2016-01-07

اللاجئون السوريون في لبنان



Status: Syrian Refugees in Lebanon







حوار أجراه عمر ضاحي  مع خالد الاختيار

صاغه باللغة العربية الفصحى أسامة إسبر




الوضع Status: هل يمكنك أن تقدم لنا لمحة سريعة عن أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان وعن التغيرات التي تحدث في أوضاعهم وعن القوانين التي تتعلق باللاجئين في الفترة الأخيرة وخاصة في الأشهر الستة الأخيرة؟



خ: لا أعرف كم يمكن أن توصل هذه اللمحة فكرتي. إن القسم الأكبر من اللاجئين السوريين موجود في لبنان في هذه الفترة، ولقد أحضر اللاجئون مشاكلهم معهم، وبالإضافة إلى هذه المشاكل اضطروا إلى استيراد كل مشاكل لبنان، وهم عملياً يعانون من عبئين بدلاً من عبء واحد، فهناك عبء التأقلم مع البيئة المحلية هنا، وهذه البيئة غريبة على جزء كبير منهم، وهناك المفاجأة والمشاكل التي حدثت في سوريا بعد أن عسكرة الثورة

لقد مر اللاجئون هنا في مراحل كثيرة. كانت المرحلة الأولى هي مرحلة موقف الحكومة اللبنانية التي فوجئت بوجود لاجئين، فقد سموهم زواراً وضيوفاً وغيرها من التعابير المطاطة التي لا تحمّل الحكومة أعباء قانونية أو أخلاقية، ثم استيقظوا فجأة واكتشفوا أن هناك أزمة، وسموها الأزمة السورية، أو أزمة اللاجئين، ثم بدأت أسئلة من نوع: ماذا نفعل؟ وكانت هناك ردات فعل من المجتمع الأهلي واللبناني أهم بكثير من رد فعل الحكومة اللبنانية، لكن وكما يقول المثل: إن يداً واحدة لا تصفّق، خاصة حين تكون هناك سياسة إنكار للمشكلة بسبب الأوضاع السياسية والترتيبات السياسية بين النظامين، نظام لبنان إذا كانت تصح تسميته نظاماً والنظام في سوريا، مما منع الحكومة اللبنانية من أن تتخذ خطوات حقيقية وتعترف بالمشكلة وأسبابها وتعثر لها على حلول من خلال التعاون مع أطراف داخلية وخارجية، و مع اللاجئين أنفسهم. استغرقت هذه المسألة وقتاً طويلاً إلى أن توافقوا على الاعتراف بأن هناك مشكلة أساسية يجب أن نحلها الآن بمعزل عن علاقتنا مع النظام أو في الحد الأدنى، لا نريد أن نزعجهم كثيراً لكن في الوقت نفسه لا نريد أن نكون مرتهنين ١٠٠٪ لرأي النظام السوري حيال موضوع اللاجئين كونه يعتبرهم فارين من العدالة وإرهابيين وأن مجيئهم مؤقت والوضع في سوريا متحسن ويفضل ألا يكون هناك هذه النسبة الكبيرة كي يظهر أن الأمور هي بخير في سوريا. بعد هذا القصة بدأت الحكومة اللبنانية مؤخراً تناشد أطرافاً دولية وبدأت الوزارات تتحرك بصيغ ما وحدود ما كي تحتوي هذه المشكلة لكن هناك دوماً هذه الصيغة وهي أنه لا قدرة للبنان على تحمل هذا العبء، وآخر ما توصلوا إليه الآن هو قرارهم المباشر وغير المباشر بإغلاق الحدود، ووضعت قوانين واتخذت إجراءات للحد من دخول السوريين إلى لبنان وهذا ما شاهدناه مؤخراً في ظل القوانين التي صدرت في الفترة الأخيرة

لكن الأزمة مستمرة وأعتقد أنها تتفاقم، لأنه كما قلنا: إن مشاكل اللاجئين الخاصة شيء والمشاكل التي واجهتهم في لبنان شيء آخر مختلف. الخلاصة التي يمكن الوصول إليها هي أن اللاجئ الفقير السوري هو الآن في عهدة الفقير اللبناني، الذي ربما كان نازحاً في فترة من الفترات أثناء العدوان الإسرائيلي أو في الحروب السابقة التي واجهها لبنان منذ الحرب الأهلية حتى الآن. إن الناس المحتاجين في لبنان هم من يساعدون السوريين المحتاجين وللأسف ليس هناك أحد يساعد الطرفين

الوضع Status: لقد ذكرت مبادرات المجتمع اللبناني المدني والسوري ومن بين هذه المبادرات هو الموقع الذي تشرف أنت عليه “إحقاق”، هل يمكن أن تشرح لنا كيف تكون الموقع وما هي أهدافه


خ: إن الهدف من وراء الموقع هو الحاجة للمساعدة لدليل كهذا أو لإرشادات وتوضيحات أو تسريبات، فأنت تحاول أن توصل المعلومة القانونية كي يعرف اللاجئ السوري حين يأتي إلى هنا ما المطلوب منه كضيف على دولة أجنبية أولاً وكلاجئ بصفة قانونية، وكلاجئ سوري هنا ما هي حقوقي وواجباتي، كي نكسر الصورة النمطية السائدة التي تروج لها الحكومة اللبنانية وهي أن اللاجئ السوري يحب أن يظل هكذا دون صفة قانونية لكن هذا غير صحيح. إن التسوية التي حاولت الحكومة اللبنانية القيام بها العام الماضي وسمحت بموجبها للاجئين السوريين الذين أوضاعهم غير قانونية أن يحاولوا إصلاح أوضاعهم القانونية، كان حجم إقبال اللاجئين في مراكز الأمن اللبناني كبيراً ومهولاً لدرجة أن مراكز الأمن العام لم تقدر على الاستيعاب، أي أن البنية التحتية للأمن العام اللبناني كانت عاجزة عن استيعاب أولئك اللاجئين الذين يريدون تسوية أوضاعهم القانونية وقوننة وجودهم في لبنان على عكس الصورة النمطية المعممة. بالتالي نحن نحاول أن نلعب دور الوسيط، من خلال الوصول إلى المعلومات لدى وزارة الداخلية وعن طريق المنظمات الأخرى ومراقبتنا على الأرض للحاجات التي يمكن أن يطلبها اللاجئون فيما يتعلق بالأوضاع القانونية، نحاول أن نحصل على هذه الأجوبة ونقدمها للناس بشكل مباشر أو عن طريق الموقع “أونلاين

 إن المجتمع الأهلي في سوريا ولبنان متجه نحو الإغاثة والإسعافات الطبية ومواضيع يعتبرونها حساسة ولكن الوضع القانوني وضع مؤسس لكل شيء يمكن أن تبنيه أنت لاحقاً، عملياً أن تستطيع أن تبني مدرسة ولكن استمرار هذه المدرسة وهذه الطبابة وهذه الإغاثة منوط دوماً بوضعك القانوني، لأن هناك من سيقول لك إن وضعك غير قانوني حين يتعلق الأمر بالإغاثة ويطلب منك أن ترتب وضعك القانوني كي تعمل. نحن نحاول ردم هذه الفجوة رغم أن هذا الجهد من المفترض أن تقوم به الدولة. والمشكلة الثانية هو أنه أنت كمنظمة مدنية سورية موجود هنا الآن غير معترف بك، إن القوانين اللبنانية كي تعترف بالجمعيات يجب أن يكون أربع أخماس المؤسسين لبنانيين كي تقدر على أن تفعل هذا، ونادراً ما تُمنح المنظمات السورية ترخيصاً إذا لم يكن هناك بين أعضائها أشخاص مزدوجو الجنسية، أي معهم جنسية لبنانية، وهذا غير متوفر لدى الجميع ولذلك تبقى المسائل محدودة

 ويقتضي الوضع القانوني أن يكون لديك حوار مع الحكومة ولكن هذا للأسف مفقود أيضاً، وهناك منظمات تبذل جهوداً منذ فترة طويلة ولكن كما قلنا بحسب طاقتها، وهذه طاقة محدودة جداً في مكان محدود جداً، وحجم التغيير محدود ولا يوجد تراكم. والمشكلة أن الجميع يعملون في نفس الحقل وفي نفس المكان مما يؤدي إلى مضاعفة الجهود حيث لا ضرورة لمضاعفتها، لذلك حين تعمل في مجال موضوع آخر فإن اللاجئين بحاجة إلى ذلك، إن الأمور نفسها تقوم بها  منظمات مختلفة على نحو مكرر وهذا لا يؤدي إلى تراكم خبرة أو تراكم مطالب لدى الحكومة اللبنانية قد يحدث بعد فترة ضغط من أجلها كي تُنفذ. وأيضاً نحن هنا في المجتمع المدني اللبناني كمنظمات سورية ورثنا الأمراض الموجودة في المجتمع المدني اللبناني، فلبنان أكثر البلدان العربية حباً بتأسيس المنظمات غير الحكومية، فهناك ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية لبنانية لكن لا تأثير لها على الأرض، والأمر نفسه فيما يتعلق بالوضع السوري، فهناك الكثير من النوايا الحسنة، وهناك الكثير من الكلام المعسول والمساعدات في أمكنة محددة كما ذكرت لكن هذا كله لا يرقى إلى مستوى عمل جماعي كإنشاء شبكة أو تبادل الخبرات، وللأسف نحن عالقون بوحل العمل المدني اللبناني الذي يعتمد على البيانات، وللأسف هناك غياب للتنسيق ونشتغل كلنا على ردات الفعل. لا نريد أن نغبن حق أحد، فهناك أسماء كبيرة تعمل ولكن أمراضها هي أمراض لبنانية محلية وسنرى إن كنا سنقدر معاً على معالجة المشاكل المطروحة


الوضع Status: شكراً لك. بالطبع المشاكل كبيرة جداً ومعقدة. هناك أسئلة كثير أحب أن أطرحها عليك ونأمل أن يتم هذا في لقاء آخر في المستقبل.


April 5 2015


أذيعت ونشرت على الوضع Status
للاستماع على Soundcloud


2016-01-03

Syria “Training” Republic.. workshops on building a civil society in exile




The establishment of the first known civil association in Damascus dates back to 1880, and much water has passed under the bridge since then. The current Syrian authorities, upon taking power around four decades ago, quickly worked to empty Syrian civil society of any meaning and subject it to the long arm of the security bodies, or contain it by establishing affiliated institutions dressed up as civil groups, known as GNGOs. Meanwhile, the activities of more than 80 percent of authorized Syrian organizations and associations are restricted to charitable work (compared to 53 percent in Lebanon).

With the upswing in popular protests beginning in 2011, voluntary civil associations sprang into existence, trying diligently to bridge the gap generated by the government’s blockade of their work and the interruption in basic services. They were active in nursing, sanitation campaigns, relief, and media services. The activists quickly became a preferred target of the oppressive authorities, and were later targeted by the violations of extremists classified as anti-regime. Some estimates put the number of Syrian civil organizations at around 2,000, both inside the country and abroad, but they exhibit low levels of efficiency and expertise; they lack clear administrative organizational structures and also compete for resources.

Moreover, everyone continues to suffer as Syria’s nascent civil society moves from the era of government-imposed weakness to one of militarization, caused by the revolution. It has been a painful jump and the impact of the shock remains visible for everyone to see. This has required “training” activities, represented mainly by the many workshops that are announced, seemingly around the clock. These workshops are trying to compensate for the lack of expertise, develop individual skills and create new, institutionalized structures.

Lebanon is one of the countries that has hosted a large number of such training activities, especially as the UNHCR updates on a monthly basis the numbers of refugees registered with the agency (currently at 832,000), while independent or conflicting numbers, all taken together, put the total number at around 1.5 million people.

However, many questions are being asked today about the efficiency of these training activities and the strategies of the groups organizing them. This came in for particular criticism by Akram, one of the many Syrians who have taken part in a number of training workshops. “About the only benefit we get from the workshops we take part in is networking,” he says. “I meet other Syrians and we have been able to form relationships that later lead us to joint activities that have little to do with the goals of the training session that brought us together.” The 30-something Akram, who finished university studies and found himself in prison for anti-regime activities, doesn’t hide his annoyance with “the lack of any organizing strategy for these training activities.” “The working projects that were suggested turned into individual projects,” he says, concluding: “It seemed like there’s no need for these workshops, since no one is left in Syria.

The activists who do remain there are now unable to move around. Where were all these training activities during the first two years, when there was still room for civil work?” Jean Corse, a Lebanese trainer and the director of the International Center for Organization Development (ICOD), has a different opinion when it comes to the usefulness of training, although he agrees with Akram about the lack of strategy and coordination. “Yes, things are always changing in Syria,” Corse says. “But our response as a civil society organization should take this into account, and we should be dynamic. What we need to do, when we’re talking about transferring skills, is to undertake a contextual analysis upon which we build our  response. Our goal is to develop individual capacities so that these people can carry out this analysis, and not just offer direct assistance. Capacity building is a developmental goal, and not a purely relief-related activity.” As for the lack of coordination among training institutions.

  Corse acknowledges that when he used to work as an international relief coordinator, there was practically “no coordination,” before adding that “the poor coordination applies to other sectors when it comes to the situation in Syria.” “This is one of the problems that we’ve suffered from in other countries as well. There are sessions that are repeated, and no oversight. We’re nowhere near the required level of integration, or where we should be when it comes to reducing the gap between the reality and our objectives. If some parties exploit these sessions, we don’t recognize them, and most of the people we work with know this.” For Akram, another problematic issue lies in the readymade models that some rich countries try to pass off on Syrian trainers. He cites the example of distributing food parcels in some parts of Syria, containing large quantities of rice. It appeared that this was based on a training model taken literally from the international relief efforts after the tsunami of 2005.

Corse disagrees with this, saying, “We don’t want to work according to pre-conceived agendas or programs, whether from the west or the east.” “Even when it comes to benefiting from other lessons, such as the Lebanese case, for example, we should pay attention to the fact that the local context should have the highest priority” he says. “A change in the data requires us to change the nature of the response. We always need experts from the region and the only expert in Syria is the Syrian people. Naturally, Syrians should examine other experiences and form their own opinion. What we’re doing is empowering people from the country with the skills needed to perform the tasks, and not undertake these tasks on their behalf.”

Akram insists that spending an informal evening with friends who are serious about their work can take the place of a training workshop costing thousands of dollars in a Lebanese hotel. However, Corse states firmly that, based on his experience, the trainings do have long-term development dimensions, and that the objectives of institutions committed to this approach aren’t just about trying to bring Syrians to Lebanon. “But since we can’t be present in Syria, our focus is to train Syrian trainers who can carry out these humanitarian missions themselves in their own areas,” he says.

Published in Peace Building - UNDP

2015-04-28

علاء رشيدي.. اقتحام هادئ لكواليس الثورة




"اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد" مجموعة قصصية للكاتب السوري الشاب علاء رشيدي صدرت حديثاً عن دار "أطلس". 

مجموعة لا يبدو أنّ كاتبها كان مفتوناً لدى عمله عليها بإعادة اختراع عجلة الكتابة، أو حتى مجرد تجريب قوالبها الأكثر تداولاً. عوضاً عن ذلك يدخل رشيدي في نسق حكائي يترك له حرية انتقاء الزي السردي الذي يريد أن يظهر، أو يتنكّر، به.

هناك راو مراقب ورزين للحكاية، وهناك الشخصية التي تحكي قصتها بنفسها وكأنها لا تثق بأحد آخر لأداء هذه المهمة. حوارات مسهبة على الـ"سكايب"، ورسائل بريد إلكتروني، وربما فصول متوالية لقصة ممسرحة. قد يُستدرج القارئ إلى هيولى أحلام قلقة وهلوسات سائلة، ليجد نفسه في الصفحة التالية وهو يطالع فهرساً (حرفياً) لأحداث القصة اللاحقة وكأنه تبويب تقرير أكاديمي. والمحكية لغة للحكاية أيضاً إلى جانب الفصحى.

قوالب وتقنيات متعددة بتعدد شخوص الأحداث المروية التي يتورط الكاتب في توثيق مساراتها وأهوائها، أدبياً هذه المرة، إنّما من دون أن تفقد للحظة ارتباطها العضوي بما يُحكى، حقيقة، على الأرض السورية، وعنها. لنلج مع الكاتب بسلاسة أقبية الحراك الشعبي في البلاد، ونحلّق فوق أسطحه التي ستنهار "سلميّتها" في المستقبل الذي يبدأ مباشرةً بعد طي الغلاف الأخير للكتاب.

اقتحام هادئ لكواليس "الثورة" عبر ثماني قصص طويلة، يبدو وكأنّه يحدث اعتباطاً، دون قصدية مبيّتة، من خلال لغة وصفية متقنة، ترتكز على تفاصيل قد تكون متخيّلة تماماً في تتابعها وفضاءات حدوثها، غير أنّها تلمس في الذاكرة الجمعية المحلية خلايا حنينٍ ما زال غضّاً على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.

يكتب رشيدي عن جثث بلا هويات تتوافد إلى منزل فرضت "قواعد اللعبة" على أهله أن يخصّصوا إحدى غرفه لتكون مشرحة مرتجلة، تستريح فيها الأجساد الهامدة ريثما يتم نقلها إلى غرفة أخرى تستحيل بدورها، بين عشية مظاهرة وضحاها، إلى ورشة "روتينية" لخياطة الأكفان، وبحضور ثلاثة أطفال يعتادون هذا الـ"ديكور" الطارئ الرهيب الذي لا يعرف البالغون إلى متى سيستمر.

وهنا لا يجد رشيدي حرجاً من تناول أُناس يستقبلون مصائرهم الجديدة كما يستقبلون بالخطأ مشروباً ساخناً لم يطلبوه من النادل الجديد:

"توقعنا في ذلك اليوم عدداً أكبر من الجثث المجهولة، وحضّرتُ في ذلك النهار ثلاثة أو أربعة أكفان. مساءً، حين لم يصلنا إلا الجثة رقم 15، لم نكن نعرف ما يجري حقيقة في المدينة" (حكاية فريق الموتى).

أمّا في "أسماء مستعارة للمغامرة، أسماء مستعارة للحنين" فتبدو جميع الشخصيات، التي تتفاعل مع بعضها بعضاً عبر البريد الإلكتروني، مربوطة بخيط استعادي، لا يشد إلى الوراء بقدر ما يستدعي قراءة أخرى لما كان ومضى، وكأننا بالكاتب يحاول أن يطلعنا على "مواهبنا" الاستشرافية التي التبست علينا دهراً، وفقدنا النسق المنطقي للاستدلال بها في حينه؛ أو لعله يضيء لقارئه الزمن "المضارع" الذي ليس في النهاية سوى البرزخ الذي تلتقي فيه لحظتا تحقّقِ النبوءة وانقضائها: 

"قامت الثورة وأنا شغّلت هالكاميرا، بس أُصبت بصدمة. لأنّو حتّى وقت بْصوّر وفاة شهيد عم يلفظ أنفاسو الأخيرة؛ ما بحس حالي عم صوّر شي جديد. بحس وكأنّو عم صوّر أشياء كنت إحلم فيها من زمان، من قبل ما يموت الشهيد".

يتقمّص رشيدي دواخل سكّان قصصه بحساسية "إجرائية" بالغة، وكأنه ينقل عن "موديل" واقف أمامه، أو هو مرّ منذ برهة وجيزة قربه؛ مثل ذلك التفصيل الدقيق المتمثل بإيراد أخطاء "زنجار" (أحد شخوص القصة السابقة) في الإملاء كما هي، وهي الصحفية السويدية التي تتخفّى وراء اسم مستعار، وتحاول كتابة رسائلها إلى أصدقائها السوريين في الداخل بالعربية التي ما زالت في طور تعلّمها.

بيد أنّ تقدير هذه الحساسية "اللغوية" بالذات، إلى جانب استخدام العامية في بعض النصوص، يشوّش عليها أحياناً وقوع الكاتب الشاب في بعض الهنات اللغوية، إملاءً ونحواً، في النصوص المعتمِدة على الفصحى، ما ينغّص إلى حد ما استمتاع القارئ وتركيزه على هذه الميزة بالذات، خاصة عندما يتمدد السرد، وتبدو الجمل بحاجة إلى من يضع لها نقطة على السطر.

على أنّ رشيدي لا يقف عند التوثيق الرومنطيقي لـ"ثورة" كان قد حسم أمر انحيازه لها باكراً في سطور نصوصه الأولى؛ بل يفصح بأمانة عن مطامح وتوقعات "ثوّاره" أنفسهم، ويأخذ حديثَ الانتفاضة السورية إلى مستويات يتم تجاهلها، سهواً أو عمداً، من قبل كتّاب آخرين في الحراك. إذ تصرّح مثلاً إحدى شخصياته بالقول: 

"إنّ ما يحدث في سوريا، وخصوصاً في باب النهر، ليس ثورة، إن لم تحرّر المثليين والمرأة. إن لم يتغير القانون الذي يعاقبهم على رغبات الجسد".

"اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد" (منحة "الصندوق العربي للثقافة والفنون"، 2012) مغامرة في الكتابة، ومغامرة في استكشاف دهاليز الحراك الشعبي المنفلت في البلاد، وبرهان جديد على أنّ "الإبداع" الفني المنبثق عنه، والذي بدأت بواكيره في الخروج إلى النور مؤخراً، يملك حساً نقدياً اجتماعياً عالياً، ومكاشفةً لا تكترث بالحسابات السياسية المبتذلة. 

وهو أمر يفتقر إليه دون شك "إبداع" الطرف الآخر، الذي سيبدو بالمقارنة محافظاً، مطموس الملامح بالمانشيتات، والخطابيات المائعة، ومتمترساً وراء لغة إعلانيّة لا تخاطب في الجسد سوى الأدرينالين، ولا في الروح سوى ثقبها العدمي الأسود.

ومن هنا يلتف الكاتب بمهارة على الإنشائيات الإخبارية والتحليلية ليضع القارئ على الكلمة التي كانت في البدء: "تهلّ الخفة على أعضائها كشلال، وتنسى الوجود، كأنّها تتحرر من ثقل الماضي. وفي الوقت ذاته، من قلق المصير في المستقبل. وفقط حين يغيب هذا المستقبل، تتوهم جمانة أنها قادرة على الطيران". (الضحية تنتصر بالبراءة).



2015-04-15

سمير الصايغ.. كلّما اتسع "الخط" ضاقت العبارة


نقف أمام لوحات سمير الصايغ الحروفية في "غاليري أجيال" البيروتي، ونشرع بطريقة آلية في ممارسة ما نعتقد أنه فعل ضروري لتذوقها، أي القراءة. إعجابنا بالشكل لا ينقذنا سريعاً من الوقوع في "فخ" ما أُسقط في وعينا عبر زمن مديد أنّه أساسي للاستمتاع بلوحة خط عربي. فلا مندوحة، بحسب تلك النظرية، عن فهم الكلمة المرسومة، أو إحالتها إلى مرجعيتها المقدسة، أو الشعرية، أو حتّى حكمتها المنطوقة، حيث النص سيد، والخط خادم.

ولمن قرر الاستكانة إلى هذه الخلاصة؛ لا بأس من أن يفوّت على نفسه فرصة الذهاب إلى معرض "ألِف بحروف كثيرة" (يستمر حتى 28 حزيران/ يونيو)، الذي إن كان يحاول شيئاً ما هنا، فهو ذلك العمل الدؤوب والمتواصل على تخليص هذا الحرف من تلك القراءة.
38 محاولة (عدد لوحات المعرض) لترسيخ طلاق قائم بين كلمات أضاعت معانيها لكثرة التداول والتكرار اللَغوي، وبين حروف باتت تلبسها تلك الكلمات كثياب مستعملة منذ أمد. في سبيل إتاحة فرصة للعين كي تلتقط شيئاً آخر غير المعنى، وتضيء في الوعي مساحات بصرية للتشكيل ردِمتْ بفعل الاستخدام النمطي للخط.

يقوم معرض سمير الصايغ (1945) في كثير من مرتكزاته المعرفية على مقولة إن الحرف العربي جاء لاحقاً على الصوت اللُغوي، ولم يأت في غاياته الأولى بقصد الإفهام والتبيين، بقدر ما كان فعلاً تزيينياً، وإنشاءً بصرياً محضاً، سعى للاحتفاء بالنص السماعي "المقدس" منذ أن خُطّت المصاحف الأولى. أي أنّ الحرف أضاف إلى النص الملفوظ، وجاء بكينونته التشكيلية المستقلة ليلتحم إرادياً بالمنطوق الشفاهي، ليجعل له أبعاداً ملموسة فخمة، ووعاء منظوراً، وفق رؤية تمجيدية فنية وجمالية.

فالسطر سطرٌ، لأنه مسطورٌ، لا لأنه مجرد مناخ لناقة اللغة السارحة. والجمع بين كتل الكلمات المرسومة، مبني على علاقة تتال، وتتابع، وانفكاك، بين وحدات "حروفية" تأتلف وتتكون بشكل حرّ، لا لضرورة أن تُكتب، أو تُقرأ.

إشكالية يعانِدُها كثيرون، حتى من بين أولئك الذين ألِفوا على نحو ما "خطّ" صايغ في العمل، والذي لا يريد للناظر أن يرى سطوحاً ملساء ببُعدين أو ثلاثة، كواجهة لنص. لكن مع مرورنا المرة تلو الأخرى أمام اللوحات، ومع بعض المران الروحي، تبدأ الحروف في فرض شخصيتها التجريدية على العين: "الفاء" تابوت مع شاهدة مستديرة محلّقة، وزاوية بيضاء، وليس في "النعش" والـ"تابوت" "فاء"، و"التاء" مربوطة بأضلع مرفوعة على أكتاف صندوق مذهب، وليس في الصندوق "تاء".

أكريليك على قماش، 150 × 100 سم

الحرف، في عرف المحاضر في فنون العمارة والتصميم (الجامعة الأميركية في بيروت 1993-2007) فرس أصيلة بذاتها، لا مطيّة طيّعة، فحسب، للغة. يلوي خطامها الكاتب أو القارئ وفق ما يشتهيان. وعليه يأخذ الفنان على عاتقه مهمة إعادة الحصان إلى بريته الأولى، ويحتفي بغجريته المنفلتة من مهماز السائس الذي قصّ شعره، وقصّر رسنه، وأطال ركوبه.


والصايغ إذ يستعيد الالتماعة الأولى للحرف، وينفخ في جمرتها التي صار لها من العمر ألف عام؛ يحثنا من باب سرّي على معاودة اكتشاف القراءة ذاتها، عبر استنطاق الخط الطولي المستقيم، الألف، بأكثر مما قد تمنحه النظرة العارضة من انطباع المحدودية، أو الالتزام والتأطير. فالألف تنحني، ويلتوي خصرها، وتخرج من عموديتها، غير الشعرية، لتنحني معها القراءة، نحو أبعاد في المعنى ما زالت عذراء.

الخط ليس فعلاً مبسطاً للمباشرة، هدفه التيسير والشرح، بل هو كمون تجريدي في وحدته الأساس (النقطة المربعة) حيث تتبدى جذور مغامرة صايغ الحروفية أمامنا وهو يحدثنا عن مغامرة أكبر بدأت في ستينات القرن الآفل، مع "الحداثة" التي أراد رفعها وصحبه الأوائل (أدونيس، وأبي شقرا، والخال، والماغوط، وغيرهم) كبيرق، فإذا بها جلموداً مقدوداً من صوان، أردتها "ردّة" الحرب الأهلية، ورجعية أغلب من خاضها (من منطلقات "تقدمية") إلى قعر الوادي العربي المقفر.

فلم يتبق لنا سوى أنصاف الجمل: نصف مراجعة للتراث، ونصف استشراف للحداثة، ونصف أنسنة، ونصف مدنية، ولكن، اسبارطية كاملة. وما المزاج السياسي والثقافي "التعبوي" اليوم؛ سوى توأم متأخر عن شقيقه "الستيني"، مع انتفاضة غالبية "الشعب"، وخمود غالبية "النخبة".
إذ يرى الصايغ أنّ الكثرة الكاثرة من التجارب الفنية التي نادت بالعودة إلى "التراث"، كانت مجرد صدى للتطلعات السياسية وقتها، اتصالاً وانفصالاً في آن معاً: مع الهوية، وضد التبعية، مع التقدم، وضد الاستعمار. وما اقترحته الأحزاب من العشرينات إلى الأربعينات في السياسة، كان نفسه الذي تردَّد في الفن والثقافة عموماً.

إذ أنّ "النضال الحروفي" للناقد العتيق (في "مواقف"، و"لسان الحال"، و"فنون عربية"، وغيرها) لا يقف عند حدود لوحة الخط، بل يتجاوزها إلى الماورائي السياسي والأيديولجي الذي حرك لزمن طويل أقلام وريش "الخطاطين" الذين ساروا، بقصد أو عن غير قصد، في سيله الترويجي الجارف، والتي كانت إحدى موجاتها العارمة مكرسة على امتداد "رقعة" الإمبراطورية العثمانية، التي "نجحت" في تخريج "صُنّاع"، و"حرفيين"، أكثر مما خرّجت من "فنانين"، بما تنطوي عليه الكلمة من مضامين الإبداع، والإقدام، والخروج على الأطر المرسومة بمراسيم لم تشرع حينها سوى للانحطاط الثقافي في أواخر عهدها الزائل.

ولا يخفي صاحب "الفن الإسلامي: قراءة تأملية في خصائصه وفلسفته الجمالية" (1988)، و"الفن التشكيلي المعاصر في سوريا" (1998) تبرّمه من "أتقياء" التيار الحروفي الذين قنعوا من محيط الخط العربي باغتراف على السطح، وزهدوا في كنوزه التي لا ينالها إلا غواص صبور. فنادرون هم من اتصلوا بابن مقله، وياقوت، وابن البواب، وقره حصاري، والواسطي، وبهزاد. ومن فعل منهم ذلك، فتلمذة على يد كاندينسكي، وبول كليه، وماتيس، الذين قطعوا مسافات طويلة إلى دمشق ليتعلموا، فيما كانت الشام نفسها على مرمى ريش وأقلام أولئك الخطاطين العرب. ولهذا لم يكن غريباً أن يتحول الخط العربي، بسذاجة، من تعبير عن الهوية الحضارية إبان الاستقلال؛ إلى رمز أصولي باهت اليوم، بعد انقلاب الساسة، وتقلّب السياسة.

"المعلّم" الذي ابتعد عن اللوحة لزمن، يعود اليوم بديوان شعر كأنما أملي عليه (بعد "مقام القوس وأحوال السهم" 1980، و"مذكّرات الحروف" 2003)، وهو الشاعر الذي توقف عن الكتابة لنستعيده بيننا اليوم رساماً خطاطاً. ويحمل الديوان الجديد اسم المعرض نفسه "ألف بحروف كثيرة" (دار كاليغراف - بيروت).




2014-10-20

فيلم "بلدنا الرهيب": سفر خروج "المثقف".. إلى "الثورة"






ليست رحلة يسيرة تلك التي يقترحها علينا الفيلم الوثائقي السوري "بلدنا الرهيب"، للمخرجين محمد علي أتاسي وزياد حمصي. فالشريط الذي قدّم في عرض أول مؤخراً في بيروت، يتعرّض لجزء من مسيرة الكاتب السوري المعارض ياسين حاج صالح، الذي يقرّر مغادرة الغوطة الشرقية الخارجة عن سيطرة قوات النظام القمعي، متوجهاً نحو مدينته الأم، الرقّة، والتي سرعان ما سيكتشف، استحالة البقاء فيها، بعد أن عاثت فيها المليشيات الإسلامية المتطرفة قطعاً للأرزاق والأعناق.

يوثّق المخرجُ الشاب، حمصي، الرحلة التي قد تتخذ في أي لحظة منعطفاً يهدد حياة الجميع. ليعبر مع حاج صالح هضاباً وفيافٍ نحو الشمال، حيث يدخل المخرج الثاني، أتاسي، على خط العمل، في وقت يقرّر حاج صالح مغادرة البلاد نهائياً إلى تركيا.

يبدأ الفيلم بسلسلة لقطات مؤلمة للدمار الخرافي الذي آلت إليه مناطق شاسعة من البلاد بسبب الحرب الدائرة، قبل أن نجد أنفسنا داخل المنزل المتواضع الذي كان يعيش فيه الكاتب المعروف مع زوجته (سميرة الخليل) في الريف الدمشقي، حيث تبدأ قصة الشريط. 

ينتاب المرء للوهلة الأولى إحساس مشوِشٌ بأنه بصدد مقابلة تلفزيونية، وأنّ الكيمياء المهنية بين المصور الشاب وحاج صالح ليست في أفضل أحوالها، وذلك فيما يحاول حمصي تقديم "الحكيم" لجمهور فيلمه عبر أسئلة تعريفية واستيضاحية.

على أنّ هذا المأخذ الأولي، سرعان ما يتوارى وراء جهد حمصي في التقديم السلس للبيئة "الثورية"غير المستقرّة، بين عسكرة وحملات تطوعية، والتي يتحرك حاج صالح في إطارها.  إنّما مع بروز عثرات المنهجية السينمائية التي اعتمدت من قبل واضع السيناريو، أتاسي، لتقديم ثيمة العمل ككل، وهي دور المثقف في مفصل تاريخي راديكالي من حياة المجتمع الذي ينتمي إليه، مجسَداً بالحرب الأهلية، ومن قبلها الثورة، لا أقل. وهي معضلة لا يُحسد أحدٌ على التنطح لها. 

فالتحدي الماثل أمام وثقائي يلاحق شخصية مثل حاج صالح، هو وضع استراتيجية للتعامل مع مثقف كبير ملمّ بـ"لعبة" الكاميرا وأحابيلها، سواء أنْ انخرط فيها أم لا. وهنا نلمس منذ البدايات انتصاراً للبطل على الإخراج، لتمكّن الأول من فرض تقنية الروي الخارجي لنصوص وضعها ونقّحها وتلاها هو نفسه، بعيداً عن منسوب التلقائية الذي كان يتوقعه كثير من الجمهور أن يأتي أعلى مما كان، أو مما هو موجود في كتابات المثقف المتاحة هنا وهناك أصلاً.

ملاحظات أخرى تشكك في وجود سيناريو واضح لدى أتاسي، تتمثل في المشهدية المتواضعة التي 
يقترحها علينا لأحداث لن تتكرر في حياة حاج صالح الذي أمضى جلّ عمره إمّا بين جدران سجون الطاغية الأب، أو وراء حواجز السلطة الأمنية التي منعته لأعوام من السفر. وهاهو الآن يغادر سوريا، أمام الكاميرا، ويحلّق في طائرة، ويركب "مترو"، للمرة الأولى، فيما لا نرى في العدسة المرافقة له "سينما" تليق بتلك اللحظات.

بيد أنّ الفيلم ينعش فينا، في أماكن أخرى، نزعتنا المستترة أحياناً نحو تفكيك رمزية مشهدية تبدو وكأنّها وحدها الشاهد على عفوية مستحقّة في الشريط. 

فنرى في إحدى اللقطات المشادّة الكلامية التي احتجّ فيها صاحب المطعم الحلبي في تركيا على اعتراض حاج صالح على فاتورة طعامه. وقبلها مشهد حملة التنظيف التطوعية (الفاشلة) في دوما "المحرّرة"، بسبب تلهّي الناس بالكاميرا وفق تعليق حاج صالح، وما رافقها من تحفّظ أحد وجوه المجتمع المحلّي على خروج سافرات في الشارع، رزان زيتونة وسميرة الخليل. (كلتاهما ستختطفا لاحقاً على يد ميليشيا إسلامية مجهولة)

إذ يصعب على المتفرج أن يتجاهل تلك الفجوة بين المثقف ومحيطه، في اللقطتين الأخيرتين، واللتين تنتهيا بـ"استسلام" المثقف (حاج صالح) ومغادرة الموقعين، دوما والمطعم، دون مزيد نقاش. 

وتعبير "استسلام" هنا مقتبس عن فتاة ظهرت في الفيلم، واستخدمته لوصف قرار حاج صالح بالخروج من سوريا إلى اسطنبول، ليأتي تبرير الأخير بالقول:"ولكنني لست سياسياً، ولا عسكرياً، ولاحقوقياً". مفترضاً أن لهؤلاء وحدهم دور في "الداخل"، ومناقضاً ذاته في لقطة أخرى يقول فيها: "أحسّ أني لا أفهم خارج سوريا. كنت أفهم في سوريا". فهل المشكلة حقاً في المكان نفسه؟ وأين هو "التجريد" الفكري الذي يعيننا على الفهم، خاصّة وأن التعليق يأتي على لسان من يُقدّم عادة بوصفه "مفكراً" سورياً، ويُلصق به بغير رضى منه، لقب "حكيم الثورة"؟


 من جهة أخرى، تبدو المعالجة الدرامية للخطّين المتوازيين في مسيرة جيلين من المثقفين، حاج صالح وحمصي، التي يقول تقديم الفيلم إنّه يتطرق إلى إشكاليّاتها؛ ملتبسةً بدورها ضمناً، ويحددها فقط دخول أتاسي إلى الرقّة، وتوليه زمام التصوير بدلاً عن حمصي، والتحوّل المفاجئ للمخرج الشاب، إلى شخصية مشاركة في الفيلم، من دون حامل بصري ممهد لإسهام هذه الشخصية المستجدّة، عندما كان لا يزال في الغوطة مثلاً.

بل وسرعان ما يغيب حمصي عن العدسة لاضطراره إلى العودة من حيث أتى، حيث تتشكّل كلّ دراماه الشخصية المواكبة لتصوير الشريط، من اختفاء أحد أقاربه، واختطافه هو شخصياً من قبل ميليشيا "الدولة الإسلامية"، ومن دون وجود كاميرا مرافقة توثّق تطورات هذه الأحداث الهامّة، ليظهر، فجأة مرّة أخرى، لمجرد أن يتلو شهادته، وهي على أهميّتها لا تختلف "سينمائياً" عمّا تعودنا رؤيته في شهادات آخرين على "يوتيوب".

على أنّ حمصي لا يخفي في السياق ولعه "المبدأي" ببطل فيلمه، ليصبح الشريط برمّته مُنتجاً لمخرِجَين تربطهما علاقة سابقة ما بشخصيتهما الأساس، متناوبين عليها بين صاحب ومريد، آخذين في الاعتبار "الرفاقية" التي جمعت يوماً أتاسي بحاج صالح. لينحو الشريط إلى تكريس مشهدية تطويبية لما هو ناجز أصلاً، أكثر من اهتمامه بطرح أسئلة أعمق وشائكة حول علاقة النخبة المثقّفة بمحيطها الاجتماعي. وليكون الفيلم شريطاً إضافياً على رفّ ما يسمى بسينما الـ"هاغيوغرافي" (سِير القديسين)، مقابل سينما الـ"بيوغرافي"، والتي تحاول غالباً مقاربة حيوات أناس من سلالة المشاة على الأرض.

ويتصادف في هذا السياق أن تقع عين المرء على مقابلة فلمية قصيرة أجرتها مجموعة "أبو نضارة" مع حاج صالح في وقت أسبق، وعنونتها بـ"المثقف وشبيحته"، والتي يقرّ فيها حاج صالح، ضاحكاً، بوجود هؤلاء فعلاً.

بقي حاج صالح متوارياً في العاصمة قرابة العامين ونصف العام، وللعواصم دائماً حسابات أخرى في هذا السياق تتكشّف خصوصيتها لدى الانتقال خارج سواترها المدينية، حيث لا "عاصم" من جلافة التناقضات الثقافية وإقصائيّتها في ظرف متطرف كالحرب الأهلية. لتنحسر قدرة المثقف "الغرامشي" على الصمود من أشهر هناك، إلى أسابيع وأيّام خارجها. 

فما إن يضع المحلّل النخبوي أول إصبع على المعطى الاجتماعي المستجد بعد "ثورة" فاجئته ضد نظام يعتقد أنّه يعرفه؛ حتى يباغته "نظام" جديد في مسقط رأسه، ويعجز هناك عن الصمود، أو الأخذ بيد من حوله نحو بوصلة ما.

نظامٌ طارئ آخر لم يعدّ له أي عدّة، ولا يجدّ بُداً من الدعاء عليه تهكماً تارةً، أو وصفه بالـ"غول" طوراً آخر، في استعارة لتعابير "العوام" في حكايا الجنيّات. ليصبح "داعش" أسطورة بفضلنا، كما، بفضلنا، هو المثقف "مؤسطر".



يصنّف أتاسي فيلمه بأنّه ينتمي إلى "سينما الطوارئ". على أنّ هذا التبويب لا يعدو كونه نحتاً متعجّلاً، والتفافاً على تصنيف موجود أصلاً باسم "التقرير الإخباري العاجل". ويحمل في طيّاته تبريراً للعثرات "السينمائية" التي سيقع فيها صانع أفلام مثقفٌ إبّان محاولته منافسة البث المباشر للمجريات "الوثائقية". وهذا ما يبدو جلياً في الفقر السينمائي البصري بعد دخول الشمال السوري، وعجز المخرج سوى عن تصوير علم واحد لتنظيم "الدولة الإسلامية"، مع أنّ الأخير سيستهلك لاحقاً جُلّ النقاش الدائر في الفيلم.

لا يجب، في حال من الأحوال، أن تقودنا الخيارات الإخراجية في "بلدنا الرهيب" (الجائزة الكبرى في "مهرجان مرسيليا الدولي" 2014) إلى محاكمة شخصيّته الرئيسية كما ظهرت أمامنا بمعزل عن باقي انتاجها الغزير السابق واللاحق على الثورة في  سوريا. بل قد تتجلى بركة الفيلم الجديد في إثارة كل هذه الأسئلة بالذات.

علّنا نصل يوماً إلى خلاصة "رهيبة" بدورها، تقول: "نعم، لقد فاتنا نحن المثقفين أن نكون من طينة هؤلاء الناس، ولكن دعونا نصنع شيئاً آخر من كل هذا التراب".




نشر معظمها في العربي الجديد


2014-05-19

ذكرى رياض الصالح الحسين.. ثورة وكأس شاي

 
 
 
 
ما هي فرص أن تصاب بالصمم عام 1967، لا بعد أن تسمع البلاغ رقم 66 من رئيس البلاد القادم معلناً سقوط الجولان بيد العدو قبل 48 ساعة من حدوث ذلك على الأرض؛ إنّما إثر عملية جراحية في الكليتين؟ بل ما هو احتمال أن تجهض روحك بعد مخاض 9 أشهر بعيداً عن حراب البنادق الوالغة في حوض "حماة" الأحمر، لمجرد أن قلبك استنكف فجأة عن بث مزيد من الدم بعد استقالة كليتيك إيّاهما من جسدك، وفي المستشفى نفسه؟

سيكون اسمك عندها رياض الصالح الحسين، وسيكون عمرك 28 عاماً. كلّ عمرك. وستدرك باكراً أنّ الشعراء لا يحتاجون إلى قلوب، القلوب هي من بحاجة إلى الشعراء.
 
"يركض في عينيه كوكب مذبوح
وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
ومحيط من العتمة الطبقية
في عينيه - أيضاً - 
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد".
 
خفقت "دورته الدمويّة" للمرة الأولى في درعا، ولم يكن لاسم المدينة في عام 1954 بعد خرائط مفصّلة في العيون على "غوغل مابس"، ولم تكن شرايين قمحها قد حُزمت لـ"الخراب" القادم.
"أنيروا لنا الشوارع، أطلقوا الحقول كي تركض وراء الماء الذي جفاها، وقبل أي شيء آخر؛ هل في مصانعنا الوطنية كمّادة تعيد لصق أظافر صبياننا المشلوعة ثانية على صورة العائلة؟".
لو كان الصالح الحسين على رأس عمله الصحفي في 2011 لكان هذا هو فحوى الرسالة الهاتفيّة التي سيتلقاها في جريدته من أهله في درعا البلد. ودرعا المحطّة كانت لتقول له:" إنّ حسام، ومحمود، وأيهم، ومنذر، ورائد*، كانوا مثلك عندما قلت:
 
"لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لاثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة".
 
أستاذ رياض، مَنْ كنتَ بانتظارها، تحاول منذ بضع ساعات تخطي حواجز الأمن السياسي كي تتحدث إليك. هل يمكنك شراء جوّال حديث لنرسل لك ببعض الصور كي تراها؟".

نعم، قبل عشرين شتاء، كان أحدهم يلتقط صورة له، لا يظهر فيها الشخص الذي يشير إليه بسبابته.
 
"مساءً جاء الرجال متعبين من المرعى
مساءً جاءت النساء متعبات من الحقول
للرجال قلوب موشكة على السقوط
وللنساء عيون موشكة على البكاء
في المساء جاؤوا ورقصوا حتى الصباح
الجرح صار أغنية
والتعب مزماراً
غير أن رجلاً ما
ظلَّ جالسًا في الزاوية البعيدة
البندقيَّة بين يديه كأفعى
...والحياة في عينيه زمن من فخَّار
الرجل الذي ينظر بصمت
لا يبدو أنَّهُ يشاهد التلفزيون
ولا يبدو أنَّهُ يحلم
ولا يبدو نائمًاً
...اللئيم
ما الذي يفكِّر فيه؟"
 
بسط الشاعر ذراعيه وطار إلى "مارع". أصابعه أطول من الريش الذي غطّى كليتيه.
" قصفَ الطيران الحربي التابع للنظام بالبراميل المتفجرة مدرستين في مدينة مارع بريف حلب، مما أسفر عن جرح عدد من الأطفال".
 
"ومن كأس شاي وسيجارة تبدأ الثورة العالمية
أو تبدأ الأمنيات الكثيرات
يبدأ الخطباء خطاباتهم
والجنود رصاصاتهم
ثمَّ أفرغ من الحزن
أقذفه تحت قبَّعة الجنرال
وأركض في مقتل لا يحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي
ومقتنع باضطهادي
وفي زمن لا يحدُّ أرى من أحبُّ على شاطئ
تستريح من اليأس
تسألني عن مكان لذيذ بلا شرطة
نتبادل فيه الأناشيد والقبلات
أجيب: هو البحر
قالت هو البحر. قالت هو البحر
وابتسمتْ".
 
اكتملت قصائد رياض الصالح الحسين قبل أن ينتهي كلام نبوءته القادمة:
 
"يا سوريا الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سوريا التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سوريا القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء".
--- 
* حسام عياش ومحمود جوابرة وأيهم الحريري ومنذر المسالمة ورائد الأكراد، هم الشهداء الخمسة الأوائل في الثورة السورية من مدينة درعا.