على الرغم من أنّ "الـمقالات تعبّر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مجلة (من وإلى)" غير أنه ليس بوسع الـمرء إلا أن يفتري على الـمطبوعة الجديدة بعكس ذلك، على اعتبار أن ما ضمّته بين دفتيها منذ عددها الأول وحتى اليوم يعبـّر عنها أيما تعبير.
وعندما يستبين الـمرء سريعاً أن اقتراح النشر فلسطيني أيضاً، فإن ذلك لابد له أن يحسم للتو مذاقاً مختلفاً للتوقعات لا يد للـمجلة فيه ولا حيلة. وقد تريده وقد لا تسأل فيه.
بالطريقة نفسها ربما التي يصطاد العين فيها ويغويها منذ اللحظة الأولى الشكل والـمقاس الـمختلف والرشيق لها.
ليس من باب البهلوانيات اللغوية، ولا الجناس الطربي الـمبذول. "من" و"إلى"، أحرف الجر الهيـّنة التي يسهر على حركات ما يليها لغويو الإعدادية ومدققو إملاء الصحف قادرة كما لقنـّا مراراً على جرّ الجبال. ولا يبدو أن مهمة أحرف الجرّ تلك عنواناً لدوريـّة ثقافيـّة هذه الـمرة ستكون أسهل بحال من الأحوال.
(من وإلى) تفترض في ذهن مستطلعها جهات ما، أو أقطاب إرسال واستقبال تدور في بوصلتها الأشعار والقصص والـمنثورات والرسوم، وسواها من مواد العدد.
وبالنظر إلى غياب الافتتاحيات الكلاسيكية عن الـمجلة والتي عادة ما يكون من دأبها التوجيه وتيسير التأويل وابتكار السياق بحسب (سياسة) التحرير، فإن على القارئ هنا الالتحاق بفضاء تمهيدي بديل من قبيل:
"أعداؤنا يسمـّون البيانو (أفسنتير)
منذ متى وهذه الأفسنتيرات تضربُ في
يقظة الـميّت النائم؟
منذ ُمتى تـُواصل شـُغلها من إذاعة (كول
هاموسيكا) ــ بينما طائراتهم تقصف
(الضاحية الجنوبية) وتـُغيرُ على بيت من ثلاث غـُرف في مخيم جـَباليا؟"
إنما تحت اسم مقارب لـ"الافتتاحية"، وهو هنا "فتّاحة عدد". وإن كان يصلح كذلك برأي كثيرين كفتـّاحة مبدئية للفكرة، يسأل الـمرء من خلالها وبلؤم أحيانا، ماذا يريد نجوان درويش، الـمقدسي الشاب، شاعرا أو كاتبا ناشرا، من مجلته وقد بلغت روحها التاسعة؟
أصوات عربية جديدة، كإجابة أولى صارمة، مطوبة منذ الغلاف، قالت إحدى الصديقات مستغربة تجشّم عناء السؤال حتى. ومستشهدة بالجهد التنقيبي الذي قاد الـمحرر "من" رام الله الضفة الغربية "إلى" عربستان فارس. آخذاً بتلابيب أحوازيين جدد إلا عن عروبتـ(ـهم)، من الذين تتخلى عنهم اليوم دون جلبة تذكر أنظمة طوّبت نفسها لعقود حامية حمى هاتيك العروبة.
والصورة في (من وإلى) ليست ــ تشكيلا أو فوتوغرافا ــ متاعا طارئا على النص، بل تكاد تأخذ موضعها هناك في تتام وتناغم مع الـمكتوب الحروفي، كأنه لها وكأنها له.
من منزل دمشقي سرعان ما ينسى الـمرء اصطناعيـّة ندف القطن على سلّمه لتستحيل للتو عتبات لسحاب (زياد حلبي)، إلى غرف غزاويـّة في نسخها الأحدث 2008 ــ 2009 بعد القصف، والعربدة الإسرائيلية الأخيرة، وسطح منزل بصحن لاقط (مجعلك) كمظلة كسحتها ريح داهمة، وحمـّام على الشمع (محمد مسلـم).
نجاح عوض الله، حزيمة بشير، أميمة عبد الشافي، حمزة كوتي، فارس البحرة، مصطفى مصطفى، عناية جابر، حمدي زيدان، عبد الوهاب عزاوي، بهيج وردة، سحر مندور، شادي الزقزوق، حازم حرب، هاني زعرب، بهمان غوبادي، آلاء يونس، نسرين بخاري، صلاح أبو الدو، أحمد فارس، عثمان فكراوي.
هنّ وهم بعض شركاء العدد الأخير للـمجلة، منثورون بغير تساوٍ على أبواب لها إشارات ودلالات... "سرد متقطع، قاع الـمدينة، تجارب، قصيدة، قصة، بما إنو، بورتريه، أصوات الجوار، ملامح، فصول، رفوف".
ومن يعرف بعض أولئك الكتاب والتشكيليين يستدل بيسر على أنّ (من وإلى) لا تنتحل ــ أقلـّه حتى الآن ــ أمام قرائها أي غيتو شبابي تبسيطي وفق تعريفات سِنيّ الوجود الفيزيائي للشخص.
رغم أن بعض الـمشاريع الاستشرافية فيها تأتي (آلاء يونس) إنقاذاً للـماضي من تأريخيته الـمزمنة بصيغة "نفرتيتي" ماكنة خياطة فرعونية شغّلت وشغلت أرامل وأيامى الحروب الـمصريات إبان 1952.
أو كشفية فوتوغرافيا أخرى (محمد حرب) لطفل كان عليه أن يمشي على الـماء قبل أن يصل إلى شربة تروي ظمأه. كما يهيئ للناظر.
على أنه يبدو أن (من وإلى) لا تلقي بالاً لـمعاناة جدّاتها العربيات، أو حتى الغربيات الأكثر "إفصاحا" عن بلواهن. مثل (كريستيان ساينس مونيتور) (christian science monitor) و(نيويورك تايمز) (New York Times) و(شيكاغو تريبيون) (chicago tribune) وغيرها من مشيـّدات النشر و"العقارات" الصحافية الـمطبوعة الآيلة سراعا للانترنت، والإفلاس.
فللـمجلة موقع افتراضي على الشبكة الدولية لا تخشى من بث مطبوعها عليه دون كلفة إضافية، ولا تضن بشيء مما "يحبـّر" فيها على متصفحها الالكتروني الذي لا يتحمل أية أعباء مالية على الإطلاق. كيف لا، ومطبوعتها توزع بلا مقابل مادي أصلاً، وتخلو تقريباً من الإعلان والترويج التجاري.
ولعل هذا الأمر دون غيره أثار لدى بعض الدمشقيين بالذات حكة خفيفة في الذقن، خاصة وأن دمشق لـم تلبث طويلا خارجة من "تأميمات" الثقافة و"مجانية" التثاقف. إنْْ في العام الـماضي كعاصمة ثقافية، أو فيما غبر وعبر من "اشتراكية" الفكر ماضيا!.
سؤال الـمنشورات الجديدة حولنا وبلغتنا لـم يعد أقل خطراً اليوم من سؤال الكتابة الجديدة والكتـّاب الجدد، ثالوث يشد بعضه بعضا، أو يرخيه. ودائما نخب قارئ أكثر جدّة، ففاعل مجدد.
ولالتقاط هذا الأخير بالضبط لا مندوحة من انتظار الغد. على أن الغد "أقرب بكثير مما نظن" (نادين باخص).
* الهوامش والاقتباسات والإحالات من مجلة (من وإلى)، العدد التاسع، نيسان 2009، منشورات جيل للنشر، رام الله، فلسطين.
2010-08-08
اسحبوا أظافركم جميعا من حنجرة فيروز
لم تكد الإشاعات تستحيل حقيقة عن قدوم فيروز إلى دمشق بعد جفوة قاربت العشرين عاما؛ حتى أزّت في أسماعنا دون سابق إنذار بعض النشازات الممرضة والتي انبرت تدعو وتنادي وتطالب وتناشد بلغة المنفستوات سيدة الصباحات الدمشقية أن تعدل عن قرارها بالقدوم إلى الشام, بحجة أن السلطة في سوريا هي المنظم لهذه الدعوة, تحت غطاء فعاليات دمشق عاصمة للثقافة العربية.
وأول ما يتبادر إلى الذهن عطفا على هذا المنطق المعوج في التعاطي مع الحياة -قبل أن نلصق بها كلمة ثقافية أو سياسية- هو إن كان لكاتبنا الحصيف صاحب البيان المبين وغيره من مفتي هذا العصر
ما يقولونه أيضا وفق شرعتهم فيما تبقى لنا من الهواء الذي نتنفس في هذه البلاد.
أليس الأحرى بنا وسد الذرائع قد آل في تهافته لديهم هذا المآل أن نستنكف
بالمعيـّة عن شرب الماء؛ لأن السلطة هي من يدير عنفات (عين الفيجة)؟!
أليس الأحرى بنا وسد الذرائع قد آل في تهافته لديهم هذا المآل أن نستنكف بالمعيـّة عن شرب الماء؛ لأن السلطة هي من يدير عنفات (عين الفيجة)؟!
وأن نضرب صفحا عن تناول خبزنا كفاف يومنا؛ لأن الحكم الحالي هو من يضع خطط الطوارئ في وزارة الزراعة التي تستنبت على ما يبدو بدورها القمح عرفيا؟!
وأن نمتنع أيضا وأيضا عن دفن موتانا في هذه الأرض, لأن النظام يحتكر الدفاع عن كامل التراب الوطني؟!
من المؤسي حقا أن هؤلاء الناس الذين ما فتئوا يبشروننا بالأمجاد الطارفة والتليدة للمجتمع المدني المنشود لا ينسون في غمرة اندفاعهم المدني الميمون ذاك سوى المدنيين أنفسهم.
ليمسوا بذلك الأقصر إدراكا والأكفّ بصرا عن رؤية خامات وقامات الناس والبشر, لأنهم عندما ينظرون إلى سوريا لا يرون إلا السلطة, ما يجعلهم أقرب في ذلك إلى التهمة التي يرمون السلطة بها من أنها لا ترى سوى نفسها ومصالحها عندما تجلس لـ(تتمرا) في البلاد, لتغيب عن الجميع في النهاية رؤيا البلد للبلد.
كثيرون يفضلون أن يقلقوا من كون رواتبهم قاصرة عن إسعافهم بثمن بطاقة حضور لحفلة فيروز, محملين الحكومة وزر وتبعات هذا العجز المؤلم والخطير لدى العديد من شرائح المجتمع السوري المفقـّر, على أن (يسمّـوا) أبدانهم بـ(ولدنة) من نمط الزج باسم فيروز في سجال لازالت سمة السفسطة التخوينية هي الغالبة عليه حتى الآن بين أقطاب المعارضة منذ الاجتماع الأخير لإعلان دمشق, على الرغم من أنّ من تبرع -غير مأجور ولا مشكور- بإطلاق ذلك النداء الأسود ضد مجيء فيروز؛ لا يمكن بعد المستجدات الأخيرة داخل (الإعلان) عده ناطقا باسم المعارضة كلها, على أنّ هذا الأخير لا يرعوي عن اعتبار نفسه في جـُمله البائسة تلك لا خطيبا فيهم بل متحدثا باسمهم وأعني (جميع السوريين الأحرار) وأنى له هذا.
فبعد كل هذا العجز والخصاء المزمن عن تقديم بدائل برامجية موضوعية وإن حتى من قبيل الاستشرافي الافتراضي بما يتجاوز التظلم والاستضعافية والنق الممض على المستوى السياسي البحت, لانعدم أصواتا تسترسل في مسيرتها العرجاء محاولة أن تقطع عنا غيث البقية الباقية من أمل قد يلوح في ترنيمة (ترندحها) فيروز بملائكية على مسامعنا المثخنة عرائضا وبيانات.
فيروز ليست بحاجة إلى (نداء) كي يفلتر للسوريين صوتها وطنيا, أو (إعلان) كي يلقنـّها وجهتها أيديولجيا, وهي قادرة تمام القدرة على التمييز بين (أمانة) الكلمة التي تحمل, و(أمانة) الكرنفال التي تصوب الدعوات, فـ(نهاد حداد) لم تبني خلال 77 عاما عزيمتها من (العزائم), ومن المعيب اتهامها بعد ما شهدنا من مسيرة حجها الموسيقي إلى الآن بأن ولائها مرهون لـثقافة (الولائم) وموائدها المنزلة على من لا يقرأ.
وما شيوع هذه الأنباء وسواها مؤخرا جدا إلا دليل نافر آخر على أنّ قياس الوقت بالسنوات الـ6 أو الـ7 أو الـ8 بعد الـ2000 أو قبلها مجرد تعلـّة لا تكاد تخفي الاستمرارية التسونامية لهذا السقم والزناخة في ثقافتنا المحلية, سقم لطالما تشكى وتذمر منه من كان بالضبط أمينا عليه وجزء أصيلا آخر منه.
أولئك الذين يحلو لهم التبختر بالنسخة الوحيدة لسجل نفوس (السوريين الأحرار), محتكرين تلك الحرية في استبداد لا يقل خطورة وعنجهية عن الاستبداد المقابل الذي يقفون ضده.
وإذا كانت البيانات والتقارير والتصريحات التي ترصد استبداد السلطة أكثر من أن تعد وتحصى؛ فمن تراه يتفرغ لرصد هذا التسلط والإقصاء المموه الذي ينتف دون هوادة ريش الجناح الآخر للحرية الطريدة.
سنميز بما لا يترك مجالا لشك في (الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية) بين (الأمانة العامة للاحتفالية) و (دمشق عاصمة للثقافة), بالطريقة نفسها التي سنميز فيها في (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي) بين (الإعلان) و (دمشق التغيير الوطني الديمقراطي).
فمعظمنا لا ينتظر الكثير من هذه (الأمانة العامة) لكننا لا نبرح نتعشـّم في دمشق الكثير مما تتعشـّمه هي فينا, تماما مثلما لا نتوقع الكثير من (الإعلان), من دون أن يهز هذا إيماننا بضرورة التغيير.
ولعل هذه التوقعات في حدودها الدنيا -والتي قد تثير حفيظة بعضهم- تكون في صالح الطرفين معا, فتخفف عنهما عبء ما ينوءان بحمله مما تنضح به أسماؤهما الجليلة التي تخيروها لأنفسهم, وتفسح أمام آخرين مجالا هو رحب للمشاركة في كلا الواجبين المتحدين, ثقافيا سياسيا.
هل ساء أولئك القوم حقا أن يروا فيروز وغيرها وهي تـُغنـِي وتـُغنـّي, علها تنفخ في رميم الثقافة (العاصمة) بعض روح.
هل ترانا ننتظر من أولئك المنرفزين أن يفتحوا دفاتر فيروز القديمة ويحاسبونها مثلا على آثامها الغنائية بعد كل تلك الحفلات والمسرحيات التي قدمتها في سوريا (الأسد) وبشكل شبه سنوي حتى العام 1977, ربما عرفانا منها بما منحتها إياه إذاعة دمشق منذ بداية الخمسينات عندما دعاها مدير البرامج فيها وقتذاك الأمير يحيى الشهابي ومنحها يوما أسبوعيا خاصا بها مع الرحابنة الأخوين؟
أم تراهم سيفرضون على الناس تطنيش (صبحيات) الإذاعات الرسمية الثلاث -ناهيك عن الخاصة- والتي لم يجرؤ رسمي أو غير رسمي من مدرائها على إزالة أرشيف أغاني الرحابنة منذ ما يقرب ثمانية عقود من غرفة البث المباشر, رغم كل ما اعترى تلك الفترة من الزمن من تبدلات و(جمودات) سياسية؟
أم أنهم سيجمعون كلا على حدة -مثلما ما عودونا- على مقاطعة هذه المناسبة أيضا -مثل ما عودونا-؟
أتركوا لنا متنفسا خارج هذه المعمة الغبراء, والتي لا يكاد يعرف بعض المنخرطين فيها أنفسهم رؤوسهم من أرجلهم, اللهم إلا عندما تتدحرج تلك الرؤوس في الزنازين وراء قضبان القهر والقمع, أو عندما تنزلق بعض تلك الأرجل في مهاوي ودركات ما تتوهمه صراط (الخلاص).
ولتأذنوا لنا بأن نبترد على الظمأ بشربة الحلم الفيروزي هذه, ريثما يتسنى لكم ولغيركم قص شريط افتتاح الفردوس الإصلاحي الديمقراطي الموعود ميدانيا.
لن يطلب أحد إليكم التعفف عن لعن الظلام, فالعنوه ما طاب لكم اللعن, إنما كونوا على ثقة بأننا سنطالبكم أبدا, بل ونقف في وجهكم إن تطلب الأمر كي ترفعوا أيديكم عمن يحاول إضاءة بعض الشموع هنا وهناك في عاتي الرياح, أقله إلى أن تتعلموا القيام بهذه المهمة النبيلة بأنفسكم من باب التغيير (الديمقراطي أيضا).
2008
وأول ما يتبادر إلى الذهن عطفا على هذا المنطق المعوج في التعاطي مع الحياة -قبل أن نلصق بها كلمة ثقافية أو سياسية- هو إن كان لكاتبنا الحصيف صاحب البيان المبين وغيره من مفتي هذا العصر
ما يقولونه أيضا وفق شرعتهم فيما تبقى لنا من الهواء الذي نتنفس في هذه البلاد.
أليس الأحرى بنا وسد الذرائع قد آل في تهافته لديهم هذا المآل أن نستنكف
بالمعيـّة عن شرب الماء؛ لأن السلطة هي من يدير عنفات (عين الفيجة)؟!
أليس الأحرى بنا وسد الذرائع قد آل في تهافته لديهم هذا المآل أن نستنكف بالمعيـّة عن شرب الماء؛ لأن السلطة هي من يدير عنفات (عين الفيجة)؟!
وأن نضرب صفحا عن تناول خبزنا كفاف يومنا؛ لأن الحكم الحالي هو من يضع خطط الطوارئ في وزارة الزراعة التي تستنبت على ما يبدو بدورها القمح عرفيا؟!
وأن نمتنع أيضا وأيضا عن دفن موتانا في هذه الأرض, لأن النظام يحتكر الدفاع عن كامل التراب الوطني؟!
من المؤسي حقا أن هؤلاء الناس الذين ما فتئوا يبشروننا بالأمجاد الطارفة والتليدة للمجتمع المدني المنشود لا ينسون في غمرة اندفاعهم المدني الميمون ذاك سوى المدنيين أنفسهم.
ليمسوا بذلك الأقصر إدراكا والأكفّ بصرا عن رؤية خامات وقامات الناس والبشر, لأنهم عندما ينظرون إلى سوريا لا يرون إلا السلطة, ما يجعلهم أقرب في ذلك إلى التهمة التي يرمون السلطة بها من أنها لا ترى سوى نفسها ومصالحها عندما تجلس لـ(تتمرا) في البلاد, لتغيب عن الجميع في النهاية رؤيا البلد للبلد.
كثيرون يفضلون أن يقلقوا من كون رواتبهم قاصرة عن إسعافهم بثمن بطاقة حضور لحفلة فيروز, محملين الحكومة وزر وتبعات هذا العجز المؤلم والخطير لدى العديد من شرائح المجتمع السوري المفقـّر, على أن (يسمّـوا) أبدانهم بـ(ولدنة) من نمط الزج باسم فيروز في سجال لازالت سمة السفسطة التخوينية هي الغالبة عليه حتى الآن بين أقطاب المعارضة منذ الاجتماع الأخير لإعلان دمشق, على الرغم من أنّ من تبرع -غير مأجور ولا مشكور- بإطلاق ذلك النداء الأسود ضد مجيء فيروز؛ لا يمكن بعد المستجدات الأخيرة داخل (الإعلان) عده ناطقا باسم المعارضة كلها, على أنّ هذا الأخير لا يرعوي عن اعتبار نفسه في جـُمله البائسة تلك لا خطيبا فيهم بل متحدثا باسمهم وأعني (جميع السوريين الأحرار) وأنى له هذا.
فبعد كل هذا العجز والخصاء المزمن عن تقديم بدائل برامجية موضوعية وإن حتى من قبيل الاستشرافي الافتراضي بما يتجاوز التظلم والاستضعافية والنق الممض على المستوى السياسي البحت, لانعدم أصواتا تسترسل في مسيرتها العرجاء محاولة أن تقطع عنا غيث البقية الباقية من أمل قد يلوح في ترنيمة (ترندحها) فيروز بملائكية على مسامعنا المثخنة عرائضا وبيانات.
فيروز ليست بحاجة إلى (نداء) كي يفلتر للسوريين صوتها وطنيا, أو (إعلان) كي يلقنـّها وجهتها أيديولجيا, وهي قادرة تمام القدرة على التمييز بين (أمانة) الكلمة التي تحمل, و(أمانة) الكرنفال التي تصوب الدعوات, فـ(نهاد حداد) لم تبني خلال 77 عاما عزيمتها من (العزائم), ومن المعيب اتهامها بعد ما شهدنا من مسيرة حجها الموسيقي إلى الآن بأن ولائها مرهون لـثقافة (الولائم) وموائدها المنزلة على من لا يقرأ.
وما شيوع هذه الأنباء وسواها مؤخرا جدا إلا دليل نافر آخر على أنّ قياس الوقت بالسنوات الـ6 أو الـ7 أو الـ8 بعد الـ2000 أو قبلها مجرد تعلـّة لا تكاد تخفي الاستمرارية التسونامية لهذا السقم والزناخة في ثقافتنا المحلية, سقم لطالما تشكى وتذمر منه من كان بالضبط أمينا عليه وجزء أصيلا آخر منه.
أولئك الذين يحلو لهم التبختر بالنسخة الوحيدة لسجل نفوس (السوريين الأحرار), محتكرين تلك الحرية في استبداد لا يقل خطورة وعنجهية عن الاستبداد المقابل الذي يقفون ضده.
وإذا كانت البيانات والتقارير والتصريحات التي ترصد استبداد السلطة أكثر من أن تعد وتحصى؛ فمن تراه يتفرغ لرصد هذا التسلط والإقصاء المموه الذي ينتف دون هوادة ريش الجناح الآخر للحرية الطريدة.
سنميز بما لا يترك مجالا لشك في (الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية) بين (الأمانة العامة للاحتفالية) و (دمشق عاصمة للثقافة), بالطريقة نفسها التي سنميز فيها في (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي) بين (الإعلان) و (دمشق التغيير الوطني الديمقراطي).
فمعظمنا لا ينتظر الكثير من هذه (الأمانة العامة) لكننا لا نبرح نتعشـّم في دمشق الكثير مما تتعشـّمه هي فينا, تماما مثلما لا نتوقع الكثير من (الإعلان), من دون أن يهز هذا إيماننا بضرورة التغيير.
ولعل هذه التوقعات في حدودها الدنيا -والتي قد تثير حفيظة بعضهم- تكون في صالح الطرفين معا, فتخفف عنهما عبء ما ينوءان بحمله مما تنضح به أسماؤهما الجليلة التي تخيروها لأنفسهم, وتفسح أمام آخرين مجالا هو رحب للمشاركة في كلا الواجبين المتحدين, ثقافيا سياسيا.
هل ساء أولئك القوم حقا أن يروا فيروز وغيرها وهي تـُغنـِي وتـُغنـّي, علها تنفخ في رميم الثقافة (العاصمة) بعض روح.
هل ترانا ننتظر من أولئك المنرفزين أن يفتحوا دفاتر فيروز القديمة ويحاسبونها مثلا على آثامها الغنائية بعد كل تلك الحفلات والمسرحيات التي قدمتها في سوريا (الأسد) وبشكل شبه سنوي حتى العام 1977, ربما عرفانا منها بما منحتها إياه إذاعة دمشق منذ بداية الخمسينات عندما دعاها مدير البرامج فيها وقتذاك الأمير يحيى الشهابي ومنحها يوما أسبوعيا خاصا بها مع الرحابنة الأخوين؟
أم تراهم سيفرضون على الناس تطنيش (صبحيات) الإذاعات الرسمية الثلاث -ناهيك عن الخاصة- والتي لم يجرؤ رسمي أو غير رسمي من مدرائها على إزالة أرشيف أغاني الرحابنة منذ ما يقرب ثمانية عقود من غرفة البث المباشر, رغم كل ما اعترى تلك الفترة من الزمن من تبدلات و(جمودات) سياسية؟
أم أنهم سيجمعون كلا على حدة -مثلما ما عودونا- على مقاطعة هذه المناسبة أيضا -مثل ما عودونا-؟
أتركوا لنا متنفسا خارج هذه المعمة الغبراء, والتي لا يكاد يعرف بعض المنخرطين فيها أنفسهم رؤوسهم من أرجلهم, اللهم إلا عندما تتدحرج تلك الرؤوس في الزنازين وراء قضبان القهر والقمع, أو عندما تنزلق بعض تلك الأرجل في مهاوي ودركات ما تتوهمه صراط (الخلاص).
ولتأذنوا لنا بأن نبترد على الظمأ بشربة الحلم الفيروزي هذه, ريثما يتسنى لكم ولغيركم قص شريط افتتاح الفردوس الإصلاحي الديمقراطي الموعود ميدانيا.
لن يطلب أحد إليكم التعفف عن لعن الظلام, فالعنوه ما طاب لكم اللعن, إنما كونوا على ثقة بأننا سنطالبكم أبدا, بل ونقف في وجهكم إن تطلب الأمر كي ترفعوا أيديكم عمن يحاول إضاءة بعض الشموع هنا وهناك في عاتي الرياح, أقله إلى أن تتعلموا القيام بهذه المهمة النبيلة بأنفسكم من باب التغيير (الديمقراطي أيضا).
2008
ليس كل ما يلمع دراما سورية ...
لم يكن السوريون في يوم من الأيام بعيدين عن الدراما بحال ؛ سواء التي يصطنعونها لأنفسهم أو تلك التي يصنعها الآخرون لهم و بهم , و كلنا يذكر من عهد غير بعيد كيف غزا أحد المسلسلات المكسيكية حياتهم بكل ما تحتمل الكلمتان "غزا" و "حياة" من معان ,
فصار اسم "كساندرا" _البطلة المتوجة لذلك العمل_ يطلق على كل شيء ؛ ابتداء بالمتاجر و السوبرماركات والمكاتب العقارية , مروراً بالعلكة و الشوكولا و السكربينات و ألقاب الدلع لباصات النقل الداخلي , و ليس انتهاء بأسماء المولودات حديثاً لآباء لا ينقصهم التهور , ناهيك عن أول الأخبار و آخر النكات , و لو أن بعض المتنفذين يتابعون على التلفزيونات شيئاً آخر سوى فتوحاتهم الخطابية و إعجازاتهم المنبرية ؛ لكان ثمة احتمال كبير لأن ينتهي بنا الأمر ذات صباح مواطنين في جمهورية "كساندرا" (الديموقراطية ربما).
كان ذلك في الماضي , أما الآن فصار للسوريين ما يشغلهم محلياً بعد تلك الفورة, (الثورة , الوفرة , الطفرة).. الدرامية أو أي اسم آخر برسم الاجتهاد , كلها لتوصف تلك الحال التي نعيشها و تعيشنا على شاشة التلفزيون يومياً , إن لم يكن على مدار الساعة.
لكن غياب المشروع الفكري لا وبل أحياناً الإبداعي التقني عن كم غير يسير من هذه الأعمال , و طغيان الهم الربحي الصرف على مشاغل القائمين عليها و بها , ألزم غير مرة التحقيق والمسائلة .
لقد جاء الانفلاش الهائل في فضاء البث العربي ليضع هذه الدراما أمام تحد لم تكن عناصر استعدادها له قد بلغت تمامها بعد , فعلى صعيد الحرية الافتراضية التي كان مؤملاً منها أن توسع أطر الخطاب الإعلامي العربي ؛ بدا السوريون متلعثمين في منطوقهم الدرامي , منفعلين و منتظرين أسوة بغيرهم في البلد أن تسفر حمى الطلق المستعرة من حولهم عن ولادة ما , تتقاذفهم هبات رياح ما اصطلح عليه بالتغيير , والذي كان أقرب إلى التحيير منه إلى أي شيء آخر.
أما على صعيد التمويل و الإنتاج فلم تكن الصورة رمادية تماماً , فالدراما كصناعة _أو تكاد_ لم تعول على ما يبدو على الاقتصاد المحلي الأعرج , والذي اتضح أن انشغال القيمين عليه تداولاً إلى حد أكثر من بعيد إنما كان انشغالاً لغوياً (بضم اللام و فتحها) بين اشتراكي , واجتماعي , مفتوح أو مغلق ؛ أكثر منه انشغالاً بالاستراتيجي والمنهجي , و عليه يمم صانعو الدراما وجههم شطر التمويل و من ثم التسويق الخارجي_ إن كان ثمة ما يزال خارجي بهذا المعنى _ الأمر الذي أدى لاحقاً و كما أظهرت السنوات العشر الأخيرة إلى طرح الدراما السورية كأسهم _ بخسة أحياناً إن على مستوى المادة أو المضمون _ في بورصة شرسة كان للمال الخليجي فيها القدح المعلى . وهكذا أصبح للشرط الاقتصادي الإنتاجي الكلمة الفصل في تحديد الكم العددي , و الإطار الزمني , و نافذة العرض لإنجاز و إيصال تلك الأعمال إلى جمهورها .
كالحاصل مثلاً في شهر رمضان , و الذي استحال إلى سوبر ماركت سنوية بأكداس مسلسلاته الثلاثينية الفضفاضة , دون أن يسهم دخول عدد من العاملين الأصلاء في الحقل الدرامي من ممثلين و مخرجين على خط الإنتاج من تحسين هذه الشروط إلا لماماً .
على أن هذا الصنف من الأعمال لم يعدم رغم كل شيء جمهوراً أزلي الوفاء و القناعة , و جاهزاً _ ما شاءت له الطوارئ _ للجلوس لساعات ماراثونية خلف جهاز التلفزيون , متماهياً مع الأبطال و الضحايا الذين تقترحهم على أحلامه و هواجسه أزرار الشاشات المختلفة .
ولم يكن خافياً أن هذا النوع من الإنتاج قد انتحى جانب التاريخ و الفنتزة كمخرج براغماتي يوفق بين شراهة السوق ممثلاً بالفضائيات العربية النامية ؛ و الرقابة الرابضة التي تناسلت رقابات عديدة طرداً و أعداد المحطات و توجهاتها , الأمر الذي فرض على المشاهد قراءات معكوفة وملتوية لهذا التاريخ , متجنية طوراً , طهرانية أطواراً أخرى , مع العجز الفاقع لهذه الطروحات عن الصمود زمناً أطول مما أراده لها أربابها في العرف و السياسة .
و كلنا يذكر هبة المسلسلات التي أفرطت في تناول الحقبة العثمانية , لتشبعها تحميصاً و بحشاً أكثر منه تمحيصاُ و بحثاً , و من ثم ارتداد تلك الموجة على أعقابها حد التلاشي بعد و بين قوسين (التحسن) في العلاقات السورية التركية و الذي _ وأقصد هنا هذا التحسن بالذات _ قد تفوق بأشواط على خيال أي كاتب درامي للسيناريو أو التاريخ صادف و كان مستيقظاً في تلك المرحلة .
أما المتابع للمعاصر من مسلسلات هذه الإنتاجية فعليه و قد أدركها أن يتمنطق ذخيرة غير يسيرة من المعاجم و القواميس , و يستل ما تطال يداه من عدة جلب الغائب و فك المربوط , كي يستعين بها على سبر طلاسم و خوارزميات العمل الفني , الذي لا يتوانى عن أن يرمي في وجهه و بلا هوادة كميات لا يستهان بها من الرموز و الإيحاءات و الإسقاطات , لينتهي الأمر بالمشاهد بعد طول عمر خريجاً صلداً لا يشق له غبار ؛ إما في ترصيص الشيفرات و المكوّدات , أو في تفصيص البزر و القلوبات , في حالة من الاستلاب الوجداني و المعرفي تتركه فريسة سائغة لباقي برامج التلفزيون الموجهة , و الأعتى خبرة في التفريغ والتجريف.
فقد كان الفرق و لا يزال جد شاسع بين سبر آفاق الهوية الوطنية و التسلح بمعرفة ما مضى لمواجهة الآني والآتي ؛ و بين الاتكاء على جدران آيلة للسقوط أو هي سقطت فعلاً , بانتظار جلاء الرؤية .
إلا أن ذلك كله لحسن الحظ و كنتيجة _ متأخرة ربما إنما ليست بحال مفاجئة _ لم يحل دون تنامي فئة أخرى من المتابعين باتت أكثر انتقائية و تطلباً مما تشاهده , و إن لم يكن ذلك تماماً بفضل الإعلام مرئياً أو مقروءاً كان أم مسموعاً , و لا بفضل البرامج النقدية و التحليلية ؛ بقدر ما كان بدافع الملل من التكرار و ضيق الوقت المعاشي . ذلك أن الإعلام السوري قد أظهر عجزاً مخزياً عن مجاراة الزخم الدرامي , نتيجة نوسانه المرضي المزمن بين المديح والهجاء , و عدم تمكنه لا أولاً و لا أخيراً من طرح وجهة نظر علمية موضوعية , تقوم بدورها أساساً بتقويم هذه الأعمال الفنية بعيداً عن المصالح الشخصية و الشللية و الزيت الشخصي العكر .
غير أنه لا يسع المرء إلا و أن يقر لبعض هذه الدراما بإسهامها بقدر ما في تغيير النظرة المجتمعية التقليدية تجاه جملة قضايا _ قد يكون منها عمل المرأة , و معضلة الفساد ، بل حتى تكريس الفن الدرامي نفسه _ أو على الأقل البدء في طرح مقدمات آفاق أخرى كبدائل محتملة للتعاطي مع بعض هذه الأمور , بانتظار نضوج الظروف الموضوعية لتطور طريقة تناول تلك المواضيع والدراما في آن.
فراحت الأعمال المنتجة _ و لا سيما الحديثة منها _ في تواترها المتصاعد ؛ تتبارى على لمس هذا السقف , والأكثر طموحاً منها ربما حتى على رفعه , و بالتالي تم تجاوز بعض هذه الخطوط التي طالما نعتت بالحمراء في سياق العمل الدرامي , إن لم يكن من خلال الفعل و تطور الحدث و الشخصية ؛ كان شفاهة عبر السرد و الحوار.
بيد أن الترهل النقدي الذي سبقت الإشارة إليه أجبر الدراما على أن تواصل السير على قدم واحدة في مواجهة كل ما سبق , ناهيك عن المعوقات المجتمعية الأخرى التي لا تقل عناداً و تسلطاَ , ممثلة بالأعراف السائدة , و التفاوت الطبقي المستفحل الذي حرم الدراما _كما حرم غيرها من قبل!_ مساندة و دعم طبقة وسطى متلاشية يفترض بها القيام بدور الحامل و المحرض لأي جهد تغييري حقيقي تكون هذه الدراما بالمقابل انعكاساً أميناً له , و التي عندما تحاول أن تكون كذلك فعلاً ؛ لا تسلم من تدخل الرقيب حكومياً مرة ليشذب بمقصه الرشيق و يقلم مثلاً قرون بعض الغزلان في غابة الذئاب , و مجتمعياً أخرى معترضاً بمهابة على تشخيص بعض الرموز الدينية على الشاشة , كما حصل مع غضب متدينين من إحدى الطوائف من وجود غسان مسعود في دور الإمام الرضا أمام أبناء الرشيد .
لكن القافلة هنا عودتنا أن تسير إن بكلاب نابحة أو بدونها , فنقرأ مثلاً في نَفَسٍ واحد "" أن ال( mbc ) و هي من هي ؛ إحدى حيتان الإنتاج و البث الفضائي , تسعى بل و تقوم عملياً _ بتوظيف ثلاثة مخرجين سوريين بغية الانتهاء بأسرع ما يمكن من (13) حلقة من أحد الأعمال , و قبل أسابيع ثلاثة فقط من رمضان (المبارك) , حيث انكب كل من هؤلاء الثلاثة و بالتزامن على تصوير جزء من العمل , ملتهمين جهد كتبة السيناريو الذين كان المطلوب منهم أن يرموا في كل يوم حلقة ناجزة على مكتب المنتج , ليصار إلى تصويرها على الفور في اليوم التالي , دون أن يتاح للممثلين حتى مجرد الإطلاع عليها مسبقاً , لتعرض الحلقة التي يتم الانتهاء من عملياتها الفنية في اليوم الذي يلي ذلك مباشرة على الشاشة .... "" (من دون إشارة تعجب).
و ختاماً _ و قد لا يكون _ فإن غياب التخطيط الإعلامي و النظرة الإستراتيجية البعيدة لآفاق العمل الدرامي عن أولئك المهتمين أو المتلبسين به ؛ لا يمكن أن يجعل من الدراما السورية سلاحاً في أي مواجهة سواء كانت اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية , بل إن ذلك يهددها حتى في غايتها الأدنى منالاً و المتمثلة في الإمتاع والتسلية _ إن كان لنا أن نفترض ذلك حتى _ مع قلة البدائل الأخرى حد الندرة من مسرح و سينما و موسيقى , و غياب طقوس أي منها عن حياة الفرد السوري .
و هذا الإعلام نفسه إذا لم يرتق ليمارس مهنيته بحرية , خالعاً عنه صوتيات شعاريات منهَكة منهِكة , و خارج أطر المخلد من طوارئ و عرفيات , معبراً بصدق يلزمه عن طموحات و هواجس من يمثلهم بموزاييكهم الفريد ؛ فلن يتأتى له يوماً أن يهيئ المناخ الصحي ليس أقله لدراما فاعلة .
أمَا أولئك الذين لهجوا بالدفاع عن عصمة شخصيات و أحداث , فعليهم أن ينتبهوا _ و غيرهم الكثير _ إلى أنهم جميعاً لم يكونوا معصومين أنفسهم على سبيل المثال في ذلك اليوم من "أيام شامية" أو تلك الليلة من "ليالي الصالحية" , عندما أنفقوا بلا حساب على أبنائهم لا "أبناء الرشيد" لشراء الخناجر و الشنتيانات _ من البلاستيك لحسن الحظ_ أو عندما راحوا يراقبون صغارهم بمزيج من الدهشة وقلة الحيلة و هم يشحطون أقدامهم في الشوارع شحطاً مؤتسين بمشية "الزعيم" .
لقد نجحت الدراما في تقديم السوري ممثِلاً أكثر مما قاربته ممثَلاً , و أنا هنا لا أحاول أن أضع "المخرز" في عين أحد , بقدر ما أنا متورط ربما بالقول : ( كما تكونوا يسلسل عليكم ) .
2007
فصار اسم "كساندرا" _البطلة المتوجة لذلك العمل_ يطلق على كل شيء ؛ ابتداء بالمتاجر و السوبرماركات والمكاتب العقارية , مروراً بالعلكة و الشوكولا و السكربينات و ألقاب الدلع لباصات النقل الداخلي , و ليس انتهاء بأسماء المولودات حديثاً لآباء لا ينقصهم التهور , ناهيك عن أول الأخبار و آخر النكات , و لو أن بعض المتنفذين يتابعون على التلفزيونات شيئاً آخر سوى فتوحاتهم الخطابية و إعجازاتهم المنبرية ؛ لكان ثمة احتمال كبير لأن ينتهي بنا الأمر ذات صباح مواطنين في جمهورية "كساندرا" (الديموقراطية ربما).
كان ذلك في الماضي , أما الآن فصار للسوريين ما يشغلهم محلياً بعد تلك الفورة, (الثورة , الوفرة , الطفرة).. الدرامية أو أي اسم آخر برسم الاجتهاد , كلها لتوصف تلك الحال التي نعيشها و تعيشنا على شاشة التلفزيون يومياً , إن لم يكن على مدار الساعة.
لكن غياب المشروع الفكري لا وبل أحياناً الإبداعي التقني عن كم غير يسير من هذه الأعمال , و طغيان الهم الربحي الصرف على مشاغل القائمين عليها و بها , ألزم غير مرة التحقيق والمسائلة .
لقد جاء الانفلاش الهائل في فضاء البث العربي ليضع هذه الدراما أمام تحد لم تكن عناصر استعدادها له قد بلغت تمامها بعد , فعلى صعيد الحرية الافتراضية التي كان مؤملاً منها أن توسع أطر الخطاب الإعلامي العربي ؛ بدا السوريون متلعثمين في منطوقهم الدرامي , منفعلين و منتظرين أسوة بغيرهم في البلد أن تسفر حمى الطلق المستعرة من حولهم عن ولادة ما , تتقاذفهم هبات رياح ما اصطلح عليه بالتغيير , والذي كان أقرب إلى التحيير منه إلى أي شيء آخر.
أما على صعيد التمويل و الإنتاج فلم تكن الصورة رمادية تماماً , فالدراما كصناعة _أو تكاد_ لم تعول على ما يبدو على الاقتصاد المحلي الأعرج , والذي اتضح أن انشغال القيمين عليه تداولاً إلى حد أكثر من بعيد إنما كان انشغالاً لغوياً (بضم اللام و فتحها) بين اشتراكي , واجتماعي , مفتوح أو مغلق ؛ أكثر منه انشغالاً بالاستراتيجي والمنهجي , و عليه يمم صانعو الدراما وجههم شطر التمويل و من ثم التسويق الخارجي_ إن كان ثمة ما يزال خارجي بهذا المعنى _ الأمر الذي أدى لاحقاً و كما أظهرت السنوات العشر الأخيرة إلى طرح الدراما السورية كأسهم _ بخسة أحياناً إن على مستوى المادة أو المضمون _ في بورصة شرسة كان للمال الخليجي فيها القدح المعلى . وهكذا أصبح للشرط الاقتصادي الإنتاجي الكلمة الفصل في تحديد الكم العددي , و الإطار الزمني , و نافذة العرض لإنجاز و إيصال تلك الأعمال إلى جمهورها .
كالحاصل مثلاً في شهر رمضان , و الذي استحال إلى سوبر ماركت سنوية بأكداس مسلسلاته الثلاثينية الفضفاضة , دون أن يسهم دخول عدد من العاملين الأصلاء في الحقل الدرامي من ممثلين و مخرجين على خط الإنتاج من تحسين هذه الشروط إلا لماماً .
على أن هذا الصنف من الأعمال لم يعدم رغم كل شيء جمهوراً أزلي الوفاء و القناعة , و جاهزاً _ ما شاءت له الطوارئ _ للجلوس لساعات ماراثونية خلف جهاز التلفزيون , متماهياً مع الأبطال و الضحايا الذين تقترحهم على أحلامه و هواجسه أزرار الشاشات المختلفة .
ولم يكن خافياً أن هذا النوع من الإنتاج قد انتحى جانب التاريخ و الفنتزة كمخرج براغماتي يوفق بين شراهة السوق ممثلاً بالفضائيات العربية النامية ؛ و الرقابة الرابضة التي تناسلت رقابات عديدة طرداً و أعداد المحطات و توجهاتها , الأمر الذي فرض على المشاهد قراءات معكوفة وملتوية لهذا التاريخ , متجنية طوراً , طهرانية أطواراً أخرى , مع العجز الفاقع لهذه الطروحات عن الصمود زمناً أطول مما أراده لها أربابها في العرف و السياسة .
و كلنا يذكر هبة المسلسلات التي أفرطت في تناول الحقبة العثمانية , لتشبعها تحميصاً و بحشاً أكثر منه تمحيصاُ و بحثاً , و من ثم ارتداد تلك الموجة على أعقابها حد التلاشي بعد و بين قوسين (التحسن) في العلاقات السورية التركية و الذي _ وأقصد هنا هذا التحسن بالذات _ قد تفوق بأشواط على خيال أي كاتب درامي للسيناريو أو التاريخ صادف و كان مستيقظاً في تلك المرحلة .
أما المتابع للمعاصر من مسلسلات هذه الإنتاجية فعليه و قد أدركها أن يتمنطق ذخيرة غير يسيرة من المعاجم و القواميس , و يستل ما تطال يداه من عدة جلب الغائب و فك المربوط , كي يستعين بها على سبر طلاسم و خوارزميات العمل الفني , الذي لا يتوانى عن أن يرمي في وجهه و بلا هوادة كميات لا يستهان بها من الرموز و الإيحاءات و الإسقاطات , لينتهي الأمر بالمشاهد بعد طول عمر خريجاً صلداً لا يشق له غبار ؛ إما في ترصيص الشيفرات و المكوّدات , أو في تفصيص البزر و القلوبات , في حالة من الاستلاب الوجداني و المعرفي تتركه فريسة سائغة لباقي برامج التلفزيون الموجهة , و الأعتى خبرة في التفريغ والتجريف.
فقد كان الفرق و لا يزال جد شاسع بين سبر آفاق الهوية الوطنية و التسلح بمعرفة ما مضى لمواجهة الآني والآتي ؛ و بين الاتكاء على جدران آيلة للسقوط أو هي سقطت فعلاً , بانتظار جلاء الرؤية .
إلا أن ذلك كله لحسن الحظ و كنتيجة _ متأخرة ربما إنما ليست بحال مفاجئة _ لم يحل دون تنامي فئة أخرى من المتابعين باتت أكثر انتقائية و تطلباً مما تشاهده , و إن لم يكن ذلك تماماً بفضل الإعلام مرئياً أو مقروءاً كان أم مسموعاً , و لا بفضل البرامج النقدية و التحليلية ؛ بقدر ما كان بدافع الملل من التكرار و ضيق الوقت المعاشي . ذلك أن الإعلام السوري قد أظهر عجزاً مخزياً عن مجاراة الزخم الدرامي , نتيجة نوسانه المرضي المزمن بين المديح والهجاء , و عدم تمكنه لا أولاً و لا أخيراً من طرح وجهة نظر علمية موضوعية , تقوم بدورها أساساً بتقويم هذه الأعمال الفنية بعيداً عن المصالح الشخصية و الشللية و الزيت الشخصي العكر .
غير أنه لا يسع المرء إلا و أن يقر لبعض هذه الدراما بإسهامها بقدر ما في تغيير النظرة المجتمعية التقليدية تجاه جملة قضايا _ قد يكون منها عمل المرأة , و معضلة الفساد ، بل حتى تكريس الفن الدرامي نفسه _ أو على الأقل البدء في طرح مقدمات آفاق أخرى كبدائل محتملة للتعاطي مع بعض هذه الأمور , بانتظار نضوج الظروف الموضوعية لتطور طريقة تناول تلك المواضيع والدراما في آن.
فراحت الأعمال المنتجة _ و لا سيما الحديثة منها _ في تواترها المتصاعد ؛ تتبارى على لمس هذا السقف , والأكثر طموحاً منها ربما حتى على رفعه , و بالتالي تم تجاوز بعض هذه الخطوط التي طالما نعتت بالحمراء في سياق العمل الدرامي , إن لم يكن من خلال الفعل و تطور الحدث و الشخصية ؛ كان شفاهة عبر السرد و الحوار.
بيد أن الترهل النقدي الذي سبقت الإشارة إليه أجبر الدراما على أن تواصل السير على قدم واحدة في مواجهة كل ما سبق , ناهيك عن المعوقات المجتمعية الأخرى التي لا تقل عناداً و تسلطاَ , ممثلة بالأعراف السائدة , و التفاوت الطبقي المستفحل الذي حرم الدراما _كما حرم غيرها من قبل!_ مساندة و دعم طبقة وسطى متلاشية يفترض بها القيام بدور الحامل و المحرض لأي جهد تغييري حقيقي تكون هذه الدراما بالمقابل انعكاساً أميناً له , و التي عندما تحاول أن تكون كذلك فعلاً ؛ لا تسلم من تدخل الرقيب حكومياً مرة ليشذب بمقصه الرشيق و يقلم مثلاً قرون بعض الغزلان في غابة الذئاب , و مجتمعياً أخرى معترضاً بمهابة على تشخيص بعض الرموز الدينية على الشاشة , كما حصل مع غضب متدينين من إحدى الطوائف من وجود غسان مسعود في دور الإمام الرضا أمام أبناء الرشيد .
لكن القافلة هنا عودتنا أن تسير إن بكلاب نابحة أو بدونها , فنقرأ مثلاً في نَفَسٍ واحد "" أن ال( mbc ) و هي من هي ؛ إحدى حيتان الإنتاج و البث الفضائي , تسعى بل و تقوم عملياً _ بتوظيف ثلاثة مخرجين سوريين بغية الانتهاء بأسرع ما يمكن من (13) حلقة من أحد الأعمال , و قبل أسابيع ثلاثة فقط من رمضان (المبارك) , حيث انكب كل من هؤلاء الثلاثة و بالتزامن على تصوير جزء من العمل , ملتهمين جهد كتبة السيناريو الذين كان المطلوب منهم أن يرموا في كل يوم حلقة ناجزة على مكتب المنتج , ليصار إلى تصويرها على الفور في اليوم التالي , دون أن يتاح للممثلين حتى مجرد الإطلاع عليها مسبقاً , لتعرض الحلقة التي يتم الانتهاء من عملياتها الفنية في اليوم الذي يلي ذلك مباشرة على الشاشة .... "" (من دون إشارة تعجب).
و ختاماً _ و قد لا يكون _ فإن غياب التخطيط الإعلامي و النظرة الإستراتيجية البعيدة لآفاق العمل الدرامي عن أولئك المهتمين أو المتلبسين به ؛ لا يمكن أن يجعل من الدراما السورية سلاحاً في أي مواجهة سواء كانت اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية , بل إن ذلك يهددها حتى في غايتها الأدنى منالاً و المتمثلة في الإمتاع والتسلية _ إن كان لنا أن نفترض ذلك حتى _ مع قلة البدائل الأخرى حد الندرة من مسرح و سينما و موسيقى , و غياب طقوس أي منها عن حياة الفرد السوري .
و هذا الإعلام نفسه إذا لم يرتق ليمارس مهنيته بحرية , خالعاً عنه صوتيات شعاريات منهَكة منهِكة , و خارج أطر المخلد من طوارئ و عرفيات , معبراً بصدق يلزمه عن طموحات و هواجس من يمثلهم بموزاييكهم الفريد ؛ فلن يتأتى له يوماً أن يهيئ المناخ الصحي ليس أقله لدراما فاعلة .
أمَا أولئك الذين لهجوا بالدفاع عن عصمة شخصيات و أحداث , فعليهم أن ينتبهوا _ و غيرهم الكثير _ إلى أنهم جميعاً لم يكونوا معصومين أنفسهم على سبيل المثال في ذلك اليوم من "أيام شامية" أو تلك الليلة من "ليالي الصالحية" , عندما أنفقوا بلا حساب على أبنائهم لا "أبناء الرشيد" لشراء الخناجر و الشنتيانات _ من البلاستيك لحسن الحظ_ أو عندما راحوا يراقبون صغارهم بمزيج من الدهشة وقلة الحيلة و هم يشحطون أقدامهم في الشوارع شحطاً مؤتسين بمشية "الزعيم" .
لقد نجحت الدراما في تقديم السوري ممثِلاً أكثر مما قاربته ممثَلاً , و أنا هنا لا أحاول أن أضع "المخرز" في عين أحد , بقدر ما أنا متورط ربما بالقول : ( كما تكونوا يسلسل عليكم ) .
2007
الغارة الاسرائيلية الأخيرة بعيون الشباب السوري
استقالة موصوفة, ومتابعة بالريموت
أربع مقاتلات اسرائيلية على الأقل فيما تناقلت الأنباء يسمع شهود عيان دويها في السادس من أيار الجاري, خارقة جدار الصوت فوق المجال الجوي السوري في هدوء ليل الأربعاء ـ الخميس لمنطقة تل أبيض, على بعد 160 كيلومترا شمال الرقة, قريبا من الحدود التركية.
الطائرات التي قدمت من المتوسط -وربما عن طريق تركيا نفسها- استهدفت وفق التقارير إياها شحنة أسلحة إيرانية كانت موجهة إلى حزب الله على ما يؤكد مسؤولون أمريكيون, ليخالفهم في التو واللحظة مسؤولون آخرون -أمريكيون أيضا- ارتأوا أن الهدف إنما كان موقعا ذا طبيعة (نووية), مع التشديد على وجود زوار من كوريا الشمالية (الديموقراطية) أشرفوا على العناية بعتاد ذري وصل عن طريق ميناء طرطوس أوائل هذا الشهر على متن باخرة من بيونغ يانغ, التقط صورها قمر التجسس الاسرائيلي (أفق 7) الذي أطلق في حزيران الفائت بحسب رئيس جهاز الموساد مائير دغان, قبل أن (تصادر) هذه الشحنة (المهربة) فرقة الكوماندوس الاسرائيلي المرافقة والتي أنزلت في المنطقة, بحسب أنباء متفاوتة الـ(فبركة) في الاعتبار الرسمي السوري.
ومع أنّ رواية الغارة الاسرائيلية الأخيرة هذه والتي من غير المنتظر أن تصدر طبعتها الأخيرة قريبا؛ نالت نصيبها الوافر من التغطية الاعلامية عربيا ودوليا؛ إلا أنها لم تحظ لسبب ما بالقدر ذاته من الاهتمام والمتابعة الشبابية سوريا.
على الرغم من كونها قضية لم يبخل المحللون السياسيون والأمنيون بمختلف مشاربهم على مدى أسبوعين ونصف هما عمر الانتهاك حتى اللحظة في أن يسبغوا عليها صفات ونعوتا من قبيل (بالغة الأهميـّة), و(مؤشر خطير), و(شديدة الحساسية)...
ومن طهران (شبه النووية) وحساباتها, إلى بيروت (شبه الأكثرية) وتحسباتها, امتد طيف العواصم والمواقف واسعا إقليميا ودوليا, والغائب الأكبر عنه ليس سوى أحد أصحاب الشأن الأساسيين من شبيبة البلد نفسها.
للبيت رب يحميه ...
سامر البالغ من العمر السادسة و العشرين يعمل منذ بعض الوقت وبشكل متقطع مترجما بين الانكليزية والعربية, ويقف اليوم بالحاح على أبواب إحدى السفارات الغربية سيئة الصيت محاولا نيل كرت هجرة يعشـّمه بعض الأصدقاء خيرا في تحصيله, يقول سامر:(كنت أعمل كالعادة على ترجمة بعض المواد في المنزل عندما دخل أخي الغرفة وأطلعني على نبأ الغارة الاسرائيلية, والذي ربما كان قد سمعه أو قرأه كخبر عاجل فيما أذكر على إحدى القنوات الفضائية), ويتابع:(أنا عادة ما أشاهد الأخبار بشكل يومي تقريبا, لكن في ذلك النهار بالذات لم أتمكن من ذلك لتراكم بعض المهام علي في العمل, لذلك فقد سارعت الى محاولة استقصاء مزيد من التفاصيل على الانترنت, لكن الأنباء كانت متضاربة بشكل مزعج, الأمر الذي أصابني بالملل فعدت إلى عملي).
وعما إذا كان شعر بالخوف أو بالتهديد في تلك اللحظة يجيب سامر بالنفي قائلا:( لا أبدا, لم أحس بأي خوف أو ماشابه, لاعتقادي أن اسرائيل لا يمكن أن تضرب \عن جد\ حاليا).
أما مصدر يقينه في أن الاسرائيليين لن يعمدوا إلى مهاجمة سوريا؛ فيؤكد سامر أنّ هناك (حالة من عدم الاستقرار كانت سائدة منذ زمن طويل بين سوريا واسرائيل ولازالت), وأنّ الأمور سارت (على ما يرام) بين الطرفين طوال الفترة الماضية, وأن( شيئا جديدا) لم يطرأ ليغير المعادلة القائمة.
وحول الطريقة التي أمضى فيها بقية يومه ذاك يقول سامر(ذهبت ذلك المساء مع رفيقة لي ملببيا دعوة أحد الأصدقاء الى حفلة كنا رتبنا لموعدها مسبقا في منزله, وقد قضينا وقتا ممتعا).
ومادام أن الاسرائيليين غير جادين في مهاجمة سوريا كما يقول, ينظر سامر إلى الغارة الاسرائيلية باعتبار أنـّها(رسالة أكثر منها عملا عسكريا فعليا, بمعنى أنهم في اسرائيل يقولون لنا افهموا أننا نستطيع الوصول الى أي مكان نريده, ومتى شئنا ذلك).
وعما إذا كان قد توقع ردا سوريا من نوع ما على الخرق الاسرائيلي؛ يجيب سامر (لم أتوقع ردا سوريا سريعا في حينه, وشخصيا لا أتوقع ردا سوريا بطيئا كذلك), ويضيف( في الحقيقة لا أنا ولا معظم من أعرفهم ننتظر أي رد سوري على الإطلاق, اللهم فيما عدا التصريحات التي صدرت حتى الآن, وربما المزيد منها, إنما ليس أكثر).
ويضرب سامر مثلا بالانتهاك الاسرائيلي المماثل الذي وقع السنة الماضية في اللاذقية, ومن قبله الاعتداء الذي تم فيه قصف بناء في "عين الصاحب", قبل أن يضيف (لو كان هناك مزيد من الحرية في البلد لحصل تحرك من قبل الناس من نوع ما للتنديد بهذه الغارة, كي يعرف الآخرون في الخارج أن الناس قد يقومون بشيء اذا سنحت لهم الفرصة), ليستدرك لاحقا (مع أنني لا أفضل أي رد عسكري على أمثال هذه العمليات, بل أرى أنّ التعامل السياسي و الديبلوماسي هو الأجدى).
ويبدو أن هادي. أ يتفق من جانبه مع كثير مما سبق. ونظرا لأنّه يعمل محررا في إحدى وسائل الاعلام السورية الخاصة؛ فقد عرف بخبر خرق الطائرات الاسرائيلية للأجواء السورية أبكر نسبيا من غيره,وذلك عن طريق (الموظف المكلف )AFPمراقبة وكالة فرانس برس
إنما من دون أن يشكل الخبر أية مفاجئة له. ويبررهادي الـ(العاديـّة) التي استقبل بها النبأ بالقول (في المرحلة الحالية يمكن للمرء توقع كل شيء على هذا المستوى). ويستطرد شارحا وجهة نظره(لقد مررنا منذ وقت قريب بفترة من التصعيد \السلمي\ إن صح التعبير, حيث انهمرت رسائل السلام من هنا وهناك, تلاها مباشرة تهديدات متبادلة وأخبارعن تحركات للقوات على الأرض من الجانبين, ومن ثم تراجع هذه القوات, وتسويق للحديث عن جهود لـ\إاراحة\ الجبهة السورية, وتخفيض الاحتقانات, الأمر الذي يجعل أي أحد -وقد مرّ عبر هذه السلسلة- يتوقع خطوة ما تصعيدية من أحد الطرفين, وأنا شخصيا كنت أتوقع للتصعيد أن يأتي من الجانب السوري لا الإسرائيلي).
هادي سيتم الرابعة والعشرين في غضون أسبوع, وهو لا يتوقع أن تقوم بلاده برد عسكري من نوع ما قبل عيد ميلاده, عدا عن(الرد الروتيني بالاحتفاظ بحق الرد), معللا ذلك بأنه لايمكن للسوريين أن يردوا (كلاسيكيا), مع أنه يعود بعد قليل ليتحدث عن أنّه لا يريد أن يقطع (الأمل) نهائيا من هذا الأمر, مرجحا للرد الميداني -فيما لو تم- أن يأتي في (غزة أو الجنوب اللبناني), و(ربما... ربما الجولان), إنما مع مزيد من انتظار (اللحظة الأنسب لسوريا) فيما يخص الخيار الأخير بالذات.
ويسرد هادي مفارقة أنه كان من بين المحررات في مكتب العمل من اطلعن قبل غيرهن على الخبر, إنما من دون أن يحركن ساكنا, إلى اللحظة التي انتبه إليه فيها المحرر السياسي, ويتابع واصفا ما جرى بعد ذلك (تحلقنا جميعا حول التلفزيون بانتظار ما ستبثه الجزيرة في النشرة التالية), معربا عن خيبة أمله في الطريقة التي أتى فيها الرد الرسمي الأولي على الحدث, ووصفا أداء وزير الاعلام بأنّ (أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان سيئا للغاية, وليس على مستوى المستجد من تطورات بأي شكل من الأشكال), مفضلا عدم إعطاء تفاصيل محددة لانتقاداته, مؤكدا أن الحياة استمرت بشكل(طبيعي) بعد (بيان) الوزير, وعاد كل (إلى عمله المعتاد).
وعن الرد الذي كان يراه الأنسب على الانتهاك الاسرائيلي, لايخفي هادي حماسته الشخصية لرد عسكري مباشر, من قبيل( قصف ثكنات ومواقع عسكرية اسرائيلية في الجولان), معتبرا أنّ(لا أهمية لمن يبدأ التصعيد في هذا الوقت, بل ربما يكون ذلك في صالح من يبادر به), باعتبار أنّ الحرب (قادمة قادمة)!
(الله أعلم) يقول مصطفى عن نبوءة (قادمة قادمة) تلك, وقبل أن يطلب مني بتوجس إطفاء جهاز التسجيل بين يدي؛ يذكرني للمرة الثانية أنّه لايملك سيارة الأجرة التي يعمل عليها, وأنها تعود لابن عم محسن له, وهو لايريد (وجع راس), ونصحني أن ابتعد عن هذه المواضيع التي لها (أهلها) ومكانها في (مجلس الشعب) و(قصر المؤتمرات)!!
يقول مصطفى (أبو الخير) بعد تردد ومداورة وهو يقطع بنا أتستراد المزة, مشعلا سيجارة (الحمرا), ماسحا عرقه بفوطة متدلية على كتفه (عندما سمعت عن \القصة\ أول مرة, كنت \أتسبب\ على السيارة عالقا عند زحمة المرور في شارع بغداد, وكان أحد الشوفيرية على محطة الوقود \يتسمّع\ على غارة \ما غارة\, فحاولت البحث في الراديو عن الخبرية, ولكني لم أجد شيئا, ولم يكن هناك شيء على إذاعتنا كذلك, ثم غاب الموضوع عن ذهني \شي ساعت زمن\ بعد أن اتصلوا بي من البيت مشان دوا للوالدة, وعدت فتذكرت الموضوع عند \السمّان\ وأنا اشتري \مونة\ للبيت, لأن المذيع في الدش كان يتحدث عن ذات الموضوع).
ويشرح (أبو الخير) ببعض الضيق كيف اضطر لـ( الأخد والعطا) مع البائع حول المسألة, بعد أن راح العجوز يشتم ويلعن لأنه ليس في موقع يؤهله كي (يحرق نفس أعداء \لا إله إلا الله\ المستكبرين).
ويعترف مصطفى خيرو أنه لايتذكر الكثيرمن تفاصيل ما وقع, ولم يسمع الكثير من التحليلات على (لندن) لأنها مليئة بـ(الكلام الكبير), بل حتى أنّ متابعته للخبر عند ذلك البائع لم تتعد الدقائق الخمس لاضطراره مغادرة السوبرماركت بسرعة كون السيارة (مصفوفة رتل تاني).
وعن رأيه في السبب الذي شنت إسرائيل هذه الغارة من أجله, يجيب (أبو الخير) فجأة (فركت إدن), ويصمت قليلا منتبها لتغير لهجته في الحديث, ليعود ويؤكد بأن أمورا كهذه (تحصل دائما), لأننا (وحدنا), ولايوجد أحد لـ(يدعمنا), أما (هدول العرب), فلا يمكن أن نستفيد منهم بشيء سوى (الكلام) و(الارهاب)!!
وعن طبيعة الرد الذي يرى أنه الأنسب ليكون من طرفنا, يجيب مصطفى بأنه كان علينا أن (نسقط على الأقل إحدى الطائرات التي هاجمتنا), أمّا مستقبلا فـ(سيقوم حزب الله والشيخ حسن \ربي ينصرو\ باللازم عاجلا ام آجلا), وعما إذا كان قد تحدث مع أحد حول موضوع الخرق الاسرئيلي للأجواء السورية بعد عودته إلى البيت, قال (أبو الخير) أنّه قد تحدث عن ذلك بالفعل مساء مع بعض الأصدقاء الـ(المسقفين), وهم يدخنون النرجيلة في بيت (نزار) -أحد أولئك الصحبة- والذي كان من رأيه أن هذه السنة (لن تمر على ستر وسلامة أبدا), خاصة إذا لم (تنتخي إيران إلى جانبنا).
من جهتها لم تكن يمنى \23\ عاما أقلّ ترددا من مصطفى, إنما لأسبابها المختلفة.
فالطالبة الجامعية, والسكرتيرة في إحدى شركات القطاع الخاص حديثة العهد, تشعر ببعض الحرج كونها كانت (في إجازة على البحر) مع بعض الأصدقاء والصديقات, الأمر الذي حال دونها وأن تعرف عن الموضوع في حينه.
(سمعت الخبر بعد يومين وأنا اقلب محطات التلفزيون) تقول يمنى, وتضيف بأنها لم تشعر بخوف حقيقي إلا عندما علمت أن الطيران الحربي الاسرائيلي الذي دخل الأجواء السورية ربما قد يكون (مرّ فوق المنطقة التي كنت أسبح فيها مع صديقاتي على البحر).
على أن مخاوفها تلك سرعان ما تبددت عندما طمأنها ابن عمها الذي يملك مقهى انترنت, ولديه اطلاع على أخبار (المواقع المحجوبة)؛ أنه (لا وجود لأي خطر), لأنه لو كان مقدرا لأي شيء أن يحدث لـ(حدث يومها مباشرة), أما الآن وقد مرت عدة أيام على الحادثة فكل شيئ مستقر وطبيعي حسب تعبيرهما.
ليس لدى يمنى أي معلومات دقيقة عمـّا كان عليه رد الفعل الرسمي للمسؤولين السوريين, ولم تسمع أيا من محسن بلال أو فيصل المقداد أو وليد المعلم أو عماد مصطفى وهم يدلون بتصريحاتهم تباعا إثر الحادث, ذلك أنها (لاتفتح على القناة الأولى أو الفضائية), كما أنّها لاتملك تصورا يعتد به عن الطريقة التي تريد للرد العسكري أن يكون عليها فيما لو كان, باعتبار (الجيش أدرى بعمله منا جميعا), وهم لن يقصروا في (ساعة الحقيقة).
أما عن إذا ما كانت تشعر بأنه يمكن لهذه الحادثة أن تتكرر قريبا, أجابت يمنى أنها (لاتدري), بيد أننا (تعودنا على هذه الأمور), وأن الوضع عندنا (مهما حصل) يظل (أرحم) من الجاري في (العراق ولبنان وفلسطين), إنما بكل الأحوال (ربنا يحمينا).
أمّا (أم ناريمان) فليس عندها ما تقوله ابدا, و(لاتحاول)!
فهي (لا تفهم بالسياسة), ومع طفلتها التي تبلغ السنة إلا شهرين بالكاد تجد وقتا لأي شيء على الاطلاق. لكن طالبة البكالوريا المتخلفة عن دراستها, وزوجة المهندس الميسور, سرعان ما تبدي استعدادها للتطوع بالحديث عن موضوع آخر هو (الدراما السورية) ومساسلات رمضان, والتي حسب كلامها (تشد المشاهد), وهي شخصيا (لا تفوت منها شيئا) على ضيق وقتها الذي تذمرت منه آنفا!!
حول الـ(لماذا) ...
لايحتاج المراقب كثير جهد ليدرك أنّ أغلب الشبان السوريين ليسوا على ذلك القدر من الاستثارة والاستنفار حتى يعاجلهم بمهدئ موضعي من نمط أن البلاد ليست مستهدفة لذاتها, وأن الغارة قد لا تعدو كونها (بروفه) قريبة لهجوم مستقبلي أبعد في طهران.
F16-Eأو ليضع ذلك الملاحظ ضمن توقعاته أنّ تلك الشبيبة لن تميز بسهولة الـ
أو تتعرف على (بانتسير), نظام الدفاع الجوي الذي تزودت به دمشق مؤخرا من موسكو, والذي يحلو للبعض الاعتقاد أنّ المقاتلات الاسرائيلية إنما شنت تلك الغارة للوقوف على مدى نجاعته في أيدي السوريين.
إذ أنّ هذه المقاربات والتحاليل تظلّ -كغيرها مما سال الحبر فيه مؤخرا- قاصرة عن انتزاع استجابة من شبابنا تداني في حرارتها سخونة الحدث الداهم.
الدكتور مروان قبلان عضو مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق, والأستاذ فيها, لم تشكل له ردة الفعل المرتخية هذه لدى الشباب السوري أية مفاجئة -شخصيا على الأقل-, حتى وهو يشهد كيف أن هذا المسلسل الرمضاني الطارئ على ما فيه من عناصر التشويق والاثارة السياسية, والأحداث التي تكتسي مع مرور الوقت والتسريبات بوليسية فضفاضة؛ فشل في الاستئثار بانتباه شريحة هي الأوسع ضمن المجتمع السوري اليوم, وكيف أنّ الاستبصاري المتخيل لتمثيليات رمضان ودراماه الأصلية؛ استحوذت على البصري المثخن بواقعية صلدة دونها مثل هذه المستجدات.
ويعزو الدكتور قبلان هذا الأمر إلى مجموعة من العوامل والترسبات القديمة, يأتي على رأسها ضعف المشاركة في الحياة السياسية لدى المجتمع السوري في العموم, ولدى هذه الشريحة الواسعة على وجه الخصوص, والتي تتعدى نسبتها إلى العدد الإجمالي للسكان الـ\43%\.
معللا بأنّ (الحياة المجتمعيّة في سوريا قد مرت بمراحل كان التعاطي خلالها في الشأن السياسي يعد نوعا من أنواع التابو), مذكرا بموروث قديم حديث, يتداول فيه الناس بين بعضهم التحذيرات من الحديث حول التمظهرات السياسية لـ(الأوضاع العامة للبلد), وهي الحالة التي ورثتها الأجيال الجديدة لاحقا, ووجدت نفسها عالقة فيها, الأمر الذي كان من نتيجته أن (ابتعد الشباب عن السياسة, والنشاط السياسي), ووصلوا في ارتدادهم عن التواصل مع مفردات المُعاش السياسي حدا دفع أكثر من\76%\ منهم -وفق دراسة رسمية لافتة- إلى الاعتقاد أن بلدهم لاتتهدده أيّة أخطار عسكرية من أي طرف!
وذلك في وقت يعافر فيه دون جدوى ما يربو على \200,000\ جندي أميريكي ومرتزق لضبط الأوضاع الأمنية المتفلتة في بلد جار لهم, وتجتاح موجة الاغتيالات الجوالة عاصمة لاتبعد عن عاصمتهم أكثر من ساعتين بالسيارة, ويحجر فيه على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة, باحتهم الخلفية إقليميا وسيكولوجيا, دون أن يحرك أحد -دولي- ساكنا. ناهيك عن أنّ بلادهم لازالت عمليا منذ العام 1967في حالة حرب مع اسرائيل, ولديها أراض محتلة تتجاوز مساحتها الـ\1200\ كم‘.
سبب آخر -فيما يرى الدكتور قبلان- يعزز فصام جيل اليوم عن واقعه السياسي, ألا وهو (ضعف أداء الاعلام السوري في مجمله), ضعف حرم هذا الاعلام من أن يكون حاملا موثوقا للمعلومة والخبر أولا, و(منبرا) ومتنفسا لهواجس هذه الفئة في المقام الثاني, وسهل اتجاه هذه الشريحة نحو الـ(استقالة) من الحياة العامة محليا.
يضاف إلى ذلك كله (سلسلة الاحباطات) التي غرق -أو أغرق- فيها الشباب السوري جراء (المواقف العربية من القضايا الأساسية والمصيرية), والنكسات المتتالية التي لازالت شعوب المنطقة ككل تعاني نتائجها وعواقبها المدمرة على مستوى قومي.
وبنسب تعليم متواضعة /85.4% منهم تعليم ثانوي فما دون/, وبطالة مرتفعة؛ يعتبر ارتهان شباب هذا الجيل للهم المعاشي اليومي, وانخراطهم في اللهاث وراء أوليـّات اقتصاديـّة عصيـّة, وآمال الحد الأدنى من مستقبل بلا خضات (داخل او خارج حدود بلادهم), عاملا إضافيا ينأى بهم عن الاشتغال بالهم العام كما يوافق الدكتور قبلان, والذي لا يرى في المدى المنظور أي علاج (فوري) للخلاص من هذه الظاهرة الخطيرة, بيد أنه يعتقد أنّ أيّ محاولة في هذا الصدد لا بد لها إن كانت جادة في سعيها أن تبدأ من نقطة (الاعتراف) بوجود هذه المشكلة بين ظهرانينا, منطلقين نحو (طمأنة) هذه الشريحة الفتية من المجتمع بأنّ (الانخراط إيجابيا في النشاط السياسي؛ أمر لا يترتب عليه أية محاذير, أو متاعب), بل على العكس, يجب أن يكون واضحا في أذهان هؤلاء (المواطنين) أنّ ذلك (مسألة مطلوبة, وواجب وطني).
وكغيره من الباحثين, والسياسيين, وأصحاب الرأي في هذا المجال, لا يألو الدكتور قبلان جهدا, في الحث على ضرورة البدء بتهيئة الأرضية الملائمة لاستقبال وتفعيل المشاركة الشبابية في الشأن العام, من قبيل (إصدار قانون عصري وملائم للأحزاب والجمعيات) و(السماح بقدر أكبر من الحريات الإعلامية).
وهما مطلبان ملحان, من شأنهما اليوم أن يفسحا المجال أمام فئات المجتمع المختلفة -وعلى رأسها الشباب- لـ(التداول في الشأن السياسي, وبالتالي تحمل هذه الفئات لمسؤولياتها تجاه وطنها وما يحيط به من تحديات وأخطار).
........
وبين تطنيش أولمرت, وتبصيرات بولتون, وهزة أكتاف كوشنير؛ لا يبدو على الشباب السوري أنّه تسلم حقا, عبر ذلك البريد الجوي الحربي المضمون؛ ما اصطلح عليه أخيرا ليكون الـ(رسالة) الاسرائيلية.
وجدار الصوت الذي تتفنن مقاتلات الـ(عدو) في خرقه كل مرة, هش على ما يظهرمقارنة بجدار الصمت الذي يعلو ويرتفع مع غيره من الجدران في المنطقة, ليلف مواقف وردات فعل سوريين شباب.
لتبدو في النهاية تلك الأسماء المستعارة التي أصرّ الشباب على تنقبها والتـلطي خلفها قبل أي حديث, مقدمة منطقية للحقائق المستعارة التي تمنح الواشنطن بوست نفسها –على سبيل المثال- ترف تخليقها بلا رادع.
ومن اتهم سوريا بالأمس باستخراج اليورانيوم من (الفوسفات) الذي قد يتراجع مخزونه مع الوقت, قد يعنّ على باله اتهامها غدا باستخراجه من (المتـّة), والتي قد لا تنضب أبدا, شراب الاسترخاء الشبابي المفضل كل يوم.
2007
أربع مقاتلات اسرائيلية على الأقل فيما تناقلت الأنباء يسمع شهود عيان دويها في السادس من أيار الجاري, خارقة جدار الصوت فوق المجال الجوي السوري في هدوء ليل الأربعاء ـ الخميس لمنطقة تل أبيض, على بعد 160 كيلومترا شمال الرقة, قريبا من الحدود التركية.
الطائرات التي قدمت من المتوسط -وربما عن طريق تركيا نفسها- استهدفت وفق التقارير إياها شحنة أسلحة إيرانية كانت موجهة إلى حزب الله على ما يؤكد مسؤولون أمريكيون, ليخالفهم في التو واللحظة مسؤولون آخرون -أمريكيون أيضا- ارتأوا أن الهدف إنما كان موقعا ذا طبيعة (نووية), مع التشديد على وجود زوار من كوريا الشمالية (الديموقراطية) أشرفوا على العناية بعتاد ذري وصل عن طريق ميناء طرطوس أوائل هذا الشهر على متن باخرة من بيونغ يانغ, التقط صورها قمر التجسس الاسرائيلي (أفق 7) الذي أطلق في حزيران الفائت بحسب رئيس جهاز الموساد مائير دغان, قبل أن (تصادر) هذه الشحنة (المهربة) فرقة الكوماندوس الاسرائيلي المرافقة والتي أنزلت في المنطقة, بحسب أنباء متفاوتة الـ(فبركة) في الاعتبار الرسمي السوري.
ومع أنّ رواية الغارة الاسرائيلية الأخيرة هذه والتي من غير المنتظر أن تصدر طبعتها الأخيرة قريبا؛ نالت نصيبها الوافر من التغطية الاعلامية عربيا ودوليا؛ إلا أنها لم تحظ لسبب ما بالقدر ذاته من الاهتمام والمتابعة الشبابية سوريا.
على الرغم من كونها قضية لم يبخل المحللون السياسيون والأمنيون بمختلف مشاربهم على مدى أسبوعين ونصف هما عمر الانتهاك حتى اللحظة في أن يسبغوا عليها صفات ونعوتا من قبيل (بالغة الأهميـّة), و(مؤشر خطير), و(شديدة الحساسية)...
ومن طهران (شبه النووية) وحساباتها, إلى بيروت (شبه الأكثرية) وتحسباتها, امتد طيف العواصم والمواقف واسعا إقليميا ودوليا, والغائب الأكبر عنه ليس سوى أحد أصحاب الشأن الأساسيين من شبيبة البلد نفسها.
للبيت رب يحميه ...
سامر البالغ من العمر السادسة و العشرين يعمل منذ بعض الوقت وبشكل متقطع مترجما بين الانكليزية والعربية, ويقف اليوم بالحاح على أبواب إحدى السفارات الغربية سيئة الصيت محاولا نيل كرت هجرة يعشـّمه بعض الأصدقاء خيرا في تحصيله, يقول سامر:(كنت أعمل كالعادة على ترجمة بعض المواد في المنزل عندما دخل أخي الغرفة وأطلعني على نبأ الغارة الاسرائيلية, والذي ربما كان قد سمعه أو قرأه كخبر عاجل فيما أذكر على إحدى القنوات الفضائية), ويتابع:(أنا عادة ما أشاهد الأخبار بشكل يومي تقريبا, لكن في ذلك النهار بالذات لم أتمكن من ذلك لتراكم بعض المهام علي في العمل, لذلك فقد سارعت الى محاولة استقصاء مزيد من التفاصيل على الانترنت, لكن الأنباء كانت متضاربة بشكل مزعج, الأمر الذي أصابني بالملل فعدت إلى عملي).
وعما إذا كان شعر بالخوف أو بالتهديد في تلك اللحظة يجيب سامر بالنفي قائلا:( لا أبدا, لم أحس بأي خوف أو ماشابه, لاعتقادي أن اسرائيل لا يمكن أن تضرب \عن جد\ حاليا).
أما مصدر يقينه في أن الاسرائيليين لن يعمدوا إلى مهاجمة سوريا؛ فيؤكد سامر أنّ هناك (حالة من عدم الاستقرار كانت سائدة منذ زمن طويل بين سوريا واسرائيل ولازالت), وأنّ الأمور سارت (على ما يرام) بين الطرفين طوال الفترة الماضية, وأن( شيئا جديدا) لم يطرأ ليغير المعادلة القائمة.
وحول الطريقة التي أمضى فيها بقية يومه ذاك يقول سامر(ذهبت ذلك المساء مع رفيقة لي ملببيا دعوة أحد الأصدقاء الى حفلة كنا رتبنا لموعدها مسبقا في منزله, وقد قضينا وقتا ممتعا).
ومادام أن الاسرائيليين غير جادين في مهاجمة سوريا كما يقول, ينظر سامر إلى الغارة الاسرائيلية باعتبار أنـّها(رسالة أكثر منها عملا عسكريا فعليا, بمعنى أنهم في اسرائيل يقولون لنا افهموا أننا نستطيع الوصول الى أي مكان نريده, ومتى شئنا ذلك).
وعما إذا كان قد توقع ردا سوريا من نوع ما على الخرق الاسرائيلي؛ يجيب سامر (لم أتوقع ردا سوريا سريعا في حينه, وشخصيا لا أتوقع ردا سوريا بطيئا كذلك), ويضيف( في الحقيقة لا أنا ولا معظم من أعرفهم ننتظر أي رد سوري على الإطلاق, اللهم فيما عدا التصريحات التي صدرت حتى الآن, وربما المزيد منها, إنما ليس أكثر).
ويضرب سامر مثلا بالانتهاك الاسرائيلي المماثل الذي وقع السنة الماضية في اللاذقية, ومن قبله الاعتداء الذي تم فيه قصف بناء في "عين الصاحب", قبل أن يضيف (لو كان هناك مزيد من الحرية في البلد لحصل تحرك من قبل الناس من نوع ما للتنديد بهذه الغارة, كي يعرف الآخرون في الخارج أن الناس قد يقومون بشيء اذا سنحت لهم الفرصة), ليستدرك لاحقا (مع أنني لا أفضل أي رد عسكري على أمثال هذه العمليات, بل أرى أنّ التعامل السياسي و الديبلوماسي هو الأجدى).
ويبدو أن هادي. أ يتفق من جانبه مع كثير مما سبق. ونظرا لأنّه يعمل محررا في إحدى وسائل الاعلام السورية الخاصة؛ فقد عرف بخبر خرق الطائرات الاسرائيلية للأجواء السورية أبكر نسبيا من غيره,وذلك عن طريق (الموظف المكلف )AFPمراقبة وكالة فرانس برس
إنما من دون أن يشكل الخبر أية مفاجئة له. ويبررهادي الـ(العاديـّة) التي استقبل بها النبأ بالقول (في المرحلة الحالية يمكن للمرء توقع كل شيء على هذا المستوى). ويستطرد شارحا وجهة نظره(لقد مررنا منذ وقت قريب بفترة من التصعيد \السلمي\ إن صح التعبير, حيث انهمرت رسائل السلام من هنا وهناك, تلاها مباشرة تهديدات متبادلة وأخبارعن تحركات للقوات على الأرض من الجانبين, ومن ثم تراجع هذه القوات, وتسويق للحديث عن جهود لـ\إاراحة\ الجبهة السورية, وتخفيض الاحتقانات, الأمر الذي يجعل أي أحد -وقد مرّ عبر هذه السلسلة- يتوقع خطوة ما تصعيدية من أحد الطرفين, وأنا شخصيا كنت أتوقع للتصعيد أن يأتي من الجانب السوري لا الإسرائيلي).
هادي سيتم الرابعة والعشرين في غضون أسبوع, وهو لا يتوقع أن تقوم بلاده برد عسكري من نوع ما قبل عيد ميلاده, عدا عن(الرد الروتيني بالاحتفاظ بحق الرد), معللا ذلك بأنه لايمكن للسوريين أن يردوا (كلاسيكيا), مع أنه يعود بعد قليل ليتحدث عن أنّه لا يريد أن يقطع (الأمل) نهائيا من هذا الأمر, مرجحا للرد الميداني -فيما لو تم- أن يأتي في (غزة أو الجنوب اللبناني), و(ربما... ربما الجولان), إنما مع مزيد من انتظار (اللحظة الأنسب لسوريا) فيما يخص الخيار الأخير بالذات.
ويسرد هادي مفارقة أنه كان من بين المحررات في مكتب العمل من اطلعن قبل غيرهن على الخبر, إنما من دون أن يحركن ساكنا, إلى اللحظة التي انتبه إليه فيها المحرر السياسي, ويتابع واصفا ما جرى بعد ذلك (تحلقنا جميعا حول التلفزيون بانتظار ما ستبثه الجزيرة في النشرة التالية), معربا عن خيبة أمله في الطريقة التي أتى فيها الرد الرسمي الأولي على الحدث, ووصفا أداء وزير الاعلام بأنّ (أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان سيئا للغاية, وليس على مستوى المستجد من تطورات بأي شكل من الأشكال), مفضلا عدم إعطاء تفاصيل محددة لانتقاداته, مؤكدا أن الحياة استمرت بشكل(طبيعي) بعد (بيان) الوزير, وعاد كل (إلى عمله المعتاد).
وعن الرد الذي كان يراه الأنسب على الانتهاك الاسرائيلي, لايخفي هادي حماسته الشخصية لرد عسكري مباشر, من قبيل( قصف ثكنات ومواقع عسكرية اسرائيلية في الجولان), معتبرا أنّ(لا أهمية لمن يبدأ التصعيد في هذا الوقت, بل ربما يكون ذلك في صالح من يبادر به), باعتبار أنّ الحرب (قادمة قادمة)!
(الله أعلم) يقول مصطفى عن نبوءة (قادمة قادمة) تلك, وقبل أن يطلب مني بتوجس إطفاء جهاز التسجيل بين يدي؛ يذكرني للمرة الثانية أنّه لايملك سيارة الأجرة التي يعمل عليها, وأنها تعود لابن عم محسن له, وهو لايريد (وجع راس), ونصحني أن ابتعد عن هذه المواضيع التي لها (أهلها) ومكانها في (مجلس الشعب) و(قصر المؤتمرات)!!
يقول مصطفى (أبو الخير) بعد تردد ومداورة وهو يقطع بنا أتستراد المزة, مشعلا سيجارة (الحمرا), ماسحا عرقه بفوطة متدلية على كتفه (عندما سمعت عن \القصة\ أول مرة, كنت \أتسبب\ على السيارة عالقا عند زحمة المرور في شارع بغداد, وكان أحد الشوفيرية على محطة الوقود \يتسمّع\ على غارة \ما غارة\, فحاولت البحث في الراديو عن الخبرية, ولكني لم أجد شيئا, ولم يكن هناك شيء على إذاعتنا كذلك, ثم غاب الموضوع عن ذهني \شي ساعت زمن\ بعد أن اتصلوا بي من البيت مشان دوا للوالدة, وعدت فتذكرت الموضوع عند \السمّان\ وأنا اشتري \مونة\ للبيت, لأن المذيع في الدش كان يتحدث عن ذات الموضوع).
ويشرح (أبو الخير) ببعض الضيق كيف اضطر لـ( الأخد والعطا) مع البائع حول المسألة, بعد أن راح العجوز يشتم ويلعن لأنه ليس في موقع يؤهله كي (يحرق نفس أعداء \لا إله إلا الله\ المستكبرين).
ويعترف مصطفى خيرو أنه لايتذكر الكثيرمن تفاصيل ما وقع, ولم يسمع الكثير من التحليلات على (لندن) لأنها مليئة بـ(الكلام الكبير), بل حتى أنّ متابعته للخبر عند ذلك البائع لم تتعد الدقائق الخمس لاضطراره مغادرة السوبرماركت بسرعة كون السيارة (مصفوفة رتل تاني).
وعن رأيه في السبب الذي شنت إسرائيل هذه الغارة من أجله, يجيب (أبو الخير) فجأة (فركت إدن), ويصمت قليلا منتبها لتغير لهجته في الحديث, ليعود ويؤكد بأن أمورا كهذه (تحصل دائما), لأننا (وحدنا), ولايوجد أحد لـ(يدعمنا), أما (هدول العرب), فلا يمكن أن نستفيد منهم بشيء سوى (الكلام) و(الارهاب)!!
وعن طبيعة الرد الذي يرى أنه الأنسب ليكون من طرفنا, يجيب مصطفى بأنه كان علينا أن (نسقط على الأقل إحدى الطائرات التي هاجمتنا), أمّا مستقبلا فـ(سيقوم حزب الله والشيخ حسن \ربي ينصرو\ باللازم عاجلا ام آجلا), وعما إذا كان قد تحدث مع أحد حول موضوع الخرق الاسرئيلي للأجواء السورية بعد عودته إلى البيت, قال (أبو الخير) أنّه قد تحدث عن ذلك بالفعل مساء مع بعض الأصدقاء الـ(المسقفين), وهم يدخنون النرجيلة في بيت (نزار) -أحد أولئك الصحبة- والذي كان من رأيه أن هذه السنة (لن تمر على ستر وسلامة أبدا), خاصة إذا لم (تنتخي إيران إلى جانبنا).
من جهتها لم تكن يمنى \23\ عاما أقلّ ترددا من مصطفى, إنما لأسبابها المختلفة.
فالطالبة الجامعية, والسكرتيرة في إحدى شركات القطاع الخاص حديثة العهد, تشعر ببعض الحرج كونها كانت (في إجازة على البحر) مع بعض الأصدقاء والصديقات, الأمر الذي حال دونها وأن تعرف عن الموضوع في حينه.
(سمعت الخبر بعد يومين وأنا اقلب محطات التلفزيون) تقول يمنى, وتضيف بأنها لم تشعر بخوف حقيقي إلا عندما علمت أن الطيران الحربي الاسرائيلي الذي دخل الأجواء السورية ربما قد يكون (مرّ فوق المنطقة التي كنت أسبح فيها مع صديقاتي على البحر).
على أن مخاوفها تلك سرعان ما تبددت عندما طمأنها ابن عمها الذي يملك مقهى انترنت, ولديه اطلاع على أخبار (المواقع المحجوبة)؛ أنه (لا وجود لأي خطر), لأنه لو كان مقدرا لأي شيء أن يحدث لـ(حدث يومها مباشرة), أما الآن وقد مرت عدة أيام على الحادثة فكل شيئ مستقر وطبيعي حسب تعبيرهما.
ليس لدى يمنى أي معلومات دقيقة عمـّا كان عليه رد الفعل الرسمي للمسؤولين السوريين, ولم تسمع أيا من محسن بلال أو فيصل المقداد أو وليد المعلم أو عماد مصطفى وهم يدلون بتصريحاتهم تباعا إثر الحادث, ذلك أنها (لاتفتح على القناة الأولى أو الفضائية), كما أنّها لاتملك تصورا يعتد به عن الطريقة التي تريد للرد العسكري أن يكون عليها فيما لو كان, باعتبار (الجيش أدرى بعمله منا جميعا), وهم لن يقصروا في (ساعة الحقيقة).
أما عن إذا ما كانت تشعر بأنه يمكن لهذه الحادثة أن تتكرر قريبا, أجابت يمنى أنها (لاتدري), بيد أننا (تعودنا على هذه الأمور), وأن الوضع عندنا (مهما حصل) يظل (أرحم) من الجاري في (العراق ولبنان وفلسطين), إنما بكل الأحوال (ربنا يحمينا).
أمّا (أم ناريمان) فليس عندها ما تقوله ابدا, و(لاتحاول)!
فهي (لا تفهم بالسياسة), ومع طفلتها التي تبلغ السنة إلا شهرين بالكاد تجد وقتا لأي شيء على الاطلاق. لكن طالبة البكالوريا المتخلفة عن دراستها, وزوجة المهندس الميسور, سرعان ما تبدي استعدادها للتطوع بالحديث عن موضوع آخر هو (الدراما السورية) ومساسلات رمضان, والتي حسب كلامها (تشد المشاهد), وهي شخصيا (لا تفوت منها شيئا) على ضيق وقتها الذي تذمرت منه آنفا!!
حول الـ(لماذا) ...
لايحتاج المراقب كثير جهد ليدرك أنّ أغلب الشبان السوريين ليسوا على ذلك القدر من الاستثارة والاستنفار حتى يعاجلهم بمهدئ موضعي من نمط أن البلاد ليست مستهدفة لذاتها, وأن الغارة قد لا تعدو كونها (بروفه) قريبة لهجوم مستقبلي أبعد في طهران.
F16-Eأو ليضع ذلك الملاحظ ضمن توقعاته أنّ تلك الشبيبة لن تميز بسهولة الـ
أو تتعرف على (بانتسير), نظام الدفاع الجوي الذي تزودت به دمشق مؤخرا من موسكو, والذي يحلو للبعض الاعتقاد أنّ المقاتلات الاسرائيلية إنما شنت تلك الغارة للوقوف على مدى نجاعته في أيدي السوريين.
إذ أنّ هذه المقاربات والتحاليل تظلّ -كغيرها مما سال الحبر فيه مؤخرا- قاصرة عن انتزاع استجابة من شبابنا تداني في حرارتها سخونة الحدث الداهم.
الدكتور مروان قبلان عضو مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق, والأستاذ فيها, لم تشكل له ردة الفعل المرتخية هذه لدى الشباب السوري أية مفاجئة -شخصيا على الأقل-, حتى وهو يشهد كيف أن هذا المسلسل الرمضاني الطارئ على ما فيه من عناصر التشويق والاثارة السياسية, والأحداث التي تكتسي مع مرور الوقت والتسريبات بوليسية فضفاضة؛ فشل في الاستئثار بانتباه شريحة هي الأوسع ضمن المجتمع السوري اليوم, وكيف أنّ الاستبصاري المتخيل لتمثيليات رمضان ودراماه الأصلية؛ استحوذت على البصري المثخن بواقعية صلدة دونها مثل هذه المستجدات.
ويعزو الدكتور قبلان هذا الأمر إلى مجموعة من العوامل والترسبات القديمة, يأتي على رأسها ضعف المشاركة في الحياة السياسية لدى المجتمع السوري في العموم, ولدى هذه الشريحة الواسعة على وجه الخصوص, والتي تتعدى نسبتها إلى العدد الإجمالي للسكان الـ\43%\.
معللا بأنّ (الحياة المجتمعيّة في سوريا قد مرت بمراحل كان التعاطي خلالها في الشأن السياسي يعد نوعا من أنواع التابو), مذكرا بموروث قديم حديث, يتداول فيه الناس بين بعضهم التحذيرات من الحديث حول التمظهرات السياسية لـ(الأوضاع العامة للبلد), وهي الحالة التي ورثتها الأجيال الجديدة لاحقا, ووجدت نفسها عالقة فيها, الأمر الذي كان من نتيجته أن (ابتعد الشباب عن السياسة, والنشاط السياسي), ووصلوا في ارتدادهم عن التواصل مع مفردات المُعاش السياسي حدا دفع أكثر من\76%\ منهم -وفق دراسة رسمية لافتة- إلى الاعتقاد أن بلدهم لاتتهدده أيّة أخطار عسكرية من أي طرف!
وذلك في وقت يعافر فيه دون جدوى ما يربو على \200,000\ جندي أميريكي ومرتزق لضبط الأوضاع الأمنية المتفلتة في بلد جار لهم, وتجتاح موجة الاغتيالات الجوالة عاصمة لاتبعد عن عاصمتهم أكثر من ساعتين بالسيارة, ويحجر فيه على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة, باحتهم الخلفية إقليميا وسيكولوجيا, دون أن يحرك أحد -دولي- ساكنا. ناهيك عن أنّ بلادهم لازالت عمليا منذ العام 1967في حالة حرب مع اسرائيل, ولديها أراض محتلة تتجاوز مساحتها الـ\1200\ كم‘.
سبب آخر -فيما يرى الدكتور قبلان- يعزز فصام جيل اليوم عن واقعه السياسي, ألا وهو (ضعف أداء الاعلام السوري في مجمله), ضعف حرم هذا الاعلام من أن يكون حاملا موثوقا للمعلومة والخبر أولا, و(منبرا) ومتنفسا لهواجس هذه الفئة في المقام الثاني, وسهل اتجاه هذه الشريحة نحو الـ(استقالة) من الحياة العامة محليا.
يضاف إلى ذلك كله (سلسلة الاحباطات) التي غرق -أو أغرق- فيها الشباب السوري جراء (المواقف العربية من القضايا الأساسية والمصيرية), والنكسات المتتالية التي لازالت شعوب المنطقة ككل تعاني نتائجها وعواقبها المدمرة على مستوى قومي.
وبنسب تعليم متواضعة /85.4% منهم تعليم ثانوي فما دون/, وبطالة مرتفعة؛ يعتبر ارتهان شباب هذا الجيل للهم المعاشي اليومي, وانخراطهم في اللهاث وراء أوليـّات اقتصاديـّة عصيـّة, وآمال الحد الأدنى من مستقبل بلا خضات (داخل او خارج حدود بلادهم), عاملا إضافيا ينأى بهم عن الاشتغال بالهم العام كما يوافق الدكتور قبلان, والذي لا يرى في المدى المنظور أي علاج (فوري) للخلاص من هذه الظاهرة الخطيرة, بيد أنه يعتقد أنّ أيّ محاولة في هذا الصدد لا بد لها إن كانت جادة في سعيها أن تبدأ من نقطة (الاعتراف) بوجود هذه المشكلة بين ظهرانينا, منطلقين نحو (طمأنة) هذه الشريحة الفتية من المجتمع بأنّ (الانخراط إيجابيا في النشاط السياسي؛ أمر لا يترتب عليه أية محاذير, أو متاعب), بل على العكس, يجب أن يكون واضحا في أذهان هؤلاء (المواطنين) أنّ ذلك (مسألة مطلوبة, وواجب وطني).
وكغيره من الباحثين, والسياسيين, وأصحاب الرأي في هذا المجال, لا يألو الدكتور قبلان جهدا, في الحث على ضرورة البدء بتهيئة الأرضية الملائمة لاستقبال وتفعيل المشاركة الشبابية في الشأن العام, من قبيل (إصدار قانون عصري وملائم للأحزاب والجمعيات) و(السماح بقدر أكبر من الحريات الإعلامية).
وهما مطلبان ملحان, من شأنهما اليوم أن يفسحا المجال أمام فئات المجتمع المختلفة -وعلى رأسها الشباب- لـ(التداول في الشأن السياسي, وبالتالي تحمل هذه الفئات لمسؤولياتها تجاه وطنها وما يحيط به من تحديات وأخطار).
........
وبين تطنيش أولمرت, وتبصيرات بولتون, وهزة أكتاف كوشنير؛ لا يبدو على الشباب السوري أنّه تسلم حقا, عبر ذلك البريد الجوي الحربي المضمون؛ ما اصطلح عليه أخيرا ليكون الـ(رسالة) الاسرائيلية.
وجدار الصوت الذي تتفنن مقاتلات الـ(عدو) في خرقه كل مرة, هش على ما يظهرمقارنة بجدار الصمت الذي يعلو ويرتفع مع غيره من الجدران في المنطقة, ليلف مواقف وردات فعل سوريين شباب.
لتبدو في النهاية تلك الأسماء المستعارة التي أصرّ الشباب على تنقبها والتـلطي خلفها قبل أي حديث, مقدمة منطقية للحقائق المستعارة التي تمنح الواشنطن بوست نفسها –على سبيل المثال- ترف تخليقها بلا رادع.
ومن اتهم سوريا بالأمس باستخراج اليورانيوم من (الفوسفات) الذي قد يتراجع مخزونه مع الوقت, قد يعنّ على باله اتهامها غدا باستخراجه من (المتـّة), والتي قد لا تنضب أبدا, شراب الاسترخاء الشبابي المفضل كل يوم.
2007
على سبيل الإعلام المقاوم: مقاومة (التخوين), وممانعة (الإسفاف) أولا ً !
طالعت صحيفة الوطن الخاصة الصادرة في دمشق السوريين في عددها رقم /572/ صباح الأربعاء 28-01-2009 بخبر منقول عمّا قالت أنه بيان لـ"حركة القوميين العرب" يتهم فيه كتابا عربا وسوريين بمهاجمة حركة المقاومة الاسلامية (حماس), ويصف البيان فيما نشرت الصحيفة السورية على لسان وزيرة خارجية دولة الاحتلال الاسرائيلي هؤلاء الكتاب بأنهم "سفراء" لتل أبيب في العالم العربي.
كما تصدر موقع الصحيفة المذكورة على الانترنت عنوان يقول "ليفني توصي بنشر مقالات عدد من الكتاب العرب على موقع وزارة الخارجية باعتبارهم «سفراء»".
وختمت جريدة الوطن خبرها بنشر أسماء اثنين وعشرين كاتبا عربيا ينشرون في صحف ومواقع خليجية ولبنانية ومصرية وأردنية منهم خمسة كتاب سوريين على الأقل.
وقد اصطدمت محاولات الاستفسار وتقصي مصادر الصحيفة السورية في خبرها الخطير إياه بتهرب أحد مسؤولي تحريرها المتكرر عن الإجابة, في تقمص سافر لذلك اللبوس التراثي السمج لكثير من المسؤولين السوريين على الجملة, وباختلاف مواقعهم ودرجات مسؤوليتهم, والمتمثل بالأذنين الفلكلوريتين المقدودتين من الطين والعجين.
وهكذا آثرت الصحيفة الصمت العنيد تجاه مادة مثيرة للجدل ترمي دون براهين أو أدلة كتابا سوريين بتهمة تمثيل مصالح العدو الاسرائيلي في عاصمة بلادهم, والتي لاتزال عمليا في حالة حرب مع تلك (الدولة).
المحرر (المهني) -كما أصرّ مسؤول الصحيفة إياه- قام بخفة لا يحسد عليها بنشر مادة زعم أنها وصلته عبر البريد الالكتروني من جهة تسمي نفسها "حركة القوميين العرب", بعد أن أسبغ عليها –المادة- صفة (التقرير).
على أنّ محرر (الوطن) لم يكلـّف خاطره الصحفي بذل أدنى حد من المتابعة البحثية, والتمحيص الضروري في أصل الخبر وفصله, ولم يطرح على ما يبدو -وإن بينه وبين نفسه- سؤالا واحدا من الأسئلة الصحفية الخمسة او السبعة اللازمة لمصداقية ومهنية أي خبر على الاطلاق.
وإلا لكان الناشر الحصيف –والمستقل- لذلك المنفيستو تبين على سبيل المثال أن رابط الموقع الالكتروني الموجود في أصل البيان الذي بين يديه, والذي يزعم أنه يحيل إلى أحد منافذ وزارة الخارجية الاسرائيلية بهدف التعرف على المزيد من من "سفراء اسرائيل" المعتمدين صهيونيا من الكتاب العرب والسوريين؛ لا يحوي أي رابط او مادة على الاطلاق لواحد على الأقل من أولئك الكتاب السوريين الذين تقصد البيان سيء الذكر التشهير بهم, والتحريض عليهم.
لتتساوى بذلك الجريدة اليومية المطبوعة ذات الميزانية المرقومة, مع مواقع (الشات), ونوادي الترفيه المبتذل على الانترنت, والتي يتغذى معظمها على الاشاعات والنميمة, وما يعرف بالدارجة الشاميـّة بـ(العلاك المصدي), والتي لا ترقى بالطبع لشعار فضفاض من قبيل "أول وسيلة إعلامية مستقلة منذ 40 عاما", مع كل تلك الخطوط وإشارت التعجب والاستفهام التي يمكن تذييل تلك (الاستقلالية) بها من حين لآخر.
أين هي المهنية المزعومة التي ينافح مسؤولوا الجريدة عنها؛ عندما يكون الموقع الوحيد الذي يحمل اسم مصدر خبرهم "حركة القوميين العرب" خاليا من أي من الادعاءات التي روّج لها بيانهم, علما أن الموقع المذكور يتصدره بيان آخر لايمت من قريب او بعيد لبيان الجريدة, ينادي بالحرية من سجون الاحتلال الاسرائيلي لأحمد سعدات (أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -جناح جورج حبش- في الأرض المحتلة)؟
ثم منذ متى واجتهادات العدو الاسرائيلي (الهمجي, البربري, المجرم, الغادر, الكاذب, ...كذا) تشكل مرجعا –لا أقول لا ينشر- وإنما لا يترك منه, ولا يناقش, ولايرد, ولا يعلـّق عليه, في إعلامنا السوري رسميا وخاصا على الجملة؟
ومنذ متى تحيل المطبوعات المحلية السورية أيا كان ولاؤها السياسي لمواقع اسرائيلية للاستزادة في (الخبر) و(المعرفة)؟
هذا إذا تجاوز المرء حقيقة صعوبة الوصول لغالبية المواقع الالكترونية الرسمية للعدو ضمنا, نتيجة الجهود الحثيثة والموصولة لمؤسسة الاتصالات السورية الرسمية في الحجب والتشويش على العشرات من المواقع الالكترونية على الشبكة الدولية, في حين يفاجئ المتصفح السوري هذه المرة بأن الموقع مثار الجدل -والاسرائيلي كما هو مفترض- متاح بصفحاته العربية, والانكليزية, والفارسية, وبالطبع العبرية!
هل من عادة الصحيفة المذكورة حقا –على ما زعم مسؤول فيها - نشر ما يردها من بيانات بمثل هذه الخفـّة والارتجال بعفـّة تحريرية ملحوظة, وعلى صدر صفحتها الأولى, ما لم يكن قد وافقت المادة –أي مادة- هوى في نفس القيم على تلك المطبوعة؟
خاصة وأننا لا نتحدث هنا عن صحف التابلويد والفضائح الصفراء. (أليس كذلك؟)
ألم يكن بمقدور المحرر الهمام, الفخور بسبقه الإعلامي رفع سماعة الهاتف للاتصال بأحد أولئك الكتاب السوريين للحصول -ولو من باب رفع العتب- على تعليق ما,أو ردة فعل, أو تصديق, أو تكذيب, والمتابعة بعد ذلك في نشر المادة كما يريد ذلك المحرر ويشتهي؟
لماذا هذا السقوط غير المبرر في المزالق العريقة للبروباغندا غير المسؤولة, والتي تستند إلى مساواة مقلقة بين المادة الاعلامية والاعلانية, والتي يرمح بعض ناشرينا في غياهبها دون وازع؟
بل يبلغ الأمر حدا مثيرا للسخرية, عندما يتلطـّى ذلك المسؤول الإعلامي في صحيفة الوطن وراء سكرتيرته, التي لم يكن لها خلاص في النهاية سوى ترديد جملة ببغائية مفادها أنّ "الأستاذ خرج, وترك - نسي موبايله في المكتب"!
على أن فقدان الذاكرة ليس مرضا نادراعلى أية حال في أوساطنا الاعلامية والصحفية, وإلا كيف يفسر المرء إلحاح الاعلامي ذاته وغيره, هو ووسيلته فيما تبقى لهم من وقت قرائهم على مواصلة ذم سياسة حجب المعلومات –عند الآخرين طبعا- وتدبيج المقالات المنافحة عن حرية الإعلام, واستحضار الكربلائيات لطما على الشفافيـّة الإعلامية, وتعريضا بالتطنيش المثير للغثيان من بعض أصحاب القرار تجاه الصحافة المحلية, ونعيا للحق المسفوح في الحصول على المعلومة والخبر من مصادره؟
بل لعل الأنكى هو تلكؤ محرر الجريدة المذكورة في نشر رد لأحد الكتاب المشهر بهم, واشتراطه المسبق بأن تتم قراءة الرد من قبل محرر الصحيفة لمعرفة مدى صلاحيته للنشر أولا؟
الأمر الذي يظهر مدى الاسفاف في لي عنق المهنية التي يتم التشدق بها, والتعلق بأستارها الطوباوية, ويكشف عن تناقض فاضح في ادعاء مسؤول التحرير إياه عن انه ينشر عادة ما يرده من تقارير دون جلبة تذكر.
ومن نافلة الحديث القول أن هذا الزعم يحمل في ذاته من التهافت الفاقع ما يجعل في مجرد التفكير في تفنيده والرد عليه مضيعة للوقت, وامتهانا لمدارك أقلّ السوريين إلماما بواقع الاعلام المحلي ووقائعه, مع افتراض حسن النوايا, وسذاجة الادعاء.
فحتى جرائد الحائط في مدارسنا لديها (سياسة تحريرية), ولا تقبل على نفسها نشر كل (إبداعات) طلابها فما بالك بمؤسسة إعلامية ناجزة.
هل تخفى على ذي نظر ومتابعة تلك الوسواسيـّة الراسخة التي يتسم بها -كخلـّة أساس- مسؤولوا التحرير الكبار في أوساطنا الصحفية والاعلامية المحلية ؟
لدرجة باتت معها هذه الصفة بالذات تشكل لدى عدد منهم الميزة الوحيدة تقريبا التي يتم بناء عليها اصطفاؤهم لمناصبهم الجليلة!
ويملك كثيرون منا في الوسط الاعلامي السوري مرويـّات لاتنقضي, ومطولات موثقة في الحوادث والقصص التي تدور حول المدى الميتافيزيقي الذي يمكن لـ(مراجعة) المادة الاعلامية من قبل مسؤول التحرير أن يبلغه لدينا قبل النشر, إن تم.
إذ يـُجهد –والكلام هنا وصفي محض- أولئك القوم أنفسهم في بحث مضن عن كل ما يمكن أن يكون تضمينا, أو إشارة, أو تلميحا, أو حرتقة -متعمدة او عفوية- من قبل كاتبـ/ ـة المادة, وسوى ذلك مما هو مرشح لأن يكون له نصيب ليتطور تأويليا إلى (وجع رأس) رقابي لاحق, يرتب بدوره على المؤسسة نتائج لاتحمد عقباها عادة, مما يعتبر أصحاب الشأن الاعلامي في تلك الوسيلة انفسهم هم ومحرروهم وممولوهم في غنى عنه.
أين هي المسؤولية –وليس الرقابة أبدا- في تعريض أرواح وممتلكات مواطنين لاينقصون سوريـّة عن غيرهم لخطر الاعتداء, أو المساءلة الأمنية دون دليل أو برهان ؟
ماذا لو أن بعض الغوغاء تبرعوا لمعاقبة "أصدقاء وداعمي إسرائيل" المزعومين هؤلاء مدفوعين بما يخالون انـّه حسهم الوطني المستثار ؟
ماذا لو عن ّ على بال أحدهم مثلا الاستشهاد (في) أحد هؤلاء الكتاب الذين يعيش عدد منهم بيننا ويمشون في شوارعنا, ويركبون وسائل نقلنا, والذين لا يحول بين المادة المنشورة في تلك الصحيفة وبين أن تصفهم بالخونة والعملاء سوى ذكر كلمة (الخيانة) حرفيا؟
وهل يبدو هذا الاحتمال ضربا من المبالغة أو الغلو حقا في ظل الأجواء المشحونة التي يعيشها الشارع السوري إثر كل تلك المذابح والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل, والذين لاتزال كثير من جثث شهدائهم مدفونة تحت أنقاض البيوت والمدارس؟
هل هذا هو ما تحتاجه (مقاومتنا) حقا من الإعلام ؟
هل هذه هي الطريقة الرسولية التي نحاول من خلالها تنمية الوعي الوطني لمواجهة المحتل على ما تزعم منابرنا الاعلامية وتدعي؟
ليس مثار خلاف جدي الادعاء أنه لازال أمام الإعلام السوري, وملكاته التحاورية مع هذا الآخر, دربا مضنية ليقطعها قبل ان يستحق وظيفته ودوره.
وإذا وفرنا على أنفسنا الاستماع من هؤلاء القوم الموكلين بمنابرنا الإعلامية لسفسطة الاجابة على سؤال حرية التعبير, والرأي الآخر, ومقارعة الحجة بالحجة,...
فهل يمكن لنا أن نسأل على الأقل عن أية دروس بين ظهرانينا وحولنا يمكن لأحد على الاطلاق أن يستشف منها ضرورة الكف –ولو مؤقتا- عن توزيع صكوك الغفران, وشهادات حسن السلوك الوطني, بهذه المجانية المخزية؟
على جريدة الوطن التي لايملك أحد الحق في أن يملي عليها توجهها وسياستها –ونرجو ان يكون الحال كذلك- ألا تتباطأ أبدا في فتح صفحتها الأولى إياها للردود والتوضيحات التي تردها من الكتاب السوريين وغيرهم ممن أحسوا في مادتها المنشورة تلك إجحافا بحقهم, ومساسا بكرامتهم, أو تأليبا عليهم.
ويجب على مسؤولي تلك الصحيفة ألا يتذرعوا بحجج واهية للتفلـّت من مسؤوليتهم حيال أي أذى جسدي أو معنوي يمكن له ان يلحق بهؤلاء الكتاب, شركائهم في القلم, سواء اتفقوا وإيـّاهم في الرأي, أم اختلفوا عليه.
وللصحيفة -من باب الاختيار الحر دوما- أن تتحرى في المستقبل مهنيـّة أعلى لأداءها, تليق بإعلامنا الخاص الموعود, وتحترم قارئها السوري, الذي يقضي بالمناسبة معظم وقته داخل هذا البلد!
وأن يكفّ إعلامنا المحلي عن معاملة السوريين كلاجئين إعلاميين, او سياحا أجانب, لا يفقهون, ولا يبالون.
وان يتوقف هذا الإعلام عن ركل جمهوره خارج مجال بثه الافتراضي, ودفعه مرغما إلى مصادر أخرى, وصل بنا مطاف الأمور أن تكون إسرائيلية.
كما تصدر موقع الصحيفة المذكورة على الانترنت عنوان يقول "ليفني توصي بنشر مقالات عدد من الكتاب العرب على موقع وزارة الخارجية باعتبارهم «سفراء»".
وختمت جريدة الوطن خبرها بنشر أسماء اثنين وعشرين كاتبا عربيا ينشرون في صحف ومواقع خليجية ولبنانية ومصرية وأردنية منهم خمسة كتاب سوريين على الأقل.
وقد اصطدمت محاولات الاستفسار وتقصي مصادر الصحيفة السورية في خبرها الخطير إياه بتهرب أحد مسؤولي تحريرها المتكرر عن الإجابة, في تقمص سافر لذلك اللبوس التراثي السمج لكثير من المسؤولين السوريين على الجملة, وباختلاف مواقعهم ودرجات مسؤوليتهم, والمتمثل بالأذنين الفلكلوريتين المقدودتين من الطين والعجين.
وهكذا آثرت الصحيفة الصمت العنيد تجاه مادة مثيرة للجدل ترمي دون براهين أو أدلة كتابا سوريين بتهمة تمثيل مصالح العدو الاسرائيلي في عاصمة بلادهم, والتي لاتزال عمليا في حالة حرب مع تلك (الدولة).
المحرر (المهني) -كما أصرّ مسؤول الصحيفة إياه- قام بخفة لا يحسد عليها بنشر مادة زعم أنها وصلته عبر البريد الالكتروني من جهة تسمي نفسها "حركة القوميين العرب", بعد أن أسبغ عليها –المادة- صفة (التقرير).
على أنّ محرر (الوطن) لم يكلـّف خاطره الصحفي بذل أدنى حد من المتابعة البحثية, والتمحيص الضروري في أصل الخبر وفصله, ولم يطرح على ما يبدو -وإن بينه وبين نفسه- سؤالا واحدا من الأسئلة الصحفية الخمسة او السبعة اللازمة لمصداقية ومهنية أي خبر على الاطلاق.
وإلا لكان الناشر الحصيف –والمستقل- لذلك المنفيستو تبين على سبيل المثال أن رابط الموقع الالكتروني الموجود في أصل البيان الذي بين يديه, والذي يزعم أنه يحيل إلى أحد منافذ وزارة الخارجية الاسرائيلية بهدف التعرف على المزيد من من "سفراء اسرائيل" المعتمدين صهيونيا من الكتاب العرب والسوريين؛ لا يحوي أي رابط او مادة على الاطلاق لواحد على الأقل من أولئك الكتاب السوريين الذين تقصد البيان سيء الذكر التشهير بهم, والتحريض عليهم.
لتتساوى بذلك الجريدة اليومية المطبوعة ذات الميزانية المرقومة, مع مواقع (الشات), ونوادي الترفيه المبتذل على الانترنت, والتي يتغذى معظمها على الاشاعات والنميمة, وما يعرف بالدارجة الشاميـّة بـ(العلاك المصدي), والتي لا ترقى بالطبع لشعار فضفاض من قبيل "أول وسيلة إعلامية مستقلة منذ 40 عاما", مع كل تلك الخطوط وإشارت التعجب والاستفهام التي يمكن تذييل تلك (الاستقلالية) بها من حين لآخر.
أين هي المهنية المزعومة التي ينافح مسؤولوا الجريدة عنها؛ عندما يكون الموقع الوحيد الذي يحمل اسم مصدر خبرهم "حركة القوميين العرب" خاليا من أي من الادعاءات التي روّج لها بيانهم, علما أن الموقع المذكور يتصدره بيان آخر لايمت من قريب او بعيد لبيان الجريدة, ينادي بالحرية من سجون الاحتلال الاسرائيلي لأحمد سعدات (أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -جناح جورج حبش- في الأرض المحتلة)؟
ثم منذ متى واجتهادات العدو الاسرائيلي (الهمجي, البربري, المجرم, الغادر, الكاذب, ...كذا) تشكل مرجعا –لا أقول لا ينشر- وإنما لا يترك منه, ولا يناقش, ولايرد, ولا يعلـّق عليه, في إعلامنا السوري رسميا وخاصا على الجملة؟
ومنذ متى تحيل المطبوعات المحلية السورية أيا كان ولاؤها السياسي لمواقع اسرائيلية للاستزادة في (الخبر) و(المعرفة)؟
هذا إذا تجاوز المرء حقيقة صعوبة الوصول لغالبية المواقع الالكترونية الرسمية للعدو ضمنا, نتيجة الجهود الحثيثة والموصولة لمؤسسة الاتصالات السورية الرسمية في الحجب والتشويش على العشرات من المواقع الالكترونية على الشبكة الدولية, في حين يفاجئ المتصفح السوري هذه المرة بأن الموقع مثار الجدل -والاسرائيلي كما هو مفترض- متاح بصفحاته العربية, والانكليزية, والفارسية, وبالطبع العبرية!
هل من عادة الصحيفة المذكورة حقا –على ما زعم مسؤول فيها - نشر ما يردها من بيانات بمثل هذه الخفـّة والارتجال بعفـّة تحريرية ملحوظة, وعلى صدر صفحتها الأولى, ما لم يكن قد وافقت المادة –أي مادة- هوى في نفس القيم على تلك المطبوعة؟
خاصة وأننا لا نتحدث هنا عن صحف التابلويد والفضائح الصفراء. (أليس كذلك؟)
ألم يكن بمقدور المحرر الهمام, الفخور بسبقه الإعلامي رفع سماعة الهاتف للاتصال بأحد أولئك الكتاب السوريين للحصول -ولو من باب رفع العتب- على تعليق ما,أو ردة فعل, أو تصديق, أو تكذيب, والمتابعة بعد ذلك في نشر المادة كما يريد ذلك المحرر ويشتهي؟
لماذا هذا السقوط غير المبرر في المزالق العريقة للبروباغندا غير المسؤولة, والتي تستند إلى مساواة مقلقة بين المادة الاعلامية والاعلانية, والتي يرمح بعض ناشرينا في غياهبها دون وازع؟
بل يبلغ الأمر حدا مثيرا للسخرية, عندما يتلطـّى ذلك المسؤول الإعلامي في صحيفة الوطن وراء سكرتيرته, التي لم يكن لها خلاص في النهاية سوى ترديد جملة ببغائية مفادها أنّ "الأستاذ خرج, وترك - نسي موبايله في المكتب"!
على أن فقدان الذاكرة ليس مرضا نادراعلى أية حال في أوساطنا الاعلامية والصحفية, وإلا كيف يفسر المرء إلحاح الاعلامي ذاته وغيره, هو ووسيلته فيما تبقى لهم من وقت قرائهم على مواصلة ذم سياسة حجب المعلومات –عند الآخرين طبعا- وتدبيج المقالات المنافحة عن حرية الإعلام, واستحضار الكربلائيات لطما على الشفافيـّة الإعلامية, وتعريضا بالتطنيش المثير للغثيان من بعض أصحاب القرار تجاه الصحافة المحلية, ونعيا للحق المسفوح في الحصول على المعلومة والخبر من مصادره؟
بل لعل الأنكى هو تلكؤ محرر الجريدة المذكورة في نشر رد لأحد الكتاب المشهر بهم, واشتراطه المسبق بأن تتم قراءة الرد من قبل محرر الصحيفة لمعرفة مدى صلاحيته للنشر أولا؟
الأمر الذي يظهر مدى الاسفاف في لي عنق المهنية التي يتم التشدق بها, والتعلق بأستارها الطوباوية, ويكشف عن تناقض فاضح في ادعاء مسؤول التحرير إياه عن انه ينشر عادة ما يرده من تقارير دون جلبة تذكر.
ومن نافلة الحديث القول أن هذا الزعم يحمل في ذاته من التهافت الفاقع ما يجعل في مجرد التفكير في تفنيده والرد عليه مضيعة للوقت, وامتهانا لمدارك أقلّ السوريين إلماما بواقع الاعلام المحلي ووقائعه, مع افتراض حسن النوايا, وسذاجة الادعاء.
فحتى جرائد الحائط في مدارسنا لديها (سياسة تحريرية), ولا تقبل على نفسها نشر كل (إبداعات) طلابها فما بالك بمؤسسة إعلامية ناجزة.
هل تخفى على ذي نظر ومتابعة تلك الوسواسيـّة الراسخة التي يتسم بها -كخلـّة أساس- مسؤولوا التحرير الكبار في أوساطنا الصحفية والاعلامية المحلية ؟
لدرجة باتت معها هذه الصفة بالذات تشكل لدى عدد منهم الميزة الوحيدة تقريبا التي يتم بناء عليها اصطفاؤهم لمناصبهم الجليلة!
ويملك كثيرون منا في الوسط الاعلامي السوري مرويـّات لاتنقضي, ومطولات موثقة في الحوادث والقصص التي تدور حول المدى الميتافيزيقي الذي يمكن لـ(مراجعة) المادة الاعلامية من قبل مسؤول التحرير أن يبلغه لدينا قبل النشر, إن تم.
إذ يـُجهد –والكلام هنا وصفي محض- أولئك القوم أنفسهم في بحث مضن عن كل ما يمكن أن يكون تضمينا, أو إشارة, أو تلميحا, أو حرتقة -متعمدة او عفوية- من قبل كاتبـ/ ـة المادة, وسوى ذلك مما هو مرشح لأن يكون له نصيب ليتطور تأويليا إلى (وجع رأس) رقابي لاحق, يرتب بدوره على المؤسسة نتائج لاتحمد عقباها عادة, مما يعتبر أصحاب الشأن الاعلامي في تلك الوسيلة انفسهم هم ومحرروهم وممولوهم في غنى عنه.
أين هي المسؤولية –وليس الرقابة أبدا- في تعريض أرواح وممتلكات مواطنين لاينقصون سوريـّة عن غيرهم لخطر الاعتداء, أو المساءلة الأمنية دون دليل أو برهان ؟
ماذا لو أن بعض الغوغاء تبرعوا لمعاقبة "أصدقاء وداعمي إسرائيل" المزعومين هؤلاء مدفوعين بما يخالون انـّه حسهم الوطني المستثار ؟
ماذا لو عن ّ على بال أحدهم مثلا الاستشهاد (في) أحد هؤلاء الكتاب الذين يعيش عدد منهم بيننا ويمشون في شوارعنا, ويركبون وسائل نقلنا, والذين لا يحول بين المادة المنشورة في تلك الصحيفة وبين أن تصفهم بالخونة والعملاء سوى ذكر كلمة (الخيانة) حرفيا؟
وهل يبدو هذا الاحتمال ضربا من المبالغة أو الغلو حقا في ظل الأجواء المشحونة التي يعيشها الشارع السوري إثر كل تلك المذابح والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل, والذين لاتزال كثير من جثث شهدائهم مدفونة تحت أنقاض البيوت والمدارس؟
هل هذا هو ما تحتاجه (مقاومتنا) حقا من الإعلام ؟
هل هذه هي الطريقة الرسولية التي نحاول من خلالها تنمية الوعي الوطني لمواجهة المحتل على ما تزعم منابرنا الاعلامية وتدعي؟
ليس مثار خلاف جدي الادعاء أنه لازال أمام الإعلام السوري, وملكاته التحاورية مع هذا الآخر, دربا مضنية ليقطعها قبل ان يستحق وظيفته ودوره.
وإذا وفرنا على أنفسنا الاستماع من هؤلاء القوم الموكلين بمنابرنا الإعلامية لسفسطة الاجابة على سؤال حرية التعبير, والرأي الآخر, ومقارعة الحجة بالحجة,...
فهل يمكن لنا أن نسأل على الأقل عن أية دروس بين ظهرانينا وحولنا يمكن لأحد على الاطلاق أن يستشف منها ضرورة الكف –ولو مؤقتا- عن توزيع صكوك الغفران, وشهادات حسن السلوك الوطني, بهذه المجانية المخزية؟
على جريدة الوطن التي لايملك أحد الحق في أن يملي عليها توجهها وسياستها –ونرجو ان يكون الحال كذلك- ألا تتباطأ أبدا في فتح صفحتها الأولى إياها للردود والتوضيحات التي تردها من الكتاب السوريين وغيرهم ممن أحسوا في مادتها المنشورة تلك إجحافا بحقهم, ومساسا بكرامتهم, أو تأليبا عليهم.
ويجب على مسؤولي تلك الصحيفة ألا يتذرعوا بحجج واهية للتفلـّت من مسؤوليتهم حيال أي أذى جسدي أو معنوي يمكن له ان يلحق بهؤلاء الكتاب, شركائهم في القلم, سواء اتفقوا وإيـّاهم في الرأي, أم اختلفوا عليه.
وللصحيفة -من باب الاختيار الحر دوما- أن تتحرى في المستقبل مهنيـّة أعلى لأداءها, تليق بإعلامنا الخاص الموعود, وتحترم قارئها السوري, الذي يقضي بالمناسبة معظم وقته داخل هذا البلد!
وأن يكفّ إعلامنا المحلي عن معاملة السوريين كلاجئين إعلاميين, او سياحا أجانب, لا يفقهون, ولا يبالون.
وان يتوقف هذا الإعلام عن ركل جمهوره خارج مجال بثه الافتراضي, ودفعه مرغما إلى مصادر أخرى, وصل بنا مطاف الأمور أن تكون إسرائيلية.
في حديث الجنس السوري, ... وللرقيب (شبقه)
لا تخفي سلوى النعيمي دهشتها حيال (فرمان) سحب كتابها برهان العسل من على الرفوف الثقافية الرسمية, والمرسومة في بلدها الأم.
ولم يكن إنكارها -وهي الدارسة (الأكاديمية) لهذه اللغة- لوجود كلمات سافرة في العربية على حساب الـكلمات الـ محجبة , أو احتجاجها على مجتمع التقية الذي نعيش فيه سرا ما عاشه أجدادنا في العلن ؛ ليزيد او ينقص على ما يبدو في ميزان (احتشام) عاصمة الثقافة العربية 2008 .... المنتهية ولايتها.
بل إن محاولة الشاعرة السورية المقيمة في باريس (إنقاذ) مفردات الجنس, وأسماء الأعضاء الجنسية, و(أفعالها), من درك توظيفها (الشتائمي) على مستوى التعاطي اليومي معها، لا تلبث ان تصطدم بالعادات السرية الفكرية لـ(الراشدين فقط), والذين يغتسلون صبح مساء من (مجانبة) ما يزعمون بهتانا أنه ليس من (ثقافتنا) (أصلا).
إذ أن الجنس وعلى الرغم من اتساع ثقوب غربال الرقابة في بعض الأحيان كما تقول النعيمي, إلا أن المتابع لا يزال يجده هناك بوتيرة متزايدة معلقا على الخشبة, دريئة منخولة بالشك والمقصات.
بل لا يبالغ من يزعم أن ثمة ردة (مقدسة) لتمكين هذا التابو, وشد دعائمه أكثر فأكثر بين ظهرانينا, وفي برهان العسل نفسه برهان.
فالكتاب (السوري) الذي سلم جانبه في معرض بيروت للكتاب, وغـُضت الأبصار عنه في معرض أبوظبي, كان لابد أن يغص به معرض دمشق للكتاب.
ربما لأن الوصايات تلح من (منابرها) أن السوريين لم يبلغوا سن الرشد بعد, وربما لأن المافيات (الدينـ-ــوية) ومن بحكمها شنت في حينه –على هذا الكتاب وغيره- داخل أجنحة المعرض وكواليسه بضع (غزوات) مبيتة, تكللت في نهاية المطاف –ليس آخره- بالسرقة الموصوفة, وحجب الأفكار.
ولا رادا على (القضاء) يقضي, ولا عاصمة للثقافة تعصم.
بل إن هؤلاء (الحجَاب) ليجدون على غير موعد سندا لهم في بعضنا الملجم الساكت, أو المقارب المضطر او المدعي, او بأحسن الأحوال فاقد الرؤية, وإن امتلك الأداة.
فتناولنا الصحافي والإعلامي على سبيل المثال للجنس وثقافته يشي بالكثير من الخفة, إذ لا يزال هذا الموضوع بالذات يراوح في التداول (الصحافاتي) بين (العنـّة) و(سرعة القذف).
فهو إما مسربل بالتوريات, والمجاز القاصر, او مثقل بالأكاديمية التربوية, والوعظي المفتعل, وفي كلا الحالين تـُغتال المتعة, وتـُسفـّه الأحلام, ليتمخض الجمل عن مقاربة مبتسرة يابسة, لا نشوة فيها ولا رهز.
وإلا كيف ترانا نقيـّم مركونات كل تلك الملفات الجنسية التي يتعاورها إعلامنا المحلي بين الحين والآخر, والتي لا (تفتح) في فتوحاتها المبينة لا وعيا, ولا جسدا.
أو بماذا عسانا نفسر (الحفاوة) التي استقبلت فيها صحيفة سورية (مستقلة) –جدا- زميلتها البيروتية التي صدرت مؤخرا تحت مسمى "جسد", عندما لا يستطيع المحرر-المحتل الثقافي في صفحته أن (يقاوم) نشر الخبر إياه؛ من دون (بعبصة) رصينة, تستدعي التربوي الوصائي, ليأتي سياق مادته على شاكلة:
"... وحتى لا تتسرعوا بالحكم على الناشرة اللبنانية «المجتهدة»، فهي لا تقدم بورنو رخيصاً باسم الفن, أو جنساً مبتذلاً باسم الثقافة, حاشا للخالق!" نعم, لـ(الخالق).
أو نمط :
"..حسناً, في الغرب هناك اسم مخصص لهذا النوع من «الثقافة» له رواده وأعماره، لكنهم على الأقل لا يتشدقون بالثقافة والفن كلما قاموا بمشروع «هادف» كهذا." نعم, (هادف).
ويـُسقط عزيز قومنا من (شهوته) التطهرية الجارفة أن ثمة في ناسه و(عشيرته) "ن يعيش ويموت من دون أن يعرف طريق جسده, وأجساد الآخرين"*, وإن وفق الأمثولات (الشرعية) وأحابيلها حتى.
ومن قبل هذه وتلك؛ ما اجترحته وزارة الثقافة السورية في مهرجان دمشق السينمائي منذ عام تقريبا, عندما قرر السيد الوزير (ختان) فيلم الافتتاح الروماني (أربعة أشهر, وثلاثة أسابيع, ويومان) لمخرجه (كريستيان مانجيو), وذلك عبر (فرفطة) عدد من مشاهده في سلة قمامته, واقتطاعها لحساب إقطاعيته (الأخلاقية), باعتبارها بورنو, و"إباحية", ودوما في سبيل الحفاظ على (عفة) مهرجاننا و(رزانته).
ورغم أن الكاتبة سلوى النعيمي بثت في أعطاف مؤلفها الأخير "برهان العسل" ما مؤداه أنه من غير المحتمل أن تكون الرقابة "على هذه الدرجة من الغباء"* , فإن كثراً يميلون للاعتقاد أن الكاتبة لم تكن جادة تماما في هذا الجزء بالذات!
لا تجد النعيمي مندوحة من الاستسلام لطلبتها الوحيدة, في ومض حسي لاهث وراء أناه, وإن كان هناك ثمة من يوقد الشمع ويوصد النوافذ لاستحضار الأرواح, فإن بخور الكاتبة و(عسلها) كله منذور لاستحضار الأجساد, بل -وبمزيد من الإمعان- جسدها وشبقها هي بالذات.
على أن القصة تبدأ دائما حين ينتهي الكلام.
بعد ان تفلتنا آخر صفحة من الكتاب وجها لوجه أمام التابو إياها, (منشورا) في عسل وحنظل كل منا بشخصه, محرما يكرر بكارته, وينسج عشه الدبق في رؤوسنا وفروجنا من جديد.
* الاقتباسات المشار إليها مأخوذة من كتاب برهان العسل الصادر مؤخرا في طبعته الثالثة عن دار رياض نجيب الريس-بيروت
ولم يكن إنكارها -وهي الدارسة (الأكاديمية) لهذه اللغة- لوجود كلمات سافرة في العربية على حساب الـكلمات الـ محجبة , أو احتجاجها على مجتمع التقية الذي نعيش فيه سرا ما عاشه أجدادنا في العلن ؛ ليزيد او ينقص على ما يبدو في ميزان (احتشام) عاصمة الثقافة العربية 2008 .... المنتهية ولايتها.
بل إن محاولة الشاعرة السورية المقيمة في باريس (إنقاذ) مفردات الجنس, وأسماء الأعضاء الجنسية, و(أفعالها), من درك توظيفها (الشتائمي) على مستوى التعاطي اليومي معها، لا تلبث ان تصطدم بالعادات السرية الفكرية لـ(الراشدين فقط), والذين يغتسلون صبح مساء من (مجانبة) ما يزعمون بهتانا أنه ليس من (ثقافتنا) (أصلا).
إذ أن الجنس وعلى الرغم من اتساع ثقوب غربال الرقابة في بعض الأحيان كما تقول النعيمي, إلا أن المتابع لا يزال يجده هناك بوتيرة متزايدة معلقا على الخشبة, دريئة منخولة بالشك والمقصات.
بل لا يبالغ من يزعم أن ثمة ردة (مقدسة) لتمكين هذا التابو, وشد دعائمه أكثر فأكثر بين ظهرانينا, وفي برهان العسل نفسه برهان.
فالكتاب (السوري) الذي سلم جانبه في معرض بيروت للكتاب, وغـُضت الأبصار عنه في معرض أبوظبي, كان لابد أن يغص به معرض دمشق للكتاب.
ربما لأن الوصايات تلح من (منابرها) أن السوريين لم يبلغوا سن الرشد بعد, وربما لأن المافيات (الدينـ-ــوية) ومن بحكمها شنت في حينه –على هذا الكتاب وغيره- داخل أجنحة المعرض وكواليسه بضع (غزوات) مبيتة, تكللت في نهاية المطاف –ليس آخره- بالسرقة الموصوفة, وحجب الأفكار.
ولا رادا على (القضاء) يقضي, ولا عاصمة للثقافة تعصم.
بل إن هؤلاء (الحجَاب) ليجدون على غير موعد سندا لهم في بعضنا الملجم الساكت, أو المقارب المضطر او المدعي, او بأحسن الأحوال فاقد الرؤية, وإن امتلك الأداة.
فتناولنا الصحافي والإعلامي على سبيل المثال للجنس وثقافته يشي بالكثير من الخفة, إذ لا يزال هذا الموضوع بالذات يراوح في التداول (الصحافاتي) بين (العنـّة) و(سرعة القذف).
فهو إما مسربل بالتوريات, والمجاز القاصر, او مثقل بالأكاديمية التربوية, والوعظي المفتعل, وفي كلا الحالين تـُغتال المتعة, وتـُسفـّه الأحلام, ليتمخض الجمل عن مقاربة مبتسرة يابسة, لا نشوة فيها ولا رهز.
وإلا كيف ترانا نقيـّم مركونات كل تلك الملفات الجنسية التي يتعاورها إعلامنا المحلي بين الحين والآخر, والتي لا (تفتح) في فتوحاتها المبينة لا وعيا, ولا جسدا.
أو بماذا عسانا نفسر (الحفاوة) التي استقبلت فيها صحيفة سورية (مستقلة) –جدا- زميلتها البيروتية التي صدرت مؤخرا تحت مسمى "جسد", عندما لا يستطيع المحرر-المحتل الثقافي في صفحته أن (يقاوم) نشر الخبر إياه؛ من دون (بعبصة) رصينة, تستدعي التربوي الوصائي, ليأتي سياق مادته على شاكلة:
"... وحتى لا تتسرعوا بالحكم على الناشرة اللبنانية «المجتهدة»، فهي لا تقدم بورنو رخيصاً باسم الفن, أو جنساً مبتذلاً باسم الثقافة, حاشا للخالق!" نعم, لـ(الخالق).
أو نمط :
"..حسناً, في الغرب هناك اسم مخصص لهذا النوع من «الثقافة» له رواده وأعماره، لكنهم على الأقل لا يتشدقون بالثقافة والفن كلما قاموا بمشروع «هادف» كهذا." نعم, (هادف).
ويـُسقط عزيز قومنا من (شهوته) التطهرية الجارفة أن ثمة في ناسه و(عشيرته) "ن يعيش ويموت من دون أن يعرف طريق جسده, وأجساد الآخرين"*, وإن وفق الأمثولات (الشرعية) وأحابيلها حتى.
ومن قبل هذه وتلك؛ ما اجترحته وزارة الثقافة السورية في مهرجان دمشق السينمائي منذ عام تقريبا, عندما قرر السيد الوزير (ختان) فيلم الافتتاح الروماني (أربعة أشهر, وثلاثة أسابيع, ويومان) لمخرجه (كريستيان مانجيو), وذلك عبر (فرفطة) عدد من مشاهده في سلة قمامته, واقتطاعها لحساب إقطاعيته (الأخلاقية), باعتبارها بورنو, و"إباحية", ودوما في سبيل الحفاظ على (عفة) مهرجاننا و(رزانته).
ورغم أن الكاتبة سلوى النعيمي بثت في أعطاف مؤلفها الأخير "برهان العسل" ما مؤداه أنه من غير المحتمل أن تكون الرقابة "على هذه الدرجة من الغباء"* , فإن كثراً يميلون للاعتقاد أن الكاتبة لم تكن جادة تماما في هذا الجزء بالذات!
لا تجد النعيمي مندوحة من الاستسلام لطلبتها الوحيدة, في ومض حسي لاهث وراء أناه, وإن كان هناك ثمة من يوقد الشمع ويوصد النوافذ لاستحضار الأرواح, فإن بخور الكاتبة و(عسلها) كله منذور لاستحضار الأجساد, بل -وبمزيد من الإمعان- جسدها وشبقها هي بالذات.
على أن القصة تبدأ دائما حين ينتهي الكلام.
بعد ان تفلتنا آخر صفحة من الكتاب وجها لوجه أمام التابو إياها, (منشورا) في عسل وحنظل كل منا بشخصه, محرما يكرر بكارته, وينسج عشه الدبق في رؤوسنا وفروجنا من جديد.
* الاقتباسات المشار إليها مأخوذة من كتاب برهان العسل الصادر مؤخرا في طبعته الثالثة عن دار رياض نجيب الريس-بيروت
عن التجارة ب(غرف التجارة, أو ... بخصوص (خلصنا بقى ), والشهبندر العنيد
كان موقفا لافتا للانتباه حقا ذلك الذي ارتأى اتخاذه راتب الشلاح بعدم (الترشح) مجددا لرئاسة غرفة تجارة دمشق, ومن ورائها وتلقائيا رئاسة اتحاد غرف التجارة السورية لدورة إضافية مع نهاية هذا العام.
وذلك بعد عمر مديد قضاه الأخير في كلتيهما, لدرجة أن كثيرا من العارفين بظواهر الأمور وبواطنها استقروا منذ أمد على التفكير بأنها (ما عادت حرزانة).
والقصد هنا بالأمر غير (الحرزان) ليس الترشح, وإنما عدم الترشح, على اعتبار أن صاحبنا اعتاد الأمر و(أخدت إيدو), وأن الذين من حوله (تأقلموا) و(تركلجوا), بل وتعودوا بدورهم أن يأخذهم هو بالذات (بإيدو), الأخرى طبعا.
لكن الشيء الأكثر لفتا للانتباه في هذا (التطور) اللافت هو تلك الأصوات (التجارية), والإعلامية التي انبرت في التو واللحظة لمناشدة الرجل العودة عن قراره, والعدول عن رأيه, مطلقة في عدد من الافتتاحيات الاقتصادية, والصفحات المحلية, مندبة جوالة, وكربلائية ممطوطة, أقل ما يقال في مراثيها أنها رثـّة.
ومدار كل ذلك التباكي على أطلال الرجل, مديحٌ يتعلق بـ"استثنائية" فيه, وبخلو الساحة من "المنافسين والأنداد" له, وأن مكانه "لا يمكن أن يملأه أي من المرشحين", ناهيك عما ناله من "إجماعٍ قل نظيره"! (من قلة "الاجماعات" حولنا)!
بل إن أحد كتاب تلك المقالات لم يجد في معرض مدح مآثر الشلاح ما يقوله خيرا من وصف المذكور بأنه "تكلم كثيراً عن الاقتصاد, وعن التجارة, وعن التنمية، لكن الجميع كان يشعر أن الأهم هو ما لم ينطق به"!!
من دون أن يعطينا موعدا لليوم, أو الأسبوع, أو القرن الذي ينوي به السيد الفاضل إطلاعنا على "الأهم" الذي لم يقله, كيلا ينتهي المقام بالرجل ليكون أحد الساكتين عن الحق؟ (معاذ الله بالنيابة عن كاتب ذلك المقال).
بل إن الشطط بلغ من الكاريكاتيرية درجة أن رئيس اللجنة المشرفة على انتخابات غرفة تجارة دمشق هذا العام, لم يخجل على رؤوس الأشهاد من التصريح بـ"أسفه" لانسحاب الشلاح!
وهو من هو, على رأس هيئة من المفترض بها أنها تقف على مسافة واحدة من كافة المرشحين, وليس مطلوبا منها ضمن واجباتها أن (تحرد) أو تسعد لاشتراك أو انسحاب أحد.
(الانتخابات دوما بين قوسين, باعتبار أن من شارك من التجار في الاقتراع الأخير في الغرفة لم تتجاوز نسبتهم 39.4% علما أن النصاب القانوني هو 50%)!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما بال هؤلاء القوم في التجارة والإعلام وغيره, والذين ما فتئوا يتحفوننا في مطارح أخرى بشتى أنواع التذمر والشكوى من أولئك الذين تلتصق كراسيهم بأقفيتهم جينيا, ليأتوا هنا وينهجوا سيرة غير تلك التي (ربـّونا) عليها, وليطالبوا بالفم الملآن الزاهدين والزاهدات في مناصبهم أن يعودوا رملا إلى تلك الكراسي بالذات؟
أم أن البلد التي لا يفوّت أحد مناسبة وطنية أو (عميلة) إلا ويطنب في التغزل بأرضها, وهوائها, ومائها, ومطبـّات شوارعها؛ قد خلت على حين غرة إلا من بضعة أنفار, تتوافر فيهم تلك الشروط (الشرعية) لأهل الحل والعقد؟
إلى متى هذه (التنبلة) في محاولة استكشاف مقدرات مجتمعنا الغني والفتي؟
إلى متى هذا التراخي في التوعية الإعلامية بالإمكانات المركونة بين ظهرانينا, والتي يزخر بها محيطنا المحلي؟
لماذا نستسهل إلى هذا الحد الارتماء في الأحضان المترهلة لمن لا يملك لحاضره ما ينفع, فكيف به للمستقبل؟
لماذا هذه المساهمة المجانية في تكريس ممارسات استمرت عقودا, وأفرغت حق المشاركة في صنع الحياة من مضمونه, وغطت على المواهب, ووأدت القدرات, فارضة ما اصطلح عليه لا حقا بـ(واقع الحال)؟
ومن يدري, ربما تصبح هذه الانسحابات الطوعية خلـّة في بقية مسؤولينا المعمرين, فيتاح للبشرة الشابة في هذا المجتمع أن ترى النور, وتشم الهواء, وتصل إلى مواقع القرار.
وإن تبين لاحقا أن إدارة الشباب (كخـّة) أيضا, وثابرت هذه الأخيرة على المسير في ذات الدرب (المجعلك)؛ فعند ذلك بإمكان الشباب على الأقل أن يقنعوا بأن مصائبهم هي من صناعة, وتجارة, وسياحة, وسياسة أيديهم.
وعليهم ساعتئذ أن يتحملوا, ويكفوا عن (النق) الحرام, وتحميلكم -يا من كنتم ولازلتم- تبعات هذا الخراب, الذي تغذيه محسوبيات على منوال هذا (ابن الحجي), وذاك (جوز الست), وحضرتو (ابن أخو الاستاز), والعينتين (صهر المعلم), والأخ (من العيلة), وهلم جرا.
(فارطين) إلى غير رجعة سبحة الـ(لو) والـ(ليت), التي يشعر كثيرون بسببها بغبن من يتحمل أوزار طبقة أكلت حصتها, وحصة من بعدها, وأكلته معها.
وعلى رأي أحدهم من خلف مكتبه في مقهى (الروضة):
"يا عمي استقال..
يا خيي انسحب..
يا دادا ترك..
فيا ليتكم أيضا ترحمونا من مناشداتكم (الوطنية) وتتركوه أنتم أيضا.
هو..
سلميا..
إراديا..
تجاريا..
حلّ عنـّا وعنكم, ... فبشرفكم حلـّوا عنـه وعنـّا." (انتهى الاقتباس-الردح).
وإن كان لابد من مديح؛ فليكن خفيفا على الآذان والمنطق, إذ ليس من الحصافة في شيء الانجرار إلى منح ممدوحينا ما لا نملك حق هبته أو حجبه أصلا, أو أن نعلق رقابنا في (زنانيرهم), ونتمرغ على أعتابهم, كي (يتأبدوا) على مناصبهم, بغض النظر إن كان أولئك الناس مستحقين لما هم فيه أم لا.
أقله ليس قبل أن يقيض التاريخ, والصحافة الاستقصائية ربما, أولاد حلال -غير المعتمدين حاليا- كي ينقبوا في هذا التراث المديد, والجاه التليد, علهم يظـّهرون لنا الجانب (النيجاتيف) القابع هناك في العتمة, من هذا الفيلم الطويل, وذلك في سبيل أن تعتدل الكفة, ويستقيم السياق.
ألا يكفي الشلاح برأيكم 16 عاما في رئاسة غرفة تجارة دمشق, علما أنها –الضمير هنا قد يعود على الرئاسة أو الغرفة- ظلت في بيت الشلاح وآله ما يقارب العقود الأربعة, بعد أن كانت لأبيه منذ العام 1972؟!
فلتأخذ إذا جوقة المسبحين بحمد ما مضى وانقضى استراحة تقنية, تستدرك فيها مثلا أن الدكتور الذي قارب السادسة والسبعين, ليس بحاجة لما (تناضل) هي كي تتبرع به إليه.
فالرجل لن ينضم بهذه السهولة إلى الـ11 أوالـ16 أو الـ20% من العاطلين السوريين عن العمل, ولن يضطر في المدى المنظور إلى توسيط أحد كي يحجز له دورا متقدما في مكاتب التشغيل في العاصمة.
فهو بالغ الانهماك بمناصبه الأخرى الراهنة دون أدنى شك, باعتباره رئيس مجلس بورصة دمشق, ورئيس لجنة الإدارة في مركز الأعمال السوري-الأوربي, ونائب رئيس الاتحاد الإسلامي لغرف (الصناعة-التجارة, باكستان), ورئيس مجلس رجال أعمال سوريا-لبنان, وأمين سر الغرفة التجارة الدولية, وعضو في مجلس الأمناء العربي-الأوربي في جامعة دمشق, ونائب رئيس اللجنة الوطنية السورية منذ عام 1986.
ناهيك عن أشغاله الخاصة باعتباره رئيس مجلس ومدير تنفيذي في شركة الشلاح للتجارة منذ عام 1962 في سوريا, والمالك لمؤسسة راتب الشلاح في بيروت, وعضو مجلس إدارة في شركة رخا ووكالة نيسان للسيارات في سوريا, وعضو مجلس إدارة في بنك سوريا والمهجر, وشريك في شركتين للتجارة في القاهرة, والخرطوم, ومستثمر في شركة البحرين للزراعة العربية, وهو فيما علمنا, وقد يكون فيما لم نعلم.
بماذا ترانا نفسر هذا الحنين الأرعن للرجوع القهقرى إلى أبيض وأسود ذلك الزمن (الجميل), عندما كان شهبندر التجار خصما وحكما (شرعيا), والتقديرات والمقايسات (ع البركة), والعقود والمواثيق (برمة شوارب), والمخاصمات والمنازعات (تبويس لحى)؟
ما مبرر ليّ الأعناق المزمن هذا, والالتفات إلى ماض لا يريد له أحد (مستقبلي) أن يرجع؟
لا لأن رجال (وسيدات) أعمال اليوم يذرعون الأسواق بوجوه حليقة منتوفة, وليس لأن الشركات (المحترمة) اليوم تتسابق للحصول على براءات وشهادات منضدة ومكتوبة تثبت التزامها بمواصفات ومقاييس وضعية بالغة الدقة, ولا لأن مجالس النقابات والاتحادات أحلت الإدارة الجماعية محل الوحدانية الفردية (في محاضر المؤتمرات على الأقل)؛ بل لأن ذلك الزمن (الجميل) قد جايله زمن آخر قبيح وقميء, فيه بدع الغش والتدليس (الأكابري), وفنون تنجير الخوازيق, واجتهادات قطّـاع الطرق, وفروض (خوّات) القبضايات والعناتر –بالمناسبة شواربهم أطول من شوارب أتخن تاجر تاريخيا- وسوى ذلك الكثير.
وإن كانت أدوات ذلك الزمن الجميل بالكاد فاعلة حينها في التعاطي مع هذه الموبقات كلها, فإنها اليوم أعجز من أن تفعل ذلك, وعليه فعلى معتنقي هذا المذهب البائد أن يذهبوا بذهابه.
وليجربوا –على سبيل التنويع- سـَلسـَلة (من المسلسلات) مذكراتهم في أحد (أبواب الحارة) القادمة, أو ليركنوا إلى صنف آخر من الخلود, وهو الخلود للراحة.
وليكتفوا بعدما نالوا نصيبهم –ومن نصيب غيرهم- بغرف نوم وثيرة, بدل غرف التجارة والصناعة والسياحة, ناهيك عن غرف الثقافة والسياسة في هذا البلد.
ومن كان منهم ذا رأي أو حكمة, فليجـُد بها في الإعلام, والمجالس والهيئات الاستشارية, والدراسات, ومراكز الأبحاث, وليرفعوا وصايتهم عن عهد لم يعودوا قادرين على التأقلم مع مستجداته, أو الإلمام بمفرداته ومتغيراته.
وما دام ديدن هؤلاء القوم قول "نعم بصوتٍ عالٍ"، و"عدم قول لا حين يجب أن تقال", ناهيك عن "تغيير المنكر" بقلوبهم, حيث يتربع "أضعف الإيمان" -وفق اعترافات بعض المقالات-البكائيات إياها- فقد بات من الضرورة (البيولوجية) اليوم, استبدالهم بغيرهم من الجيل الشاب, ممن قد يمتلكون حناجر أقوى, قد تتمكن من رفع الصوت يوما, وقلوبا لم تثخنها الجلطات المتكررة, تكون أقدر على مداراة (أضعف الإيمان) التاريخي هذا والمستفحل, إن لم تلفظه نهائيا من دورتها الدموية.
ولا يخافن أحد علينا أن نضل السبيل بدون تلك الزعامات, لأن السوريين "قادرون على تدبير أحوالهم",وفق كلام الشلاح نفسه في المنتدى السوري-الإماراتي قبل سنتين وبحضور أحد شهود العدل الألمان.
وإن كان ثمة من لايزال يجادل بأننا لا نعرف (قدر) الرجل كما تعرفونه, ولم نمالحه كما مالحتموه على ما يبدو –رغم تقادم العهد على أمثال هذه الحجج-؛ إلا أن ما يشفع لنا في واقع الحال هي معرفتنا ومعايشتنا اليومية لـ(قدر) المصائب والكوارث الاقتصادية وأخواتها مما نرزح تحت وطئته اليوم.
وإن كان مدار الحديث بجملته عن التجارة, فإن أول جملة نسمعها –كما تعرفون- من تجار اليوم أنفسهم, موالاة ومعارضة, هي (السوق واقف), و...
(من ثمارهم –كلهم- تعرفونهم).
وذلك بعد عمر مديد قضاه الأخير في كلتيهما, لدرجة أن كثيرا من العارفين بظواهر الأمور وبواطنها استقروا منذ أمد على التفكير بأنها (ما عادت حرزانة).
والقصد هنا بالأمر غير (الحرزان) ليس الترشح, وإنما عدم الترشح, على اعتبار أن صاحبنا اعتاد الأمر و(أخدت إيدو), وأن الذين من حوله (تأقلموا) و(تركلجوا), بل وتعودوا بدورهم أن يأخذهم هو بالذات (بإيدو), الأخرى طبعا.
لكن الشيء الأكثر لفتا للانتباه في هذا (التطور) اللافت هو تلك الأصوات (التجارية), والإعلامية التي انبرت في التو واللحظة لمناشدة الرجل العودة عن قراره, والعدول عن رأيه, مطلقة في عدد من الافتتاحيات الاقتصادية, والصفحات المحلية, مندبة جوالة, وكربلائية ممطوطة, أقل ما يقال في مراثيها أنها رثـّة.
ومدار كل ذلك التباكي على أطلال الرجل, مديحٌ يتعلق بـ"استثنائية" فيه, وبخلو الساحة من "المنافسين والأنداد" له, وأن مكانه "لا يمكن أن يملأه أي من المرشحين", ناهيك عما ناله من "إجماعٍ قل نظيره"! (من قلة "الاجماعات" حولنا)!
بل إن أحد كتاب تلك المقالات لم يجد في معرض مدح مآثر الشلاح ما يقوله خيرا من وصف المذكور بأنه "تكلم كثيراً عن الاقتصاد, وعن التجارة, وعن التنمية، لكن الجميع كان يشعر أن الأهم هو ما لم ينطق به"!!
من دون أن يعطينا موعدا لليوم, أو الأسبوع, أو القرن الذي ينوي به السيد الفاضل إطلاعنا على "الأهم" الذي لم يقله, كيلا ينتهي المقام بالرجل ليكون أحد الساكتين عن الحق؟ (معاذ الله بالنيابة عن كاتب ذلك المقال).
بل إن الشطط بلغ من الكاريكاتيرية درجة أن رئيس اللجنة المشرفة على انتخابات غرفة تجارة دمشق هذا العام, لم يخجل على رؤوس الأشهاد من التصريح بـ"أسفه" لانسحاب الشلاح!
وهو من هو, على رأس هيئة من المفترض بها أنها تقف على مسافة واحدة من كافة المرشحين, وليس مطلوبا منها ضمن واجباتها أن (تحرد) أو تسعد لاشتراك أو انسحاب أحد.
(الانتخابات دوما بين قوسين, باعتبار أن من شارك من التجار في الاقتراع الأخير في الغرفة لم تتجاوز نسبتهم 39.4% علما أن النصاب القانوني هو 50%)!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما بال هؤلاء القوم في التجارة والإعلام وغيره, والذين ما فتئوا يتحفوننا في مطارح أخرى بشتى أنواع التذمر والشكوى من أولئك الذين تلتصق كراسيهم بأقفيتهم جينيا, ليأتوا هنا وينهجوا سيرة غير تلك التي (ربـّونا) عليها, وليطالبوا بالفم الملآن الزاهدين والزاهدات في مناصبهم أن يعودوا رملا إلى تلك الكراسي بالذات؟
أم أن البلد التي لا يفوّت أحد مناسبة وطنية أو (عميلة) إلا ويطنب في التغزل بأرضها, وهوائها, ومائها, ومطبـّات شوارعها؛ قد خلت على حين غرة إلا من بضعة أنفار, تتوافر فيهم تلك الشروط (الشرعية) لأهل الحل والعقد؟
إلى متى هذه (التنبلة) في محاولة استكشاف مقدرات مجتمعنا الغني والفتي؟
إلى متى هذا التراخي في التوعية الإعلامية بالإمكانات المركونة بين ظهرانينا, والتي يزخر بها محيطنا المحلي؟
لماذا نستسهل إلى هذا الحد الارتماء في الأحضان المترهلة لمن لا يملك لحاضره ما ينفع, فكيف به للمستقبل؟
لماذا هذه المساهمة المجانية في تكريس ممارسات استمرت عقودا, وأفرغت حق المشاركة في صنع الحياة من مضمونه, وغطت على المواهب, ووأدت القدرات, فارضة ما اصطلح عليه لا حقا بـ(واقع الحال)؟
ومن يدري, ربما تصبح هذه الانسحابات الطوعية خلـّة في بقية مسؤولينا المعمرين, فيتاح للبشرة الشابة في هذا المجتمع أن ترى النور, وتشم الهواء, وتصل إلى مواقع القرار.
وإن تبين لاحقا أن إدارة الشباب (كخـّة) أيضا, وثابرت هذه الأخيرة على المسير في ذات الدرب (المجعلك)؛ فعند ذلك بإمكان الشباب على الأقل أن يقنعوا بأن مصائبهم هي من صناعة, وتجارة, وسياحة, وسياسة أيديهم.
وعليهم ساعتئذ أن يتحملوا, ويكفوا عن (النق) الحرام, وتحميلكم -يا من كنتم ولازلتم- تبعات هذا الخراب, الذي تغذيه محسوبيات على منوال هذا (ابن الحجي), وذاك (جوز الست), وحضرتو (ابن أخو الاستاز), والعينتين (صهر المعلم), والأخ (من العيلة), وهلم جرا.
(فارطين) إلى غير رجعة سبحة الـ(لو) والـ(ليت), التي يشعر كثيرون بسببها بغبن من يتحمل أوزار طبقة أكلت حصتها, وحصة من بعدها, وأكلته معها.
وعلى رأي أحدهم من خلف مكتبه في مقهى (الروضة):
"يا عمي استقال..
يا خيي انسحب..
يا دادا ترك..
فيا ليتكم أيضا ترحمونا من مناشداتكم (الوطنية) وتتركوه أنتم أيضا.
هو..
سلميا..
إراديا..
تجاريا..
حلّ عنـّا وعنكم, ... فبشرفكم حلـّوا عنـه وعنـّا." (انتهى الاقتباس-الردح).
وإن كان لابد من مديح؛ فليكن خفيفا على الآذان والمنطق, إذ ليس من الحصافة في شيء الانجرار إلى منح ممدوحينا ما لا نملك حق هبته أو حجبه أصلا, أو أن نعلق رقابنا في (زنانيرهم), ونتمرغ على أعتابهم, كي (يتأبدوا) على مناصبهم, بغض النظر إن كان أولئك الناس مستحقين لما هم فيه أم لا.
أقله ليس قبل أن يقيض التاريخ, والصحافة الاستقصائية ربما, أولاد حلال -غير المعتمدين حاليا- كي ينقبوا في هذا التراث المديد, والجاه التليد, علهم يظـّهرون لنا الجانب (النيجاتيف) القابع هناك في العتمة, من هذا الفيلم الطويل, وذلك في سبيل أن تعتدل الكفة, ويستقيم السياق.
ألا يكفي الشلاح برأيكم 16 عاما في رئاسة غرفة تجارة دمشق, علما أنها –الضمير هنا قد يعود على الرئاسة أو الغرفة- ظلت في بيت الشلاح وآله ما يقارب العقود الأربعة, بعد أن كانت لأبيه منذ العام 1972؟!
فلتأخذ إذا جوقة المسبحين بحمد ما مضى وانقضى استراحة تقنية, تستدرك فيها مثلا أن الدكتور الذي قارب السادسة والسبعين, ليس بحاجة لما (تناضل) هي كي تتبرع به إليه.
فالرجل لن ينضم بهذه السهولة إلى الـ11 أوالـ16 أو الـ20% من العاطلين السوريين عن العمل, ولن يضطر في المدى المنظور إلى توسيط أحد كي يحجز له دورا متقدما في مكاتب التشغيل في العاصمة.
فهو بالغ الانهماك بمناصبه الأخرى الراهنة دون أدنى شك, باعتباره رئيس مجلس بورصة دمشق, ورئيس لجنة الإدارة في مركز الأعمال السوري-الأوربي, ونائب رئيس الاتحاد الإسلامي لغرف (الصناعة-التجارة, باكستان), ورئيس مجلس رجال أعمال سوريا-لبنان, وأمين سر الغرفة التجارة الدولية, وعضو في مجلس الأمناء العربي-الأوربي في جامعة دمشق, ونائب رئيس اللجنة الوطنية السورية منذ عام 1986.
ناهيك عن أشغاله الخاصة باعتباره رئيس مجلس ومدير تنفيذي في شركة الشلاح للتجارة منذ عام 1962 في سوريا, والمالك لمؤسسة راتب الشلاح في بيروت, وعضو مجلس إدارة في شركة رخا ووكالة نيسان للسيارات في سوريا, وعضو مجلس إدارة في بنك سوريا والمهجر, وشريك في شركتين للتجارة في القاهرة, والخرطوم, ومستثمر في شركة البحرين للزراعة العربية, وهو فيما علمنا, وقد يكون فيما لم نعلم.
بماذا ترانا نفسر هذا الحنين الأرعن للرجوع القهقرى إلى أبيض وأسود ذلك الزمن (الجميل), عندما كان شهبندر التجار خصما وحكما (شرعيا), والتقديرات والمقايسات (ع البركة), والعقود والمواثيق (برمة شوارب), والمخاصمات والمنازعات (تبويس لحى)؟
ما مبرر ليّ الأعناق المزمن هذا, والالتفات إلى ماض لا يريد له أحد (مستقبلي) أن يرجع؟
لا لأن رجال (وسيدات) أعمال اليوم يذرعون الأسواق بوجوه حليقة منتوفة, وليس لأن الشركات (المحترمة) اليوم تتسابق للحصول على براءات وشهادات منضدة ومكتوبة تثبت التزامها بمواصفات ومقاييس وضعية بالغة الدقة, ولا لأن مجالس النقابات والاتحادات أحلت الإدارة الجماعية محل الوحدانية الفردية (في محاضر المؤتمرات على الأقل)؛ بل لأن ذلك الزمن (الجميل) قد جايله زمن آخر قبيح وقميء, فيه بدع الغش والتدليس (الأكابري), وفنون تنجير الخوازيق, واجتهادات قطّـاع الطرق, وفروض (خوّات) القبضايات والعناتر –بالمناسبة شواربهم أطول من شوارب أتخن تاجر تاريخيا- وسوى ذلك الكثير.
وإن كانت أدوات ذلك الزمن الجميل بالكاد فاعلة حينها في التعاطي مع هذه الموبقات كلها, فإنها اليوم أعجز من أن تفعل ذلك, وعليه فعلى معتنقي هذا المذهب البائد أن يذهبوا بذهابه.
وليجربوا –على سبيل التنويع- سـَلسـَلة (من المسلسلات) مذكراتهم في أحد (أبواب الحارة) القادمة, أو ليركنوا إلى صنف آخر من الخلود, وهو الخلود للراحة.
وليكتفوا بعدما نالوا نصيبهم –ومن نصيب غيرهم- بغرف نوم وثيرة, بدل غرف التجارة والصناعة والسياحة, ناهيك عن غرف الثقافة والسياسة في هذا البلد.
ومن كان منهم ذا رأي أو حكمة, فليجـُد بها في الإعلام, والمجالس والهيئات الاستشارية, والدراسات, ومراكز الأبحاث, وليرفعوا وصايتهم عن عهد لم يعودوا قادرين على التأقلم مع مستجداته, أو الإلمام بمفرداته ومتغيراته.
وما دام ديدن هؤلاء القوم قول "نعم بصوتٍ عالٍ"، و"عدم قول لا حين يجب أن تقال", ناهيك عن "تغيير المنكر" بقلوبهم, حيث يتربع "أضعف الإيمان" -وفق اعترافات بعض المقالات-البكائيات إياها- فقد بات من الضرورة (البيولوجية) اليوم, استبدالهم بغيرهم من الجيل الشاب, ممن قد يمتلكون حناجر أقوى, قد تتمكن من رفع الصوت يوما, وقلوبا لم تثخنها الجلطات المتكررة, تكون أقدر على مداراة (أضعف الإيمان) التاريخي هذا والمستفحل, إن لم تلفظه نهائيا من دورتها الدموية.
ولا يخافن أحد علينا أن نضل السبيل بدون تلك الزعامات, لأن السوريين "قادرون على تدبير أحوالهم",وفق كلام الشلاح نفسه في المنتدى السوري-الإماراتي قبل سنتين وبحضور أحد شهود العدل الألمان.
وإن كان ثمة من لايزال يجادل بأننا لا نعرف (قدر) الرجل كما تعرفونه, ولم نمالحه كما مالحتموه على ما يبدو –رغم تقادم العهد على أمثال هذه الحجج-؛ إلا أن ما يشفع لنا في واقع الحال هي معرفتنا ومعايشتنا اليومية لـ(قدر) المصائب والكوارث الاقتصادية وأخواتها مما نرزح تحت وطئته اليوم.
وإن كان مدار الحديث بجملته عن التجارة, فإن أول جملة نسمعها –كما تعرفون- من تجار اليوم أنفسهم, موالاة ومعارضة, هي (السوق واقف), و...
(من ثمارهم –كلهم- تعرفونهم).
الانترنت السوري (على الهويّة), القافلة تنبح و(الاتصالات) تسير!!
زفّ المدير العام لمؤسسة الاتصالات السورية مؤخرا لمواطنيه نبأ عن مشروع تأمين خطوط انترنت بالحزمة العريضة ADSL في البلاد, واعدا السوريين بتوفير 33 ألفا من تلك البوابات, وذلك على مرأى ومسمع من السفير الصيني في دمشق الذي ستتولى شركة من بلاده تنفيذ ذلك العقد الفريد الذي طال انتظاره.
وفي السياق ذاته تعلن وزارة التقانة عن توقيعها مع سلطة الاتصالات القبرصية اتفاقا موازيا لإقامة كبل بحري بين البلدين قادر على مواكبة الطلب المحلي المتنامي للنفاذ إلى شبكة الانترنت العالمية, وليكون –الكبل الجديد- رديفا لكبل قديم ممتد بين البلدين منذ أواخر القرن الماضي يربط بين طرطوس ومنتاسخينس كان معدا أصلا للاتصالات الهاتفية.
هذا, إضافة إلى اتفاقية أخرى بين مؤسستي الاتصالات –بين سورية وقبرص كذلك- لتحسين سرعة الانترنت السوري مرتين ونصف -وصولا في مرحلة لاحقة إلى 10 أضعاف!- عما هو عليه الحال راهنا, بكلفة إجمالية يتوقع لها ان تبلغ عدة ملايين من الدولارات.
ناهيك عن مشاريع ثنائية مماثلة قيد الدراسة مع مصر, والأردن, وتركيا, وإيران, تضاف إليها العروض المحلية من هواتف الجيل الثالث القادرة على تصفح الشبكة العنكبوتية الدولية بسرعات تصل حتى 3.5 جيغابايت-ثا, والسعي المعلن لوزارة الداخلية أيضا وأيضا لتركيب بوابتها الالكترونية الخاصة في إطار أتمتمة السجل المدني السوري, وغيرها الكثير من الأنباء التي يستشف المراقب منها عزما حكوميا على تحسين خدمة الانترنت في البلد, والتي دأب محللون من ذوي الاختصاص على وصف وضعها بالكارثي, مقارنة بالبلدان المجاورة, من حيث اتسامها بعدم الاستقرار, والبطء, وارتفاع سعر خدماتها, جنبا إلى جنب مع تواضع الخبرات المهنية المشرفة على تسيير أمورها, وحل مشاكلها.
لكن الذي يلفت النظر حقا إلى حد يثير العجب, بل الاستفزاز, ضمن هذه المعمعة (الإعلانية) الوردية؛ هو ذلك التخبط الاداري المستفحل, وتضارب المصالح الفاقع بين الأيادي (والأقدام أحيانا) التي تتقاذف هذا القطاع, والذي غالبا ما تسبغ عليه أدبياتنا الخطابية المناسباتية صفة (المستقبلي) و(الحيوي) و(الاستراتيجي).
ففي الوقت الذي تحاول مؤسسة الاتصالات فيه إقناعنا عبر عشاءات العمل وصبحيات التصريحات, وماراثون الاتفاقات والامضاءات الذي تخوضه إقليميا ودوليا, بأنها حسمت أمرها تجاه النهوض بالبنية التحيتة البائسة لخدمة الانترنت في البلد, نجد أطرافا وجهات أخرى في الحكومة السورية وسلطاتها ومراكز قرارها, وكأنها تعمل على المقلب الآخر (بالمعنى العامـّي للمقلب) وفق أجندة خاصة ومستقلة, تناقض إلى مدى بعيد وعلى أكثر من صعيد كلام النهار الإخباري.
وإلا فما هو تبرير العودة مؤخرا إلى ذلك التشدد المفاجئ في التعاطي مع مقاهي الانترنت المحلية, والذي وصل حد تعليق رخص بعضها وإغلاقها في قلب العاصمة دمشق, والتضييق على رواد تلك المقاهي من خلال إلزام أصحاب (الكافيات) الطلب إلى زبائنهم كلما أرادوا الولوج إلى الشبكة الدولية إبراز هوياتهم أو جوازات سفرهم, وإتباع ذلك بتسجيل الأسماء, والأرقام, والمعلومات الشخصية الأخرى, وحفظها في جداول خاصة لإبرازها (عند الطلب)؟!.
في إجراء يبدو وكأن الهدف من وراءه هو الإصرار على مجرد وضع مزيد من الحواجز المادية والنفسية بين المواطن السوري وبين ثمار هذه "الثورة المعلوماتية" -على حد تعبير مدير الاتصالات ذاته- التي يرفل فيها باقي سكان الأرض من غير السوريين, أو أولئك السوريون خارج حدود هذه الأرض!
ففي حين توضع الخطط والاستراتيجيات, وتصرف الأموال والاستثمارات لتوطين التكنولوجيا المتقدمة, وتعريف الناس في أقاصي الريف السوري بالانترنت –حيث لا ماء أحيانا ولا كهرباء- عبر الحافلات والباصات المصممة خصيصا لهذا الغرض, نجد بين ظهرانينا من يسعى جاهدا إلى الإمعان في تغريب السوريين عن أداة بالغة الأهمية والخطورة –باعتراف الخطاب الرسمي الحديث- في تطوير حاضرهم, واستشراف مستقبلهم.
فهل يعقل أن تنصب الحواجز المادية والافتراضية اليوم فيوجه مواطنينا, وان تكون الانترنت في بلادنا (على الهوية)؟
وكأن على السوري الذي يفكر في سبر غور هذا الفضاء المعرفي الممتد, أن يشعر قبل أن تلمس أصابعه لوحة مفاتيح الحاسب أمامه بشعور من يلج أرضا أجنبية, أو يتخطى حدودا محرمة, أو يوشك على تهريب ممنوع من بلد آخر, وهو في وطنه, وبين أهله؟!
بل إن من المؤسف حقا أن المؤسسة العامة للاتصالات تتبنى بالفعل لا بالمجاز مفردة "التهريب" حرفيا, ولا تخجل من إطلاقها على الاتصالات التي قد يجريها شخص ما مع قريب أو صديق أو بعيد, عبر الانترنت, رغم ان أعدادا متزايدة من بلدان العالم باتت اليوم تعتبر هذا النوع من "التهريـبـ-ـصالات" جزء لا يتجزأ من تقنيات التواصل المعاصرة, في حين تركن مؤسستنا المحترمة إلى شن حملات شعواء في طول البلاد وعرضها لمداهمة مقاهي الانترنت, وإغلاق العشرات منها على هذه الخلفية.
محملة المواطن العادي جريرة ترهل تشريعاتها المتخلفة, وتراخي كادرها الإداري عن اقتراح بدائل ومخارج قانونية مدروسة, ترد المليارات الخمسة المزعومة –قيمة المكالمات "المهربة"- وتردع الارتجالات غير المنضبطة, والتي تفتح أمام "لمهربين" الحقيقيين من بعض موظفي المؤسسة نفسها أبوابا في الفساد والرشوة والسرقة الموصوفة, من نمط ذلك المهندس الذي ألقي القبض عليه في الحسكة أوائل العام الحالي بجريمة ابتزاز أصحاب مقاهي الانترنت في منطقته, والطلب إليهم دفع رشاوى بلغت عشرات الآلاف من الليرات, مستخدما سيارة دائرته في (مهماته الرسمية), ومستغلا منصبه في لجنة مخالفات ورخص مقاهي الانترنت في المحافظة.
هذا إن لم نجاوز ذلك الموظف وسرقاته إلى ما هو أعظم شأنا وخطرا مما كان يوما مانشيتات صحفية عريضة لم تجد حتى الجرائد الرسمية بدا من نشره والتعريض به.
وتشترط الإدارة التجارية في المؤسسة العامة للاتصالات السورية على من يرغب في الحصول على (رخصة استثمار مقهى انترنت) الحصول على موافقة وزارة الداخلية، كما أن البندين الرابع والسادس يلزمان موفر الخدمة توفير المعلومات الخاصة بالمتصفحين للسلطات المختصة، تحت طائلة سحب الترخيص ممن يرفض ذلك.
فأين هذه الإجراءات (الرادعة) من تلك الندوات والمحاضرات والمقابلات التي يراق فيها كل ذلك الحبر واللعاب والأموال, في سبيل تمجيد (المعلوماتية), و(خلق مكتبة للدراسات والبحوث على الانترنت), و(إنشاء محركات بحث عربية), و(توسيع قاعدة المحتوى العربي على الشبكة), و...و... وغيرها من التوصيات والأهداف التي تحاول لاهثة اللحاق بنسب النمو الهائلة في استخدام الانترنت التي عرفها القطر منذ العام 2000 والتي تتجاوز الـ(3000%) -ثلاثة آلاف بالمائة-؛ بالرغم من الإحصاءات الدولية في مجال استخدام االشبكة الدولية واستثمارها لاتزال حتى عام على الأقل تضع بلادنا في درجات متدنية جدا من سلم بياناتها عن دول المنطقة من حيث نسب التفاعل مع شبكة الانترنت, والتي يظهر أنها لا تتجاوز لدينا هامش الـ(5%) من إجمالي التعداد العام للسكان, لتستقر سوريا في المرتبة ما قبل الأخيرة, متقدمة دون فخر على العراق, والذي يشهد عمليا احتلالا أجنبيا, وشبه حرب أهليةّ!
وعندما تبدأ مؤسسة الاتصالات بحديثها (الطربي) عن (المال العام) و(القانون), لا يجد المرء بدا من تذكير المؤسسة العتيدة بأحد تعميماتها المطوبة والذي سبق لها أن وزعته على مزودي خدمة الانترنت المحليين برفع سعر الاشتراك في الـ(IP) الذي يتيح امتلاكه استخدام الصوت والصورة في اتصال الانترنت والماسنجر وسواه, من 200 ليرة سورية إلى 4000, أي بزيادة عشرين ضعفا, الأمر الذي هبط بعدد المشتركين في حينه إلى 4.5% فقط مما كان عليه قبل التعميم المذكور, رغم أن النسبة النهائية لحصة الانترنت جملة من أرباح المؤسسة (50 مليار ليرة سورية العام الماضي) لا تتعدى 3%.
علاوة على أن حظر التعامل بنظام (IP) في سورية, واحتكاره من قبل مؤسسة الاتصالات لتمنحه لاحقا للمشتركين فقط؛ هو بحد ذاته إجراء غير قانوني بحسب المواثيق والبروتوكولات الدولية الناظمة لهذا القطاع, إذ أن المؤسسة بإصرارها على هذا الإجراء تحرم باقي مستخدمي الانترنت السوريين من (هويتهم الالكترونية المباشرة) أثناء تواصلهم مع العالم الخارجي, وخاصة في مجال التعاملات الرسمية والمالية, ناهيك عن أن مؤسسة الاتصالات إياها تحصل على هذه الـ(IPـيات) مجانا, على اعتبار أن المصدر الذي يمنحها (RIPE) هو بحد ذاته مؤسسة دولية وإقليمية غير ربحية, في حين تعمد المؤسسة إلى بيعه بنسب ربح باهظة كما هو واضح!
الأمر الذي يعيد إلى الأذهان بعض التفاصيل الحميمة من الحقبة (التاريخية) التي دخلت فيها خدمة الهاتف المحمول إلى البلد, وما واكبها من شعوذات تسعيرية مثيرة للسخرية بقدر ما هي مثيرة للألم.
على أن المرء لا يمكن له أن يتجاهل بحال الحديث عن أن سوريا ظلت ترزح بشكل متقطع -مباشرة أو مواربة- تحت حصار تكنولوجي أعمى من قبل خصومها السياسيين الدوليين, كضغط إضافي يندرج في جملة الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية الممارسة ضدها, الأمر الذي حرمها كدولة من نيل (حقها) الطبيعي في الحصول على تكنولوجيا المعلومات, وحد في المحصلة من مساحة المناورة التقنية التي تتمتع بها بلدان أخرى في الإقليم وخارجه, وبرر بين السطور (الرسمية) جانبا من واقع الخدمة السيئ عموما.
غير أن الإقرار ومن ثم التنديد بذلك (الحصار المعلوماتي) الجائر وفق شكوى عمرو سالم وزير الاتصالات والتقانة السابق وفداحة تأثيره محليا, لا يبرر مطلقا تلك الردة الداخلية التي انتهجتها مؤسسة الاتصالات –كأداة تنفيذية غالب الأحيان- ضد المحتوى الالكتروني السوري على الشبكة, والتي بدت كجلد للذات, وانتقام منها, متمظهرة بتعميمات فرض الرقابة المسبقة على هذا المنشور الالكتروني, وقرارات الحجب الفعلية على المخدمات المحلية, ومحاصرة مقاهي الانترنت بالشروط والزواجر, والتلكؤ في توفير المتاح من التقنيات الحديثة الميسرة للخدمة.
فقد اتخذت سياسة حجب المواقع الالكترونية من قبل الحكومة السورية منحى تصاعديا منذ أواخر العام الماضي، فشهد مستخدمو الانترنت داخل سوريا حجب العديد من المواقع السورية والعربية والعالمية, من سياسية, واجتماعية، وثقافية, يستوي فيها التدويني الشخصي بالإباحي بالخدمي بالإخباري.
وفي مقدمتها مواقع دولية شهيرة تلقى إقبالا واسعا, خاصة ضمن شرائح الشباب, وعلى رأسها مواقع (فيس بوك)، و(يوتيوب) و(بلوج سبوت)، و(ويكيبيديا),و(أمازون), وغيرها, ليتجاوز عدد هذه المواقع وفق إحصاءات أحد المراكز السورية المختصة حوالي 170 موقعا الكترونيا.
ناهيك عن التحضيرات الموازية الجارية على (قلم) وساق في وزارة الإعلام السورية لإصدار طبعة جديدة من قانون المطبوعات والنشر تأخذ في (عين الاعتبار) تقنين الشهية المفتوحة للسوريين للتعبير الكترونيا!
وبعد كل هذا وذاك كيف, وفي أي منطق أو عرف يستقيم أن تخطط مؤسسة الاتصالات لصرف ما يزيد عن نصف مليار ليرة من أموال دافعي الضرائب السوريين لتحسين سرعة التجول على الانترنت,في وقت تتمادى فيه المؤسسة ذاتها في سياسة حجب المواقع, وتجريم الاتصال عبر الانترنت باستخدام برامج مثل سكايب وغيره, ومصادرة كاميرات الويب, وفكفكة أجهزة الانترنت اللاسلكي و(الوايرلس) من المقاهي؟!
ماذا بقي للسوريين من الفضاء السايبيري والانترنت كي (يتبهنكوا) به, و يجربوا فيه تلك السرعات (الفلكية) -قياسا إلى الموجود اليوم, سيرياتل 1264 ك.ب-ثا, مؤسسة الاتصالات 872 ك.ب-ثا, آية 424 ك.ب-ثا) والتي ستتكرم بها عليهم مؤسسة الاتصالات؟
إذ أن الأمر لو قيض له أن يجري على هذا المنوال في ظل هذه الشيزوفرينيا الإدارية –فيما لو تمّ أصلا- سيكون أشبه بتخصيص حلبة دولية لـ(الفورميلا وان) لسباق (طرطيرات) محلي!
أم أن القيمين على ما بقي من هذا القطاع في البلد يقيسون أنفسهم بالمسطرة الصينية, على اعتبار أن شركة (هاو..هاو..ي) التي أبرم العقد معها تنتمي لذلك البلد, وبالتالي فهم ينظرون ابعد إلى التجربة الصينية مع الانترنت, والتي أثارت سجالا عالميا لم ينقطع, بعد أن تمكنت سلطات بكين من (تنخيخ) وإجبار شركتي (غوغل) و(سيسكو) وهما من كبريات شركات قطاع الانترنت والبرمجة في العالم على تقديم خدماتهما للمليار ونصف رفيق صيني, وفق النسخة (الحمراء) الرسمية من حرية التعبير والنفاذ للمعلومات.
وفي السياق ذاته تعلن وزارة التقانة عن توقيعها مع سلطة الاتصالات القبرصية اتفاقا موازيا لإقامة كبل بحري بين البلدين قادر على مواكبة الطلب المحلي المتنامي للنفاذ إلى شبكة الانترنت العالمية, وليكون –الكبل الجديد- رديفا لكبل قديم ممتد بين البلدين منذ أواخر القرن الماضي يربط بين طرطوس ومنتاسخينس كان معدا أصلا للاتصالات الهاتفية.
هذا, إضافة إلى اتفاقية أخرى بين مؤسستي الاتصالات –بين سورية وقبرص كذلك- لتحسين سرعة الانترنت السوري مرتين ونصف -وصولا في مرحلة لاحقة إلى 10 أضعاف!- عما هو عليه الحال راهنا, بكلفة إجمالية يتوقع لها ان تبلغ عدة ملايين من الدولارات.
ناهيك عن مشاريع ثنائية مماثلة قيد الدراسة مع مصر, والأردن, وتركيا, وإيران, تضاف إليها العروض المحلية من هواتف الجيل الثالث القادرة على تصفح الشبكة العنكبوتية الدولية بسرعات تصل حتى 3.5 جيغابايت-ثا, والسعي المعلن لوزارة الداخلية أيضا وأيضا لتركيب بوابتها الالكترونية الخاصة في إطار أتمتمة السجل المدني السوري, وغيرها الكثير من الأنباء التي يستشف المراقب منها عزما حكوميا على تحسين خدمة الانترنت في البلد, والتي دأب محللون من ذوي الاختصاص على وصف وضعها بالكارثي, مقارنة بالبلدان المجاورة, من حيث اتسامها بعدم الاستقرار, والبطء, وارتفاع سعر خدماتها, جنبا إلى جنب مع تواضع الخبرات المهنية المشرفة على تسيير أمورها, وحل مشاكلها.
لكن الذي يلفت النظر حقا إلى حد يثير العجب, بل الاستفزاز, ضمن هذه المعمعة (الإعلانية) الوردية؛ هو ذلك التخبط الاداري المستفحل, وتضارب المصالح الفاقع بين الأيادي (والأقدام أحيانا) التي تتقاذف هذا القطاع, والذي غالبا ما تسبغ عليه أدبياتنا الخطابية المناسباتية صفة (المستقبلي) و(الحيوي) و(الاستراتيجي).
ففي الوقت الذي تحاول مؤسسة الاتصالات فيه إقناعنا عبر عشاءات العمل وصبحيات التصريحات, وماراثون الاتفاقات والامضاءات الذي تخوضه إقليميا ودوليا, بأنها حسمت أمرها تجاه النهوض بالبنية التحيتة البائسة لخدمة الانترنت في البلد, نجد أطرافا وجهات أخرى في الحكومة السورية وسلطاتها ومراكز قرارها, وكأنها تعمل على المقلب الآخر (بالمعنى العامـّي للمقلب) وفق أجندة خاصة ومستقلة, تناقض إلى مدى بعيد وعلى أكثر من صعيد كلام النهار الإخباري.
وإلا فما هو تبرير العودة مؤخرا إلى ذلك التشدد المفاجئ في التعاطي مع مقاهي الانترنت المحلية, والذي وصل حد تعليق رخص بعضها وإغلاقها في قلب العاصمة دمشق, والتضييق على رواد تلك المقاهي من خلال إلزام أصحاب (الكافيات) الطلب إلى زبائنهم كلما أرادوا الولوج إلى الشبكة الدولية إبراز هوياتهم أو جوازات سفرهم, وإتباع ذلك بتسجيل الأسماء, والأرقام, والمعلومات الشخصية الأخرى, وحفظها في جداول خاصة لإبرازها (عند الطلب)؟!.
في إجراء يبدو وكأن الهدف من وراءه هو الإصرار على مجرد وضع مزيد من الحواجز المادية والنفسية بين المواطن السوري وبين ثمار هذه "الثورة المعلوماتية" -على حد تعبير مدير الاتصالات ذاته- التي يرفل فيها باقي سكان الأرض من غير السوريين, أو أولئك السوريون خارج حدود هذه الأرض!
ففي حين توضع الخطط والاستراتيجيات, وتصرف الأموال والاستثمارات لتوطين التكنولوجيا المتقدمة, وتعريف الناس في أقاصي الريف السوري بالانترنت –حيث لا ماء أحيانا ولا كهرباء- عبر الحافلات والباصات المصممة خصيصا لهذا الغرض, نجد بين ظهرانينا من يسعى جاهدا إلى الإمعان في تغريب السوريين عن أداة بالغة الأهمية والخطورة –باعتراف الخطاب الرسمي الحديث- في تطوير حاضرهم, واستشراف مستقبلهم.
فهل يعقل أن تنصب الحواجز المادية والافتراضية اليوم فيوجه مواطنينا, وان تكون الانترنت في بلادنا (على الهوية)؟
وكأن على السوري الذي يفكر في سبر غور هذا الفضاء المعرفي الممتد, أن يشعر قبل أن تلمس أصابعه لوحة مفاتيح الحاسب أمامه بشعور من يلج أرضا أجنبية, أو يتخطى حدودا محرمة, أو يوشك على تهريب ممنوع من بلد آخر, وهو في وطنه, وبين أهله؟!
بل إن من المؤسف حقا أن المؤسسة العامة للاتصالات تتبنى بالفعل لا بالمجاز مفردة "التهريب" حرفيا, ولا تخجل من إطلاقها على الاتصالات التي قد يجريها شخص ما مع قريب أو صديق أو بعيد, عبر الانترنت, رغم ان أعدادا متزايدة من بلدان العالم باتت اليوم تعتبر هذا النوع من "التهريـبـ-ـصالات" جزء لا يتجزأ من تقنيات التواصل المعاصرة, في حين تركن مؤسستنا المحترمة إلى شن حملات شعواء في طول البلاد وعرضها لمداهمة مقاهي الانترنت, وإغلاق العشرات منها على هذه الخلفية.
محملة المواطن العادي جريرة ترهل تشريعاتها المتخلفة, وتراخي كادرها الإداري عن اقتراح بدائل ومخارج قانونية مدروسة, ترد المليارات الخمسة المزعومة –قيمة المكالمات "المهربة"- وتردع الارتجالات غير المنضبطة, والتي تفتح أمام "لمهربين" الحقيقيين من بعض موظفي المؤسسة نفسها أبوابا في الفساد والرشوة والسرقة الموصوفة, من نمط ذلك المهندس الذي ألقي القبض عليه في الحسكة أوائل العام الحالي بجريمة ابتزاز أصحاب مقاهي الانترنت في منطقته, والطلب إليهم دفع رشاوى بلغت عشرات الآلاف من الليرات, مستخدما سيارة دائرته في (مهماته الرسمية), ومستغلا منصبه في لجنة مخالفات ورخص مقاهي الانترنت في المحافظة.
هذا إن لم نجاوز ذلك الموظف وسرقاته إلى ما هو أعظم شأنا وخطرا مما كان يوما مانشيتات صحفية عريضة لم تجد حتى الجرائد الرسمية بدا من نشره والتعريض به.
وتشترط الإدارة التجارية في المؤسسة العامة للاتصالات السورية على من يرغب في الحصول على (رخصة استثمار مقهى انترنت) الحصول على موافقة وزارة الداخلية، كما أن البندين الرابع والسادس يلزمان موفر الخدمة توفير المعلومات الخاصة بالمتصفحين للسلطات المختصة، تحت طائلة سحب الترخيص ممن يرفض ذلك.
فأين هذه الإجراءات (الرادعة) من تلك الندوات والمحاضرات والمقابلات التي يراق فيها كل ذلك الحبر واللعاب والأموال, في سبيل تمجيد (المعلوماتية), و(خلق مكتبة للدراسات والبحوث على الانترنت), و(إنشاء محركات بحث عربية), و(توسيع قاعدة المحتوى العربي على الشبكة), و...و... وغيرها من التوصيات والأهداف التي تحاول لاهثة اللحاق بنسب النمو الهائلة في استخدام الانترنت التي عرفها القطر منذ العام 2000 والتي تتجاوز الـ(3000%) -ثلاثة آلاف بالمائة-؛ بالرغم من الإحصاءات الدولية في مجال استخدام االشبكة الدولية واستثمارها لاتزال حتى عام على الأقل تضع بلادنا في درجات متدنية جدا من سلم بياناتها عن دول المنطقة من حيث نسب التفاعل مع شبكة الانترنت, والتي يظهر أنها لا تتجاوز لدينا هامش الـ(5%) من إجمالي التعداد العام للسكان, لتستقر سوريا في المرتبة ما قبل الأخيرة, متقدمة دون فخر على العراق, والذي يشهد عمليا احتلالا أجنبيا, وشبه حرب أهليةّ!
وعندما تبدأ مؤسسة الاتصالات بحديثها (الطربي) عن (المال العام) و(القانون), لا يجد المرء بدا من تذكير المؤسسة العتيدة بأحد تعميماتها المطوبة والذي سبق لها أن وزعته على مزودي خدمة الانترنت المحليين برفع سعر الاشتراك في الـ(IP) الذي يتيح امتلاكه استخدام الصوت والصورة في اتصال الانترنت والماسنجر وسواه, من 200 ليرة سورية إلى 4000, أي بزيادة عشرين ضعفا, الأمر الذي هبط بعدد المشتركين في حينه إلى 4.5% فقط مما كان عليه قبل التعميم المذكور, رغم أن النسبة النهائية لحصة الانترنت جملة من أرباح المؤسسة (50 مليار ليرة سورية العام الماضي) لا تتعدى 3%.
علاوة على أن حظر التعامل بنظام (IP) في سورية, واحتكاره من قبل مؤسسة الاتصالات لتمنحه لاحقا للمشتركين فقط؛ هو بحد ذاته إجراء غير قانوني بحسب المواثيق والبروتوكولات الدولية الناظمة لهذا القطاع, إذ أن المؤسسة بإصرارها على هذا الإجراء تحرم باقي مستخدمي الانترنت السوريين من (هويتهم الالكترونية المباشرة) أثناء تواصلهم مع العالم الخارجي, وخاصة في مجال التعاملات الرسمية والمالية, ناهيك عن أن مؤسسة الاتصالات إياها تحصل على هذه الـ(IPـيات) مجانا, على اعتبار أن المصدر الذي يمنحها (RIPE) هو بحد ذاته مؤسسة دولية وإقليمية غير ربحية, في حين تعمد المؤسسة إلى بيعه بنسب ربح باهظة كما هو واضح!
الأمر الذي يعيد إلى الأذهان بعض التفاصيل الحميمة من الحقبة (التاريخية) التي دخلت فيها خدمة الهاتف المحمول إلى البلد, وما واكبها من شعوذات تسعيرية مثيرة للسخرية بقدر ما هي مثيرة للألم.
على أن المرء لا يمكن له أن يتجاهل بحال الحديث عن أن سوريا ظلت ترزح بشكل متقطع -مباشرة أو مواربة- تحت حصار تكنولوجي أعمى من قبل خصومها السياسيين الدوليين, كضغط إضافي يندرج في جملة الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية الممارسة ضدها, الأمر الذي حرمها كدولة من نيل (حقها) الطبيعي في الحصول على تكنولوجيا المعلومات, وحد في المحصلة من مساحة المناورة التقنية التي تتمتع بها بلدان أخرى في الإقليم وخارجه, وبرر بين السطور (الرسمية) جانبا من واقع الخدمة السيئ عموما.
غير أن الإقرار ومن ثم التنديد بذلك (الحصار المعلوماتي) الجائر وفق شكوى عمرو سالم وزير الاتصالات والتقانة السابق وفداحة تأثيره محليا, لا يبرر مطلقا تلك الردة الداخلية التي انتهجتها مؤسسة الاتصالات –كأداة تنفيذية غالب الأحيان- ضد المحتوى الالكتروني السوري على الشبكة, والتي بدت كجلد للذات, وانتقام منها, متمظهرة بتعميمات فرض الرقابة المسبقة على هذا المنشور الالكتروني, وقرارات الحجب الفعلية على المخدمات المحلية, ومحاصرة مقاهي الانترنت بالشروط والزواجر, والتلكؤ في توفير المتاح من التقنيات الحديثة الميسرة للخدمة.
فقد اتخذت سياسة حجب المواقع الالكترونية من قبل الحكومة السورية منحى تصاعديا منذ أواخر العام الماضي، فشهد مستخدمو الانترنت داخل سوريا حجب العديد من المواقع السورية والعربية والعالمية, من سياسية, واجتماعية، وثقافية, يستوي فيها التدويني الشخصي بالإباحي بالخدمي بالإخباري.
وفي مقدمتها مواقع دولية شهيرة تلقى إقبالا واسعا, خاصة ضمن شرائح الشباب, وعلى رأسها مواقع (فيس بوك)، و(يوتيوب) و(بلوج سبوت)، و(ويكيبيديا),و(أمازون), وغيرها, ليتجاوز عدد هذه المواقع وفق إحصاءات أحد المراكز السورية المختصة حوالي 170 موقعا الكترونيا.
ناهيك عن التحضيرات الموازية الجارية على (قلم) وساق في وزارة الإعلام السورية لإصدار طبعة جديدة من قانون المطبوعات والنشر تأخذ في (عين الاعتبار) تقنين الشهية المفتوحة للسوريين للتعبير الكترونيا!
وبعد كل هذا وذاك كيف, وفي أي منطق أو عرف يستقيم أن تخطط مؤسسة الاتصالات لصرف ما يزيد عن نصف مليار ليرة من أموال دافعي الضرائب السوريين لتحسين سرعة التجول على الانترنت,في وقت تتمادى فيه المؤسسة ذاتها في سياسة حجب المواقع, وتجريم الاتصال عبر الانترنت باستخدام برامج مثل سكايب وغيره, ومصادرة كاميرات الويب, وفكفكة أجهزة الانترنت اللاسلكي و(الوايرلس) من المقاهي؟!
ماذا بقي للسوريين من الفضاء السايبيري والانترنت كي (يتبهنكوا) به, و يجربوا فيه تلك السرعات (الفلكية) -قياسا إلى الموجود اليوم, سيرياتل 1264 ك.ب-ثا, مؤسسة الاتصالات 872 ك.ب-ثا, آية 424 ك.ب-ثا) والتي ستتكرم بها عليهم مؤسسة الاتصالات؟
إذ أن الأمر لو قيض له أن يجري على هذا المنوال في ظل هذه الشيزوفرينيا الإدارية –فيما لو تمّ أصلا- سيكون أشبه بتخصيص حلبة دولية لـ(الفورميلا وان) لسباق (طرطيرات) محلي!
أم أن القيمين على ما بقي من هذا القطاع في البلد يقيسون أنفسهم بالمسطرة الصينية, على اعتبار أن شركة (هاو..هاو..ي) التي أبرم العقد معها تنتمي لذلك البلد, وبالتالي فهم ينظرون ابعد إلى التجربة الصينية مع الانترنت, والتي أثارت سجالا عالميا لم ينقطع, بعد أن تمكنت سلطات بكين من (تنخيخ) وإجبار شركتي (غوغل) و(سيسكو) وهما من كبريات شركات قطاع الانترنت والبرمجة في العالم على تقديم خدماتهما للمليار ونصف رفيق صيني, وفق النسخة (الحمراء) الرسمية من حرية التعبير والنفاذ للمعلومات.
حقوق الانسان في سورية, بين (الوزر)... و(الوزارة)
أقل ما يقال عنه انه مثير للاهتمام ذلك الخبر الذي وزعته منذ ايام قليلة وكالة الأنباء السورية الرسمية والذي تحدث عن نيل عدد من ضباط الداخلية السورية شهادات دولية مصدقة, لا في اهتمامات الشرطة الكلاسيكية لدينا من إدارة أمنية, أو تشريعات جنائية, أو علوم أدلة, أو إدارة سجون, وما شابه, وإنما شهادات في مجال حقوق الانسان, لا أقل.
ولا بد أن محرر(سانا) الذي وقعت على عاتقه يومها مهمة تصدير الخبر كان قد فرك عينيه مرتين او ثلاثا مثلما حصل مع كثيرين هنا لدى اطلاعهم أول مرة على فحوى النبأ, خاصة وأن وكالة الأنباء السورية اليتيمة في البلد غير معتادة على التعاطي مع مواد إعلامية تتعلق بهذا الموضوع بالذات, بل لعلها انتهجت ولزمن طويل سياسة تعبوية تطنيشية بامتياز تجاه أحداث كهذه, وعليه فإن عبوره –الخبر- من تحت أنامل (سانا) يضيف إليه -على ما قد يكون فيه أصلا- نكهة خاصة يأمل إعلاميون كثيرون ألا تكون بيضة ديك دهرها مستقبلا.
سبعة ضباط على الأقل إذن في وزارة الدخلية السورية اليوم قاب قوسين أو ادنى من ان يصبحوا مدربين في مجال ثقافة حقوق الانسان, وذلك بشهادة مؤسسة حقوقية سويسرية تسعى عبر مشروع لها مع الوزارة المختصة إلى رفع سوية الوعي بين صفوف ضباط الشرطة السورية فيما يخص هذا الأمر, ناهيك عن خلق كادر تدريبي من بينهم قادر على التفاعل مع شؤون –وشجون- ليس من المبالغة الزعم انها لم تكن تاريخيا جزء أصيلا تماما في ثقافة المؤسسة الأمنية المحلية.
ومما يثير العجب حقا هو ان (تطورات) من هذا القبيل تظل قصية عن أي متابعة جادة, ومعزولة بشكل مرضي عن السياق العام لأحداث يفترض انها تقع في الصميم منها.
فهي بالكاد –هذه التطورات- تلقى أي اهتمام في الاعلام السوري الخاص الذي يظهر كسلا سمجا على هذا الصعيد, في حين يحافظ الرسمي الإعلامي –بشكل متوقع أوتوماتيكيا- على متكـّئه خارج (القصة) برمتها.
ففي الوقت ذاته الذي يخضع فيه (40) مختارون من ضباط الشرطة السورية لدورات خاصة في حقوق الانسان كما سلف؛ تظل دزينة من منظمات هذه الـ(حقوق) ومن بحكمها تنتظر هناك في االعراء منذ الأزل تقريبا للحصول على تراخيص رسمية من الوزارات والجهات الوصائية المعنية لتنتقل بعملها إلى سطح الأرض, على امل ان تتاح لها –ولنا- فرصة ما كي تنعتق من (وضعها) الحالي الشاذ, والذي لم تخرج منه حتى الآن سوى بسجل معفر بالكوارث الأمنية والسياسية والإعلامية, لا بل وقبل هذه وتلك ... المهنية.
وفي الوقت الذي يصخي فيه ذوو الاختصاص والرتب (تحت السقف الوطني) السمع إلى محاضرات تتناول دور الشرطة في تعزيز وحماية حقوق الانسان, والقواعد الدولية لاستخدام القوة والأسلحة النارية في عمل تلك الشرطة, نسمع عن مقتل اثنين من المواطنين السوريين أحدهما مطلوب للضابطة الجمركية بجرم التهريب, فيما الآخر للصدفة (متورط) بنشاطات حقوقية, وذلك على يد عناصر امنية كان بمقدورها بروية ووعي أكبر إلقاء القبض على ذينك الشخصين, باعتبار أنهما كانا أعزلين, وليس في نيتهما -على ما نقل شهود- إبدء أي مقاومة تجاه الدورية إياها, آخذين دوما بعين الاعتبار رغم كل شيء تصريحات تم نقلها عن أحد ذوي القتيلين, وهو حقوقي بدوره, يرفض فيها -فيما يخص هذا التفصيل بالذات- الادعاء بأن عملية القتل تلك جرت بقرار مسبق أومتعمد, خاصة وان النيابة العامة العسكرية اضطرت في النهاية لفتح تحقيق حول الأمر وملابساته.
وفي الوقت الذي تخطط فيه وزارة الداخلية السورية لإرسال مزيد من عناصرها إلى بلدان في الاتحاد الأوربي بغرض تمكينهم من تحصيل مستوى متقدم أكثر في المجال الانساني الحقوقي, وتبدي على لسان مسؤوليها انفتاحها على كافة التجارب والخبرات على هذا الصعيد, لازال محامي حقوق الإنسان السوري أنور البني يقضي منذ نيسان 2007 حكما بالسجن مدة خمسة أعوام, مع دفع غرامة تقارب 2000 دولار أميريكي بتهمة نشر انباء كاذبة , وعضويته في مركز حقوقي غير مرخص, المركز نفسه الذي كان منتظرا منه بشكل او بآخر ان يوفر للمرة الأولى في البلاد أرضية لبرنامج تدريبي في مجال حقوق الإنسان إياه, على أن تأخذ المفوضية الأوروبية على عاتقها في حينه مهمة تمويله وذلك في آذار 2006.
وكل ما سبق مجرد امثلة لا أكثر, ولراغب بالاستفاضة ان يطلع على التقارير المحلية والدولية التي لا توفر تفصيلا بهذا الخصوص وغيره.
ما من شك أن مبادرة كتلك التي قامت بها الداخلية السورية –وإن جاءت متأخرة- تستدعي التشجيع, وأن تبني مسؤولي أمن البلد لثقافة حقوق الانسان وإن بشكل خجول مبدئيا, وإبراز دور الشرطة –ومن ورائها العناصر الأمنية الاخرى- في حماية تلك الحقوق, ومن ضمنها حقوق السجناء والمعتقلين واللاجئين, واحترام المعايير الدولية للتحقيق والاحتجاز, أمر ينطوي على اهمية ومغزى, ولا ينبغي المرور عليه مرور الكرام.
إلا أن بقاء اجتهادات حقوقية من هذا القبيل أسيرة الإهمال الاعلامي –في الجانب التوعوي منه على وجه الخصوص- أو فريسة مانشيتات التابلويد السياسي الاحتكاري على الصفين الموالي والمعارض, لكفيل بان يفرغها من أي مضمون عملاني, وان يجعل منها خطوة في الهواء, وذلك في وقت نحن احوج ما نكون فيه إلى تثميرها, والترويج لها ضمن مؤسساتنا الاجتماعية والمدنية كافة, خاصة وأن الفكرة ذاتها على ما هو مأمول خرجت –وإن بقدر- من حيز المحظور الرسمي, من دون ان يغيب عنا في هذا المقام ان سوريا منضوية بشكل أو بآخر ضمن عدد لا بأس به من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان, الأمر الذي يرتب عليها مسؤوليات وواجبات لا تخفى على أحد كدولة وكمجتمع وكأفراد.
ولا بد أن محرر(سانا) الذي وقعت على عاتقه يومها مهمة تصدير الخبر كان قد فرك عينيه مرتين او ثلاثا مثلما حصل مع كثيرين هنا لدى اطلاعهم أول مرة على فحوى النبأ, خاصة وأن وكالة الأنباء السورية اليتيمة في البلد غير معتادة على التعاطي مع مواد إعلامية تتعلق بهذا الموضوع بالذات, بل لعلها انتهجت ولزمن طويل سياسة تعبوية تطنيشية بامتياز تجاه أحداث كهذه, وعليه فإن عبوره –الخبر- من تحت أنامل (سانا) يضيف إليه -على ما قد يكون فيه أصلا- نكهة خاصة يأمل إعلاميون كثيرون ألا تكون بيضة ديك دهرها مستقبلا.
سبعة ضباط على الأقل إذن في وزارة الدخلية السورية اليوم قاب قوسين أو ادنى من ان يصبحوا مدربين في مجال ثقافة حقوق الانسان, وذلك بشهادة مؤسسة حقوقية سويسرية تسعى عبر مشروع لها مع الوزارة المختصة إلى رفع سوية الوعي بين صفوف ضباط الشرطة السورية فيما يخص هذا الأمر, ناهيك عن خلق كادر تدريبي من بينهم قادر على التفاعل مع شؤون –وشجون- ليس من المبالغة الزعم انها لم تكن تاريخيا جزء أصيلا تماما في ثقافة المؤسسة الأمنية المحلية.
ومما يثير العجب حقا هو ان (تطورات) من هذا القبيل تظل قصية عن أي متابعة جادة, ومعزولة بشكل مرضي عن السياق العام لأحداث يفترض انها تقع في الصميم منها.
فهي بالكاد –هذه التطورات- تلقى أي اهتمام في الاعلام السوري الخاص الذي يظهر كسلا سمجا على هذا الصعيد, في حين يحافظ الرسمي الإعلامي –بشكل متوقع أوتوماتيكيا- على متكـّئه خارج (القصة) برمتها.
ففي الوقت ذاته الذي يخضع فيه (40) مختارون من ضباط الشرطة السورية لدورات خاصة في حقوق الانسان كما سلف؛ تظل دزينة من منظمات هذه الـ(حقوق) ومن بحكمها تنتظر هناك في االعراء منذ الأزل تقريبا للحصول على تراخيص رسمية من الوزارات والجهات الوصائية المعنية لتنتقل بعملها إلى سطح الأرض, على امل ان تتاح لها –ولنا- فرصة ما كي تنعتق من (وضعها) الحالي الشاذ, والذي لم تخرج منه حتى الآن سوى بسجل معفر بالكوارث الأمنية والسياسية والإعلامية, لا بل وقبل هذه وتلك ... المهنية.
وفي الوقت الذي يصخي فيه ذوو الاختصاص والرتب (تحت السقف الوطني) السمع إلى محاضرات تتناول دور الشرطة في تعزيز وحماية حقوق الانسان, والقواعد الدولية لاستخدام القوة والأسلحة النارية في عمل تلك الشرطة, نسمع عن مقتل اثنين من المواطنين السوريين أحدهما مطلوب للضابطة الجمركية بجرم التهريب, فيما الآخر للصدفة (متورط) بنشاطات حقوقية, وذلك على يد عناصر امنية كان بمقدورها بروية ووعي أكبر إلقاء القبض على ذينك الشخصين, باعتبار أنهما كانا أعزلين, وليس في نيتهما -على ما نقل شهود- إبدء أي مقاومة تجاه الدورية إياها, آخذين دوما بعين الاعتبار رغم كل شيء تصريحات تم نقلها عن أحد ذوي القتيلين, وهو حقوقي بدوره, يرفض فيها -فيما يخص هذا التفصيل بالذات- الادعاء بأن عملية القتل تلك جرت بقرار مسبق أومتعمد, خاصة وان النيابة العامة العسكرية اضطرت في النهاية لفتح تحقيق حول الأمر وملابساته.
وفي الوقت الذي تخطط فيه وزارة الداخلية السورية لإرسال مزيد من عناصرها إلى بلدان في الاتحاد الأوربي بغرض تمكينهم من تحصيل مستوى متقدم أكثر في المجال الانساني الحقوقي, وتبدي على لسان مسؤوليها انفتاحها على كافة التجارب والخبرات على هذا الصعيد, لازال محامي حقوق الإنسان السوري أنور البني يقضي منذ نيسان 2007 حكما بالسجن مدة خمسة أعوام, مع دفع غرامة تقارب 2000 دولار أميريكي بتهمة نشر انباء كاذبة , وعضويته في مركز حقوقي غير مرخص, المركز نفسه الذي كان منتظرا منه بشكل او بآخر ان يوفر للمرة الأولى في البلاد أرضية لبرنامج تدريبي في مجال حقوق الإنسان إياه, على أن تأخذ المفوضية الأوروبية على عاتقها في حينه مهمة تمويله وذلك في آذار 2006.
وكل ما سبق مجرد امثلة لا أكثر, ولراغب بالاستفاضة ان يطلع على التقارير المحلية والدولية التي لا توفر تفصيلا بهذا الخصوص وغيره.
ما من شك أن مبادرة كتلك التي قامت بها الداخلية السورية –وإن جاءت متأخرة- تستدعي التشجيع, وأن تبني مسؤولي أمن البلد لثقافة حقوق الانسان وإن بشكل خجول مبدئيا, وإبراز دور الشرطة –ومن ورائها العناصر الأمنية الاخرى- في حماية تلك الحقوق, ومن ضمنها حقوق السجناء والمعتقلين واللاجئين, واحترام المعايير الدولية للتحقيق والاحتجاز, أمر ينطوي على اهمية ومغزى, ولا ينبغي المرور عليه مرور الكرام.
إلا أن بقاء اجتهادات حقوقية من هذا القبيل أسيرة الإهمال الاعلامي –في الجانب التوعوي منه على وجه الخصوص- أو فريسة مانشيتات التابلويد السياسي الاحتكاري على الصفين الموالي والمعارض, لكفيل بان يفرغها من أي مضمون عملاني, وان يجعل منها خطوة في الهواء, وذلك في وقت نحن احوج ما نكون فيه إلى تثميرها, والترويج لها ضمن مؤسساتنا الاجتماعية والمدنية كافة, خاصة وأن الفكرة ذاتها على ما هو مأمول خرجت –وإن بقدر- من حيز المحظور الرسمي, من دون ان يغيب عنا في هذا المقام ان سوريا منضوية بشكل أو بآخر ضمن عدد لا بأس به من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان, الأمر الذي يرتب عليها مسؤوليات وواجبات لا تخفى على أحد كدولة وكمجتمع وكأفراد.
بمناسبة (قَسَمْ) وزارة الكهرباء, مكافحة الفساد بـ(اليمين) لا ... بـ(اليمين)!
لا تحلفو, محلوف عليكن...
لا يتجادل اثنان في أن الكهرباء السورية تعاني الكثير, غير ان أحدا لن يتعرض في هذه العجالة لكـمّ التراجيديا والكوارث الفنية والتقنية والتخطيطية المحيطة بهذا القطاع, إذ سنقفز حالا على سبيل المثال عن كل وساوس الخصخصة عن طريق التسلل التي تحوم حول مشاريع انتاج هذه الطاقة هذه الأيام (راجع تصريحات الوزير المختص بعد مذكرة التفاهم مع شركة الخرافي مؤخرا), كما اننا سنتستنكف عن إرسال شباكنا في محيط معاناة ما يسمى تقليديا بـ(الإخوة المواطنين) وهم يتلقون بصدور وجيوب عارية ما تتحفهم به دوائر الجباية (والاستثمار) في مؤسسة الكهرباء من فواتير باهظة, قد لا يتاح لبعضهم أحيانا حتى أن ينفذها ويدفعها ومن ثم يعترض -حسب المقولة الدارجة- مثل ما وقع مع أحمد. ح 51 عاماً, والذي أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته على كوة الدفع في فرع الشركة في دير الزور(يعني حدن بيئلك جلطوه؟!....إيه جلطوه).
وأيضا وأيضا لن نشهق عجبا أكثر منه إعجابا ونحن نسلم الفرنسيين (شركة جي أف أي على وجه التحديد) براءة اكتشاف ان بلادنا مشموسة ومشمسة أغلب أيام السنة, وبالتالي فإنه من الممكن اليوم (كما كان منذ عقود طويلة سبقت زيارة ساركوزي, بل قبل ولادة هذا الأخير حتى) بناء محطة توليد كهربائية على الطاقة الشمسية في القطر.
والغاية هنا كلها من هذين السطرين هي التعليق على تفريع وتفصيل ليس من المتوقع له ان يثير كبير جلبة, ولا ان (يكهرب) أحدا على المدى االقصير والمتوسط, والتفصيل المذكور وارد في نص المرسوم رقم 18 الصادر مؤخرا, والمتعلق بمعايير كفاءة استهلاك الطاقة للأجهزة الكهربائية.
وتهدف مواد هذا التشريع وفق نص سانا -الذي لا يطاله الباطل عادة- إلى رفع كفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربائية المستخدمة في القطاعات المنزلية والتجارية والخدمية, وذلك بتطبيق معايير كفاءة استهلاك الطاقة على جميع التجهيزات المستخدمة في سورية, إضافة إلى المساهمة في تلبية متطلبات التنمية المستدامة في إطار آلية التنمية النظيفة وتعزيز القدرة التنافسية للأجهزة المنتجة محلياً والأجهزة المستوردة, وتخفيض الآثار السلبية الناتجة عن توليد الطاقة الكهربائية.
أما الأمر الذي يستوقف المتابع فليس في أي شيء مما جاء في الديباجة السابقة, وإنما عمليا فيما سيلحق, حيث من المنتظر بحسب هذا المرسوم, ووفق مادة مخصوصة فيه أن يلزم السيد وزير الكهرباء العاملين المكلفين بتقصي المخالفات, وقبل مباشرة أعمالهم, أن يؤدوا يميناً أمام القاضي البدائي الذي يتبع له مركز عملهم بالنص الآتي:
(( أقسم بالله العظيم, أن أقوم بعملي بأمانة وكتمان تام, وأن أسلك المسلك الذي يحتمه الواجب, وأن أحترم القوانين والأنظمة النافذة وأتقيد بأحكامها في ممارسة مهامي وأعمالي. )). انتهى (علامات الترقيم من عندي)
ويمر قراء كثيرون على هذا البند بالذات مرور الكرام, على اعتبار أن المشرّع الذي خرج علينا بهذه الفكرة بالذات –فكرة اليمين- وفي هذا الموضع بالذات, قصد وفق ما اوصله إليه (اجتهاده) إلى الاسهام بنصيبه في مكافحة الفساد (الكهربائي) في البلد, والحد من التجاوزات المالية ذات الصلة والمستشرية بكثرة أنى وجه المرء بصره, وكبح العدوان المتواصل على المال العام والذي يرتفع (فولتاجه) باطراد في اوساط المتعاطين بهذا الشأن, خاصة منهم اولئك المتسلطين على (جبهات) بعينها في القطاع الصناعي (كامل الدسم), مع قصص في هذا المجال أكثر من ان تحصى او تعد.
غير أن المرء لا يتمالك نفسه –انطلاقا من تلك القصص بالذات- من السؤال هنا تحديدا عن تلك الفئة الكريمة من موظفي وزارة الكهرباء والتي يمكن وصفها بضمير غير قلق على التوالي بـ(المؤمنة) التي .... (لا تعرف الله), هكذا حرفيا!
وفيما إن كان لنا حقا أن نتعشم في أن يردع أمثال هؤلاء من عن إتيان كبائر ما درجوا على اجتراحه لعقود طويلة من فساد وإفساد؛ مجرد قسم مؤلف من سطر ونصف على ورقة A4 تتأرجح فيه الأيدي في الهواء,ويحمل في ذيله ختما رسميا (دنيويا).
هل بلغ المشرع لدينا من العجز في ضبط تفلت فساد قطاعات عريضة في مجتمعه حدا دفعه إلى تلمس (الخلاص) في أمثال هذه الاقتراحات الشفاهية الغيبية الشخصية, بدل سن قوانين مدروسة وصارمة, والخروج بتشريعات وقوانين ذات موضوع ومغزى, يمكن (وفق الأصول التشريعية) إلزام الناس –كل الناس- بها ومؤاخذتهم على مخالفتها قضائيا (وفق الأصول القانونية والجزائية)!
أم ان المطلوب منا هو أن ننتظر ملحقا تشريعيا ما لـ(القسم) إياه يحذر الحانثين به –وفق المنظومة الفكرية التي انطلق منها- من مغبة منقلب افتراضي كمنقلب (الإدعشري) في باب الحارة على سبيل التقريب, والذي شلت -أو احترقت لايهم- يمينه بقدرة قادر بعد أن أقسم يها زورا وبهتانا في إحدى الحلقات الدراماتيكية في المسلسل الشهير؟
أو ربما كان المطلوب هو ان نمد أجل انتظارنا أبعد من ذلك قليلا إلى (يوم الدين) –(قليلا) على اعتبار اننا في آخر الزمان وفق تأكيدات مطبوعات كثيرة في معرض الكتاب الأخير في دمشق- وذلك قبل أن نشفي غليلنا بإقامة الحد على لصوص المال العام, ونشهد على موافاتهم بـ(جزاءهم) وبئس المصير؟
أم لعل الأمر برمته لن يتعدى –بحسب فتاوى نافذة- أن يدفع هؤلاء (المجرمون) كفارة يمين, و(يصوموا) ثلاثة أيام في أسوأ الأحوال, في حال كانوا انفقوا ما سرقوه على (ملذاتهم الشخصية) –بالإذن من علاء الدين الأيوبي- عقابا على كذبهم ونفاقهم, و(كان الله غفورا رحيما)! من المثير حقا تخيل ما يمكن ان يؤول الحال إليه –من دون تصعيدات درامية- فيما لو سعت وزارات ومؤسسات اخرى في (الدولة) إلى اقتباس تجربة وزارة الكهرباء السورية, أواستنساخها ميدانيا, في حقول اجتماعية وخدمية اخرى, كوزارة التعليم مثلا, او الصناعة, أو الاتحاد الرياضي, أو التلفزيون السوري, أو حتى وزارة الثقافة!
فيصير لزاما على سبيل المثال على تلميذ التعليم الأساسي (الحلفان) انه سيدرس وينجح في الإملاء والحساب والتربية القومية, هو والخمسين طليعي المحشورين معه في ذات الصف, رغم أنف سبيس تون وكارتون نت وورك, وعمالة الأطفال ..
والتاجر أنه سيشتري ويبيع و(يربح) بالحلال الزلال رغم القوانين المالية الرجعية (ذات التأثير الرجعي), والتي تضرب دون سابق إنذار, ودوريات التموين (بنت السوق) التي تتغاضى عن دفتر الحسابات الأصلي المخفي في جبّة الحجي..
والصناعي أنه سيبتكر وينافس وينجح, متجاوزا الضرائب الباهظة على المواد الأولية وإغراقات رفاقنا المليار والنصف شغيل في الصين الشعبية (جدا), ناهيك عن مقاصل قوانين المناطق الحرة العربية والإفرنجية التي لا ترحم..
ولاعب المنتخب أنه سيسجل من أرضية زاحفة تعلو العارضة بقليل –التعليق منسوب لوجيه شويكي- بعد خمس دقائق من شلفه في الملعب دون إحماء وبقميص ورشة الدهان التي ستتكفل بمصاريف عرسه بدل راتب الاحتراف الافتراضي في مجاهل إفريقيا السمراء أو أوروربا الشقراء..
والسيناريست أنه سيكتب دراما سورية شامية واقعية تقدمية, من تسعة اجزاء, لا تتعرض لـ(الأصول!) أو (الفروع!), وتحترم الخلوة الشرعية, وجرائم الشرف, وتشدد على (الكسريـّة)* ترويجا لسوق الكندرجية الآفل فلكلوريا...
والمثقف أنه سينتج شعرا ومسرحا وسينما ونقدا يليق بـ(ستاندرات) الدكتورين, الوزير الآغا, والمدير اللو, ناهيك عن الأمينة قصاب حسن, كي يتاح له لاحقا الاستفادة من العطايا والمنح والفضاءات الأصيلة منها والبديلة لكل من وزارة الثقافة, ودار الأوبرا, وعاصمة الثقافة..
على ان بعضهم يظن -وبعض الظن إثم لا كله- أن موضوع اليمين هذا ليس سوى اقتراح غير موفق من قبل مكتب التشغيل الرسمي في سبيل مكافحة بطالة بعض ممن هم في ملاك الأوقاف هذه الأيام وراء باب الاجتهاد المغلق-ـة, بحيث تتشكل منهم للتو لجان متخصصة لتأليف (أيامين) تناسب جميع الأعمار والمهن وشرائح المجتمع السوري (المعاصر), من أجل (اللحاق) بركب (الماضي) المشرق!
وإلا فما هي الفائدة المتوخاة من وراء هذا النكوص المرضي نحو مفاهيم الحلال والحرام على حساب مبادئ الحقوق والواجبات, وإلى متى هذا الاتكال المستفحل على الغيبي الماورائي, على حساب التحليل المنطقي العقلاني, والمعالجة العلمية الموضوعية والقانونية لما يعاني منه مجتمعنا من أدواء ومفاسد.
لم يكفنا (قسم) أبقراط يوما غائلة الممارسات الطبية الشاذة, ولم تحل (الأيامين) المشبعة وعدا ووعيدا دوننا وأن نقع في الحبائل (الشريرة) للمحامين والمهندسين ودكاترة الجامعة والعسكريين.
ولن أستفيض هنا بالسؤال عن فئة من السوريين (الموظفين) في وزارة الكهرباء العتيدة واخواتها, والذين لا ينظرون إلى انفسهم كمنضوين تحت أية ملة بعينها, وفيما إذا كان فرض (أيامين) من هذا القبيل عليهم يخرق إلى حد ما حقوقهم الدستورية –التي يستمد أي قانون قوته منها- في حرية اختيارهم لما يريدون الاعتقاد به أو ما لا يريدون, وفيما إذا كان قسـمٌ من هذا القبيل يعني لهم أي شيء على الاطلاق, ومدى مساهمته في دفعهم او ثنيهم عن تصرف ما, سواء أكانوا من نظيفي الكف أم غير ذلك.
صديق لي لم يبد له رغم كل شيء, أن القانون إياه يحمل كل هذه (المفاعيل) و(الهواجس) على حد تعبيره.
ومع التاكيد على أن (الحرب) على الفساد تكون بـ(يمين) الساعد واليد والعقل, لا (يمين) الغيب والمرسل, فربما كان من الأنجع لي فحسب الاكتفاء مرة اخرى -وكما أفعل عادة- بالانحناء مليا لردة فعل جدتي التي لم تتأخر لحظة واحدة وأنا أتلو عليها نص المرسوم إياه عن التمتمة في مأثرة أخرى من مآثرها المرتجلة ودون ان تتوقف عن تدريج حبات سبحتها بين أصابعها قائلة:
آلو للحرامي حليف....آل: إجاني الفرج!
_________
* حذاء أو (صرماية) عادية يتم كسر (طعج) مؤخرتها بشكل فلكلوري لأسباب غامضة تاريخيا
2008
لا يتجادل اثنان في أن الكهرباء السورية تعاني الكثير, غير ان أحدا لن يتعرض في هذه العجالة لكـمّ التراجيديا والكوارث الفنية والتقنية والتخطيطية المحيطة بهذا القطاع, إذ سنقفز حالا على سبيل المثال عن كل وساوس الخصخصة عن طريق التسلل التي تحوم حول مشاريع انتاج هذه الطاقة هذه الأيام (راجع تصريحات الوزير المختص بعد مذكرة التفاهم مع شركة الخرافي مؤخرا), كما اننا سنتستنكف عن إرسال شباكنا في محيط معاناة ما يسمى تقليديا بـ(الإخوة المواطنين) وهم يتلقون بصدور وجيوب عارية ما تتحفهم به دوائر الجباية (والاستثمار) في مؤسسة الكهرباء من فواتير باهظة, قد لا يتاح لبعضهم أحيانا حتى أن ينفذها ويدفعها ومن ثم يعترض -حسب المقولة الدارجة- مثل ما وقع مع أحمد. ح 51 عاماً, والذي أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته على كوة الدفع في فرع الشركة في دير الزور(يعني حدن بيئلك جلطوه؟!....إيه جلطوه).
وأيضا وأيضا لن نشهق عجبا أكثر منه إعجابا ونحن نسلم الفرنسيين (شركة جي أف أي على وجه التحديد) براءة اكتشاف ان بلادنا مشموسة ومشمسة أغلب أيام السنة, وبالتالي فإنه من الممكن اليوم (كما كان منذ عقود طويلة سبقت زيارة ساركوزي, بل قبل ولادة هذا الأخير حتى) بناء محطة توليد كهربائية على الطاقة الشمسية في القطر.
والغاية هنا كلها من هذين السطرين هي التعليق على تفريع وتفصيل ليس من المتوقع له ان يثير كبير جلبة, ولا ان (يكهرب) أحدا على المدى االقصير والمتوسط, والتفصيل المذكور وارد في نص المرسوم رقم 18 الصادر مؤخرا, والمتعلق بمعايير كفاءة استهلاك الطاقة للأجهزة الكهربائية.
وتهدف مواد هذا التشريع وفق نص سانا -الذي لا يطاله الباطل عادة- إلى رفع كفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربائية المستخدمة في القطاعات المنزلية والتجارية والخدمية, وذلك بتطبيق معايير كفاءة استهلاك الطاقة على جميع التجهيزات المستخدمة في سورية, إضافة إلى المساهمة في تلبية متطلبات التنمية المستدامة في إطار آلية التنمية النظيفة وتعزيز القدرة التنافسية للأجهزة المنتجة محلياً والأجهزة المستوردة, وتخفيض الآثار السلبية الناتجة عن توليد الطاقة الكهربائية.
أما الأمر الذي يستوقف المتابع فليس في أي شيء مما جاء في الديباجة السابقة, وإنما عمليا فيما سيلحق, حيث من المنتظر بحسب هذا المرسوم, ووفق مادة مخصوصة فيه أن يلزم السيد وزير الكهرباء العاملين المكلفين بتقصي المخالفات, وقبل مباشرة أعمالهم, أن يؤدوا يميناً أمام القاضي البدائي الذي يتبع له مركز عملهم بالنص الآتي:
(( أقسم بالله العظيم, أن أقوم بعملي بأمانة وكتمان تام, وأن أسلك المسلك الذي يحتمه الواجب, وأن أحترم القوانين والأنظمة النافذة وأتقيد بأحكامها في ممارسة مهامي وأعمالي. )). انتهى (علامات الترقيم من عندي)
ويمر قراء كثيرون على هذا البند بالذات مرور الكرام, على اعتبار أن المشرّع الذي خرج علينا بهذه الفكرة بالذات –فكرة اليمين- وفي هذا الموضع بالذات, قصد وفق ما اوصله إليه (اجتهاده) إلى الاسهام بنصيبه في مكافحة الفساد (الكهربائي) في البلد, والحد من التجاوزات المالية ذات الصلة والمستشرية بكثرة أنى وجه المرء بصره, وكبح العدوان المتواصل على المال العام والذي يرتفع (فولتاجه) باطراد في اوساط المتعاطين بهذا الشأن, خاصة منهم اولئك المتسلطين على (جبهات) بعينها في القطاع الصناعي (كامل الدسم), مع قصص في هذا المجال أكثر من ان تحصى او تعد.
غير أن المرء لا يتمالك نفسه –انطلاقا من تلك القصص بالذات- من السؤال هنا تحديدا عن تلك الفئة الكريمة من موظفي وزارة الكهرباء والتي يمكن وصفها بضمير غير قلق على التوالي بـ(المؤمنة) التي .... (لا تعرف الله), هكذا حرفيا!
وفيما إن كان لنا حقا أن نتعشم في أن يردع أمثال هؤلاء من عن إتيان كبائر ما درجوا على اجتراحه لعقود طويلة من فساد وإفساد؛ مجرد قسم مؤلف من سطر ونصف على ورقة A4 تتأرجح فيه الأيدي في الهواء,ويحمل في ذيله ختما رسميا (دنيويا).
هل بلغ المشرع لدينا من العجز في ضبط تفلت فساد قطاعات عريضة في مجتمعه حدا دفعه إلى تلمس (الخلاص) في أمثال هذه الاقتراحات الشفاهية الغيبية الشخصية, بدل سن قوانين مدروسة وصارمة, والخروج بتشريعات وقوانين ذات موضوع ومغزى, يمكن (وفق الأصول التشريعية) إلزام الناس –كل الناس- بها ومؤاخذتهم على مخالفتها قضائيا (وفق الأصول القانونية والجزائية)!
أم ان المطلوب منا هو أن ننتظر ملحقا تشريعيا ما لـ(القسم) إياه يحذر الحانثين به –وفق المنظومة الفكرية التي انطلق منها- من مغبة منقلب افتراضي كمنقلب (الإدعشري) في باب الحارة على سبيل التقريب, والذي شلت -أو احترقت لايهم- يمينه بقدرة قادر بعد أن أقسم يها زورا وبهتانا في إحدى الحلقات الدراماتيكية في المسلسل الشهير؟
أو ربما كان المطلوب هو ان نمد أجل انتظارنا أبعد من ذلك قليلا إلى (يوم الدين) –(قليلا) على اعتبار اننا في آخر الزمان وفق تأكيدات مطبوعات كثيرة في معرض الكتاب الأخير في دمشق- وذلك قبل أن نشفي غليلنا بإقامة الحد على لصوص المال العام, ونشهد على موافاتهم بـ(جزاءهم) وبئس المصير؟
أم لعل الأمر برمته لن يتعدى –بحسب فتاوى نافذة- أن يدفع هؤلاء (المجرمون) كفارة يمين, و(يصوموا) ثلاثة أيام في أسوأ الأحوال, في حال كانوا انفقوا ما سرقوه على (ملذاتهم الشخصية) –بالإذن من علاء الدين الأيوبي- عقابا على كذبهم ونفاقهم, و(كان الله غفورا رحيما)! من المثير حقا تخيل ما يمكن ان يؤول الحال إليه –من دون تصعيدات درامية- فيما لو سعت وزارات ومؤسسات اخرى في (الدولة) إلى اقتباس تجربة وزارة الكهرباء السورية, أواستنساخها ميدانيا, في حقول اجتماعية وخدمية اخرى, كوزارة التعليم مثلا, او الصناعة, أو الاتحاد الرياضي, أو التلفزيون السوري, أو حتى وزارة الثقافة!
فيصير لزاما على سبيل المثال على تلميذ التعليم الأساسي (الحلفان) انه سيدرس وينجح في الإملاء والحساب والتربية القومية, هو والخمسين طليعي المحشورين معه في ذات الصف, رغم أنف سبيس تون وكارتون نت وورك, وعمالة الأطفال ..
والتاجر أنه سيشتري ويبيع و(يربح) بالحلال الزلال رغم القوانين المالية الرجعية (ذات التأثير الرجعي), والتي تضرب دون سابق إنذار, ودوريات التموين (بنت السوق) التي تتغاضى عن دفتر الحسابات الأصلي المخفي في جبّة الحجي..
والصناعي أنه سيبتكر وينافس وينجح, متجاوزا الضرائب الباهظة على المواد الأولية وإغراقات رفاقنا المليار والنصف شغيل في الصين الشعبية (جدا), ناهيك عن مقاصل قوانين المناطق الحرة العربية والإفرنجية التي لا ترحم..
ولاعب المنتخب أنه سيسجل من أرضية زاحفة تعلو العارضة بقليل –التعليق منسوب لوجيه شويكي- بعد خمس دقائق من شلفه في الملعب دون إحماء وبقميص ورشة الدهان التي ستتكفل بمصاريف عرسه بدل راتب الاحتراف الافتراضي في مجاهل إفريقيا السمراء أو أوروربا الشقراء..
والسيناريست أنه سيكتب دراما سورية شامية واقعية تقدمية, من تسعة اجزاء, لا تتعرض لـ(الأصول!) أو (الفروع!), وتحترم الخلوة الشرعية, وجرائم الشرف, وتشدد على (الكسريـّة)* ترويجا لسوق الكندرجية الآفل فلكلوريا...
والمثقف أنه سينتج شعرا ومسرحا وسينما ونقدا يليق بـ(ستاندرات) الدكتورين, الوزير الآغا, والمدير اللو, ناهيك عن الأمينة قصاب حسن, كي يتاح له لاحقا الاستفادة من العطايا والمنح والفضاءات الأصيلة منها والبديلة لكل من وزارة الثقافة, ودار الأوبرا, وعاصمة الثقافة..
على ان بعضهم يظن -وبعض الظن إثم لا كله- أن موضوع اليمين هذا ليس سوى اقتراح غير موفق من قبل مكتب التشغيل الرسمي في سبيل مكافحة بطالة بعض ممن هم في ملاك الأوقاف هذه الأيام وراء باب الاجتهاد المغلق-ـة, بحيث تتشكل منهم للتو لجان متخصصة لتأليف (أيامين) تناسب جميع الأعمار والمهن وشرائح المجتمع السوري (المعاصر), من أجل (اللحاق) بركب (الماضي) المشرق!
وإلا فما هي الفائدة المتوخاة من وراء هذا النكوص المرضي نحو مفاهيم الحلال والحرام على حساب مبادئ الحقوق والواجبات, وإلى متى هذا الاتكال المستفحل على الغيبي الماورائي, على حساب التحليل المنطقي العقلاني, والمعالجة العلمية الموضوعية والقانونية لما يعاني منه مجتمعنا من أدواء ومفاسد.
لم يكفنا (قسم) أبقراط يوما غائلة الممارسات الطبية الشاذة, ولم تحل (الأيامين) المشبعة وعدا ووعيدا دوننا وأن نقع في الحبائل (الشريرة) للمحامين والمهندسين ودكاترة الجامعة والعسكريين.
ولن أستفيض هنا بالسؤال عن فئة من السوريين (الموظفين) في وزارة الكهرباء العتيدة واخواتها, والذين لا ينظرون إلى انفسهم كمنضوين تحت أية ملة بعينها, وفيما إذا كان فرض (أيامين) من هذا القبيل عليهم يخرق إلى حد ما حقوقهم الدستورية –التي يستمد أي قانون قوته منها- في حرية اختيارهم لما يريدون الاعتقاد به أو ما لا يريدون, وفيما إذا كان قسـمٌ من هذا القبيل يعني لهم أي شيء على الاطلاق, ومدى مساهمته في دفعهم او ثنيهم عن تصرف ما, سواء أكانوا من نظيفي الكف أم غير ذلك.
صديق لي لم يبد له رغم كل شيء, أن القانون إياه يحمل كل هذه (المفاعيل) و(الهواجس) على حد تعبيره.
ومع التاكيد على أن (الحرب) على الفساد تكون بـ(يمين) الساعد واليد والعقل, لا (يمين) الغيب والمرسل, فربما كان من الأنجع لي فحسب الاكتفاء مرة اخرى -وكما أفعل عادة- بالانحناء مليا لردة فعل جدتي التي لم تتأخر لحظة واحدة وأنا أتلو عليها نص المرسوم إياه عن التمتمة في مأثرة أخرى من مآثرها المرتجلة ودون ان تتوقف عن تدريج حبات سبحتها بين أصابعها قائلة:
آلو للحرامي حليف....آل: إجاني الفرج!
_________
* حذاء أو (صرماية) عادية يتم كسر (طعج) مؤخرتها بشكل فلكلوري لأسباب غامضة تاريخيا
2008
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)