نقف أمام لوحات سمير الصايغ الحروفية في "غاليري أجيال" البيروتي، ونشرع بطريقة آلية في ممارسة ما نعتقد أنه فعل ضروري لتذوقها، أي القراءة. إعجابنا بالشكل لا ينقذنا سريعاً من الوقوع في "فخ" ما أُسقط في وعينا عبر زمن مديد أنّه أساسي للاستمتاع بلوحة خط عربي. فلا مندوحة، بحسب تلك النظرية، عن فهم الكلمة المرسومة، أو إحالتها إلى مرجعيتها المقدسة، أو الشعرية، أو حتّى حكمتها المنطوقة، حيث النص سيد، والخط خادم.
ولمن قرر الاستكانة إلى هذه الخلاصة؛ لا بأس من أن يفوّت على نفسه فرصة الذهاب إلى معرض "ألِف بحروف كثيرة" (يستمر حتى 28 حزيران/ يونيو)، الذي إن كان يحاول شيئاً ما هنا، فهو ذلك العمل الدؤوب والمتواصل على تخليص هذا الحرف من تلك القراءة.
38 محاولة (عدد لوحات المعرض) لترسيخ طلاق قائم بين كلمات أضاعت معانيها لكثرة التداول والتكرار اللَغوي، وبين حروف باتت تلبسها تلك الكلمات كثياب مستعملة منذ أمد. في سبيل إتاحة فرصة للعين كي تلتقط شيئاً آخر غير المعنى، وتضيء في الوعي مساحات بصرية للتشكيل ردِمتْ بفعل الاستخدام النمطي للخط.
يقوم معرض سمير الصايغ (1945) في كثير من مرتكزاته المعرفية على مقولة إن الحرف العربي جاء لاحقاً على الصوت اللُغوي، ولم يأت في غاياته الأولى بقصد الإفهام والتبيين، بقدر ما كان فعلاً تزيينياً، وإنشاءً بصرياً محضاً، سعى للاحتفاء بالنص السماعي "المقدس" منذ أن خُطّت المصاحف الأولى. أي أنّ الحرف أضاف إلى النص الملفوظ، وجاء بكينونته التشكيلية المستقلة ليلتحم إرادياً بالمنطوق الشفاهي، ليجعل له أبعاداً ملموسة فخمة، ووعاء منظوراً، وفق رؤية تمجيدية فنية وجمالية.
فالسطر سطرٌ، لأنه مسطورٌ، لا لأنه مجرد مناخ لناقة اللغة السارحة. والجمع بين كتل الكلمات المرسومة، مبني على علاقة تتال، وتتابع، وانفكاك، بين وحدات "حروفية" تأتلف وتتكون بشكل حرّ، لا لضرورة أن تُكتب، أو تُقرأ.
إشكالية يعانِدُها كثيرون، حتى من بين أولئك الذين ألِفوا على نحو ما "خطّ" صايغ في العمل، والذي لا يريد للناظر أن يرى سطوحاً ملساء ببُعدين أو ثلاثة، كواجهة لنص. لكن مع مرورنا المرة تلو الأخرى أمام اللوحات، ومع بعض المران الروحي، تبدأ الحروف في فرض شخصيتها التجريدية على العين: "الفاء" تابوت مع شاهدة مستديرة محلّقة، وزاوية بيضاء، وليس في "النعش" والـ"تابوت" "فاء"، و"التاء" مربوطة بأضلع مرفوعة على أكتاف صندوق مذهب، وليس في الصندوق "تاء".
|
الحرف، في عرف المحاضر في فنون العمارة والتصميم (الجامعة الأميركية في بيروت 1993-2007) فرس أصيلة بذاتها، لا مطيّة طيّعة، فحسب، للغة. يلوي خطامها الكاتب أو القارئ وفق ما يشتهيان. وعليه يأخذ الفنان على عاتقه مهمة إعادة الحصان إلى بريته الأولى، ويحتفي بغجريته المنفلتة من مهماز السائس الذي قصّ شعره، وقصّر رسنه، وأطال ركوبه.
والصايغ إذ يستعيد الالتماعة الأولى للحرف، وينفخ في جمرتها التي صار لها من العمر ألف عام؛ يحثنا من باب سرّي على معاودة اكتشاف القراءة ذاتها، عبر استنطاق الخط الطولي المستقيم، الألف، بأكثر مما قد تمنحه النظرة العارضة من انطباع المحدودية، أو الالتزام والتأطير. فالألف تنحني، ويلتوي خصرها، وتخرج من عموديتها، غير الشعرية، لتنحني معها القراءة، نحو أبعاد في المعنى ما زالت عذراء.
الخط ليس فعلاً مبسطاً للمباشرة، هدفه التيسير والشرح، بل هو كمون تجريدي في وحدته الأساس (النقطة المربعة) حيث تتبدى جذور مغامرة صايغ الحروفية أمامنا وهو يحدثنا عن مغامرة أكبر بدأت في ستينات القرن الآفل، مع "الحداثة" التي أراد رفعها وصحبه الأوائل (أدونيس، وأبي شقرا، والخال، والماغوط، وغيرهم) كبيرق، فإذا بها جلموداً مقدوداً من صوان، أردتها "ردّة" الحرب الأهلية، ورجعية أغلب من خاضها (من منطلقات "تقدمية") إلى قعر الوادي العربي المقفر.
فلم يتبق لنا سوى أنصاف الجمل: نصف مراجعة للتراث، ونصف استشراف للحداثة، ونصف أنسنة، ونصف مدنية، ولكن، اسبارطية كاملة. وما المزاج السياسي والثقافي "التعبوي" اليوم؛ سوى توأم متأخر عن شقيقه "الستيني"، مع انتفاضة غالبية "الشعب"، وخمود غالبية "النخبة".
إذ يرى الصايغ أنّ الكثرة الكاثرة من التجارب الفنية التي نادت بالعودة إلى "التراث"، كانت مجرد صدى للتطلعات السياسية وقتها، اتصالاً وانفصالاً في آن معاً: مع الهوية، وضد التبعية، مع التقدم، وضد الاستعمار. وما اقترحته الأحزاب من العشرينات إلى الأربعينات في السياسة، كان نفسه الذي تردَّد في الفن والثقافة عموماً.
إذ أنّ "النضال الحروفي" للناقد العتيق (في "مواقف"، و"لسان الحال"، و"فنون عربية"، وغيرها) لا يقف عند حدود لوحة الخط، بل يتجاوزها إلى الماورائي السياسي والأيديولجي الذي حرك لزمن طويل أقلام وريش "الخطاطين" الذين ساروا، بقصد أو عن غير قصد، في سيله الترويجي الجارف، والتي كانت إحدى موجاتها العارمة مكرسة على امتداد "رقعة" الإمبراطورية العثمانية، التي "نجحت" في تخريج "صُنّاع"، و"حرفيين"، أكثر مما خرّجت من "فنانين"، بما تنطوي عليه الكلمة من مضامين الإبداع، والإقدام، والخروج على الأطر المرسومة بمراسيم لم تشرع حينها سوى للانحطاط الثقافي في أواخر عهدها الزائل.
ولا يخفي صاحب "الفن الإسلامي: قراءة تأملية في خصائصه وفلسفته الجمالية" (1988)، و"الفن التشكيلي المعاصر في سوريا" (1998) تبرّمه من "أتقياء" التيار الحروفي الذين قنعوا من محيط الخط العربي باغتراف على السطح، وزهدوا في كنوزه التي لا ينالها إلا غواص صبور. فنادرون هم من اتصلوا بابن مقله، وياقوت، وابن البواب، وقره حصاري، والواسطي، وبهزاد. ومن فعل منهم ذلك، فتلمذة على يد كاندينسكي، وبول كليه، وماتيس، الذين قطعوا مسافات طويلة إلى دمشق ليتعلموا، فيما كانت الشام نفسها على مرمى ريش وأقلام أولئك الخطاطين العرب. ولهذا لم يكن غريباً أن يتحول الخط العربي، بسذاجة، من تعبير عن الهوية الحضارية إبان الاستقلال؛ إلى رمز أصولي باهت اليوم، بعد انقلاب الساسة، وتقلّب السياسة.
"المعلّم" الذي ابتعد عن اللوحة لزمن، يعود اليوم بديوان شعر كأنما أملي عليه (بعد "مقام القوس وأحوال السهم" 1980، و"مذكّرات الحروف" 2003)، وهو الشاعر الذي توقف عن الكتابة لنستعيده بيننا اليوم رساماً خطاطاً. ويحمل الديوان الجديد اسم المعرض نفسه "ألف بحروف كثيرة" (دار كاليغراف - بيروت).
نشرت في العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق