2014-05-19

ذكرى رياض الصالح الحسين.. ثورة وكأس شاي

 
 
 
 
ما هي فرص أن تصاب بالصمم عام 1967، لا بعد أن تسمع البلاغ رقم 66 من رئيس البلاد القادم معلناً سقوط الجولان بيد العدو قبل 48 ساعة من حدوث ذلك على الأرض؛ إنّما إثر عملية جراحية في الكليتين؟ بل ما هو احتمال أن تجهض روحك بعد مخاض 9 أشهر بعيداً عن حراب البنادق الوالغة في حوض "حماة" الأحمر، لمجرد أن قلبك استنكف فجأة عن بث مزيد من الدم بعد استقالة كليتيك إيّاهما من جسدك، وفي المستشفى نفسه؟

سيكون اسمك عندها رياض الصالح الحسين، وسيكون عمرك 28 عاماً. كلّ عمرك. وستدرك باكراً أنّ الشعراء لا يحتاجون إلى قلوب، القلوب هي من بحاجة إلى الشعراء.
 
"يركض في عينيه كوكب مذبوح
وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
ومحيط من العتمة الطبقية
في عينيه - أيضاً - 
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد".
 
خفقت "دورته الدمويّة" للمرة الأولى في درعا، ولم يكن لاسم المدينة في عام 1954 بعد خرائط مفصّلة في العيون على "غوغل مابس"، ولم تكن شرايين قمحها قد حُزمت لـ"الخراب" القادم.
"أنيروا لنا الشوارع، أطلقوا الحقول كي تركض وراء الماء الذي جفاها، وقبل أي شيء آخر؛ هل في مصانعنا الوطنية كمّادة تعيد لصق أظافر صبياننا المشلوعة ثانية على صورة العائلة؟".
لو كان الصالح الحسين على رأس عمله الصحفي في 2011 لكان هذا هو فحوى الرسالة الهاتفيّة التي سيتلقاها في جريدته من أهله في درعا البلد. ودرعا المحطّة كانت لتقول له:" إنّ حسام، ومحمود، وأيهم، ومنذر، ورائد*، كانوا مثلك عندما قلت:
 
"لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لاثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة".
 
أستاذ رياض، مَنْ كنتَ بانتظارها، تحاول منذ بضع ساعات تخطي حواجز الأمن السياسي كي تتحدث إليك. هل يمكنك شراء جوّال حديث لنرسل لك ببعض الصور كي تراها؟".

نعم، قبل عشرين شتاء، كان أحدهم يلتقط صورة له، لا يظهر فيها الشخص الذي يشير إليه بسبابته.
 
"مساءً جاء الرجال متعبين من المرعى
مساءً جاءت النساء متعبات من الحقول
للرجال قلوب موشكة على السقوط
وللنساء عيون موشكة على البكاء
في المساء جاؤوا ورقصوا حتى الصباح
الجرح صار أغنية
والتعب مزماراً
غير أن رجلاً ما
ظلَّ جالسًا في الزاوية البعيدة
البندقيَّة بين يديه كأفعى
...والحياة في عينيه زمن من فخَّار
الرجل الذي ينظر بصمت
لا يبدو أنَّهُ يشاهد التلفزيون
ولا يبدو أنَّهُ يحلم
ولا يبدو نائمًاً
...اللئيم
ما الذي يفكِّر فيه؟"
 
بسط الشاعر ذراعيه وطار إلى "مارع". أصابعه أطول من الريش الذي غطّى كليتيه.
" قصفَ الطيران الحربي التابع للنظام بالبراميل المتفجرة مدرستين في مدينة مارع بريف حلب، مما أسفر عن جرح عدد من الأطفال".
 
"ومن كأس شاي وسيجارة تبدأ الثورة العالمية
أو تبدأ الأمنيات الكثيرات
يبدأ الخطباء خطاباتهم
والجنود رصاصاتهم
ثمَّ أفرغ من الحزن
أقذفه تحت قبَّعة الجنرال
وأركض في مقتل لا يحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي
ومقتنع باضطهادي
وفي زمن لا يحدُّ أرى من أحبُّ على شاطئ
تستريح من اليأس
تسألني عن مكان لذيذ بلا شرطة
نتبادل فيه الأناشيد والقبلات
أجيب: هو البحر
قالت هو البحر. قالت هو البحر
وابتسمتْ".
 
اكتملت قصائد رياض الصالح الحسين قبل أن ينتهي كلام نبوءته القادمة:
 
"يا سوريا الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سوريا التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سوريا القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء".
--- 
* حسام عياش ومحمود جوابرة وأيهم الحريري ومنذر المسالمة ورائد الأكراد، هم الشهداء الخمسة الأوائل في الثورة السورية من مدينة درعا.
 
 

ليست هناك تعليقات: