2014-04-07

"الصكّار".. صوت الأبجدية وسوط الجلاد

 
 
 
 
 
"لقد حوربنا في الخط العربي كما حوربنا في النفط". عبارة ظلّ محمد سعيد الصكّار (1934ــ 2014) يرددها حتى رحيله منفياً في باريس الأحد الماضي.
حربه تلك، في جغرافيا تاريخُها مشغول بخيوط الدم، لم تلفت الانتباه؛ رغم أن السلاح الذي استخدم فيها كان أيضاً من ضمن ما يشار إليه اليوم بـ"الأسلحة غير التقليدية"، إلى أن تلقفته يوماً الانتهازية السياسية ممثلة بالنظام العراقي في حينها والذي أراد "الاستثمار" في منجزه الثقافي، ما دفعه إلى حزم محبرته وأقلامه ليخطّ للرحيل لوحةً استغرقه الوصول إلى آخر ضربة ريشة فيها حوالي 35 عاماً.

"شيخ الخطاطين" و"شاعر الحرف" ذو المولد البغدادي والنشأة البصرية والمعاش الباريسي تنبّه باكراً إلى العبث الذي كان بعض المستشرقين المتهورين يزرعون بذوره في أصل من أصول ثقافتنا، وهي اللغة العربية. ومطيتهم إلى ذلك لم تكن سوى حروف هذه اللغة وأبجديتها نفسها.
فبعد اختراع الطباعة صار أحد هموم المستشرقين الوافدين هو تغيير الهيئة الأساسية لتكوين الخط العربي ليناسب "المطبعة"، الاختراع الثورة في حينه. فقد وضعتهم الحروف العربية التي تكتب متصلة أمام تحدٍ كبير بسبب تعدد "أشكال" الحرف الواحد عند الكتابة. لذلك بادروا إلى اعتماد تقنية الدمج بين الأحرف وجعل كل منها "وحدة" منفصلة. بحيث أن كلمة "حامد" مثلاً أصبحت "حا" فيها وحدة (حرفاً طباعياً) منفصلة عن "مد". فأمسى عدد الخانات في الطابعة العربية الأولى التي طبعت (في ألمانيا) كتاب "القانون في الطب" لابن سينا مثلاً، 1600 خانة مصبوبة بالرصاص. وهو رقم هائل مقارنةً بـ 29 حرفاً أبجدياً في العربية، والتي من المفترض أن يقابلها نظرياً حوالي 35 حرفاً طباعياً.

وبالتالي فإنّ نظرية الهولنديين والألمان والفرنسيين (لم يكن ثمة عرب يعملون معهم) جعلت من كلفة الطابعة العربية كابوساً مالياً بعد ان باتت تساوي عشرين ضعف كلفة نظيرتها اللاتينية. فكان الحل المقترح من قبل المستشرقين هو إمّا كتابة العربية بأحرف منفصلة، أو التحول إلى الحرف اللاتيني مباشرة. وهو ما كانت بعض البعثات التبشيرية الأوروبية في آسيا (القرن 18) تقوم به مع اللغات المحلية للشعوب التي تدخل بلادها.

وعى الصكّار هذه المعضلة، ومكث يحاول إيجاد حلٍ لها قرابة أربع سنوات وصل أكثر من مرة في نصفها تقريباً إلى طريق مسدود. إلى أن قرر تغيير منهج البحث في عمله، وبدأ بالتعامل مع الشكل المرسوم للحروف على أساس أنّه عبارة عن "وحدات بصريّة"، ليخرج على العالم لاحقاً بنظريّة "الأبجدية العربية المركّزة". وهو ما سجّله تباعاً كاختراع في أكثر من بلد. وهبط بفضل هذا الكشف عدد الوحدات الطباعية العربية الذي كان بالمئات إلى 22 وحدة بصرية، أي أقلّ حتّى من عدد حروف الهجاء العربية. وهو أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ اللغات في العالم. أي أن تكون الأشكال المكتوبة أقلّ عدداً من الأصوات اللغوية المنطوقة.

انهالت عروض استغلال الابتكار الفريد على رأس الصكّار من أصقاع كثيرة، لكنّه فضّل الاستجابة لطلب عرض جريدة "الثورة" العراقية الذي قدّمه له طارق عزيز (كان صحافياً فيها قبل أن يصبح وزيراً في خارجية صدام حسين). وتم تطبيق نظرية الصكّار لمدة ثلاث سنوات ونصف بنجاح.

وعندما صار أوان بدء التوسّع في تطبيق الاختراع وتصنيعه ـ وفق الاتفاق المبرم ـ فوجئ المثقف العراقي بـ"جمعية الخطاطين العراقيين" وقد أرسلت رسالة إلى الرئيس أحمد حسن البكر تتهم فيها الصكّار بأنّ عمله هو هدم للتراث، وتشويه للقرآن، وإساءة للثقافة العربية، وبأنّ الصكّار نفسه "ماسوني". وهي تِهَم كانت تصل عقوبتها في العراق آنذاك إلى الإعدام. ووصل المطاف بالنظام القائم أن طلب من الصكّار الانضمام لحزب البعث كشرط للانطلاق في المشروع. فكان أن فرّ من بغداد بعد مراقبة مخابراتية لصيقة.

حِبْرُ الصكّار مذّاك بات "أسوداً"، فأعجزه رسمُ "قوس قزح" كما صرّح مرة. لكنّه مع ذلك كان مولعاً بالبدايات: "أحبّ أوائل الأشياء. البناؤون وهم يضعون الطابوق على الطابوق، والأخشاب العذراء بأيدي النجارين". وهو ربما ما جعل من موته اليوم عملية "اختطاف" من مداميك كثيرة تُمَدّ للمستقبل، هنا وهناك، في طول المنطقة العربية وعرضها.

توفي محمد الصكّار مؤلفاً لحوالي 25 كتاب، بين شعر ("أمطار" 1962، و"برتقالة في سورة الماء" 1968) ورواية ("فصول محذوفة من رواية بتول" 2011) ونثر وبحث ودراسة ("الخط العربي للناشئة"). إضافة إلى ما يشبه سيرة ذاتية أصدرها تحت عنوان "أيام عبد الحق البغدادي" 1995.

وبين "العبث" الاستشراقي و"البعث" الاستبدادي، لم يجد بائع الخضار، والمحاسب، وصانع الميداليات، والمدرّس (في حلب ودمشق 1957) والصحفي ("اتحاد الشعب" و"ألف باء") والخطاط والرسام والشاعر والروائي واللاجئ العراقي سوى موظفة هجرة فرنسيّة تبتسم في وجهه وتقول له "إنه فخر لفرنسا أن تكون بيننا" ليحسّ كما قال بـ"كرامته" وقد عادت إليه. وهو الذي هاجر من بلاده حفاظاً على تلك الكرامة (رفض أي دعم مالي من الرئيس السوري شكري القوتلي). يقول في حوارية شعرية قصيرة بعنوان "رغبة":

- أتحب اللون البنيَّ،
أم اللونَ الأزرق؟
فالغرفة نفس الغرفةِ
والأسعار هي الأسعار.
- سيدتي:
لون الغِرْيَنِ في دجلة بنيٌّ
وأنا بنيُّ الأَحزان،
وكذاك الأسطح في باريس،
ولون الخبز الإفرنسي
وكل محيط الشعراء
سيدتي
هل يمكن أن أطلب لوناً أزرق؟
- يمكن!
- الله....
ما أرحب باريس!
 
 
 

ليست هناك تعليقات: