2010-08-08

على سبيل الإعلام المقاوم: مقاومة (التخوين), وممانعة (الإسفاف) أولا ً !

طالعت صحيفة الوطن الخاصة الصادرة في دمشق السوريين في عددها رقم /572/ صباح الأربعاء 28-01-2009 بخبر منقول عمّا قالت أنه بيان لـ"حركة القوميين العرب" يتهم فيه كتابا عربا وسوريين بمهاجمة حركة المقاومة الاسلامية (حماس), ويصف البيان فيما نشرت الصحيفة السورية على لسان وزيرة خارجية دولة الاحتلال الاسرائيلي هؤلاء الكتاب بأنهم "سفراء" لتل أبيب في العالم العربي.

كما تصدر موقع الصحيفة المذكورة على الانترنت عنوان يقول "ليفني توصي بنشر مقالات عدد من الكتاب العرب على موقع وزارة الخارجية باعتبارهم «سفراء»".
وختمت جريدة الوطن خبرها بنشر أسماء اثنين وعشرين كاتبا عربيا ينشرون في صحف ومواقع خليجية ولبنانية ومصرية وأردنية منهم خمسة كتاب سوريين على الأقل.
وقد اصطدمت محاولات الاستفسار وتقصي مصادر الصحيفة السورية في خبرها الخطير إياه بتهرب أحد مسؤولي تحريرها المتكرر عن الإجابة, في تقمص سافر لذلك اللبوس التراثي السمج لكثير من المسؤولين السوريين على الجملة, وباختلاف مواقعهم ودرجات مسؤوليتهم, والمتمثل بالأذنين الفلكلوريتين المقدودتين من الطين والعجين.
وهكذا آثرت الصحيفة الصمت العنيد تجاه مادة مثيرة للجدل ترمي دون براهين أو أدلة كتابا سوريين بتهمة تمثيل مصالح العدو الاسرائيلي في عاصمة بلادهم, والتي لاتزال عمليا في حالة حرب مع تلك (الدولة).
المحرر (المهني) -كما أصرّ مسؤول الصحيفة إياه- قام بخفة لا يحسد عليها بنشر مادة زعم أنها وصلته عبر البريد الالكتروني من جهة تسمي نفسها "حركة القوميين العرب", بعد أن أسبغ عليها –المادة- صفة (التقرير).
على أنّ محرر (الوطن) لم يكلـّف خاطره الصحفي بذل أدنى حد من المتابعة البحثية, والتمحيص الضروري في أصل الخبر وفصله, ولم يطرح على ما يبدو -وإن بينه وبين نفسه- سؤالا واحدا من الأسئلة الصحفية الخمسة او السبعة اللازمة لمصداقية ومهنية أي خبر على الاطلاق.
وإلا لكان الناشر الحصيف –والمستقل- لذلك المنفيستو تبين على سبيل المثال أن رابط الموقع الالكتروني الموجود في أصل البيان الذي بين يديه, والذي يزعم أنه يحيل إلى أحد منافذ وزارة الخارجية الاسرائيلية بهدف التعرف على المزيد من من "سفراء اسرائيل" المعتمدين صهيونيا من الكتاب العرب والسوريين؛ لا يحوي أي رابط او مادة على الاطلاق لواحد على الأقل من أولئك الكتاب السوريين الذين تقصد البيان سيء الذكر التشهير بهم, والتحريض عليهم.
لتتساوى بذلك الجريدة اليومية المطبوعة ذات الميزانية المرقومة, مع مواقع (الشات), ونوادي الترفيه المبتذل على الانترنت, والتي يتغذى معظمها على الاشاعات والنميمة, وما يعرف بالدارجة الشاميـّة بـ(العلاك المصدي), والتي لا ترقى بالطبع لشعار فضفاض من قبيل "أول وسيلة إعلامية مستقلة منذ 40 عاما", مع كل تلك الخطوط وإشارت التعجب والاستفهام التي يمكن تذييل تلك (الاستقلالية) بها من حين لآخر.
أين هي المهنية المزعومة التي ينافح مسؤولوا الجريدة عنها؛ عندما يكون الموقع الوحيد الذي يحمل اسم مصدر خبرهم "حركة القوميين العرب" خاليا من أي من الادعاءات التي روّج لها بيانهم, علما أن الموقع المذكور يتصدره بيان آخر لايمت من قريب او بعيد لبيان الجريدة, ينادي بالحرية من سجون الاحتلال الاسرائيلي لأحمد سعدات (أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -جناح جورج حبش- في الأرض المحتلة)؟
ثم منذ متى واجتهادات العدو الاسرائيلي (الهمجي, البربري, المجرم, الغادر, الكاذب, ...كذا) تشكل مرجعا –لا أقول لا ينشر- وإنما لا يترك منه, ولا يناقش, ولايرد, ولا يعلـّق عليه, في إعلامنا السوري رسميا وخاصا على الجملة؟
ومنذ متى تحيل المطبوعات المحلية السورية أيا كان ولاؤها السياسي لمواقع اسرائيلية للاستزادة في (الخبر) و(المعرفة)؟
هذا إذا تجاوز المرء حقيقة صعوبة الوصول لغالبية المواقع الالكترونية الرسمية للعدو ضمنا, نتيجة الجهود الحثيثة والموصولة لمؤسسة الاتصالات السورية الرسمية في الحجب والتشويش على العشرات من المواقع الالكترونية على الشبكة الدولية, في حين يفاجئ المتصفح السوري هذه المرة بأن الموقع مثار الجدل -والاسرائيلي كما هو مفترض- متاح بصفحاته العربية, والانكليزية, والفارسية, وبالطبع العبرية!
هل من عادة الصحيفة المذكورة حقا –على ما زعم مسؤول فيها - نشر ما يردها من بيانات بمثل هذه الخفـّة والارتجال بعفـّة تحريرية ملحوظة, وعلى صدر صفحتها الأولى, ما لم يكن قد وافقت المادة –أي مادة- هوى في نفس القيم على تلك المطبوعة؟
خاصة وأننا لا نتحدث هنا عن صحف التابلويد والفضائح الصفراء. (أليس كذلك؟)
ألم يكن بمقدور المحرر الهمام, الفخور بسبقه الإعلامي رفع سماعة الهاتف للاتصال بأحد أولئك الكتاب السوريين للحصول -ولو من باب رفع العتب- على تعليق ما,أو ردة فعل, أو تصديق, أو تكذيب, والمتابعة بعد ذلك في نشر المادة كما يريد ذلك المحرر ويشتهي؟
لماذا هذا السقوط غير المبرر في المزالق العريقة للبروباغندا غير المسؤولة, والتي تستند إلى مساواة مقلقة بين المادة الاعلامية والاعلانية, والتي يرمح بعض ناشرينا في غياهبها دون وازع؟
بل يبلغ الأمر حدا مثيرا للسخرية, عندما يتلطـّى ذلك المسؤول الإعلامي في صحيفة الوطن وراء سكرتيرته, التي لم يكن لها خلاص في النهاية سوى ترديد جملة ببغائية مفادها أنّ "الأستاذ خرج, وترك - نسي موبايله في المكتب"!
على أن فقدان الذاكرة ليس مرضا نادراعلى أية حال في أوساطنا الاعلامية والصحفية, وإلا كيف يفسر المرء إلحاح الاعلامي ذاته وغيره, هو ووسيلته فيما تبقى لهم من وقت قرائهم على مواصلة ذم سياسة حجب المعلومات –عند الآخرين طبعا- وتدبيج المقالات المنافحة عن حرية الإعلام, واستحضار الكربلائيات لطما على الشفافيـّة الإعلامية, وتعريضا بالتطنيش المثير للغثيان من بعض أصحاب القرار تجاه الصحافة المحلية, ونعيا للحق المسفوح في الحصول على المعلومة والخبر من مصادره؟
بل لعل الأنكى هو تلكؤ محرر الجريدة المذكورة في نشر رد لأحد الكتاب المشهر بهم, واشتراطه المسبق بأن تتم قراءة الرد من قبل محرر الصحيفة لمعرفة مدى صلاحيته للنشر أولا؟
الأمر الذي يظهر مدى الاسفاف في لي عنق المهنية التي يتم التشدق بها, والتعلق بأستارها الطوباوية, ويكشف عن تناقض فاضح في ادعاء مسؤول التحرير إياه عن انه ينشر عادة ما يرده من تقارير دون جلبة تذكر.
ومن نافلة الحديث القول أن هذا الزعم يحمل في ذاته من التهافت الفاقع ما يجعل في مجرد التفكير في تفنيده والرد عليه مضيعة للوقت, وامتهانا لمدارك أقلّ السوريين إلماما بواقع الاعلام المحلي ووقائعه, مع افتراض حسن النوايا, وسذاجة الادعاء.
فحتى جرائد الحائط في مدارسنا لديها (سياسة تحريرية), ولا تقبل على نفسها نشر كل (إبداعات) طلابها فما بالك بمؤسسة إعلامية ناجزة.
هل تخفى على ذي نظر ومتابعة تلك الوسواسيـّة الراسخة التي يتسم بها -كخلـّة أساس- مسؤولوا التحرير الكبار في أوساطنا الصحفية والاعلامية المحلية ؟
لدرجة باتت معها هذه الصفة بالذات تشكل لدى عدد منهم الميزة الوحيدة تقريبا التي يتم بناء عليها اصطفاؤهم لمناصبهم الجليلة!
ويملك كثيرون منا في الوسط الاعلامي السوري مرويـّات لاتنقضي, ومطولات موثقة في الحوادث والقصص التي تدور حول المدى الميتافيزيقي الذي يمكن لـ(مراجعة) المادة الاعلامية من قبل مسؤول التحرير أن يبلغه لدينا قبل النشر, إن تم.
إذ يـُجهد –والكلام هنا وصفي محض- أولئك القوم أنفسهم في بحث مضن عن كل ما يمكن أن يكون تضمينا, أو إشارة, أو تلميحا, أو حرتقة -متعمدة او عفوية- من قبل كاتبـ/ ـة المادة, وسوى ذلك مما هو مرشح لأن يكون له نصيب ليتطور تأويليا إلى (وجع رأس) رقابي لاحق, يرتب بدوره على المؤسسة نتائج لاتحمد عقباها عادة, مما يعتبر أصحاب الشأن الاعلامي في تلك الوسيلة انفسهم هم ومحرروهم وممولوهم في غنى عنه.
أين هي المسؤولية –وليس الرقابة أبدا- في تعريض أرواح وممتلكات مواطنين لاينقصون سوريـّة عن غيرهم لخطر الاعتداء, أو المساءلة الأمنية دون دليل أو برهان ؟
ماذا لو أن بعض الغوغاء تبرعوا لمعاقبة "أصدقاء وداعمي إسرائيل" المزعومين هؤلاء مدفوعين بما يخالون انـّه حسهم الوطني المستثار ؟
ماذا لو عن ّ على بال أحدهم مثلا الاستشهاد (في) أحد هؤلاء الكتاب الذين يعيش عدد منهم بيننا ويمشون في شوارعنا, ويركبون وسائل نقلنا, والذين لا يحول بين المادة المنشورة في تلك الصحيفة وبين أن تصفهم بالخونة والعملاء سوى ذكر كلمة (الخيانة) حرفيا؟
وهل يبدو هذا الاحتمال ضربا من المبالغة أو الغلو حقا في ظل الأجواء المشحونة التي يعيشها الشارع السوري إثر كل تلك المذابح والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل, والذين لاتزال كثير من جثث شهدائهم مدفونة تحت أنقاض البيوت والمدارس؟
هل هذا هو ما تحتاجه (مقاومتنا) حقا من الإعلام ؟
هل هذه هي الطريقة الرسولية التي نحاول من خلالها تنمية الوعي الوطني لمواجهة المحتل على ما تزعم منابرنا الاعلامية وتدعي؟
ليس مثار خلاف جدي الادعاء أنه لازال أمام الإعلام السوري, وملكاته التحاورية مع هذا الآخر, دربا مضنية ليقطعها قبل ان يستحق وظيفته ودوره.
وإذا وفرنا على أنفسنا الاستماع من هؤلاء القوم الموكلين بمنابرنا الإعلامية لسفسطة الاجابة على سؤال حرية التعبير, والرأي الآخر, ومقارعة الحجة بالحجة,...
فهل يمكن لنا أن نسأل على الأقل عن أية دروس بين ظهرانينا وحولنا يمكن لأحد على الاطلاق أن يستشف منها ضرورة الكف –ولو مؤقتا- عن توزيع صكوك الغفران, وشهادات حسن السلوك الوطني, بهذه المجانية المخزية؟
على جريدة الوطن التي لايملك أحد الحق في أن يملي عليها توجهها وسياستها –ونرجو ان يكون الحال كذلك- ألا تتباطأ أبدا في فتح صفحتها الأولى إياها للردود والتوضيحات التي تردها من الكتاب السوريين وغيرهم ممن أحسوا في مادتها المنشورة تلك إجحافا بحقهم, ومساسا بكرامتهم, أو تأليبا عليهم.
ويجب على مسؤولي تلك الصحيفة ألا يتذرعوا بحجج واهية للتفلـّت من مسؤوليتهم حيال أي أذى جسدي أو معنوي يمكن له ان يلحق بهؤلاء الكتاب, شركائهم في القلم, سواء اتفقوا وإيـّاهم في الرأي, أم اختلفوا عليه.
وللصحيفة -من باب الاختيار الحر دوما- أن تتحرى في المستقبل مهنيـّة أعلى لأداءها, تليق بإعلامنا الخاص الموعود, وتحترم قارئها السوري, الذي يقضي بالمناسبة معظم وقته داخل هذا البلد!
وأن يكفّ إعلامنا المحلي عن معاملة السوريين كلاجئين إعلاميين, او سياحا أجانب, لا يفقهون, ولا يبالون.
وان يتوقف هذا الإعلام عن ركل جمهوره خارج مجال بثه الافتراضي, ودفعه مرغما إلى مصادر أخرى, وصل بنا مطاف الأمور أن تكون إسرائيلية.

في حديث الجنس السوري, ... وللرقيب (شبقه)

لا تخفي سلوى النعيمي دهشتها حيال (فرمان) سحب كتابها برهان العسل من على الرفوف الثقافية الرسمية, والمرسومة في بلدها الأم.
ولم يكن إنكارها -وهي الدارسة (الأكاديمية) لهذه اللغة- لوجود كلمات سافرة في العربية على حساب الـكلمات الـ محجبة , أو احتجاجها على مجتمع التقية الذي نعيش فيه سرا ما عاشه أجدادنا في العلن ؛ ليزيد او ينقص على ما يبدو في ميزان (احتشام) عاصمة الثقافة العربية 2008 .... المنتهية ولايتها.

بل إن محاولة الشاعرة السورية المقيمة في باريس (إنقاذ) مفردات الجنس, وأسماء الأعضاء الجنسية, و(أفعالها), من درك توظيفها (الشتائمي) على مستوى التعاطي اليومي معها، لا تلبث ان تصطدم بالعادات السرية الفكرية لـ(الراشدين فقط), والذين يغتسلون صبح مساء من (مجانبة) ما يزعمون بهتانا أنه ليس من (ثقافتنا) (أصلا).
إذ أن الجنس وعلى الرغم من اتساع ثقوب غربال الرقابة في بعض الأحيان كما تقول النعيمي, إلا أن المتابع لا يزال يجده هناك بوتيرة متزايدة معلقا على الخشبة, دريئة منخولة بالشك والمقصات.

بل لا يبالغ من يزعم أن ثمة ردة (مقدسة) لتمكين هذا التابو, وشد دعائمه أكثر فأكثر بين ظهرانينا, وفي برهان العسل نفسه برهان.
فالكتاب (السوري) الذي سلم جانبه في معرض بيروت للكتاب, وغـُضت الأبصار عنه في معرض أبوظبي, كان لابد أن يغص به معرض دمشق للكتاب.

ربما لأن الوصايات تلح من (منابرها) أن السوريين لم يبلغوا سن الرشد بعد, وربما لأن المافيات (الدينـ-ــوية) ومن بحكمها شنت في حينه –على هذا الكتاب وغيره- داخل أجنحة المعرض وكواليسه بضع (غزوات) مبيتة, تكللت في نهاية المطاف –ليس آخره- بالسرقة الموصوفة, وحجب الأفكار.
ولا رادا على (القضاء) يقضي, ولا عاصمة للثقافة تعصم.

بل إن هؤلاء (الحجَاب) ليجدون على غير موعد سندا لهم في بعضنا الملجم الساكت, أو المقارب المضطر او المدعي, او بأحسن الأحوال فاقد الرؤية, وإن امتلك الأداة.
فتناولنا الصحافي والإعلامي على سبيل المثال للجنس وثقافته يشي بالكثير من الخفة, إذ لا يزال هذا الموضوع بالذات يراوح في التداول (الصحافاتي) بين (العنـّة) و(سرعة القذف).

فهو إما مسربل بالتوريات, والمجاز القاصر, او مثقل بالأكاديمية التربوية, والوعظي المفتعل, وفي كلا الحالين تـُغتال المتعة, وتـُسفـّه الأحلام, ليتمخض الجمل عن مقاربة مبتسرة يابسة, لا نشوة فيها ولا رهز.

وإلا كيف ترانا نقيـّم مركونات كل تلك الملفات الجنسية التي يتعاورها إعلامنا المحلي بين الحين والآخر, والتي لا (تفتح) في فتوحاتها المبينة لا وعيا, ولا جسدا.
أو بماذا عسانا نفسر (الحفاوة) التي استقبلت فيها صحيفة سورية (مستقلة) –جدا- زميلتها البيروتية التي صدرت مؤخرا تحت مسمى "جسد", عندما لا يستطيع المحرر-المحتل الثقافي في صفحته أن (يقاوم) نشر الخبر إياه؛ من دون (بعبصة) رصينة, تستدعي التربوي الوصائي, ليأتي سياق مادته على شاكلة:

"... وحتى لا تتسرعوا بالحكم على الناشرة اللبنانية «المجتهدة»، فهي لا تقدم بورنو رخيصاً باسم الفن, أو جنساً مبتذلاً باسم الثقافة, حاشا للخالق!" نعم, لـ(الخالق).
أو نمط :

"..حسناً, في الغرب هناك اسم مخصص لهذا النوع من «الثقافة» له رواده وأعماره، لكنهم على الأقل لا يتشدقون بالثقافة والفن كلما قاموا بمشروع «هادف» كهذا." نعم, (هادف).

ويـُسقط عزيز قومنا من (شهوته) التطهرية الجارفة أن ثمة في ناسه و(عشيرته) "ن يعيش ويموت من دون أن يعرف طريق جسده, وأجساد الآخرين"*, وإن وفق الأمثولات (الشرعية) وأحابيلها حتى.

ومن قبل هذه وتلك؛ ما اجترحته وزارة الثقافة السورية في مهرجان دمشق السينمائي منذ عام تقريبا, عندما قرر السيد الوزير (ختان) فيلم الافتتاح الروماني (أربعة أشهر, وثلاثة أسابيع, ويومان) لمخرجه (كريستيان مانجيو), وذلك عبر (فرفطة) عدد من مشاهده في سلة قمامته, واقتطاعها لحساب إقطاعيته (الأخلاقية), باعتبارها بورنو, و"إباحية", ودوما في سبيل الحفاظ على (عفة) مهرجاننا و(رزانته).

ورغم أن الكاتبة سلوى النعيمي بثت في أعطاف مؤلفها الأخير "برهان العسل" ما مؤداه أنه من غير المحتمل أن تكون الرقابة "على هذه الدرجة من الغباء"* , فإن كثراً يميلون للاعتقاد أن الكاتبة لم تكن جادة تماما في هذا الجزء بالذات!

لا تجد النعيمي مندوحة من الاستسلام لطلبتها الوحيدة, في ومض حسي لاهث وراء أناه, وإن كان هناك ثمة من يوقد الشمع ويوصد النوافذ لاستحضار الأرواح, فإن بخور الكاتبة و(عسلها) كله منذور لاستحضار الأجساد, بل -وبمزيد من الإمعان- جسدها وشبقها هي بالذات.

على أن القصة تبدأ دائما حين ينتهي الكلام.
بعد ان تفلتنا آخر صفحة من الكتاب وجها لوجه أمام التابو إياها, (منشورا) في عسل وحنظل كل منا بشخصه, محرما يكرر بكارته, وينسج عشه الدبق في رؤوسنا وفروجنا من جديد.

* الاقتباسات المشار إليها مأخوذة من كتاب برهان العسل الصادر مؤخرا في طبعته الثالثة عن دار رياض نجيب الريس-بيروت

عن التجارة ب(غرف التجارة, أو ... بخصوص (خلصنا بقى ), والشهبندر العنيد

كان موقفا لافتا للانتباه حقا ذلك الذي ارتأى اتخاذه راتب الشلاح بعدم (الترشح) مجددا لرئاسة غرفة تجارة دمشق, ومن ورائها وتلقائيا رئاسة اتحاد غرف التجارة السورية لدورة إضافية مع نهاية هذا العام.
وذلك بعد عمر مديد قضاه الأخير في كلتيهما, لدرجة أن كثيرا من العارفين بظواهر الأمور وبواطنها استقروا منذ أمد على التفكير بأنها (ما عادت حرزانة).
والقصد هنا بالأمر غير (الحرزان) ليس الترشح, وإنما عدم الترشح, على اعتبار أن صاحبنا اعتاد الأمر و(أخدت إيدو), وأن الذين من حوله (تأقلموا) و(تركلجوا), بل وتعودوا بدورهم أن يأخذهم هو بالذات (بإيدو), الأخرى طبعا.

لكن الشيء الأكثر لفتا للانتباه في هذا (التطور) اللافت هو تلك الأصوات (التجارية), والإعلامية التي انبرت في التو واللحظة لمناشدة الرجل العودة عن قراره, والعدول عن رأيه, مطلقة في عدد من الافتتاحيات الاقتصادية, والصفحات المحلية, مندبة جوالة, وكربلائية ممطوطة, أقل ما يقال في مراثيها أنها رثـّة.
ومدار كل ذلك التباكي على أطلال الرجل, مديحٌ يتعلق بـ"استثنائية" فيه, وبخلو الساحة من "المنافسين والأنداد" له, وأن مكانه "لا يمكن أن يملأه أي من المرشحين", ناهيك عما ناله من "إجماعٍ قل نظيره"! (من قلة "الاجماعات" حولنا)!

بل إن أحد كتاب تلك المقالات لم يجد في معرض مدح مآثر الشلاح ما يقوله خيرا من وصف المذكور بأنه "تكلم كثيراً عن الاقتصاد, وعن التجارة, وعن التنمية، لكن الجميع كان يشعر أن الأهم هو ما لم ينطق به"!!
من دون أن يعطينا موعدا لليوم, أو الأسبوع, أو القرن الذي ينوي به السيد الفاضل إطلاعنا على "الأهم" الذي لم يقله, كيلا ينتهي المقام بالرجل ليكون أحد الساكتين عن الحق؟ (معاذ الله بالنيابة عن كاتب ذلك المقال).

بل إن الشطط بلغ من الكاريكاتيرية درجة أن رئيس اللجنة المشرفة على انتخابات غرفة تجارة دمشق هذا العام, لم يخجل على رؤوس الأشهاد من التصريح بـ"أسفه" لانسحاب الشلاح!
وهو من هو, على رأس هيئة من المفترض بها أنها تقف على مسافة واحدة من كافة المرشحين, وليس مطلوبا منها ضمن واجباتها أن (تحرد) أو تسعد لاشتراك أو انسحاب أحد.
(الانتخابات دوما بين قوسين, باعتبار أن من شارك من التجار في الاقتراع الأخير في الغرفة لم تتجاوز نسبتهم 39.4% علما أن النصاب القانوني هو 50%)!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما بال هؤلاء القوم في التجارة والإعلام وغيره, والذين ما فتئوا يتحفوننا في مطارح أخرى بشتى أنواع التذمر والشكوى من أولئك الذين تلتصق كراسيهم بأقفيتهم جينيا, ليأتوا هنا وينهجوا سيرة غير تلك التي (ربـّونا) عليها, وليطالبوا بالفم الملآن الزاهدين والزاهدات في مناصبهم أن يعودوا رملا إلى تلك الكراسي بالذات؟

أم أن البلد التي لا يفوّت أحد مناسبة وطنية أو (عميلة) إلا ويطنب في التغزل بأرضها, وهوائها, ومائها, ومطبـّات شوارعها؛ قد خلت على حين غرة إلا من بضعة أنفار, تتوافر فيهم تلك الشروط (الشرعية) لأهل الحل والعقد؟

إلى متى هذه (التنبلة) في محاولة استكشاف مقدرات مجتمعنا الغني والفتي؟

إلى متى هذا التراخي في التوعية الإعلامية بالإمكانات المركونة بين ظهرانينا, والتي يزخر بها محيطنا المحلي؟

لماذا نستسهل إلى هذا الحد الارتماء في الأحضان المترهلة لمن لا يملك لحاضره ما ينفع, فكيف به للمستقبل؟

لماذا هذه المساهمة المجانية في تكريس ممارسات استمرت عقودا, وأفرغت حق المشاركة في صنع الحياة من مضمونه, وغطت على المواهب, ووأدت القدرات, فارضة ما اصطلح عليه لا حقا بـ(واقع الحال)؟

ومن يدري, ربما تصبح هذه الانسحابات الطوعية خلـّة في بقية مسؤولينا المعمرين, فيتاح للبشرة الشابة في هذا المجتمع أن ترى النور, وتشم الهواء, وتصل إلى مواقع القرار.
وإن تبين لاحقا أن إدارة الشباب (كخـّة) أيضا, وثابرت هذه الأخيرة على المسير في ذات الدرب (المجعلك)؛ فعند ذلك بإمكان الشباب على الأقل أن يقنعوا بأن مصائبهم هي من صناعة, وتجارة, وسياحة, وسياسة أيديهم.

وعليهم ساعتئذ أن يتحملوا, ويكفوا عن (النق) الحرام, وتحميلكم -يا من كنتم ولازلتم- تبعات هذا الخراب, الذي تغذيه محسوبيات على منوال هذا (ابن الحجي), وذاك (جوز الست), وحضرتو (ابن أخو الاستاز), والعينتين (صهر المعلم), والأخ (من العيلة), وهلم جرا.
(فارطين) إلى غير رجعة سبحة الـ(لو) والـ(ليت), التي يشعر كثيرون بسببها بغبن من يتحمل أوزار طبقة أكلت حصتها, وحصة من بعدها, وأكلته معها.

وعلى رأي أحدهم من خلف مكتبه في مقهى (الروضة):
"يا عمي استقال..
يا خيي انسحب..
يا دادا ترك..
فيا ليتكم أيضا ترحمونا من مناشداتكم (الوطنية) وتتركوه أنتم أيضا.
هو..
سلميا..
إراديا..
تجاريا..
حلّ عنـّا وعنكم, ... فبشرفكم حلـّوا عنـه وعنـّا." (انتهى الاقتباس-الردح).

وإن كان لابد من مديح؛ فليكن خفيفا على الآذان والمنطق, إذ ليس من الحصافة في شيء الانجرار إلى منح ممدوحينا ما لا نملك حق هبته أو حجبه أصلا, أو أن نعلق رقابنا في (زنانيرهم), ونتمرغ على أعتابهم, كي (يتأبدوا) على مناصبهم, بغض النظر إن كان أولئك الناس مستحقين لما هم فيه أم لا.
أقله ليس قبل أن يقيض التاريخ, والصحافة الاستقصائية ربما, أولاد حلال -غير المعتمدين حاليا- كي ينقبوا في هذا التراث المديد, والجاه التليد, علهم يظـّهرون لنا الجانب (النيجاتيف) القابع هناك في العتمة, من هذا الفيلم الطويل, وذلك في سبيل أن تعتدل الكفة, ويستقيم السياق.

ألا يكفي الشلاح برأيكم 16 عاما في رئاسة غرفة تجارة دمشق, علما أنها –الضمير هنا قد يعود على الرئاسة أو الغرفة- ظلت في بيت الشلاح وآله ما يقارب العقود الأربعة, بعد أن كانت لأبيه منذ العام 1972؟!

فلتأخذ إذا جوقة المسبحين بحمد ما مضى وانقضى استراحة تقنية, تستدرك فيها مثلا أن الدكتور الذي قارب السادسة والسبعين, ليس بحاجة لما (تناضل) هي كي تتبرع به إليه.

فالرجل لن ينضم بهذه السهولة إلى الـ11 أوالـ16 أو الـ20% من العاطلين السوريين عن العمل, ولن يضطر في المدى المنظور إلى توسيط أحد كي يحجز له دورا متقدما في مكاتب التشغيل في العاصمة.

فهو بالغ الانهماك بمناصبه الأخرى الراهنة دون أدنى شك, باعتباره رئيس مجلس بورصة دمشق, ورئيس لجنة الإدارة في مركز الأعمال السوري-الأوربي, ونائب رئيس الاتحاد الإسلامي لغرف (الصناعة-التجارة, باكستان), ورئيس مجلس رجال أعمال سوريا-لبنان, وأمين سر الغرفة التجارة الدولية, وعضو في مجلس الأمناء العربي-الأوربي في جامعة دمشق, ونائب رئيس اللجنة الوطنية السورية منذ عام 1986.

ناهيك عن أشغاله الخاصة باعتباره رئيس مجلس ومدير تنفيذي في شركة الشلاح للتجارة منذ عام 1962 في سوريا, والمالك لمؤسسة راتب الشلاح في بيروت, وعضو مجلس إدارة في شركة رخا ووكالة نيسان للسيارات في سوريا, وعضو مجلس إدارة في بنك سوريا والمهجر, وشريك في شركتين للتجارة في القاهرة, والخرطوم, ومستثمر في شركة البحرين للزراعة العربية, وهو فيما علمنا, وقد يكون فيما لم نعلم.

بماذا ترانا نفسر هذا الحنين الأرعن للرجوع القهقرى إلى أبيض وأسود ذلك الزمن (الجميل), عندما كان شهبندر التجار خصما وحكما (شرعيا), والتقديرات والمقايسات (ع البركة), والعقود والمواثيق (برمة شوارب), والمخاصمات والمنازعات (تبويس لحى)؟

ما مبرر ليّ الأعناق المزمن هذا, والالتفات إلى ماض لا يريد له أحد (مستقبلي) أن يرجع؟

لا لأن رجال (وسيدات) أعمال اليوم يذرعون الأسواق بوجوه حليقة منتوفة, وليس لأن الشركات (المحترمة) اليوم تتسابق للحصول على براءات وشهادات منضدة ومكتوبة تثبت التزامها بمواصفات ومقاييس وضعية بالغة الدقة, ولا لأن مجالس النقابات والاتحادات أحلت الإدارة الجماعية محل الوحدانية الفردية (في محاضر المؤتمرات على الأقل)؛ بل لأن ذلك الزمن (الجميل) قد جايله زمن آخر قبيح وقميء, فيه بدع الغش والتدليس (الأكابري), وفنون تنجير الخوازيق, واجتهادات قطّـاع الطرق, وفروض (خوّات) القبضايات والعناتر –بالمناسبة شواربهم أطول من شوارب أتخن تاجر تاريخيا- وسوى ذلك الكثير.

وإن كانت أدوات ذلك الزمن الجميل بالكاد فاعلة حينها في التعاطي مع هذه الموبقات كلها, فإنها اليوم أعجز من أن تفعل ذلك, وعليه فعلى معتنقي هذا المذهب البائد أن يذهبوا بذهابه.

وليجربوا –على سبيل التنويع- سـَلسـَلة (من المسلسلات) مذكراتهم في أحد (أبواب الحارة) القادمة, أو ليركنوا إلى صنف آخر من الخلود, وهو الخلود للراحة.
وليكتفوا بعدما نالوا نصيبهم –ومن نصيب غيرهم- بغرف نوم وثيرة, بدل غرف التجارة والصناعة والسياحة, ناهيك عن غرف الثقافة والسياسة في هذا البلد.
ومن كان منهم ذا رأي أو حكمة, فليجـُد بها في الإعلام, والمجالس والهيئات الاستشارية, والدراسات, ومراكز الأبحاث, وليرفعوا وصايتهم عن عهد لم يعودوا قادرين على التأقلم مع مستجداته, أو الإلمام بمفرداته ومتغيراته.

وما دام ديدن هؤلاء القوم قول "نعم بصوتٍ عالٍ"، و"عدم قول لا حين يجب أن تقال", ناهيك عن "تغيير المنكر" بقلوبهم, حيث يتربع "أضعف الإيمان" -وفق اعترافات بعض المقالات-البكائيات إياها- فقد بات من الضرورة (البيولوجية) اليوم, استبدالهم بغيرهم من الجيل الشاب, ممن قد يمتلكون حناجر أقوى, قد تتمكن من رفع الصوت يوما, وقلوبا لم تثخنها الجلطات المتكررة, تكون أقدر على مداراة (أضعف الإيمان) التاريخي هذا والمستفحل, إن لم تلفظه نهائيا من دورتها الدموية.

ولا يخافن أحد علينا أن نضل السبيل بدون تلك الزعامات, لأن السوريين "قادرون على تدبير أحوالهم",وفق كلام الشلاح نفسه في المنتدى السوري-الإماراتي قبل سنتين وبحضور أحد شهود العدل الألمان.

وإن كان ثمة من لايزال يجادل بأننا لا نعرف (قدر) الرجل كما تعرفونه, ولم نمالحه كما مالحتموه على ما يبدو –رغم تقادم العهد على أمثال هذه الحجج-؛ إلا أن ما يشفع لنا في واقع الحال هي معرفتنا ومعايشتنا اليومية لـ(قدر) المصائب والكوارث الاقتصادية وأخواتها مما نرزح تحت وطئته اليوم.
وإن كان مدار الحديث بجملته عن التجارة, فإن أول جملة نسمعها –كما تعرفون- من تجار اليوم أنفسهم, موالاة ومعارضة, هي (السوق واقف), و...
(من ثمارهم –كلهم- تعرفونهم).

الانترنت السوري (على الهويّة), القافلة تنبح و(الاتصالات) تسير!!

زفّ المدير العام لمؤسسة الاتصالات السورية مؤخرا لمواطنيه نبأ عن مشروع تأمين خطوط انترنت بالحزمة العريضة ADSL في البلاد, واعدا السوريين بتوفير 33 ألفا من تلك البوابات, وذلك على مرأى ومسمع من السفير الصيني في دمشق الذي ستتولى شركة من بلاده تنفيذ ذلك العقد الفريد الذي طال انتظاره.

وفي السياق ذاته تعلن وزارة التقانة عن توقيعها مع سلطة الاتصالات القبرصية اتفاقا موازيا لإقامة كبل بحري بين البلدين قادر على مواكبة الطلب المحلي المتنامي للنفاذ إلى شبكة الانترنت العالمية, وليكون –الكبل الجديد- رديفا لكبل قديم ممتد بين البلدين منذ أواخر القرن الماضي يربط بين طرطوس ومنتاسخينس كان معدا أصلا للاتصالات الهاتفية.

هذا, إضافة إلى اتفاقية أخرى بين مؤسستي الاتصالات –بين سورية وقبرص كذلك- لتحسين سرعة الانترنت السوري مرتين ونصف -وصولا في مرحلة لاحقة إلى 10 أضعاف!- عما هو عليه الحال راهنا, بكلفة إجمالية يتوقع لها ان تبلغ عدة ملايين من الدولارات.

ناهيك عن مشاريع ثنائية مماثلة قيد الدراسة مع مصر, والأردن, وتركيا, وإيران, تضاف إليها العروض المحلية من هواتف الجيل الثالث القادرة على تصفح الشبكة العنكبوتية الدولية بسرعات تصل حتى 3.5 جيغابايت-ثا, والسعي المعلن لوزارة الداخلية أيضا وأيضا لتركيب بوابتها الالكترونية الخاصة في إطار أتمتمة السجل المدني السوري, وغيرها الكثير من الأنباء التي يستشف المراقب منها عزما حكوميا على تحسين خدمة الانترنت في البلد, والتي دأب محللون من ذوي الاختصاص على وصف وضعها بالكارثي, مقارنة بالبلدان المجاورة, من حيث اتسامها بعدم الاستقرار, والبطء, وارتفاع سعر خدماتها, جنبا إلى جنب مع تواضع الخبرات المهنية المشرفة على تسيير أمورها, وحل مشاكلها.

لكن الذي يلفت النظر حقا إلى حد يثير العجب, بل الاستفزاز, ضمن هذه المعمعة (الإعلانية) الوردية؛ هو ذلك التخبط الاداري المستفحل, وتضارب المصالح الفاقع بين الأيادي (والأقدام أحيانا) التي تتقاذف هذا القطاع, والذي غالبا ما تسبغ عليه أدبياتنا الخطابية المناسباتية صفة (المستقبلي) و(الحيوي) و(الاستراتيجي).

ففي الوقت الذي تحاول مؤسسة الاتصالات فيه إقناعنا عبر عشاءات العمل وصبحيات التصريحات, وماراثون الاتفاقات والامضاءات الذي تخوضه إقليميا ودوليا, بأنها حسمت أمرها تجاه النهوض بالبنية التحيتة البائسة لخدمة الانترنت في البلد, نجد أطرافا وجهات أخرى في الحكومة السورية وسلطاتها ومراكز قرارها, وكأنها تعمل على المقلب الآخر (بالمعنى العامـّي للمقلب) وفق أجندة خاصة ومستقلة, تناقض إلى مدى بعيد وعلى أكثر من صعيد كلام النهار الإخباري.
وإلا فما هو تبرير العودة مؤخرا إلى ذلك التشدد المفاجئ في التعاطي مع مقاهي الانترنت المحلية, والذي وصل حد تعليق رخص بعضها وإغلاقها في قلب العاصمة دمشق, والتضييق على رواد تلك المقاهي من خلال إلزام أصحاب (الكافيات) الطلب إلى زبائنهم كلما أرادوا الولوج إلى الشبكة الدولية إبراز هوياتهم أو جوازات سفرهم, وإتباع ذلك بتسجيل الأسماء, والأرقام, والمعلومات الشخصية الأخرى, وحفظها في جداول خاصة لإبرازها (عند الطلب)؟!.

في إجراء يبدو وكأن الهدف من وراءه هو الإصرار على مجرد وضع مزيد من الحواجز المادية والنفسية بين المواطن السوري وبين ثمار هذه "الثورة المعلوماتية" -على حد تعبير مدير الاتصالات ذاته- التي يرفل فيها باقي سكان الأرض من غير السوريين, أو أولئك السوريون خارج حدود هذه الأرض!
ففي حين توضع الخطط والاستراتيجيات, وتصرف الأموال والاستثمارات لتوطين التكنولوجيا المتقدمة, وتعريف الناس في أقاصي الريف السوري بالانترنت –حيث لا ماء أحيانا ولا كهرباء- عبر الحافلات والباصات المصممة خصيصا لهذا الغرض, نجد بين ظهرانينا من يسعى جاهدا إلى الإمعان في تغريب السوريين عن أداة بالغة الأهمية والخطورة –باعتراف الخطاب الرسمي الحديث- في تطوير حاضرهم, واستشراف مستقبلهم.

فهل يعقل أن تنصب الحواجز المادية والافتراضية اليوم فيوجه مواطنينا, وان تكون الانترنت في بلادنا (على الهوية)؟

وكأن على السوري الذي يفكر في سبر غور هذا الفضاء المعرفي الممتد, أن يشعر قبل أن تلمس أصابعه لوحة مفاتيح الحاسب أمامه بشعور من يلج أرضا أجنبية, أو يتخطى حدودا محرمة, أو يوشك على تهريب ممنوع من بلد آخر, وهو في وطنه, وبين أهله؟!

بل إن من المؤسف حقا أن المؤسسة العامة للاتصالات تتبنى بالفعل لا بالمجاز مفردة "التهريب" حرفيا, ولا تخجل من إطلاقها على الاتصالات التي قد يجريها شخص ما مع قريب أو صديق أو بعيد, عبر الانترنت, رغم ان أعدادا متزايدة من بلدان العالم باتت اليوم تعتبر هذا النوع من "التهريـبـ-ـصالات" جزء لا يتجزأ من تقنيات التواصل المعاصرة, في حين تركن مؤسستنا المحترمة إلى شن حملات شعواء في طول البلاد وعرضها لمداهمة مقاهي الانترنت, وإغلاق العشرات منها على هذه الخلفية.

محملة المواطن العادي جريرة ترهل تشريعاتها المتخلفة, وتراخي كادرها الإداري عن اقتراح بدائل ومخارج قانونية مدروسة, ترد المليارات الخمسة المزعومة –قيمة المكالمات "المهربة"- وتردع الارتجالات غير المنضبطة, والتي تفتح أمام "لمهربين" الحقيقيين من بعض موظفي المؤسسة نفسها أبوابا في الفساد والرشوة والسرقة الموصوفة, من نمط ذلك المهندس الذي ألقي القبض عليه في الحسكة أوائل العام الحالي بجريمة ابتزاز أصحاب مقاهي الانترنت في منطقته, والطلب إليهم دفع رشاوى بلغت عشرات الآلاف من الليرات, مستخدما سيارة دائرته في (مهماته الرسمية), ومستغلا منصبه في لجنة مخالفات ورخص مقاهي الانترنت في المحافظة.

هذا إن لم نجاوز ذلك الموظف وسرقاته إلى ما هو أعظم شأنا وخطرا مما كان يوما مانشيتات صحفية عريضة لم تجد حتى الجرائد الرسمية بدا من نشره والتعريض به.

وتشترط الإدارة التجارية في المؤسسة العامة للاتصالات السورية على من يرغب في الحصول على (رخصة استثمار مقهى انترنت) الحصول على موافقة وزارة الداخلية، كما أن البندين الرابع والسادس يلزمان موفر الخدمة توفير المعلومات الخاصة بالمتصفحين للسلطات المختصة، تحت طائلة سحب الترخيص ممن يرفض ذلك.

فأين هذه الإجراءات (الرادعة) من تلك الندوات والمحاضرات والمقابلات التي يراق فيها كل ذلك الحبر واللعاب والأموال, في سبيل تمجيد (المعلوماتية), و(خلق مكتبة للدراسات والبحوث على الانترنت), و(إنشاء محركات بحث عربية), و(توسيع قاعدة المحتوى العربي على الشبكة), و...و... وغيرها من التوصيات والأهداف التي تحاول لاهثة اللحاق بنسب النمو الهائلة في استخدام الانترنت التي عرفها القطر منذ العام 2000 والتي تتجاوز الـ(3000%) -ثلاثة آلاف بالمائة-؛ بالرغم من الإحصاءات الدولية في مجال استخدام االشبكة الدولية واستثمارها لاتزال حتى عام على الأقل تضع بلادنا في درجات متدنية جدا من سلم بياناتها عن دول المنطقة من حيث نسب التفاعل مع شبكة الانترنت, والتي يظهر أنها لا تتجاوز لدينا هامش الـ(5%) من إجمالي التعداد العام للسكان, لتستقر سوريا في المرتبة ما قبل الأخيرة, متقدمة دون فخر على العراق, والذي يشهد عمليا احتلالا أجنبيا, وشبه حرب أهليةّ!

وعندما تبدأ مؤسسة الاتصالات بحديثها (الطربي) عن (المال العام) و(القانون), لا يجد المرء بدا من تذكير المؤسسة العتيدة بأحد تعميماتها المطوبة والذي سبق لها أن وزعته على مزودي خدمة الانترنت المحليين برفع سعر الاشتراك في الـ(IP) الذي يتيح امتلاكه استخدام الصوت والصورة في اتصال الانترنت والماسنجر وسواه, من 200 ليرة سورية إلى 4000, أي بزيادة عشرين ضعفا, الأمر الذي هبط بعدد المشتركين في حينه إلى 4.5% فقط مما كان عليه قبل التعميم المذكور, رغم أن النسبة النهائية لحصة الانترنت جملة من أرباح المؤسسة (50 مليار ليرة سورية العام الماضي) لا تتعدى 3%.

علاوة على أن حظر التعامل بنظام (IP) في سورية, واحتكاره من قبل مؤسسة الاتصالات لتمنحه لاحقا للمشتركين فقط؛ هو بحد ذاته إجراء غير قانوني بحسب المواثيق والبروتوكولات الدولية الناظمة لهذا القطاع, إذ أن المؤسسة بإصرارها على هذا الإجراء تحرم باقي مستخدمي الانترنت السوريين من (هويتهم الالكترونية المباشرة) أثناء تواصلهم مع العالم الخارجي, وخاصة في مجال التعاملات الرسمية والمالية, ناهيك عن أن مؤسسة الاتصالات إياها تحصل على هذه الـ(IPـيات) مجانا, على اعتبار أن المصدر الذي يمنحها (RIPE) هو بحد ذاته مؤسسة دولية وإقليمية غير ربحية, في حين تعمد المؤسسة إلى بيعه بنسب ربح باهظة كما هو واضح!

الأمر الذي يعيد إلى الأذهان بعض التفاصيل الحميمة من الحقبة (التاريخية) التي دخلت فيها خدمة الهاتف المحمول إلى البلد, وما واكبها من شعوذات تسعيرية مثيرة للسخرية بقدر ما هي مثيرة للألم.

على أن المرء لا يمكن له أن يتجاهل بحال الحديث عن أن سوريا ظلت ترزح بشكل متقطع -مباشرة أو مواربة- تحت حصار تكنولوجي أعمى من قبل خصومها السياسيين الدوليين, كضغط إضافي يندرج في جملة الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية الممارسة ضدها, الأمر الذي حرمها كدولة من نيل (حقها) الطبيعي في الحصول على تكنولوجيا المعلومات, وحد في المحصلة من مساحة المناورة التقنية التي تتمتع بها بلدان أخرى في الإقليم وخارجه, وبرر بين السطور (الرسمية) جانبا من واقع الخدمة السيئ عموما.

غير أن الإقرار ومن ثم التنديد بذلك (الحصار المعلوماتي) الجائر وفق شكوى عمرو سالم وزير الاتصالات والتقانة السابق وفداحة تأثيره محليا, لا يبرر مطلقا تلك الردة الداخلية التي انتهجتها مؤسسة الاتصالات –كأداة تنفيذية غالب الأحيان- ضد المحتوى الالكتروني السوري على الشبكة, والتي بدت كجلد للذات, وانتقام منها, متمظهرة بتعميمات فرض الرقابة المسبقة على هذا المنشور الالكتروني, وقرارات الحجب الفعلية على المخدمات المحلية, ومحاصرة مقاهي الانترنت بالشروط والزواجر, والتلكؤ في توفير المتاح من التقنيات الحديثة الميسرة للخدمة.

فقد اتخذت سياسة حجب المواقع الالكترونية من قبل الحكومة السورية منحى تصاعديا منذ أواخر العام الماضي، فشهد مستخدمو الانترنت داخل سوريا حجب العديد من المواقع السورية والعربية والعالمية, من سياسية, واجتماعية، وثقافية, يستوي فيها التدويني الشخصي بالإباحي بالخدمي بالإخباري.

وفي مقدمتها مواقع دولية شهيرة تلقى إقبالا واسعا, خاصة ضمن شرائح الشباب, وعلى رأسها مواقع (فيس بوك)، و(يوتيوب) و(بلوج سبوت)، و(ويكيبيديا),و(أمازون), وغيرها, ليتجاوز عدد هذه المواقع وفق إحصاءات أحد المراكز السورية المختصة حوالي 170 موقعا الكترونيا.
ناهيك عن التحضيرات الموازية الجارية على (قلم) وساق في وزارة الإعلام السورية لإصدار طبعة جديدة من قانون المطبوعات والنشر تأخذ في (عين الاعتبار) تقنين الشهية المفتوحة للسوريين للتعبير الكترونيا!

وبعد كل هذا وذاك كيف, وفي أي منطق أو عرف يستقيم أن تخطط مؤسسة الاتصالات لصرف ما يزيد عن نصف مليار ليرة من أموال دافعي الضرائب السوريين لتحسين سرعة التجول على الانترنت,في وقت تتمادى فيه المؤسسة ذاتها في سياسة حجب المواقع, وتجريم الاتصال عبر الانترنت باستخدام برامج مثل سكايب وغيره, ومصادرة كاميرات الويب, وفكفكة أجهزة الانترنت اللاسلكي و(الوايرلس) من المقاهي؟!
ماذا بقي للسوريين من الفضاء السايبيري والانترنت كي (يتبهنكوا) به, و يجربوا فيه تلك السرعات (الفلكية) -قياسا إلى الموجود اليوم, سيرياتل 1264 ك.ب-ثا, مؤسسة الاتصالات 872 ك.ب-ثا, آية 424 ك.ب-ثا) والتي ستتكرم بها عليهم مؤسسة الاتصالات؟

إذ أن الأمر لو قيض له أن يجري على هذا المنوال في ظل هذه الشيزوفرينيا الإدارية –فيما لو تمّ أصلا- سيكون أشبه بتخصيص حلبة دولية لـ(الفورميلا وان) لسباق (طرطيرات) محلي!
أم أن القيمين على ما بقي من هذا القطاع في البلد يقيسون أنفسهم بالمسطرة الصينية, على اعتبار أن شركة (هاو..هاو..ي) التي أبرم العقد معها تنتمي لذلك البلد, وبالتالي فهم ينظرون ابعد إلى التجربة الصينية مع الانترنت, والتي أثارت سجالا عالميا لم ينقطع, بعد أن تمكنت سلطات بكين من (تنخيخ) وإجبار شركتي (غوغل) و(سيسكو) وهما من كبريات شركات قطاع الانترنت والبرمجة في العالم على تقديم خدماتهما للمليار ونصف رفيق صيني, وفق النسخة (الحمراء) الرسمية من حرية التعبير والنفاذ للمعلومات.

حقوق الانسان في سورية, بين (الوزر)... و(الوزارة)

أقل ما يقال عنه انه مثير للاهتمام ذلك الخبر الذي وزعته منذ ايام قليلة وكالة الأنباء السورية الرسمية والذي تحدث عن نيل عدد من ضباط الداخلية السورية شهادات دولية مصدقة, لا في اهتمامات الشرطة الكلاسيكية لدينا من إدارة أمنية, أو تشريعات جنائية, أو علوم أدلة, أو إدارة سجون, وما شابه, وإنما شهادات في مجال حقوق الانسان, لا أقل.

ولا بد أن محرر(سانا) الذي وقعت على عاتقه يومها مهمة تصدير الخبر كان قد فرك عينيه مرتين او ثلاثا مثلما حصل مع كثيرين هنا لدى اطلاعهم أول مرة على فحوى النبأ, خاصة وأن وكالة الأنباء السورية اليتيمة في البلد غير معتادة على التعاطي مع مواد إعلامية تتعلق بهذا الموضوع بالذات, بل لعلها انتهجت ولزمن طويل سياسة تعبوية تطنيشية بامتياز تجاه أحداث كهذه, وعليه فإن عبوره –الخبر- من تحت أنامل (سانا) يضيف إليه -على ما قد يكون فيه أصلا- نكهة خاصة يأمل إعلاميون كثيرون ألا تكون بيضة ديك دهرها مستقبلا.

سبعة ضباط على الأقل إذن في وزارة الدخلية السورية اليوم قاب قوسين أو ادنى من ان يصبحوا مدربين في مجال ثقافة حقوق الانسان, وذلك بشهادة مؤسسة حقوقية سويسرية تسعى عبر مشروع لها مع الوزارة المختصة إلى رفع سوية الوعي بين صفوف ضباط الشرطة السورية فيما يخص هذا الأمر, ناهيك عن خلق كادر تدريبي من بينهم قادر على التفاعل مع شؤون –وشجون- ليس من المبالغة الزعم انها لم تكن تاريخيا جزء أصيلا تماما في ثقافة المؤسسة الأمنية المحلية.
ومما يثير العجب حقا هو ان (تطورات) من هذا القبيل تظل قصية عن أي متابعة جادة, ومعزولة بشكل مرضي عن السياق العام لأحداث يفترض انها تقع في الصميم منها.
فهي بالكاد –هذه التطورات- تلقى أي اهتمام في الاعلام السوري الخاص الذي يظهر كسلا سمجا على هذا الصعيد, في حين يحافظ الرسمي الإعلامي –بشكل متوقع أوتوماتيكيا- على متكـّئه خارج (القصة) برمتها.

ففي الوقت ذاته الذي يخضع فيه (40) مختارون من ضباط الشرطة السورية لدورات خاصة في حقوق الانسان كما سلف؛ تظل دزينة من منظمات هذه الـ(حقوق) ومن بحكمها تنتظر هناك في االعراء منذ الأزل تقريبا للحصول على تراخيص رسمية من الوزارات والجهات الوصائية المعنية لتنتقل بعملها إلى سطح الأرض, على امل ان تتاح لها –ولنا- فرصة ما كي تنعتق من (وضعها) الحالي الشاذ, والذي لم تخرج منه حتى الآن سوى بسجل معفر بالكوارث الأمنية والسياسية والإعلامية, لا بل وقبل هذه وتلك ... المهنية.

وفي الوقت الذي يصخي فيه ذوو الاختصاص والرتب (تحت السقف الوطني) السمع إلى محاضرات تتناول دور الشرطة في تعزيز وحماية حقوق الانسان, والقواعد الدولية لاستخدام القوة والأسلحة النارية في عمل تلك الشرطة, نسمع عن مقتل اثنين من المواطنين السوريين أحدهما مطلوب للضابطة الجمركية بجرم التهريب, فيما الآخر للصدفة (متورط) بنشاطات حقوقية, وذلك على يد عناصر امنية كان بمقدورها بروية ووعي أكبر إلقاء القبض على ذينك الشخصين, باعتبار أنهما كانا أعزلين, وليس في نيتهما -على ما نقل شهود- إبدء أي مقاومة تجاه الدورية إياها, آخذين دوما بعين الاعتبار رغم كل شيء تصريحات تم نقلها عن أحد ذوي القتيلين, وهو حقوقي بدوره, يرفض فيها -فيما يخص هذا التفصيل بالذات- الادعاء بأن عملية القتل تلك جرت بقرار مسبق أومتعمد, خاصة وان النيابة العامة العسكرية اضطرت في النهاية لفتح تحقيق حول الأمر وملابساته.

وفي الوقت الذي تخطط فيه وزارة الداخلية السورية لإرسال مزيد من عناصرها إلى بلدان في الاتحاد الأوربي بغرض تمكينهم من تحصيل مستوى متقدم أكثر في المجال الانساني الحقوقي, وتبدي على لسان مسؤوليها انفتاحها على كافة التجارب والخبرات على هذا الصعيد, لازال محامي حقوق الإنسان السوري أنور البني يقضي منذ نيسان 2007 حكما بالسجن مدة خمسة أعوام, مع دفع غرامة تقارب 2000 دولار أميريكي بتهمة نشر انباء كاذبة , وعضويته في مركز حقوقي غير مرخص, المركز نفسه الذي كان منتظرا منه بشكل او بآخر ان يوفر للمرة الأولى في البلاد أرضية لبرنامج تدريبي في مجال حقوق الإنسان إياه, على أن تأخذ المفوضية الأوروبية على عاتقها في حينه مهمة تمويله وذلك في آذار 2006.

وكل ما سبق مجرد امثلة لا أكثر, ولراغب بالاستفاضة ان يطلع على التقارير المحلية والدولية التي لا توفر تفصيلا بهذا الخصوص وغيره.

ما من شك أن مبادرة كتلك التي قامت بها الداخلية السورية –وإن جاءت متأخرة- تستدعي التشجيع, وأن تبني مسؤولي أمن البلد لثقافة حقوق الانسان وإن بشكل خجول مبدئيا, وإبراز دور الشرطة –ومن ورائها العناصر الأمنية الاخرى- في حماية تلك الحقوق, ومن ضمنها حقوق السجناء والمعتقلين واللاجئين, واحترام المعايير الدولية للتحقيق والاحتجاز, أمر ينطوي على اهمية ومغزى, ولا ينبغي المرور عليه مرور الكرام.

إلا أن بقاء اجتهادات حقوقية من هذا القبيل أسيرة الإهمال الاعلامي –في الجانب التوعوي منه على وجه الخصوص- أو فريسة مانشيتات التابلويد السياسي الاحتكاري على الصفين الموالي والمعارض, لكفيل بان يفرغها من أي مضمون عملاني, وان يجعل منها خطوة في الهواء, وذلك في وقت نحن احوج ما نكون فيه إلى تثميرها, والترويج لها ضمن مؤسساتنا الاجتماعية والمدنية كافة, خاصة وأن الفكرة ذاتها على ما هو مأمول خرجت –وإن بقدر- من حيز المحظور الرسمي, من دون ان يغيب عنا في هذا المقام ان سوريا منضوية بشكل أو بآخر ضمن عدد لا بأس به من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان, الأمر الذي يرتب عليها مسؤوليات وواجبات لا تخفى على أحد كدولة وكمجتمع وكأفراد.

بمناسبة (قَسَمْ) وزارة الكهرباء, مكافحة الفساد بـ(اليمين) لا ... بـ(اليمين)!

لا تحلفو, محلوف عليكن...



لا يتجادل اثنان في أن الكهرباء السورية تعاني الكثير, غير ان أحدا لن يتعرض في هذه العجالة لكـمّ التراجيديا والكوارث الفنية والتقنية والتخطيطية المحيطة بهذا القطاع, إذ سنقفز حالا على سبيل المثال عن كل وساوس الخصخصة عن طريق التسلل التي تحوم حول مشاريع انتاج هذه الطاقة هذه الأيام (راجع تصريحات الوزير المختص بعد مذكرة التفاهم مع شركة الخرافي مؤخرا), كما اننا سنتستنكف عن إرسال شباكنا في محيط معاناة ما يسمى تقليديا بـ(الإخوة المواطنين) وهم يتلقون بصدور وجيوب عارية ما تتحفهم به دوائر الجباية (والاستثمار) في مؤسسة الكهرباء من فواتير باهظة, قد لا يتاح لبعضهم أحيانا حتى أن ينفذها ويدفعها ومن ثم يعترض -حسب المقولة الدارجة- مثل ما وقع مع أحمد. ح 51 عاماً, والذي أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته على كوة الدفع في فرع الشركة في دير الزور(يعني حدن بيئلك جلطوه؟!....إيه جلطوه).
وأيضا وأيضا لن نشهق عجبا أكثر منه إعجابا ونحن نسلم الفرنسيين (شركة جي أف أي على وجه التحديد) براءة اكتشاف ان بلادنا مشموسة ومشمسة أغلب أيام السنة, وبالتالي فإنه من الممكن اليوم (كما كان منذ عقود طويلة سبقت زيارة ساركوزي, بل قبل ولادة هذا الأخير حتى) بناء محطة توليد كهربائية على الطاقة الشمسية في القطر.
والغاية هنا كلها من هذين السطرين هي التعليق على تفريع وتفصيل ليس من المتوقع له ان يثير كبير جلبة, ولا ان (يكهرب) أحدا على المدى االقصير والمتوسط, والتفصيل المذكور وارد في نص المرسوم رقم 18 الصادر مؤخرا, والمتعلق بمعايير كفاءة استهلاك الطاقة للأجهزة الكهربائية.
وتهدف مواد هذا التشريع وفق نص سانا -الذي لا يطاله الباطل عادة- إلى رفع كفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربائية المستخدمة في القطاعات المنزلية والتجارية والخدمية, وذلك بتطبيق معايير كفاءة استهلاك الطاقة على جميع التجهيزات المستخدمة في سورية, إضافة إلى المساهمة في تلبية متطلبات التنمية المستدامة في إطار آلية التنمية النظيفة وتعزيز القدرة التنافسية للأجهزة المنتجة محلياً والأجهزة المستوردة, وتخفيض الآثار السلبية الناتجة عن توليد الطاقة الكهربائية.
أما الأمر الذي يستوقف المتابع فليس في أي شيء مما جاء في الديباجة السابقة, وإنما عمليا فيما سيلحق, حيث من المنتظر بحسب هذا المرسوم, ووفق مادة مخصوصة فيه أن يلزم السيد وزير الكهرباء العاملين المكلفين بتقصي المخالفات, وقبل مباشرة أعمالهم, أن يؤدوا يميناً أمام القاضي البدائي الذي يتبع له مركز عملهم بالنص الآتي:
(( أقسم بالله العظيم, أن أقوم بعملي بأمانة وكتمان تام, وأن أسلك المسلك الذي يحتمه الواجب, وأن أحترم القوانين والأنظمة النافذة وأتقيد بأحكامها في ممارسة مهامي وأعمالي. )). انتهى (علامات الترقيم من عندي)
ويمر قراء كثيرون على هذا البند بالذات مرور الكرام, على اعتبار أن المشرّع الذي خرج علينا بهذه الفكرة بالذات –فكرة اليمين- وفي هذا الموضع بالذات, قصد وفق ما اوصله إليه (اجتهاده) إلى الاسهام بنصيبه في مكافحة الفساد (الكهربائي) في البلد, والحد من التجاوزات المالية ذات الصلة والمستشرية بكثرة أنى وجه المرء بصره, وكبح العدوان المتواصل على المال العام والذي يرتفع (فولتاجه) باطراد في اوساط المتعاطين بهذا الشأن, خاصة منهم اولئك المتسلطين على (جبهات) بعينها في القطاع الصناعي (كامل الدسم), مع قصص في هذا المجال أكثر من ان تحصى او تعد.
غير أن المرء لا يتمالك نفسه –انطلاقا من تلك القصص بالذات- من السؤال هنا تحديدا عن تلك الفئة الكريمة من موظفي وزارة الكهرباء والتي يمكن وصفها بضمير غير قلق على التوالي بـ(المؤمنة) التي .... (لا تعرف الله), هكذا حرفيا!
وفيما إن كان لنا حقا أن نتعشم في أن يردع أمثال هؤلاء من عن إتيان كبائر ما درجوا على اجتراحه لعقود طويلة من فساد وإفساد؛ مجرد قسم مؤلف من سطر ونصف على ورقة A4 تتأرجح فيه الأيدي في الهواء,ويحمل في ذيله ختما رسميا (دنيويا).
هل بلغ المشرع لدينا من العجز في ضبط تفلت فساد قطاعات عريضة في مجتمعه حدا دفعه إلى تلمس (الخلاص) في أمثال هذه الاقتراحات الشفاهية الغيبية الشخصية, بدل سن قوانين مدروسة وصارمة, والخروج بتشريعات وقوانين ذات موضوع ومغزى, يمكن (وفق الأصول التشريعية) إلزام الناس –كل الناس- بها ومؤاخذتهم على مخالفتها قضائيا (وفق الأصول القانونية والجزائية)!
أم ان المطلوب منا هو أن ننتظر ملحقا تشريعيا ما لـ(القسم) إياه يحذر الحانثين به –وفق المنظومة الفكرية التي انطلق منها- من مغبة منقلب افتراضي كمنقلب (الإدعشري) في باب الحارة على سبيل التقريب, والذي شلت -أو احترقت لايهم- يمينه بقدرة قادر بعد أن أقسم يها زورا وبهتانا في إحدى الحلقات الدراماتيكية في المسلسل الشهير؟
أو ربما كان المطلوب هو ان نمد أجل انتظارنا أبعد من ذلك قليلا إلى (يوم الدين) –(قليلا) على اعتبار اننا في آخر الزمان وفق تأكيدات مطبوعات كثيرة في معرض الكتاب الأخير في دمشق- وذلك قبل أن نشفي غليلنا بإقامة الحد على لصوص المال العام, ونشهد على موافاتهم بـ(جزاءهم) وبئس المصير؟
أم لعل الأمر برمته لن يتعدى –بحسب فتاوى نافذة- أن يدفع هؤلاء (المجرمون) كفارة يمين, و(يصوموا) ثلاثة أيام في أسوأ الأحوال, في حال كانوا انفقوا ما سرقوه على (ملذاتهم الشخصية) –بالإذن من علاء الدين الأيوبي- عقابا على كذبهم ونفاقهم, و(كان الله غفورا رحيما)! من المثير حقا تخيل ما يمكن ان يؤول الحال إليه –من دون تصعيدات درامية- فيما لو سعت وزارات ومؤسسات اخرى في (الدولة) إلى اقتباس تجربة وزارة الكهرباء السورية, أواستنساخها ميدانيا, في حقول اجتماعية وخدمية اخرى, كوزارة التعليم مثلا, او الصناعة, أو الاتحاد الرياضي, أو التلفزيون السوري, أو حتى وزارة الثقافة!
فيصير لزاما على سبيل المثال على تلميذ التعليم الأساسي (الحلفان) انه سيدرس وينجح في الإملاء والحساب والتربية القومية, هو والخمسين طليعي المحشورين معه في ذات الصف, رغم أنف سبيس تون وكارتون نت وورك, وعمالة الأطفال ..
والتاجر أنه سيشتري ويبيع و(يربح) بالحلال الزلال رغم القوانين المالية الرجعية (ذات التأثير الرجعي), والتي تضرب دون سابق إنذار, ودوريات التموين (بنت السوق) التي تتغاضى عن دفتر الحسابات الأصلي المخفي في جبّة الحجي..
والصناعي أنه سيبتكر وينافس وينجح, متجاوزا الضرائب الباهظة على المواد الأولية وإغراقات رفاقنا المليار والنصف شغيل في الصين الشعبية (جدا), ناهيك عن مقاصل قوانين المناطق الحرة العربية والإفرنجية التي لا ترحم..
ولاعب المنتخب أنه سيسجل من أرضية زاحفة تعلو العارضة بقليل –التعليق منسوب لوجيه شويكي- بعد خمس دقائق من شلفه في الملعب دون إحماء وبقميص ورشة الدهان التي ستتكفل بمصاريف عرسه بدل راتب الاحتراف الافتراضي في مجاهل إفريقيا السمراء أو أوروربا الشقراء..
والسيناريست أنه سيكتب دراما سورية شامية واقعية تقدمية, من تسعة اجزاء, لا تتعرض لـ(الأصول!) أو (الفروع!), وتحترم الخلوة الشرعية, وجرائم الشرف, وتشدد على (الكسريـّة)* ترويجا لسوق الكندرجية الآفل فلكلوريا...
والمثقف أنه سينتج شعرا ومسرحا وسينما ونقدا يليق بـ(ستاندرات) الدكتورين, الوزير الآغا, والمدير اللو, ناهيك عن الأمينة قصاب حسن, كي يتاح له لاحقا الاستفادة من العطايا والمنح والفضاءات الأصيلة منها والبديلة لكل من وزارة الثقافة, ودار الأوبرا, وعاصمة الثقافة..
على ان بعضهم يظن -وبعض الظن إثم لا كله- أن موضوع اليمين هذا ليس سوى اقتراح غير موفق من قبل مكتب التشغيل الرسمي في سبيل مكافحة بطالة بعض ممن هم في ملاك الأوقاف هذه الأيام وراء باب الاجتهاد المغلق-ـة, بحيث تتشكل منهم للتو لجان متخصصة لتأليف (أيامين) تناسب جميع الأعمار والمهن وشرائح المجتمع السوري (المعاصر), من أجل (اللحاق) بركب (الماضي) المشرق!
وإلا فما هي الفائدة المتوخاة من وراء هذا النكوص المرضي نحو مفاهيم الحلال والحرام على حساب مبادئ الحقوق والواجبات, وإلى متى هذا الاتكال المستفحل على الغيبي الماورائي, على حساب التحليل المنطقي العقلاني, والمعالجة العلمية الموضوعية والقانونية لما يعاني منه مجتمعنا من أدواء ومفاسد.
لم يكفنا (قسم) أبقراط يوما غائلة الممارسات الطبية الشاذة, ولم تحل (الأيامين) المشبعة وعدا ووعيدا دوننا وأن نقع في الحبائل (الشريرة) للمحامين والمهندسين ودكاترة الجامعة والعسكريين.
ولن أستفيض هنا بالسؤال عن فئة من السوريين (الموظفين) في وزارة الكهرباء العتيدة واخواتها, والذين لا ينظرون إلى انفسهم كمنضوين تحت أية ملة بعينها, وفيما إذا كان فرض (أيامين) من هذا القبيل عليهم يخرق إلى حد ما حقوقهم الدستورية –التي يستمد أي قانون قوته منها- في حرية اختيارهم لما يريدون الاعتقاد به أو ما لا يريدون, وفيما إذا كان قسـمٌ من هذا القبيل يعني لهم أي شيء على الاطلاق, ومدى مساهمته في دفعهم او ثنيهم عن تصرف ما, سواء أكانوا من نظيفي الكف أم غير ذلك.
صديق لي لم يبد له رغم كل شيء, أن القانون إياه يحمل كل هذه (المفاعيل) و(الهواجس) على حد تعبيره.
ومع التاكيد على أن (الحرب) على الفساد تكون بـ(يمين) الساعد واليد والعقل, لا (يمين) الغيب والمرسل, فربما كان من الأنجع لي فحسب الاكتفاء مرة اخرى -وكما أفعل عادة- بالانحناء مليا لردة فعل جدتي التي لم تتأخر لحظة واحدة وأنا أتلو عليها نص المرسوم إياه عن التمتمة في مأثرة أخرى من مآثرها المرتجلة ودون ان تتوقف عن تدريج حبات سبحتها بين أصابعها قائلة:
آلو للحرامي حليف....آل: إجاني الفرج!

_________

* حذاء أو (صرماية) عادية يتم كسر (طعج) مؤخرتها بشكل فلكلوري لأسباب غامضة تاريخيا




2008

ملفات الثقافة الجنسية في الإعلام السوري


كثير من اللف, قليل من الثقافة, ... ومن دون جنس





لطالما بدا الإعلام المحلي السوري في الفترة الأخيرة مفتونا بصيغة (فتح الملفات) والمجلدات والدفاتر, قديمها وحديثها, ما استطاع إلى ذلك سبيلا, وبشهية طيبة ربما, مقارنة بالفترة الماضية التي نال فيها الكبت والتضييق من أغلب عناوين السياسة والدين والجنس فيما يعني السوريين؛ حدا انقرضت فيه هذي الثيمات من التداول الاعلامي المحلي أو كادت.

ومن هنا, نجد أن هذا الإعلام كثيرا ما انساق مؤخرا -مغفورا له إلى حد ما- وراء غواية التطرق لمواضيع تحمل نكهة هذه التابويات وأثقالها, متسقطا لبلوغ مأربه غفلات الرقيب والعميد وسواهما, أكثر منه مستثمرا هامش ما يقال أنها حرية يمكن له أن يراهن عليها لإثبات استقلاليته المزعومة كإعلام خاص في طور تمييز نفسه عن التيار الرسمي شبه الجاف؛ إنما الجارف.

غير أن عددا لا يستهان به من أولئك الذين خاضوا إعلاميا في تلك الملفات إذ فتحت, سواء في المجلات والجرائد المطبوعة, أو البرامج التلفزيونية والإذاعية, وبطبيعة الحال المواقع الالكترونية السورية, انتهوا بطريقة أو بأخرى إلى التعلق في نهاية المطاف بـأستار (شرف المحاولة), بعد أن فجأ القوم قليل وتواضع ما وصلوا إليه في مادتهم النهائية, على الرغم من كل تلك الفتوح المانشيتية, والاستهلالات التعبوية في الافتتاحيات وبانرات الإعلان, متذرعين أحيانا أمام الأسئلة بضيق الوقت والكوادر عن استكمال العمل, وبأنهم (عائدون) لابد في جولات قادمة, ومتعللين أحايين أخرى بالداهم من متغيرات السياسة والاقتصاد, مستبدلين موضوعا بغيره, وملفا بآخر, وربما منساقين في النهاية –وخروجا من خلاف- لاعتبار أن لملفهم (ربا يحميه), وأن الأعمال إنما هي بالنوايا, وإن إلى حين.

وما تقدم يصلح بلا ريب, ودون تجن يذكر- لوصف حال العديد من تلك الملفات المفتوحة أبدا على مصراعيها في تناولات إعلامنا السوري, ولعل (ملف الثقافة الجنسية) يأتي في مقدمة تلك الملفات, متقدما على غيره في شؤون السياسة المرة, والاقتصاد الذي لا تهمد ناره, ويعتقد كثيرون أن ملف الجنس والثقافة الجنسية ودون مبالغة كبيرة هو صاحب الرصيد الأعلى في التداول الإعلامي على هذا الصعيد.

على أن ملفات الثقافة الجنسية في الإعلام السوري مطبوعة منذ زمن غير يسير بطابع يحمل في طياته مزيجا مرتجلا يجمع قلة الخبرة, إلى الكسل, ومحدودية الأفق, والاستسلام للنمط, من طرف المجتهدين الإعلاميين المحليين تجاه مقاربات من هذا النوع, أكثر منه توجسات رقابية, أو محاذير تحريرية, من دون أن نغفل بحال الكبت الجنسي نفسه موضوع البحث الأثير لدى هؤلاء الإعلاميين, والذي إن لم يعانوا منه كلهم ممارسة, فإن جلهم بالتأكيد ليس بمعصوم عن مفاعيله الاجتماعية والثقافية.

لدرجة أن الخارج عموما من معمعة تصفح ملفات من هذا النوع, بالكاد يحظى بأي جديد, سواء في حقل الفكرة أو الطرح, أو لجهة شكل الإخراج والتقديم.
وكل ما يمكن تحصيله عادة على هذا المستوى لا يتعدى قائمة موسوعية خطيرة من المفردات والاصطلاحات الطبية -لاتينية ومعربة- لعديد الأمراض الجنسية, أو ما بحكمها, والتي تبدوا أعراض بعضها أرحم من أسمائها, وهي تصور لنا وفق تلك الاستطلاعات والمداخلات كمفترس رابض لنا في جنبات وزوايا كل سرير أو خلوة.

فمن الحلأ التناسلي إلى الكلاميديا, ومن السيلان إلى الهربس, ومن الترايكومونس إلى رايتر, ومن الجرب إلى التهاب البروستاتا, مع احتفاء إحصائي خاص كل مرة بالأكثر كلاسيكية.. الايدز.

هذا, أو دزينة مجانية جليلة من الفتاوى الدينية والأحكام الروحية التي لا راد لقضائها, في أرجوحة الحلال والحرام, وبصلاحية مفتوحة ومدى فضفاض يطال مختلف المذاهب والملل, بدء بأحكام البلوغ والحيض, مرورا بأنواع الأنكحة وآداب الجماع وأذكاره, وصولا إلى رجم الزاني المحصن, وكراهة-تحريم إتيان الحلائل في الدبر, وموبقات الاستمناء, وأحكام فرك المني وغسله, وليس انتهاء بالأكثر إثارة للجدل –لاحظ الجدل لا المتعة- من الانعاظات الماراثونية في أحضان الحور العين, والتأويلات التطهرية لنكاح الغلمان المخلدين في الفردوس.

وذلك كله لا ينقضي بحال من الأحوال دون جولة أفق نفسية -غالبا ما تكون بدون أفق- والتي باتت لازمة في ملفات من هذا النوع, بمعلوماتها المكرورة حول الباراسيكولوجي, والعقد النفسية ذات المنشأ الجنسي, من أوديب إلى إلكترا إلى ديانا وسواها, في استنزاف فرويدي طقوسي ممض.

أما الآفات المجتمعية التي تندرج في السياق, فهي المفضلة ولاشك, وتحظى بحصة الأسد من المتابعة والتحليل, ويتم إيلاؤها عناية خاصة, كونها ستمسي قريبا جدا, بعد التفريغ النهائي للمنتج الإعلامي إياه, المصدر الأساس للعناوين الطنانة, والمادة الدسمة للاقتباسات الميلودرامية, التي ستتصيد المشاهدين والقراء الغفل متى سولت لهم أنفسهم تشغيل التلفاز, أو فتح الموقع الالكتروني.
وتتربع على عرش تلك التشوهات المجتمعية أحاديث العنف الجنسي الأسري, وقصص الاغتصاب, وبوليسيات سفاح القربى, وعوالم الدعارة, والشذوذ, وزنا المحارم, وكوابيس التحرش الجنسي, وإتيان البهائم, إلى آخر تلك القائمة الممطوطة.

وبالطبع ترقد هناك في الأثناء وبسلام يقيني لايتزعزع, المقاربة الفلكلورية للمثلية الجنسية, والتي تتعمد تنحية التحليلات النفسية والبيولوجية العلمية الحديثة لهذه الظاهرة, تطهرا من الترويج للـّواط أو السحاق, وفق الانطباعات الرجعية لكثير من إعلاميينا المنفتحين على العالم في مكان آخر, والذين لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتدقيق, وتقديم المادة في إطارها العلمي الموضوعي, مع ضمان حقهم بالاحتفاظ بآرائهم الشخصية لأنفسهم.

لتغدو هذه الملفات وقد (ارتكبت), مسلسل رعب متكامل الحلقات, دونها ملفات عن (القاعدة) و(الأسلحة الذرية) و(الإرهاب الدولي).

فهل الجنس كله يا ترى عبارة عن أمراض فتاكة, ومحرمات مهلكة, ومنازعات اجتماعية متوعدة؟

هل يشفع لنا التذرع بواقع الحال –على افتراض انه كذلك- في التهرب من واجب إلقاء الضوء على زوايا أخرى للموضوع موجودة بين ظهرانينا بالفعل, ولا تحتاج منا إلى أي اختراع أو فبركة, بقدر ما تحتاج إلى إمعان لعين النظر والتفكير, لإنزالها المكانة التي تستحق.

أين هي حصة المتعة واللذة والإشراق الحسي في (جنسنا)؟

أين هو إيروس (كيوبيد لدى الرومان)، بقوسه المتأهب لإطلاق سهام الحب, من كل ذلك اللغط الإعلامي المتصحف, والجلبة التثاقفية المصطنعة.
(لا صلة للكلمة اللاتينية بالمرادف العربي في اللهجة الدارجة للعضو الذكري)

أين هي مطالعات الكتب التراثية –لمن لا يتقنون لغة أجنبية- والتي قد تفتح بعض صفحاتها آفاقا ما أمام هؤلاء الإعلاميين لسد تلك الثغرة الخطيرة في مقارباتهم البائسة تلك لموضوع على ذلك القدر الرهيف من الحميمية كالجنس.
بل لعله من الطريف أن يجد المرء أن معظم تلك المؤلفات والكتب الإيروتيكية العربية إنما كانت بأقلام أئمة وشيوخ ومحدثين, يفترض بهم أن يكونوا أكثر محافظة وتزمتا من الإعلاميين السوريين, الذين أثبتوا أنهم شديدوا التشبث على ما يبدوا بذلك النوع من الوقار النكد الذي لا يخلوا من غباء, مما وسم مسيرة إعلامنا المحلي لفترة ليست بعيدة.

تقول الكاتبة السورية سلوى النعيمي: اللغة العربية هي لغة الجنس, وطالما هناك التيفاشي, والتيجاني, والسيوطي, والنفزاوي, فلماذا علي أن أقرأ جورج باتاي, وهنري ميللر, ودو ساد, وكازانوفا, والكاما سوترا!

بل بالإمكان الذهاب أبعد من هذا نحو الألف الثالث قبل الميلاد, مولين وجوهنا شطر الشعر الايروتيكي السومري, حيث غراميات الراعي دوموزي والربة إنانا، لنقرأ مع القارئين تعويذة طقوسية طبية لعلاج مشاكل الضعف الجنسي تقول ترتيلاتها: "لتهب الريح، لترتجف الحديقة، لتتجمع الغيوم، ليتدحرج المطر، ليكن انتصابي نهرا فائضا، ليكن قضيبي، المشدود كوتر قيثارة، فيها لا يخرج منها ابدا".

ولوارد ألف ليلة وليلة ما يروي الظمأ, ففي قصة (خفيفة) تحمل عنوان (الحمال والثلاث بنات), يجد المطالع كيف تبدأ الليلة بالطعام, والشراب, والهراش, والبوس, والعض, والفرك، وعندما تبلغ الإثارة مداها؛ تتناوب النساء علي خلع ملابسهن, والارتماء في بحرة الماء, والإشارة إلي موضع (الحياء), والسؤال عن اسمه، وكلما أجاب الحمال باسم، ضربنه علي قفاه عقابا علي قلة حيائه، حتي علمنه الأسماء المحتشمة كلها، وجاء دوره في التعري, فبدأ يختبرهن بالأسماء الممكنة لـ(شيئه)، ولأن الدرس اللغوي طال أكثر من اللازم، أو بسبب تأخير الحمام في ترتيب الطقوس، فإن الحمٌال لم يظفر بأكثر من هذه الملاعبات, إذ دخل القرندلية الثلاثة, وبعدهم الخليفة الرشيد ووزيره جعفر, فسكت الساهرون عن الهراش المباح.

يقول الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا :"الإيروتيكية تعني نزع صفة الحيوانية عن الفعل الجنسي، وتحويله عملا فنيا يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا والثقافة. إنها عامل مغن ومنتج حضاري", ويتابع " في المجتمعات البدائية لم يكن ثمة إيروتيكية، وكان الفعل الجنسي فعلا شبه حيواني جل ما يؤدي إليه هو الإنجاب, ولم تشرع الايروتيكية في الظهور إلا مع تطور المجتمع وتحرره وتثقفه. آنذاك احاطت بفعل الحب طقوس واحتفالات واخراجات ومسرحات، واغتنى هذا بالصور والاستعدادات والغرائز (الذكية) والرغبات السرية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالفن.".

وحبذا لو يصخي بعض إعلامينا السمع قليلا لـ(تصريح) الإمام الحافظ ابن قتيبة الدينوري, إذ يقول "وإذا مرَّ بك حديث فيه إفصاح بـِذكر عورة, أو فـرج, أو وصف فاحشة؛ فلا يحملنك الخشوع -أو التخاشع- على أن تصغـَّر خدَّك, وتعرض بوجهك, فإن أسماء الأعضاء لا تـُؤثم، وإنما المآثم في شتم الأعراض, وقول الزور, والكذب, وأكل لحوم الناس بالغيب.".... والله أعلم.


_________________________________________
للاستزادة
برهان العسل, سلوى النعيمي
ماريو فارغاس يوسا, حوار: جمانة حداد, النهار 2005
الاستشراق جنسياً،إرفن جميل شك, تر: عدنان حسن, تقديم: ممدوح عدوان
الميلاد المتكرر للمتعة والورع, عزت القمحاوي





2008

بين وزيرها, وأمانة احتفاليّتها؛ ارتجالات مزمنة في راهن الثقافة السورية

لا تدّخر الأمينة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008 الدكتورة حنان قصاب حسن مناسبة خاصة أو عامة –آخرها في جلسة حوارية مع الممثل بروس مايرز حول عرض بيتر بروك الأخير- إلا وتعلن فيها على الملأ شكواها الممدد لها من عدم توفر أمكنة ومساحات عرض لاحتضان نشاطات أجندتها الثقافية الآخذ بعضها برقاب بعض, في حين لازال المرء يفاجئ في الوقت عينه تقريبا بعدد من تلك الأمكنة المفتقدة والمتنازع على فضاءاتها الافتراضية؛ وقد أمست مسرحا براحا لمناسبات أخرى يقال أنها (موازية) من خارج البرنامج الرسمي للاحتفالية, مناسبات لا تحمل إلا قدرا متواضعا نسبيا من هاتيك الرصانة, أو المتعة, أو الفائدة, التي يفترض بعروض الاحتفالية أن تتحلى بها أو بإحداها على الأقل, وهو ما ينتظره الجمهور على أية حال من أي نشاط بالمطلق, باحتفالية أم بدونها.

وإن كنا هنا غير معنيين مباشرة بتفنيد الدعاوى الغيبية للدكتورة قصاب حسن حول قدرتها على اجتراح ما أسمته "أماكن عرض بديلة" مما درجت على التسويق له منذ مؤتمراتها الصحفية الأولى, غير أننا جد معنيين بأن نسحب من التداول العشوائي حجة العوز والافتقار لمثل تلك المساحات والأمكنة؛ والتي أمست بدورها ذريعة طيعة لتبرير قصور التنظيم والإدارة لدى كوادر منظمي الأحداث والحوادث الثقافية بين ظهرانينا, والذين يستمرؤن التحلل -بهذا العذر- من مهام أسمى وأخطر على مستوى التخطيط والإدارة الثقافية بخطوطها العريضة منها, والتفصيلية.
والسعي إلى تحجيم تلك الحجة بالذات؛ يضعنا على الفور وجها لوجه أمام الحصيلة المرة لمواعيد (ثقافية) أخرى تضرب لنا بين الحين والآخر من دون أن تكون ذات موضوع أو فحوى, رغم أنها لطالما (احتلت) على الأرض فسحا ربما كان غيرها أولى بها.

ولعل من آخر تلك المناسبات ما كان من شأن ندوة نظمها (مركز تريم للعمارة والتراث) في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق, مستضيفا فيها السيد وزير الثقافة, الذي استهلك دون جلبة إعلامية تذكر, وفي نفس واحد, ساعة ونصف الساعة من صبر مستمعيه, عبر حديث يزعم كاتب هذه السطور أنه أقرب ليكون حديث ظهيرة في مقهى, أو دردشة شخصية طارئة مع صديق مستجد, أكثر منه محاضرة متماسكة, أو ندوة مدروسة, أو جلسة حوارية, على ما اجتهد المنظمون في تقديم إسهام ضيفهم ذاك المساء.

ولعله من نافل الحديث القول أن سوريا واحدا لا يكاد ينكر للدكتور نعسان آغا باعه الطويل في الارتجال, بل إن كثيرين يجهدون ذاكرتهم بدون طائل تقريبا لاستعادة لقطة واحدة تجمع السيد الوزير بخطاب في يده, أو ورقة على منبره, أو شاشة حاسب تحت ناظره, سواء في افتتاح, أو ختام, أو رعاية, أو لقاء, أو غيرها مما يشغل عادة الرسميين الثقافيين في مركزه.

وفي حين تضبط في (ثقافات) أخرى ساعات المحاضرين على مدة حديث محددة ومدروسة, وتبرمج حصص المداخلين, وأصحاب الرأي المخالف بعناية لا تقل عن العناية بالمحاضرة الأم ذاتها, ويطلب إلى الخطيب تحديد موضوع, ومحاور الحديث سلفا (الأخيرة خدمة موجودة لدينا بالفعل مع بعض التصرف تحت اسم رقابة)؛ هذا إن لم يجر في نهاية المحاضرة توزيع نسخ مكتوبة منها, يصر الدكتور نعسان آغا من جانبه على منح نفسه أنى وأينما حل كارت بلانش (زمكاني) فيما يخص أحاديثه وخطبه ومداخلاته, وكأن كل ما تقدم من أدوات وضوابط مدينية للخطاب أو الحوار؛ إنما هي مرذولات لا تقرب في عرفه, أو لكأن في الورقة والقلم, أو ملف الـ(WORD) والـ(PDF) إذ يستعين بها السيد الوزير على لم شتات أفكاره, ونستعين بها نحن على موافقته أو الرد عليه وفق نقاط محددة, وأفكار منظمة, انتقاصا من ثقافة الوزير, أو مساسا بكاريزميته وهو يرسل الكلام عفو الخاطر, ومزاج اللحظة.

لذلك لم يكن من المستغرب تماما –وإن ظل مستهجنا بالطبع- أن يجد الجالس على كرسي الاستماع في قاعة محاضرات المكتبة الوطنية ذاك اليوم نفسه بمثابة دريئة لجملة من الأفكار العشوائية, والمقتطفات الإنشائية –ليس بالمعنى الرديء للإنشاء دائما على أية حال- التي لا رابط بينها, اللهم عدا أنها كانت تخرج من فم الوزير نفسه.

فمن القمة العربية العشرين؛ إلى الإصابة في معرفة الصحابة, ومن المعادلة من الدرجة الثالثة في الجبر؛ إلى حديث الأربعاء لطه حسين, ومن بر الوالدين؛ إلى الإشادة بالكاتب الإسرائيلي يوري أفنيري المعجب بدوره بشخصية محمد,
ومن الـ"لاأدريـّة"؛ إلى "فتنة" الرسوم الدنمركية, ومن أساور كسرى؛ إلى نكسة حزيران, ومن صلاة العصر في بني قريظة؛ إلى تبادل القبل مع وزراء آخرين في بهو أحد المؤتمرات؛ إلى الثالث المرفوع في المنطق.

ولعل هذا الأخير بالذات –المنطق- هو ما افتقدته هاتيك الأمسية في تداعياتها المرسلة تلك, وإلا فأي نسق حواري –كما هو الزعم في عنوان الندوة- يروم الالتقاء بالآخر, والتفاعل معه؛ ذلك الذي تجد فيه نفسك بغتة وقد نزلت على أسماعك عبارات واستخلاصات مبتورة السياق والمقدمات, من نمط ذلك التعليق على قضية اغتيال الحريري الأب, تعليق أراد له الدكتور أن يلمع في فضاء قاعة المحاضرات لثوان قليلة بدون أي توطئة, أو استدراك, أو تحليل, مستعيرا العامية المصرية ليقول "واتهمونا بقتل اللي يسوا, واللي ما يسواش"!

أو بتصريحه أن "شارون أفضل لنا جميعا من أولمرت",باعتبار أننا نحن العرب "نحب الخصوم الأقوياء"!
دون أن يفلح معظم الحضور في تأويل حماسة الوزير المفاجئة لسفاح صبرا وشاتيلا, أو فيما إن كان هذا يعني أن علينا أن نستكشف بعض جوانب النوستالجي حيال نكسة حزيران مثلا, والتي تمكن فيها خصومنا "الأقوياء" وخلال خمسة أو ستة أيام من إنزال هزيمة نكراء بعدة جيوش عربية, وبالجملة!
أو لعله انتقاد مبطن ربما من طرف الوزير لمفاوضات اسطنبول بين دمشق وتل أبيب, والتي يديرها من المقلب الآخر (الضعيف) أولمرت, باعتبار أن "القوي" شارون مرمي في غيبوبة دماغية لا يود كثيرون له –فيما عدا الدكتور نعسان آغا ربما- أن يصحو منها قريبا, ولو حتى لدقائق يوقع فيها اتفاق سلام (قوي) مع أحد ما!

وإذا كان الارتجال بريئا من أمثال هذه الشطحات, فما الذي تراه يدفع شخصا بمرتبة وزير مثلا ليتبرع من تلقاء قريحته بقول على شاكلة "عندما أرى كونداليزا يحتفى بها كل هذا الاحتفاء؛ أقول لا حول ولا قوة إلا بالله, من هذه كونداليزا..؟", وذلك قبل أن يستشهد فيها ببيت نسبه لـجرير "الظريف" يقول فيه:
"ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن يهجـى به أحـد يهجـوه لا أحد" .....!

أين ما ينفع الناس والسوريين في هذا ويدفعهم إلى شد الرحال إلى واحدة من أكبر قاعات المحاضرات في العاصمة؟

من دون أن ننسى أيضا وأيضا مقارنة السيد الوزير المشهودة بين الزعيمين الفلسطينيين أحمد ياسين وياسر عرفات إذ يقول "لذلك انظروا؛ هناك من قـُتلوا بالسم عبر صحن فول –هكذا صحن فول-, وهناك من يقتلون بالصواريخ", محييا أعدائنا الإسرائيليين الذين "يعرفون جلال خصمهم"!!

... هل هي إلا ثقافة الارتجال, واستسهالات المشافهة؟

وأما في المرات النادرة التي استأنس فيها السيد الوزير سياقا ما لأفكاره؛ فقد أتت النتيجة على وزن "سارع مفكرونا إلى التغريب, وقدموا الحداثة لنا تقديما باهتا ورديئا", وذلك فيم يعتقد أنه استطراد مفكك نسبيا لما كان طرحه الدكتور نعسان آغا في إحدى افتتاحيات مجلة المعرفة السورية في وقت سابق.

ليتهم سيادته بدون هوادة "رسل الحداثة" عندنا بأنهم نافحوا من أجل "إحداث قطيعة مع الماضي", عازيا ما يرى أنه "فشل الحداثة في بلادنا" إلى كون حداثيينا "قد سعوا إلى إفهامنا أن القرآن الكريم جزء من التراث", وأن أولئك الرواد إنما جهدوا لهدف واحد هو "تنقية هذا التراث", قبل أن يسترسل ليقدم صورة ساخرة تعبر عن الطريقة التي يفهم فيها السيد الوزير جهود رواد الحداثة أولئك, عبر تشبيه عملهم بمن يأتي إلى القرآن ليأخذ "نصف آية البقرة" –هكذا آية البقرة- ليضم إليها "ثلاثة أرباع آية الواقعة", مستخلصا من مقاربته الكاريكاتورية إياها أن المطلوب منه –ودائما على لسان رواد الحداثة- هو ببساطة ... أن يلحد!

ليعود الدكتور نعسان آغا ويشدد على "المفارقة العجيبة في الفكر العربي" كما دعاها, وهي أن هذا الفكر "لم يصل من الحداثة إلى شيء", وانه كان مجرد مدخل تسربت منه إلينا أفكار اللامعقول, وأدب العبث, مستنكرا أن تجد الدادائية, والتفكيكية, والتحليلية, موئلا لها في بلداننا, وناعيا في الوقت نفسه على المفكرين العرب التعاطي بمثل هذه الأفكار, التي وصفها بأنها "أدوات أوروبية غربية", وأنها "ليست من نتائج الحراك الثقافي العربي".
((أين ترانا نسمع عادة هكذا خطاب؟ ))

والغريب اللافت أن هذا التشنيع كله على الحداثة, والهجوم القاسي الذي شنه الوزير دون سابق مقدمات؛ أتى تماما بعد أن اعترف الدكتور نعسان آغا وأقرّ صراحة بأنه "لا يحق لوزير أن يحكم على الأفكار", ليرمي مقولته تلك في اللحظة التالية وراء ظهره, ويوغل في الاتهامات, والتبسيطات, وأحكام القيمة التي تقدمت الاشارة إليها.

فالوزير الذي انتقد في أول كلامه التعاطي "المتطرف" لدى بعض الأوروبيين مع مجتمعاتنا, آخذا عليهم انصرافهم عن الإصغاء للآخر, يعود هو بلسانه إلى الجناية نفسها بعد دقائق فقط من استهلاله ذاك, من خلال حملته على الحداثة كما فهمها, ومن دون أن يسمح للطرف الآخر, بأن يكون موجودا كمحاور شريك, وند مبين.

لقد كان حريا بالدكتور نعسان آغا أن يتيح بعض فسحة لمن هو قادر على إبراز وجهة النظر الأخرى, التي بالكاد عرف أصحابها أصلا بغارة بالسيد الوزير عليها, على اعتبار أنها جاءت ارتجالا, كطريقة جديدة في تمرير كشوف حسابات, ومن دون ورقة أو قلم.
ناهيك عن أن المعنيين بالرد أو التهم, لم تتح لهم حتى معرفة ما دار في تلك القاعة يومها نتيجة التغطية الإعلامية الركيكة التي خرج بها مراسل الوكالة السورية للأنباء (سانا) عن وقائع الجلسة, أو نظيرتها التي لا تفضلها بكثير, والتي تريث أصحابها بضعة أيام قبل أن يفردوا لها مكانا على صفحات جريدة (تشرين) الحكومية.

ولعلها كانت لتكون مبادرة تحسب له لو أن السيد الوزير عمد للدعوة إلى طاولة مستديرة حول الموضوع –ما لم يكن اهتمامه بالطبع مقصورا على فرض قناعاته وإيمانه الشخصي على الحضور- تماما كتلك التي جلس إليها مع الفرنسيين في مسرح (جان فيلار) في رحلته الأخيرة إلى باريس, بمشاركة فعاليات فكرية فرنسية, لأن مائدة من ذلك النوع هي أحوج ما نحتاجه اليوم, لا هناك فحسب بل هنا أيضا, مائدة يكون لرأي الوزير فيها نصيب, كما لرأي من لا يرى ما يتراءى للوزير أنه الصواب.
بل لعل فائدة مائدة كتلك في الداخل؛ لن تخيس بحال من الأحوال عما يمكن لشخص الوزير إتحافنا عليها من غنائم حوارات في الخارج مع بعض الأوروبيين "المتطرفين" أو (المعتدلين) على السواء.


لم تشفع على ما بدا من مجريات ذاك النهار للدكتور نعسان آغا سيرته الذاتية الفخمة بعض الشيء في أن تعينه على اختيار موضوع بعينه ليحاضر فيه, فلا تدريسه الأدب لبعض الوقت أنجده, ولا حيازته دكتوراه في الفلسفة من أذربيجان أسعفته, ولا كذلك عمله في السابق كمدير لبرامج التلفزيون, أو عضويته في مجلس الشعب, أو عمله كسفير في الخليج, ناهيك عن مشاركاته في العديد من المؤتمرات والندوات حول العالم, هذا إذا استثنينا منصبه الحالي كوزير ثقافة, والذي يعد وحده –أقله لدينا في سوريا- منجما لا ينضب للمواضيع والمواضعات.

الأمر الذي يدفع المرء دفعا للتبرع لسيادة الوزير ببعض الأفكار التي كان من الممكن أن تكون أكثر نجاعة من الاجتهاد الذي طلع به علينا منظمو الندوة الثقافية في المكتبة الوطنية ذلك المساء, وورطوا به الدكتور نعسان آغا, وورطونا.

فقد كان بمقدور السيد الوزير الذي حار موضوعا يومها الحديث مثلا في شأن هام, وجد آني, ليس إلا حال دمشق, وحال الثقافة فيها, وهي اليوم عاصمتها المتوجة على ما يشتهى لها أن تكون, والتي اعترف السيد الوزير في غير مكان بأن وزارته العتيدة لا تعلم شيئاً عن دورها فيها, وأنه شخصيا غير دار بما يدور في أروقتها والكواليس.
في ظل غياب مصارحة حقيقية أمام الناس –شركاء الحوار- عن المآخذ التي يأخذها كل من سيادته وحضرة الأمينة العامة للاحتفالية قصاب حسن على بعضهما حيال التصورات الإخراجية لثقافتنا اليوم, إن لم يكن ثمة ما هو أخطر, رابض وراء الأكمة.

كان بإمكان السيد الوزير أن يحدثنا, ويحادثنا مليا عن أوضاع المؤسسة العامة للسينما, والذي سبق له نفسه أن وصف حالها بأنه "واقع سيئ", دون أن يسهب لنا كعادته في تبيان أسباب هذا السوء, أم أن سيادته فضل الركون لقدريـّته الناجزة, والتي يستشفها المرء من قوله في ثنايا لقاءه الأخير "إن أمتنا لا تستيقظ إلا حتى يصبح الخطر قبالة العينين", أقله كي يفسر لنا مسوغات تطيره من تركته السينمائية التي سبق له أن قال في وصفها "لا أنا ولا الوزير الذي سيأتي بعدي يستطيع تغييرها وحل مشاكلها", وعما إذا كان علينا كسوريين أن نقصد وزراء ثقافة في بلدان مجاورة ربما, كي يداووا لنا عاهاتنا الثقافية المحلية, والتي بلغت من السوء ما وصف.

كان بإمكان السيد الوزير أن يفضفض لنا عن شجونه ومآخذه على الصحافة الثقافية الصادرة عن وزارته نفسها, والتي بدا أن للدكتور نعسان آغا موقفا لا ينم عن رضا على أدائها, غامزا من قناة مجلة المعرفة, والموقف الأدبي, وحبذا لو أنه تفضل فشرح لنا خفايا لمزاته بخصوص تلك الإصدارات بالذات عندما لم يكن معاونوه هم الذين يشرفون عليهما –حسبما قال- وعما إذا كان علينا كقراء ومتابعين أن نلمس تغييرا ما في تلك الإصدارات إبان عهده.

وقريبا من ذلك كان بإمكان السيد الوزير أن يصارحنا بالعثرات التي تواجه وزارة الثقافة السورية في تعاطيها مع الهيئة العامة للكتاب والتي تم إحداثها منذ وقت قريب, خاصة وأن سيادته اعتبر أن الحديث في هذا الموضع؛ حديثا "ذا شجون", غير منتبه ربما إلى أن ساعة ونصف كانت لتكفي نسبيا -لو أنه استغلها لذلك- في طرح ذلك الموضوع المشكل على الملأ.

كان بإمكان سيادة الوزير أن يخطو خطوة أخرى إلى الأمام في الحديث عن معتقلي الرأي السوريين, وهو الذي صرح من ما وراء الحدود عن عشمه بـ"أن تصدر أحكام براءة بكافة المثقفين, لأني لا أحب أن أرى مثقفا سوريا معتقلا", خاصة بعد أن (طمأننا) إلى أن نظيرته الفرنسية في زيارته الأخيرة لباريس لم تطرح معه قضية "المثقفين المعتقلين", وهي خطوة –التصريح الأول- متقدمة ولاشك عما كان علق به هو نفسه على قناة الجزيرة في وقت أسبق,
منكرا في حينه وجود هؤلاء القوم في الزنازين, قبل أن يطلق وعده الشهير قائلا للمذيع الملحاح "أعدك، إذا كان أحد هؤلاء القابعين في السجون لديه قصيدة.... أعدك بنشرها"!

كان بإمكان الدكتور الوزير الذي حار موضوعا أن يستثمر وقتنا لكي يشرح لنا مثلا مفهومه عن المشاركة, والانفتاح على الآخر, من وجهة نظر رقابية, وهو من برر لنفسه ولغيره- على سبيل المثال- تشويه فيلم افتتاح مهرجان دمشق السينمائي 2007 بعد أن أطلق فيه مقص الرقيب, الذي أتى على ثلاثة مشاهد أساسية فيه, الأمر الذي أثار حنق المشاهدين والنقاد على السواء حيال تلك الوصاية الأخلاقية (اللاأخلاقية), وبعد أن اعتبر الدكتور الوزير المشاهد التي جرى اقتطاعها مشاهدا "إباحية", و"يجب أن تحذف", مع أن الفيلم الروماني المشار إليه (أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان) لمخرجه (كريستيان مانجيو)؛ كان قد حاز -بمشاهده البورنو, والمنافية للحشمة المحلية- السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي ما قبل الأخير, وهو بالضبط ما أغرى إدارة مهرجان دمشق بأن تأتي بالفيلم المنكوب لـ(يتشرف) بأول عرض له في المنطقة.
وإذا كان الوزير غير مهتم حقا بالتكريم الذي حازه الفيلم, على اعتبار أنه قد أتى من (ثقافة أخرى) لا تحترم (أخلاقنا)؛ فما الذي دعاه أصلا وغيره في إدارة المهرجان إلى إحاطته بكل تلك الحفاوة, والحرص على أن يكون الفيلم إياه في صدارة ما سيعرض في مهرجاننا (الرزين).
ألم يكن من الأفضل لأخلاقنا المرهفة أن يتم في حينه اختيار فيلم آخر لا يعالج قضية حساسة كالإجهاض لعرضه على الجمهور السوري القاصر, بدل أن تتنطح الوزارة لما هي ليست أهله من عناوين حرية التعبير الفضفاضة, مما هو مطروح للاستهلاك المحلي, و(تجرّصنا) بقصقصة الأعمال الإبداعية الراقية, في مفارقة مضحكة مبكية مع وزير كان يشكو منذ فترة قريبة لإحدى الجرائد الرسمية "قلـّة النوم", كونه لا يجد وقتا كافيا لممارسة "دور المبدع"!
أم أنه كان من رأي الوزير حقا أن يعرض الفيلم في كلية الطب, على اعتبار أن الطلاب هناك قد يستفيدون عمليا من تصوير واقعة الإجهاض, في حين أن تلك المشاهد بالذات لن تكون ذات قيمة بالنسبة للمشاهد العادي, الغر, الذي لن تتأثر متابعته بخلخلة السياق الدرامي للعمل, كون هذا المواطن العادي اعتاد على خلخلة من هذا النوع في حياته اليومية, فيما خص الثقافي وغيره.
أم أنها ببساطة الطريقة التي يفهم فيها السيد الوزير الحوار مع الآخر, "إننا نؤمن بالحوار, وعلينا تعميقه بين الشعوب والأفراد", قصا,وحجبا, وإقصاء, وفق ذائقته الشخصية, وإملاءات اعتقاداته الخاصة, التي يستخدم منابر حكومية عامة, ملكا لكل الناس, في تزيينها, والترويج لها.

بل لقد كان بإمكان السيد الوزير أن يستفيد من مشورة معاونه القيـّم, والذي طرح في آخر عشر دقائق من الندوة إياها –من باب المشاركة يعني- سؤالا يحتاج لندوة كاملة للإجابة عليه, حيث سأل الدكتور القيم الوزير قائلا "أنت كأديب وكإعلامي وكمفكر وكوزير للثقافة ..(كذا).. كيف تنظر إلى الثقافة في جملة المتغيرات والتحولات العالمية, وكيف يمكن للثقافة العربية أن تواجه كل تلك التحديات؟" ... لا أقل.

نعم كان بإمكان السيد الوزير.., وكان بإمكانه..., وكان بإمكانه..., على اعتبار أننا واثقون من أنه (ثمة بالإمكان أبدع مما كان), ومتضامنين هذه المرة مع مقولة السيد الوزير عندما أنف عن أن يصف أرضنا بـ"الأرض اليباب", من دون أن نذهب بعيدا في التقليل من شأن تي إس إليوت كما أراد بعضهم.

وانطلاقا من كون "المواطنة" و"المسؤولية" شعارين أساسيين للمرحلة المقبلة -كما اعتبرهما السيد الوزير في بعض مقابلاته- لا يملك المرء إلا أن يهيب بأصحاب الفعاليات الثقافية, والمؤسسات المحلية –الخاص منها تحديدا- التي تسعى لأن تضيف شيئا إلى المشهد الثقافي السوري؛ بأن يعينوا السيد الوزير ويعينونا –وغيرنا- على التخفف مما دعاه هو نفسه بـ"مسببات الغرور", من قبيل الاستنكاف عن توجيه دعوات عامة للسوريين لحضور حوارات هوائية, لا أسس لها ولا محددات, يستهلك فيها شخص فرد واحد ما يزيد عن 75 بالمائة من زمنها, اللهم ما لم يعلن مسبقا وصراحة أنها لتزجية الوقت, والذي يبدو أن ثمة من يدأب على ألا يصبح يوما –الوقت- ذهبا في أيدي السوريين.

كما نهيب بتلك الجهات –عامة وخاصة- ألا تعمد إلى حجز مراكز ثقافية يصرف عليها دافعوا الضرائب السوريين من جيوبهم المثقوبة مشرق كل شمس من اجل محاضرات بلا مواضيع, وندوات بلا محاور أو آفاق, تنحصر الفائدة فيها ربما بكشف المزيد من عوراتنا الثقافية المزمنة.

لقد طلب السيد الوزير إلى جمهوره –أن يتجاوزوا عن استطراداته, واستفاضاته في الحديث, وقال بالحرف الواحد "أرجو أن تغفروا لي سراحي, لأنه لم يكن لي موضوع"!
وهو اعتراف خطير قد لا يكون بيد من حضر تلك الجلسة بالذات وحدهم قرار الصفح عنه من عدمه, كونه قضية حق عام, خاصة وأن المرء لا يستطيع أن يجزم فيما إذا كان بعض ممن تواجدوا في قاعة المحاضرات ذلك اليوم موظفين حضروا إلزاميا بفضل تعميمات مديرية الثقافة عن محاضرات الوزير.


لن يعدم السوريون يوما محاضرين بمحاضرات ذات موضوع, حتى يتحفنا مسؤولونا بتلك التي لا موضوع لها, بل عن المفارقة تأبى إلا أن تطل برأسها عندما نعلم أن وزارة الثقافة بالذات كانت قد ألغت منذ فترة غير بعيدة محاضرة
في إحدى المراكز الثقافية التابعة لها, والمحاضرة الملغاة كان لها بالمناسبة موضوع يدور حول حرية الصحافة, وقد تم الإلغاء الاعتباطي برغم وجود موافقة مسبقة من الوزارة العتيدة حملت اسم وإمضاء اثنين من السادة المعاونين الذين يفخر بهم السيد الوزير بهم.

وختاما, لا نملك إلا أن نشاطر السيد الوزير أمله بألا تستمر أعباؤه الوزارية بالإثقال عليه طويلا على هذا المنوال, وهو القائل "أرجو ألا يطول هذا الانشغال, لأنني أحب أن أعود إلى طاولتي حيث التأليف والكتابة, لأن ذلك يمتعني أكثر", ولا نزيد.

فالذي يريد أن يستمع لخطبة جمعة؛ لن تخذله دور العبادة في العاصمة دمشق بالتأكيد, وليس عليه حتى أن يستقبل الروزنامة أو يستدبرها في استجلاب ليوم الجمعة بالذات دون غيره, فكل ما عليه أن يفعله –بغض النظر عن اليوم الذي هو فيه- هو أن يصعد إلى أحد السرافيس أو التكاسي من مواصلات عامة ليجد نفسه على الفور في حضرة احد المشايخ أو الدعاة, إما (لايف) عبر المذياع, وإما استرجاعا عبر الكاسيتات والسيديات, وهي فتوحات إعلامية تعبيرية قد تكون عزيزة بعض الشيء عن أولئك الذين لا يشاطرون السيد الوزير كل آراءه في السياسة, والفلسفة, والعلمانية, والحداثة, وما بعدها.

وعليه فلزام على وزارة الثقافة التي من المفترض بها أن تكون لكل السوريين أن تبقي أبواب مرافقها مفتوحة أمام وجهات النظر الثقافية الأخرى الموجودة في المجتمع السوري المتنوع, وأن تتخير لنشاطاتها ما يعبر بالضبط عن هذا التنوع, ولعلنا عندها فقط نتيح مجالا أوسع أمام منابرنا –الوافرة فيزيائيا بزعم الكاتب- كي تكون هي نفسها مسرحا لأنشطة بديلة, بدلا عن مناطحة عقدة وهمية هي عقدة (الأماكن البديلة), والتي صدعت أمانة الاحتفالية رؤوسنا بها.

فما تفتقر إليه أمانة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة –أقله في هذه الفترة- ليس الأبنية والمجمعات والجدران ومنصات العرض, وإنما الرؤية التحليلية والاستشرافية لراهن ومستقبل الثقافة السورية, بما هو كائن, وسيكون, رؤية تخرجها من النوسان المرضي بين متراسي ثقافتنا اليوم, القائمة على (بمن حضر), و(بما حضر).

وهي –إدارة الاحتفالية- في إصرارها على المضي دونما التفات لهذه المرتكزات التي تعد أساسية لأي عمل ثقافي ذو بعد أو مغزى؛ لا تقل ارتجالا أو "سراحا" –وفق التفضيلات اللغوية للوزير- عن اجتهادات غيرها من مخضرمي المؤسسات الثقافية الرسمية, وإن تحاشت لأسبابها الخاصة الانتساب إليهم صراحة, وهذا لا يعني أن بعض تلك الارتجالات قد لا توافق نجاحا أو إحراز نقاط من نوع ما –وهذا ما حصل فعلا في بعض المناسبات- لكنها ارتجالات تبقى عاجزة عن تشكيل وعي ثقافي فعلي –كيلا نقول حقيقي- لطالما تبجح كثيرون على منابرهم (منابرنا) أنهم بصدد بناءه.



2008

الأحزاب السورية و(الزواج المدني)

طـلاق شـرعي، وتـراخ اشـتراعي


ينظر كثير من محللي علم الاجتماع إلى الزواج المدني على أنه أحد مؤطرات قيام مجتمع مدني معاصر، وخطوة أساسية لفسح المجال امام التنوع المذهبي والعشائري والعرقي في أي وحدة مجتمعية كي يخرج نسيجا مؤتلفا أقرب إلى التجانس والانسجام، بما يعزز اواصر الانتماء الوطني الأشمل كما يتوخى أن يراه أبناء الوطن الواحد.

علاوة على أن الزواج المدني يحظى بمكانة متقدمة ضمن الأطر الفكرية التي تنظر لعلمانية الدولة، الدولة التي يقع في ضمن أولويات مهامها توفير فرص مجتمعية متساوية أمام مواطنيها, بغض النظر عن اعتبارات الجنس والعرق والدين، ناهيك عن أنه يطرح في أفقه الأبعد حلا نموذجيا لمعضلات اجتماعية خلافية مزمنة, ليس أقلها مسألة تعدد الزوجات، وتحريم الطلاق، ونظام المواريث غير المتوازن, ووصاية أحد الجنسين على الآخر، وغيرها.

أما واقع اليوم فشاهد للأسف على أن التعاطي مع هذه المواضيع المعاشية الملحة والحساسة في حياة كل فرد منا؛ لايزال رهنا بمعبر إجباري يمر في نفق الديني المحض, ويخضع بلا هوادة لردات الفعل على الفتاوى المتضاربة أحيانا، أوالقرارات الروحية المبرمة, والتي لا تقبل الحوار والتأويل من قبل من هم موضوعها, ومادة فعلها, أكثر منه تعاط مدنيا معاصرا، أو تشريعيا برلمانيا، أو دستوريا قانونيا، قابلا للاتفاق والاختلاف عليه، ومفتوحا كما يجب وينبغي له ان يكون امام أسئلة الحداثة, والمعاصرة.

وكل هذا في وقت يتعاظم فيه من حولنا التأثير المجتمعي النكوصي للطائفية والمذهبية والقبلية، وترتفع الأصوات من هنا وهناك في دعاوى صريحة إلى التقوقع الملي, في سبيل حفظ وصون ما يسمى (الفرقة الناجية)، وهي مقولة لا تخص طائفة بعينها، بل تتشارك مبدأها الغالب الأعم من الطوائف والملل، هذه الفرقة التي ستجد ولاشك في الزواج الديني الضيق -الممنوع عن الآخر- موئلا ومذخرا بشريا يعز عليها التفريط فيه، وإن جاء ذلك بكلفة باهظة, تتمثل تمظهراتها الأبشع في التضييق على روح المشاركة والتعايش وجسر الهوة مع الاخر داخل الحيز المجتمعي الذي تحيا بين ظهرانيه.

ففي حين لا يرى الاسلام ضيما في زواج المسلم بـ(الكتابية)؛ يميز بشكل فاقع في الحقوق مع (كتابيّ) يريد الاقتران بمسلمة، علاوة على أنه لا يعترف بأي دين آخر عدا اليهودية والمسيحة، وبالتالي يصبح زواج المسلم بمن هم خارج هذه الدائرة من أديان أخرى او من غير المتدينين نوعا من الهرطقة، والخوارجية المجتمعية.

وفي المقابل ترفض الكنيسة الزواج المختلط، ولا تباركه، وتقاطع (مرتكبيه)، وعلى المسلمة إن هي أرادت الزواج بمسيحي أن تعتنق دينه, بل ومذهبه بالذات احيانا.
أما الذين لاينتمون لذات المذهب فلا تزوجهم على سبيل المثال المحكمة المذهبية لطائفة الموحدين(الدروز)، والزواج المختلط في أحايين كثيرة, ووفق قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1953 والمعمول به حاليا, باطل، وأولاد المتزوجين هم ببساطة في عرف القانون (أولاد حرام, وزنا).
بل إنك لتجد حتى من بين أولئك المحسوبين على المجددين ضمن التيار الديني –السياسي الجديد في سوريا، والجالسين تحت قبة البرلمان الحالي ولا فخر، من لا يتورع عن تشبيه الزواج المدني بسفاد (الحيوانات)، بعد بدعة (بحفض) السياسية التي اتحف بها مشاهديه على LBC العام الماضي, وذلك قبل ان يتراجع –على عادته مؤخرا في تكذيب نفسه على وسائل الاعلام- ويطلب سحب تلك المفردة المشينة من مقابلته.

ولاينغك هؤلاء القوم يتحفوننا يوما بعد يوم بالمزيد من الشطط الذي تذهب فيه ازدواجية المعايير لديهم, إذ وعلى الضد من صاحبنا (المعتدل) إياه، نقع في المقابل وفي فرنسا تحديدا على رأي ديني آخر، يبيح الزواج المدني للمسلمين، بل ويحض على إتمامه بالعقود المدنية التي يتم إنجازها في البلديات، وذلك بعد ان أصدر رئيس دار الفتوى في اتحاد المنظمات الإسلامية باعتماد هذا الزواج المدني (شرعيا)، قائلا أنه لا يرى تعارضا بين العقد المدني والعقد الشرعي، حيث ان السلطات الفرنسية لا تعترف إداريا بالزواج الديني لأتباع أي دين، بل إن هناك مادة في قانون العقوبات تنص على معاقبة من يرتكب مخالفة من هذا النوع بالسجن مدة ستة أشهر وغرامة مالية تصل إلى ما يزيد عن السبعة آلاف يورو.

فعنصر المساواة بين المواطنين إذن أمر غير متوفر من الناحية القانونية خارج إطار الزواج المدني، وذلك في تناقض صارخ مع حقوق الانسان الأساسية والتي تمنع المس بحرية الاختيار لدى الأفراد في انتقاء شركائهم، والذي هو في الأصل منه استجابة للفطرة الطبيعية بالاقتران بالآخر بمعزل عن أي اعتبارات إثنية او دينية، وهو حق نصت عليه الشرعة الدولية لحقوق الانسان في المادة 16 والتي تقول : (تعتبر الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع، وتتمتع بحق حماية المجتمع و الدولة. ومتى أدرك الرجل و المرأة سن البلوغ، يحق لكل منهما الزواج و تأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين.).

كما انه أمر يتعارض مع أحكام الدستور السوري الحالي الذي تنص الفقرة الرابعة منه على: (حرية الوطن لا يصونها إلا المواطنون الأحرار ولا تكتمل حرية المواطن إلا بتحرره الاقتصادي والاجتماعي)، جنبا إلى جنب مع المادة 44 من الدستور ذاته والتي تنص بصريح العبارة (تحمي الدولة الزواج، وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه).

هذا أو أن يلجأ الناس إلى تبديل أديانهم ومذاهبهم، لا تمثلا لحرية الاعتقاد المصونة دستوريا، وإنما مرغمين على النفاق والكذب، بغية الحفاظ على حقهم في البقاء الى جانب الشريك الذي اختاروه أصلا، وذاكرتنا حافلة بعديد القصص التي يتداولها كثيرون عن أناس تقدموا بطلب تغيير دينهم، ليقابل طلبهم بالرفض لافتقارهم للحد الأدنى من المعرفة بهذا الدين القديم الجديد الذي يظهرون نية التحول إليه، وهو تدليس بلا شك اضطرهم إليه القانون نفسه الذي من المفترض به ان يحمي الحقيقة ويحقها، عدا عن أن هذا الأمر لا بد أن يمر عبر قنوات أمنية أيضا وأيضا، إذ لا يمكن لتبديل الدين هذا أن يصبح (شرعيا) دون موافقتها.

وهكذا تبرع تقاليدنا وقوانينا المتأخرة، في تحويل علاقات الحب, وخيارات الألفة والائتلاف إلى غابة جهنمية من المداخلات الممضة، يختلط فيها القانوني بالأمني، والتشريعي الدستوري بالاجتهادي الديني والمتعنت الروحي، في بلد يحوي ما يقارب من سبع محاكم مذهبية متباينة المشارب والأحكام.

فالزواج في القانون السوري هو زواج ديني أساسا مهما حاول بعضهم تجميل الصورة وتلميعها، أما قوانين الزواج المدني الموجودة في سوريا فهي مخصصة لغير السوريين، وعلى من يريد التنعم بها أن يحمل جنسية أخرى (مع أو بدون) جنسيته السورية، ولهذا يضطر سوريون كثر إلى استقبال اليوم الأول من حياتهم الجديدة مع شركائهم الذين اختاروهم وصادف أنهم ينتمون إلى دين آخر أو ملة مختلفة، في دول أجنبية مجاورة كاليونان، وقبرص، استفادة من قوانين الأحوال الشخصية المدنية فيها، بدل -كما ينبغي لتمام مواطنتهم- أن يكون ذلك على ترابهم الوطني، وبين ذويهم.
ولكن يظل على السوريين الذين يتزوجون بالخارج من أجنبيات بعقد مدني أن يواجهوا عند عودتهم معضلة عدم اعتراف المحاكم السورية بشرعية ارتباطهم ذاك.

وفي الوقت الذي نركن فيه نحن لمماحكاتنا التي لا تنتهي حول هذا الموضوع، نرى كيف تمكن بعض (أشقائنا) و(جيراننا) من قطع شوط لا بأس به في هذا المضمار بغرض ترسيخ هذا المفهوم في مجتمعاتهم، كتركيا على سبيل المثال، والتي تتبنى الزواج المدني في قوانينها رغم انها رسميا تعد واحدة من كبرى المجتمعات الإسلامية في العالم مع تعداد سكان يقارب المئة مليون نسمة، وكذلك الحال بالنسبة لتونس، التي يرجع العمل فيها بقانون الزواج المدني إلى ما يزيد على النصف قرن، وهي عمليا الدولة العربية الوحيدة مع هذا الانجاز، أما في لبنان فقد أدى طرح هذا الموضوع في التداول التشريعي العام 1998 كجزء من مكملات اتفاق الطائف الشهير إلى إثارة عاصفة من الانتقاد من قبل متزعمي الطوائف السياسية آنذاك، لما في ذلك من تهديد لسلطاتهم (الروح-دنيوية), ولم تجد الأحزاب العلمانية في حينه هناك عقائدها المدنية فتيلا.

وليس الوضع على ما يبدو بأحسن حالا لدينا هنا، إذ يظل الجانب التشريعي من قضية الزواج المدني -من بين كل جوانب المسألة الأخرى- هو الأفقر بالمعلومة والخبر والتحليل،وما الأمر كذلك سوى لأن المشرع السوري نفسه يكاد يكون مستقيلا تماما من مقاربة هذا المسألة الهامة والمفصلية، إن لم يكن حريصا كل الحرص على تجنبها، وتفادي التطرق إليها، ويكاد يخلو أرشيف المداولات البرلمانية السوري من أي ذكر لهذا الموضوع.

وإذا وضعنا جانبا إلى حين عددا من الأحزاب السورية والتي هي مستنكفة أساسا عن احتضان هذه القضية، بالنظر إلى أنها ليس من منطلقاتها الفكرية أصلا، نجد ان بقية الأحزاب السياسية الموجودة في ساحة العمل الميداني اليوم –أو كما يتراءى لنا أنها كذلك- ، والتي تتبنى من حيث المبدأ فكرة الزواج المدني السوري –أو كما يترائى لنا أنها كذلك- لازالت حتى اللحظة تتهرب من مناقشة هذا الموضوع صراحة، وتبدو عازفة عن الخوض فيه، ومتعففة عن تناوله، تارة بحجة أن الظرف الاجتماعي المحلي في البلد لايزال غير موات للتعاطي مع مثل هذه الطروحات، وطورا آخر عبر تأخير بند الزواج المدني بالذات، ووضعه في مرتبة متدنية على سلم أجندات العمل الحزبي المجتمعي والسياسي، بالنظر إلى ما تعتقده تلك التيارات والأحزاب من وجود مسائل أكثر إلحاحا تشغلها حاليا، وأولويات أخرى أجدر بالمتابعة والرصد.

وربما لأن تلك التيارات السياسية ببساطة لم تتوصل إلى انجاز ملموس، أو تجسيد واقعي لما درجت على التبشير به في أدبياتها التي تملأ بها دساتيرها ورؤوس محازبيها، من ضرورة قيام وضع قانوني متماسك للأحوال الشخصية عماده وحجر الأساس فيه قانون للزواج المدني.

ويكاد الناظر إلى حال تلك الأحزاب يخال أن الأمرلا يعدو كونه في النهاية سوى مجرد شعار آخر يضاف إلى دفتر شعارات المرحلة المزمنة، ناهيك عن العنت والحصاد المر الذي ينال الباحث والمتقصي وراء أية مكتسبات تدعي الأحزاب العلمانية السورية حيازتها عبر (نضالها) الميمون فيما يخص هذا الجانب بالتحديد.

ولقد كان أمرا شاقا بالفعل مجرد محاولة الحديث إلى أي برلماني سوري عن موضوع الزواج المدني، حتى ضمن تلك الأحزاب التي لا تنكر من حيث المبدأ أنها معنية بطريقة ما بالموضوع، وعندما يصل الأمر حد المصارحة بخطط العمل والاستراتيجيات الميدانية، والبرامج الحزبية التي من المفترض ان تسخر لهذا الغرض، وأن تكون الوسيلة إلى إخراج الأفكار والتنظيرات إلى حيز الوجود، وأرض الواقع، تجد فجأة كيف ان البرلماني فلان قد ازدحمت اجندته فجأة، وأن الآخر علان قد تذكر خريطة العالم فراح يتنقل بين بلدانها بلا رجعة، والثالث في عيادته، والرابع ليس من اختصاصه، والخامس وزير، والسادس ...،وهكذا دواليك.

على أننا وبجردة بسيطة نرى كيف أن البعث العربي الاشتراكي والذي يرفع العلمانية شعارا من شعاراته، ورغم مرور حوالي 45 عاما من وجوده في سدة الحكم في سوريا، إلا أنه لم يسبق أن سجلت سابقة تشريعية واحدة لأحد نوابه الذين يشكلون اليوم 53.6% من اعضاء الندوة البرلمانية بأن تقدم منهم من يطرح هذا الموضوع للتداول البرلماني الجاد، أو يعرضه فيها كمشروع قانون بديل عن ذلك المعمول به اليوم، أو أي شيء من هذا القبيل، ونرحب هنا بصدر رحب لأي تصحيح لهذه المزاعم.

من جانبها تقول السيدة رهام بشور النائبة السابقة في مجلس الشعب السوري عن حزب الاتحاد الاشتراكي (جناح صفوان قدسي)، وهو أحد الأحزاب العشرة التي تتشكل منها الجبهة الوطنية التقدمية التي تحكم البلاد، أنها مع (التلون الطائفي في البلد)، ومع (الحفاظ على كيان الأقليات)، وبالتالي فإن موضوع الزواج المدني داخل حزبها ليس مطروحا على الاطلاق، وأنها شخصيا (ضده يالمطلق).

وتجادل بشور بأن (القواعد الشعبية للأحزاب ترفض هذه التوجه)، كما أن الرأي السائد في مناقشات جلسات الجبهة الوطنية التقدمية ميال إلى اعتبار ان هناك (الكثير من الأولويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحظى بمتابعة وعمل وجهد هذه الأحزاب سوى موضوع الزواج المدني).

وتضرب عضو مجلس الشعب السابقة مثالا عن تلك الأولويات التي تتحدث عنها بمشروع قانون يجري التحضير له (في السعودية) لتجريم العنف ضد الأطفال، وهو ما ترى فيه بشور (أمرا متقدما قياسا بالطبيعة المحافظة لذلك البلد ولقوانينيه الاجتماعية غير المتقدمة)، وهو –أي القانون المشار إليه- أمر يجدر بنا هنا في سوريا ان نعمل على غراره على أقل تقدير.

ثم تنتقل بشور للحديث عن مثل آخر ترى فيه كذلك شأنا أولى بالاهتمام بما يتقدم على قانون الزواج المدني، فمن باب مقاربة العربة والحصان، ترى بشور أننا بحاجة ملحة أكثر في الوقت الراهن لـ(إيجاد قانون احزاب ينظم الحياة السياسية، ويهيئ البيئة –إذا شئت- للتداول في موضوع الزواج المدني)

وتؤكد البرلمانية السابقة أن مسألة الزواج المدني في سوريا (لم تطرح على حد علمي أبدا في مجلس الشعب)، وأنها –أي تلك القضية- (لم تـُقدم ضمن برنامج الجبهة الوطنية التقدمية على الاطلاق)، وإذ لا تستبعد بشور ان تكون هذه المسألة قد حظيت بـ(مناقشات فردية)، غير انها تكاد تجزم ان تلك المناقشات لم تتطور أبدا لتصبح (مشاريع قوانين أو برامج حزبية)، لكن الأنكى يبقى أن هذا الأمر لم يتطور كذلك (ضمن الأحزاب العلمانية كالقومي والشيوعي)، وتقول بشور انه حتى بالنسبة لتلك الأحزاب فإنها (لم تطرح مشاريع قوانين من هذا المثال)، وتعلل بشور هذا التراخي بأن (القواعد الشعبية) لتلك الأحزاب (ة تشدهم إلى الوراء بهذا الخصوص).

عجزت في السابق الأحزاب السورية العلمانية ومن بحكمها عبر عقود من مسيرتها المظفرة في هذا البلد، وتعجز اليوم، عن توفير عشرة من أعضاء مجلس شعبها الـ(250) -سواء المنتخبين منهم أو المعينين- بغرض توفير النصاب القانوني لمجرد طرح قانون الزواج المدني رسميا للمرة الأولى في سوريا، لتظل تلك الأحزاب نائمة في عسل توقعات ان يعمد رجال الدين ذات يوم من تلقاء انفسهم -او بمعجزة حقيقة هذه المرة- ومن دون ضغط شعبي وحزبي وقانوني؛ للتنازل من عن سلطاتهم ما وراء الطبيعية, أو التخلي عن وصايتهم على مجتمعاتنا المحلية المحرومة حتى اليوم من حقها الطبيعي والدستوري في اختيار مستقبلها الاجتماعي الوطني.



2008

الإعلام السوري إذ يفرّط في (المستقبل)

مرة أخرى ينتهك البارود قهوة الصباح, وينتحي الصحفي بكرسيـّه المرصود ليكتب خبرا عن (خبره), طعما في شبك الاشتباكات, ودريئة لكباش المتناحرين, القهر في نفسه, والحرائق في مكتبته, والدماء في حبره, وما من ناشر, ولا من قارئ, ولا من مشاهد.

ولا يسع المرء هنا في أتون الأخبار المتلاحقة من بيروت (الحرائق)* وأعمدة الدخان الأسود تتصاعد لا تزال من مكاتب الجرائد ومحطات التلفزيون, إلا التريث برهة للتأمل في الموقف الذي تواطأ عليه جلّ الوسط الصحفي والإعلامي السوري تجاه ما يجري.

فالمتابع لردة فعل وسائل الإعلام السورية سواء منها الرسمي أو الخاص حول الأحداث التي تواترت مؤخرا على بعد ساعتين فقط بالسيارة من العاصمة دمشق, لا يفاجئ ربما بهول ذلك الصمت البارد, واللامبالاة الفادحة, تجاه قضية الترهيب والإغلاق القسري الذي تعرضت له وسائل إعلام لبنانية محلية, بقدر ما يفجع ربما بحجم تلك الشماتة التي سادت الوسط الصحفي السوري وهو يرقب مجموعة (المستقبل) الإعلامية المؤلفة من قناتي تلفزيون, وإذاعة, وجريدة يومية, وهي تـُقصى -ودفعة واحدة- تحت تهديد السلاح عن المشهد الإعلامي للأحداث منذ اليوم الأول لوقوعها, بل إن بعضا من أولئك الإعلاميين السوريين المحسوبين على الموجة الجديدة التي لم تبلغ شاطئها بعد من الإعلام الخاص؛ لم يطل بهم الأمر قبل أن ينجروا وسريعا لاستخدام لهجة مخجلة تتبنى مانشيتات التابلويد السياسي إعلاميا, وتسوق دون وازع تحويرات شتائمية تجاه ما اعتبروه إعلاما مضادا على الجملة, من قبيل نعت قناة (العربية) بالـ(عبرية), وإلحاق تلفزيون الـ(LBC) بالقائمة الفضفاضة لـ(العمالة للعدو), في استسهال مخز –أقله- للتعاطي بذات اللغة الموبوءة التي يأخذ أولئك الصحفيون على وسائل الإعلام (المعادي) تلك استخدامها, دون أن يشفع لهم بحال ما سفحوه عند أقدام أشباه هاتيك المقاربات من تحليلات أو رصد يزعم الأكاديمية والمهنية, في حين يتم التعامي في اللحظة المشهدية ذاتها عن الـلقطات الـ(مدروسة) التي يبدو أن تلفزيون (المنار) يتقن بدوره زرعها في ريبورتاجاته, متنقلا بحرية أكبر من غيره بين النيران الصديقة, مع منافذ أوسع لكاميراته التي لم توفر (زوماتها) القنابل اليدوية إسرائيلية المنشأ غنيمة حرب إعلامية ثمينة في معاقل الخصوم.
وبذلك لا يكون الإعلاميون السوريون في النهاية قد تأخروا كثيرا عن المشاركة في ماراثون ذر رماد التضليل في المؤق والعيون, وإهالة المزيد من التراب على موءودة كل الأطراف -كما هو الحال في مثل هذه الأحداث- وأعني الموضوعية.

ليس دفاعا عن خط جريدة (المستقبل) الغائبة مطبوعة ً عن أكشاك جرائد المدن السورية منذ حين, والمحجوبة أيضا وأيضا موقعاً الكترونياً عن شبكة الانترنت المحلية, ولا ذوداً عن (فكر) تلفزيون الـ(future) وسياسة ملاكه وتياره, والذي يعتقد كثيرون أنهما لجهة إخراج الـ(بروباغاندا) الخاصة بهما - التلفزيون والجريدة- يكادا أن يكونا من هذه الزاوية بالتحديد -ومن حيث يدري القائمون عليهما أو لا يدرون- توأمين فاقعين لألد خصومهما إعلاميا على المقلب الآخر, من هيئات التلفزة (العامة) الموجهة, والجرائد السورية ذات الخط الرسمي منها, أو تلك الملحقة بالأحزاب, خاصة وأنّ مجموعة (المستقبل) ذاتها سبق وأن أدت قسطها للعلى حليفا للرسمي السوري أيام الحريري الأب, قبل أن تقلب له لاحقا ظهر المجن.

بيد أن هذا الأمر شيء؛ وموضوع أن نمعن صمتا ونستمرء رؤية أحد صحفيي مؤسسة (المستقبل) تلك وهو ينحني في مكتبه ليلتقط أمامنا من الفوضى العارمة تحت قدميه لا قلما ولا ورقة ولا صورة, وإنما شظايا من قذيفة (ب 7)؛ هو شيء آخر تماما.

إذ لا مكان للشماتة هنا, إلا ممن يريد الشماتة بنفسه, ومؤسف حقا أن المرء لدى مطالعته قدرا غير يسير مما نشر على صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الالكترونية المحلية السورية خلال الفترة الماضية –أو ما لم ينشر- لاينفك يتعثر ببعض الإعلاميين السوريين متلبسين بأدوار لا تليق بهم, غافلين عن أن آخر ما يحتاجه اليوم إعلامنا السوري, من السقوط في ظلّ ذلك الفخ الذي يـُزعم دائما أن الآخر الإعلامي قد استساغ التمرغ في (أوحاله).

ومن غير المجانب للصواب تماما الادعاء هنا أن هذا الإعلام السوري في نسخته (الخاصة) –ولا أقول المستقلة- لمـّا يخرج بعد من إسار تراث الإعلام الرسمي الإقصائي, وتقاليده التعبوية الدوغمائية, والتي استفحلت في حياتنا الإعلامية لما يزيد عن الأربعة عقود ونيـّف, خاصة إذا علمنا أن كثيرا من إعلاميينا وصحفيينا السوريين لا زالوا ينوسون بلا بوصلة تقريبا بين كلا القطاعين, مرغمين أحايين كثيرة على (مسايسة) سياسات تحرير الفريقين معا في آن.

ومتابعة متأنية لكل المشاهدات الآنفة تكشف كيف أن القيمين على الإعلام السوري والقائمين به ككل؛ يفتقرون للحد الأدنى من أسس إستراتيجية خليق بها أن تنال حيزا أكبر في رؤاهم الإعلامية ضمن أفقها الأوسع –إن وجدت تلك الرؤى أصلا-, استراتيجية تضع في اعتبارها قيم المنافحة عن مقومات وجود هذا الإعلام في أصله, من حق الحصول على المعلومة, وحق التعبير بها وعنها, والأهم في هذا المقام تكريس واجب التضامن مع كل من تسلب منهم هذه الحقوق, كون هذا التضامن عمليا تضامنا مع الذات وذخرا مستقبليا لها.

وبعيدا عن استلاب المصطلح السياسي في عمومه, ومصادراته التي لاترحم, يتوجب من منطلق إعلامي محض التأكيد مرة أخرى والدفع بقوة للتذكير أنه لايمكن أن يكتب لـ(التحرير) التمام والاكتمال طالما أنه لا يزال هناك رصاص يئزّ في غرفة (التحرير), وأنه لا يمكن لأي مقاومة أمينة لمبدئها -أيا كانت- أن تنسحب القهقرى وتتهاون هكذا فجأة أمام (العدوان) على الفكرة, أو أن تسلم بهذه السهولة بـ(احتلال) الكلمة والرأي.

وإلا فنحن مهددون بالمزيد من الانتكاسات داخل هذا الجسم الصحفي الذي يعاني ما يعانيه, نكسات قد تحمل دلالات وتضمينات بالغة الخطورة والفداحة, كتلك اللقطة التي عبرت في شريط الحدث الداهم قبل أيام, وظهر فيها أحد مذيعي قناة (المستقبل) وهو لايزال تحت تأثير صدمة ما لحق بمؤسسته الاعلامية من ضيم وتكميم للأفواه ليقول كلماته المرعبة يومها:(أعترف أنني صرت منذ اليوم طائفيا)!

الصحفي ليس عدوّا, فمن باب أولى ألا نكون –نحن الصحفيين- أعداء أنفسنا.
________________

* (دمشق الحرائق), مجموعة قصصية لـ زكريا تامر



05-2008