أقل ما يقال عنه انه مثير للاهتمام ذلك الخبر الذي وزعته منذ ايام قليلة وكالة الأنباء السورية الرسمية والذي تحدث عن نيل عدد من ضباط الداخلية السورية شهادات دولية مصدقة, لا في اهتمامات الشرطة الكلاسيكية لدينا من إدارة أمنية, أو تشريعات جنائية, أو علوم أدلة, أو إدارة سجون, وما شابه, وإنما شهادات في مجال حقوق الانسان, لا أقل.
ولا بد أن محرر(سانا) الذي وقعت على عاتقه يومها مهمة تصدير الخبر كان قد فرك عينيه مرتين او ثلاثا مثلما حصل مع كثيرين هنا لدى اطلاعهم أول مرة على فحوى النبأ, خاصة وأن وكالة الأنباء السورية اليتيمة في البلد غير معتادة على التعاطي مع مواد إعلامية تتعلق بهذا الموضوع بالذات, بل لعلها انتهجت ولزمن طويل سياسة تعبوية تطنيشية بامتياز تجاه أحداث كهذه, وعليه فإن عبوره –الخبر- من تحت أنامل (سانا) يضيف إليه -على ما قد يكون فيه أصلا- نكهة خاصة يأمل إعلاميون كثيرون ألا تكون بيضة ديك دهرها مستقبلا.
سبعة ضباط على الأقل إذن في وزارة الدخلية السورية اليوم قاب قوسين أو ادنى من ان يصبحوا مدربين في مجال ثقافة حقوق الانسان, وذلك بشهادة مؤسسة حقوقية سويسرية تسعى عبر مشروع لها مع الوزارة المختصة إلى رفع سوية الوعي بين صفوف ضباط الشرطة السورية فيما يخص هذا الأمر, ناهيك عن خلق كادر تدريبي من بينهم قادر على التفاعل مع شؤون –وشجون- ليس من المبالغة الزعم انها لم تكن تاريخيا جزء أصيلا تماما في ثقافة المؤسسة الأمنية المحلية.
ومما يثير العجب حقا هو ان (تطورات) من هذا القبيل تظل قصية عن أي متابعة جادة, ومعزولة بشكل مرضي عن السياق العام لأحداث يفترض انها تقع في الصميم منها.
فهي بالكاد –هذه التطورات- تلقى أي اهتمام في الاعلام السوري الخاص الذي يظهر كسلا سمجا على هذا الصعيد, في حين يحافظ الرسمي الإعلامي –بشكل متوقع أوتوماتيكيا- على متكـّئه خارج (القصة) برمتها.
ففي الوقت ذاته الذي يخضع فيه (40) مختارون من ضباط الشرطة السورية لدورات خاصة في حقوق الانسان كما سلف؛ تظل دزينة من منظمات هذه الـ(حقوق) ومن بحكمها تنتظر هناك في االعراء منذ الأزل تقريبا للحصول على تراخيص رسمية من الوزارات والجهات الوصائية المعنية لتنتقل بعملها إلى سطح الأرض, على امل ان تتاح لها –ولنا- فرصة ما كي تنعتق من (وضعها) الحالي الشاذ, والذي لم تخرج منه حتى الآن سوى بسجل معفر بالكوارث الأمنية والسياسية والإعلامية, لا بل وقبل هذه وتلك ... المهنية.
وفي الوقت الذي يصخي فيه ذوو الاختصاص والرتب (تحت السقف الوطني) السمع إلى محاضرات تتناول دور الشرطة في تعزيز وحماية حقوق الانسان, والقواعد الدولية لاستخدام القوة والأسلحة النارية في عمل تلك الشرطة, نسمع عن مقتل اثنين من المواطنين السوريين أحدهما مطلوب للضابطة الجمركية بجرم التهريب, فيما الآخر للصدفة (متورط) بنشاطات حقوقية, وذلك على يد عناصر امنية كان بمقدورها بروية ووعي أكبر إلقاء القبض على ذينك الشخصين, باعتبار أنهما كانا أعزلين, وليس في نيتهما -على ما نقل شهود- إبدء أي مقاومة تجاه الدورية إياها, آخذين دوما بعين الاعتبار رغم كل شيء تصريحات تم نقلها عن أحد ذوي القتيلين, وهو حقوقي بدوره, يرفض فيها -فيما يخص هذا التفصيل بالذات- الادعاء بأن عملية القتل تلك جرت بقرار مسبق أومتعمد, خاصة وان النيابة العامة العسكرية اضطرت في النهاية لفتح تحقيق حول الأمر وملابساته.
وفي الوقت الذي تخطط فيه وزارة الداخلية السورية لإرسال مزيد من عناصرها إلى بلدان في الاتحاد الأوربي بغرض تمكينهم من تحصيل مستوى متقدم أكثر في المجال الانساني الحقوقي, وتبدي على لسان مسؤوليها انفتاحها على كافة التجارب والخبرات على هذا الصعيد, لازال محامي حقوق الإنسان السوري أنور البني يقضي منذ نيسان 2007 حكما بالسجن مدة خمسة أعوام, مع دفع غرامة تقارب 2000 دولار أميريكي بتهمة نشر انباء كاذبة , وعضويته في مركز حقوقي غير مرخص, المركز نفسه الذي كان منتظرا منه بشكل او بآخر ان يوفر للمرة الأولى في البلاد أرضية لبرنامج تدريبي في مجال حقوق الإنسان إياه, على أن تأخذ المفوضية الأوروبية على عاتقها في حينه مهمة تمويله وذلك في آذار 2006.
وكل ما سبق مجرد امثلة لا أكثر, ولراغب بالاستفاضة ان يطلع على التقارير المحلية والدولية التي لا توفر تفصيلا بهذا الخصوص وغيره.
ما من شك أن مبادرة كتلك التي قامت بها الداخلية السورية –وإن جاءت متأخرة- تستدعي التشجيع, وأن تبني مسؤولي أمن البلد لثقافة حقوق الانسان وإن بشكل خجول مبدئيا, وإبراز دور الشرطة –ومن ورائها العناصر الأمنية الاخرى- في حماية تلك الحقوق, ومن ضمنها حقوق السجناء والمعتقلين واللاجئين, واحترام المعايير الدولية للتحقيق والاحتجاز, أمر ينطوي على اهمية ومغزى, ولا ينبغي المرور عليه مرور الكرام.
إلا أن بقاء اجتهادات حقوقية من هذا القبيل أسيرة الإهمال الاعلامي –في الجانب التوعوي منه على وجه الخصوص- أو فريسة مانشيتات التابلويد السياسي الاحتكاري على الصفين الموالي والمعارض, لكفيل بان يفرغها من أي مضمون عملاني, وان يجعل منها خطوة في الهواء, وذلك في وقت نحن احوج ما نكون فيه إلى تثميرها, والترويج لها ضمن مؤسساتنا الاجتماعية والمدنية كافة, خاصة وأن الفكرة ذاتها على ما هو مأمول خرجت –وإن بقدر- من حيز المحظور الرسمي, من دون ان يغيب عنا في هذا المقام ان سوريا منضوية بشكل أو بآخر ضمن عدد لا بأس به من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان, الأمر الذي يرتب عليها مسؤوليات وواجبات لا تخفى على أحد كدولة وكمجتمع وكأفراد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق