخامس وزير، والسادس ...،وهكذا دواليك.
على أننا وبجردة بسيطة نرى كيف أن البعث العربي الاشتراكي والذي يرفع العلمانية شعارا من شعاراته، ورغم مرور حوالي 45 عاما من وجوده في سدة الحكم في سوريا، إلا أنه لم يسبق أن سجلت سابقة تشريعية واحدة لأحد نوابه الذين يشكلون اليوم 53.6% من اعضاء الندوة البرلمانية بأن تقدم منهم من يطرح هذا الموضوع للتداول البرلماني الجاد، أو يعرضه فيها كمشروع قانون بديل عن ذلك المعمول به اليوم، أو أي شيء من هذا القبيل، ونرحب هنا بصدر رحب لأي تصحيح لهذه المزاعم.
من جانبها تقول السيدة رهام بشور النائبة السابقة في مجلس الشعب السوري عن حزب الاتحاد الاشتراكي (جناح صفوان قدسي)، وهو أحد الأحزاب العشرة التي تتشكل منها الجبهة الوطنية التقدمية التي تحكم البلاد، أنها مع (التلون الطائفي في البلد)، ومع (الحفاظ على كيان الأقليات)، وبالتالي فإن موضوع الزواج المدني داخل حزبها ليس مطروحا على الاطلاق، وأنها شخصيا (ضده يالمطلق).
وتجادل بشور بأن (القواعد الشعبية للأحزاب ترفض هذه التوجه)، كما أن الرأي السائد في مناقشات جلسات الجبهة الوطنية التقدمية ميال إلى اعتبار ان هناك (الكثير من الأولويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحظى بمتابعة وعمل وجهد هذه الأحزاب سوى موضوع الزواج المدني).
وتضرب عضو مجلس الشعب السابقة مثالا عن تلك الأولويات التي تتحدث عنها بمشروع قانون يجري التحضير له (في السعودية) لتجريم العنف ضد الأطفال، وهو ما ترى فيه بشور (أمرا متقدما قياسا بالطبيعة المحافظة لذلك البلد ولقوانينيه الاجتماعية غير المتقدمة)، وهو –أي القانون المشار إليه- أمر يجدر بنا هنا في سوريا ان نعمل على غراره على أقل تقدير.
ثم تنتقل بشور للحديث عن مثل آخر ترى فيه كذلك شأنا أولى بالاهتمام بما يتقدم على قانون الزواج المدني، فمن باب مقاربة العربة والحصان، ترى بشور أننا بحاجة ملحة أكثر في الوقت الراهن لـ(إيجاد قانون احزاب ينظم الحياة السياسية، ويهيئ البيئة –إذا شئت- للتداول في موضوع الزواج المدني)
وتؤكد البرلمانية السابقة أن مسألة الزواج المدني في سوريا (لم تطرح على حد علمي أبدا في مجلس الشعب)، وأنها –أي تلك القضية- (لم تـُقدم ضمن برنامج الجبهة الوطنية التقدمية على الاطلاق)، وإذ لا تستبعد بشور ان تكون هذه المسألة قد حظيت بـ(مناقشات فردية)، غير انها تكاد تجزم ان تلك المناقشات لم تتطور أبدا لتصبح (مشاريع قوانين أو برامج حزبية)، لكن الأنكى يبقى أن هذا الأمر لم يتطور كذلك (ضمن الأحزاب العلمانية كالقومي والشيوعي)، وتقول بشور انه حتى بالنسبة لتلك الأحزاب فإنها (لم تطرح مشاريع قوانين من هذا المثال)، وتعلل بشور هذا التراخي بأن (القواعد الشعبية) لتلك الأحزاب (ة تشدهم إلى الوراء بهذا الخصوص).
عجزت في السابق الأحزاب السورية العلمانية ومن بحكمها عبر عقود من مسيرتها المظفرة في هذا البلد، وتعجز اليوم، عن توفير عشرة من أعضاء مجلس شعبها الـ(250) -سواء المنتخبين منهم أو المعينين- بغرض توفير النصاب القانوني لمجرد طرح قانون الزواج المدني رسميا للمرة الأولى في سوريا، لتظل تلك الأحزاب نائمة في عسل توقعات ان يعمد رجال الدين ذات يوم من تلقاء انفسهم -او بمعجزة حقيقة هذه المرة- ومن دون ضغط شعبي وحزبي وقانوني؛ للتنازل من عن سلطاتهم ما وراء الطبيعية, أو التخلي عن وصايتهم على مجتمعاتنا المحلية المحرومة حتى اليوم من حقها الطبيعي والدستوري في اختيار مستقبلها الاجتماعي الوطني.
2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق