SHOUT".. Dutch movie about the Syrian Golan Heights"
الـمعانـاة الإنسـانيـّة أولا، ومن ثم السياسـة
لم يعد "وادي الصراخ" الذي يفصل بين الأرض المحررة وتلك المحتلة من “الجولان” السوري اسما غريبا على الأسماع في الفترة الأخيرة. وباتت مكابدات الأهالي المنقطعين عن ذويهم خلف الأسلاك الشائكة وحقول الألغام ودوريات جيش الاحتلال "الإسرائيلي” تجد طريقها إلى وسائل الإعلام وشاشات التلفزة والسينما.
ومؤخرا، استوقفت آلام “الجولانيين” في غربتهم القسرية تلك والمبثوثة عبر الحناجر ومكبرات الصوت على ضفتي الوطن مخرجتين هولنديتين لمدة عام تقريبا في "الشرق الأوسط"، حيث وجدت كل من "سابين لوبه باكر"، و"استر غولد" نفسيهما تخوضان غمار مقاربة سينمائية تسجيلية لتلك المعاناة التي تعود إلى أربعة عقود، بميزة مستحقة هذه المرة، كونهما تمكنتا من دخول القرى السورية المحتلة، وتصوير مشاهد حية عن أحوال السوريين اليوم تحت الاحتلال. الأمر الذي يجهل كثير من السوريين تفاصيله، نظرا لاستحالة انتقال أي مخرج أو إعلامي سوري إلى الطرف المحتل في ظل حالة الحرب القائمة رسميا حتى الساعة بين الطرفين.
الفيلم الهولندي الذي لم يكن إلا ليحمل اسم "إصرخ" افتتح في أول عرض دولي له الدورة الثالثة لتظاهرة "أيام سينما الواقع – دوكس بوكس" في سورية العام الماضي، متناولا يوميات طلبة جولانيين تركوا أهلهم في قرية "مجدل شمس" المحتلة بعد بلوغهم الثامنة عشرة، ليلتحقوا بـ"جامعة دمشق" في الوطن الأم.
للحديث عن "إصرخ" الذي شهدت صالتا عرضه في العاصمة دمشق آذار الماضي إقبالا جماهيريا عريضا، كان اللقاء التالي مع "سابين لوبه باكر"، إحدى مخرجتي الفيلم.
بداية، لماذا تختار مخرجة أوروبية “الجولان” تحديدا موضوعا لفيلمها الأول؟
من المفترض أنه تكـّون لدي إجابة قصيرة وواضحة الآن، لكنني دائما أجد صعوبة في الرد على عن هذا السؤال لسبب ما.
لقد سبق لي وعشت في سورية، وأحببت هذا البلد، ورغبتي في عمل فيلم عن موضوع “الجولان” عائد لكون الموضوع مثيرا للاهتمام حقا باعتقادي. والإثارة تأتي في المقام الأول من أن المكان هنا بشكل عام يجبرك على اختبار مشاعرك حياله طوال الوقت، فهو تارة بالغ الجمال، وتارة مليء بمظاهر القبح. إنه يشعرك بالغضب أحيانا، وأحيانا اخرى يدفعك دفعا للمرح والضحك، تجد في بعض المواقف سهولة في التأقلم معه، فيما تستصعب ذلك في مواقف أخرى، وهو بكل تأكيد مختلف جدا عن العالم الذي قدمت منه أنا.
لذا فقد أحسست برغبة قوية في إنتاج عمل يعكس صورة هذا المكان في ذهني. وقد التقيت صدفة في أحد شوارع دمشق بطلاب جامعيين قالوا لي إنهم قادمون من مكان يدعى “الجولان”، وقد بدا لي مباشرة أن لديهم شيئا ما يميزيهم عن باقي الشباب السوريين المولودين في العاصمة على سبيل المثال. كانت لهجتهم مختلفة، وثيابهم مختلفة، وهم دائما مع بعضهم، ، ناهيك عن كونهم فضوليين تجاه ما يجري هنا في "دمشق" مقارنة بالمكان الذي قدموا منه. وبالنسبة لي فقد وقعت في حبهم مذ سمعت قصصهم لسبب أجهله. ربما لأنهم تماما في هذا الوضع الـ"مميز" والـ"غريب" نوعا ما.
ومن هؤلاء الطلبة بالذات سمعت لأول مرة عن "وادي الصراخ"، والحديث بواسطة المكبرات بين الأهل، وهي صورة مثيرة سينمائيا باعتقادي، ومنها بدأت بالبحث لأول مرة عن الموضوع وحوله.
يظهر الفيلم أهل طلاب جولانيين في الطرف المحتل وهم منهمكين -قبل سفر أولادهم إلى سورية- في نزع الملصقات "العبرية" عن بعض المواد الاستهلاكية، كون السلطات المحلية في سورية تمنع دخول البضائع "الإسرائيلية". إلى أي حد تعتقدين أن فيلم "أصرخ" قدم ملامح لم تكن معروفة لدى سوريين كثيرين عن الحياة في “الجولان” المحتل؟
أنا على دراية اليوم بعد احتكاكي بجولانيين عاشوا في دمشق لفترة طويلة جاوزت 3 سنوات، ومن خلال التجارب الشخصية لعدد من أولئك الطلاب؛ أن ثمة جهلا من قبل بعض السوريين بتفاصيل تتعلق بالحياة في “الجولان”. وقد رُويت لي قصة أحد سائقي التكسي في العاصمة الذي أخطأ في تحديد مكان قرية جولانية، ظانا أنها تقع قرب الحدود التركية !
وأنا آسفة لقول هذا، لكنه أمر طبيعي برأيي أن يخطئ بعض الناس في أي بلد في تحديد مواقع أماكن بعينها، وهذا لا ينتقص من كون الطلاب “الجولانيين” القادمين إلى دمشق فخورين إلى أبعد الحدود بكونهم سوريين، ما يدفعهم إلى الحرص على أن يكون مواطنوهم جميعا مطلعين قدر الإمكان على أدق تفاصيل حياتهم على الضفة الأخرى رغم انقضاء فترة طويلة لهم تحت ذلك الاحتلال جاوزت الأربعة عقود، وهي صورة ليست مطابقة دائما لما يملك الناس هنا من انطباعات عنها في أذهانهم.
من جانبي، سبق لي كذلك أن شاهدت بعض المقاربات السينمائية للموضوع، مثل الفيلم اللبناني"طيارة من ورق"، وفيلم أديب صفدي والذي أنجرعلى يد طلاب في الحقيقة، وهو يظهر دواخل الموضوع كذلك. إضافة إلى فيلم آخر سوري اسمه "المعبر"، وهذا الأخير يصور جزء فقط من الحكاية الكاملة، لأن لا أحد هنا في سورية بإمكانه أن يعبر عمليا إلى الطرف المقابل ويقدم القصة من جانبها الآخر.
سادت لفترة طويلة –ولازالت- نظرة قاصرة لدى بعضهم هنا حيال تناول مواضيع تتعلق بـ“الجولان” المحتل، وصلت حد تأثيم التعرض لتفاصيل الحياة الاعتيادية للجولانيين لحساب السياسي والخطابي المباشر، فأخذوا على فيلمك مثلا مشهد حفلة الوداع الصاخبة التي يقيمها الأصدقاء لشخصيات العمل عشية السفر إلى دمشق، كيف ترين الأمر من وجهة نظرك؟
بالنسبة لي كان شيئا سهلا أن أحاول تكريس الصورة النمطية عن الطلاب الجولانيين، ورغم أنه من المهم للفيلم أن تبقى الخلفية السياسية للموضوع ماثلة في الأذهان، لكننا لم نكن بحال من الأحوال بصدد عمل فيلم سياسي محض عن هذه القضية.
وغياب البعد السياسي المباشر كان سبب كثير من النقد الذي تلقيته بعد العرض الأول للفيلم في سورية خلال مهرجان "دوكس بوكس" هذا العام، حيث عاتبني الناس مثلا لعدم إبراز مظاهر الاحتلال كاملة على الطرف الآخر، وهذا أمر –الانتقاد- شيء أتفهمه جيدا، بيد أن هذه النقطة لم تكن المحور الأساس الذي بنينا عليه قصة فيلمنا أصلا، أنا وإستر. ولو أني انسقت أكثر وراء تجسيد هذا الجانب بالذات لبدا حينها أننا نصور فيلمين في فيلم واحد. وهذا باعتقادي الشخصي خطأ يجب تجنبه عندما يكون المرء بصدد عمل تسجيلي، ناهيك عن أنه كان سيقصيني على نحو ما عن الشخصيات التي اخترت تصويرها في فيلمي منذ البداية، بل الأصح القول: اخترت تصوير فيلمي من خلال عيون ورؤية تلك الشخصيات لما يجري حولها.
وأنا شخصيا ما كنت لأتجاهل أي تأثير للاحتلال "الإسرائيلي" على مسار حياة هذه الشخصيات طالما أنه مرتبط مباشرة بوجهة نظر تلك الشخصيات تحديدا، وهو الاعتبار الأوحد الذي نظم مسيرة الفيلم حتى النهاية.
وبالنسبة لي كمخرجة أجنبية قادمة من خارج هذه المنطقة من العالم فإن أفضل طريقة لرواية قصة “الجولان” و"الاحتلال" كانت من خلال هؤلاء الطلبة أنفسهم وليس عبر اتباع خط محض سياسي.
ما هي التحديات برأيك أمام فيلم كهذا عندما يعرض على جمهور أجنبي قد لايكون ملمـّا تماما بتفاصيل وحيثيات قضية حساسة كتلك التي يتعرض لها "إصرخ"؟
جوابا لهذا السؤال أعتقد أنني سأستبق الأمور بعض الشيء وأقول بأنني سأحب الجمهور هنا في دمشق أكثر من أي مكان آخر. فعندما يجلس الناس في السينما ويبدؤون بإصدار الأصوات والتصفيق، أو الاعتراض على بعض المواقف وصولا إلى الهدوء المطبق أحيانا قبل أن يبادروا إلى إخراج المناديل والبكاء، متفاعلين مع مجريات الأحداث في الفيلم؛ فإن ذلك يشكل لي متعة لا توصف، وهذا امر قد لا أجده تماما مع جمهور أجنبي.
لكننا وضعنا في اعتبارنا بكل الأحوال ومنذ البداية، بأن الفيلم موجه لجمهور غربي أساسا، حيث يوجد من لا يعرف شيئا على الاطلاق عن قضية هضبة “الجولان” والسوريين الذين يعيشون فيه تحت الاحتلال منذ 43 سنة. كما لم يسبق لغالبية كبيرة في الغرب أن التقوا بأي سوريين طوال حياتهم، بل يكاد بعضهم لا يعرفون شيئا عن سورية نفسها، ما بالك بطلاب من مرتفعات “الجولان” لا يستطيعون عبور الحدود سوى مرة واحدة في السنة لرؤية أهلهم الذين يرفضون رفضا قاطعا حمل الجنسية "الإسرائيلية"، حيث تمنع سلطات الاحتلال عبور ذويهم إلى البلد الأم.
ولهذا اعتقد بأنه يتوجب علينا أن نزود مشاهدينا الغربيين أولئك بالكثير من المعلومات والنصوص والخلفيات عن الوضع القائم في المنطقة، والذي تم تصوير الفيلم في إطاره.
بيد أن هناك تحد آخر برأيي ماثل أمام الفيلم، بالنظر إلى أنه كان هناك ثمة كثير من الأفلام التي أنتجت عن منطقة الشرق الأوسط مؤخرا، وخاصة في أوروبا، حيث بدأ بعض الناس يشعرون بالملل من مواضيع كهذه، قائلين: "لا، رجاء ليس الشرق الأوسط مجددا"، وهذا امر مؤسف برأيي، لأن الصراع الدائر في هذا الجزء من الأرض واحد من أطول الصراعات في التاريخ، وأنا معنية جدا بإيصال رسالة عن بعض ما يحدث هنا لبقية العالم رغم أي شيء.
هل تعتربين نفسك منحازة في فيلمك لأحد طرفي النزاع كما يتم التعبير أحيانا، وبالتالي هل تتوقعين أن يثير "إصرخ" مشاكل من نوع ما لدى عرضه في أوروبا لأسباب تتعلق بالتمويل أو التوجه السياسي للعمل؟
لا، لا اعتقد أننا (أنا وإستر) منحازتان في عملنا هذا لأي طرف، نحن فعلنا ما بوسعنا كي نترك زمام قيادة مسار الأحداث بيد شخصيات الفيلم نفسها التي رأيتموها على الشاشة، وما قمنا به عمليا هو مجرد أننا حملنا آلة التصوير وتبعناهم. ومن البديهي القول أن شخصيات الفيلم بطبيعة الحال ليست مناصرة لـ”إسرائيل”، فهم سوريون أولا وآخرا.
وأنا معنية هنا بالتأكيد أنه رغم صحة ما ورد من أن تمويل الفيلم جاء من مباشرة من الحكومة الهولندية، بيد أن رسميي الحكومة لم يكن لهم أي تأثير على خططنا في تصوير الفيلم من قريب أو بعيد، فكل الشروط المتعلقة بموضوع التمويل كانت محصورة بمدى جدّة الموضوع، ودرجة أهميته للجمهور المتلقي في العالم، إضافة لأهلية جهة الإخراج للعمل على القصة المطروحة.
وأذكرك هنا بأننا تجنبنا في "إصرخ" اللجوء إلى السرد السياسي المباشر. وأنا شخصيا آمل أن يسمح لفيلمي بأن يعرض في “إسرائيل” نفسها، كما أنني أنوي عرضه على أية حال في “الجولان” المحتل الصيف القادم، ربما في واحد من حقول التفاح المنتشرة هناك، أو خلال إحدى تلك الاحتفالات التي تجري هناك على الهضبة. ذلك أنني أشعر بواجب ومسؤولية أن أوفر فيلمي في تلك البقعة بالذات، إذ ليس من المنطقي أن تصور فيلما عن الناس هناك ثم تتأخر في عرضه عليهم، والتعرف على ردة فعلهم حياله.
..
رغم كل شيء، لا يبدو أن إصرار المخرجتين الهولنديتين على إقصاء السياسية "الفجة" برأيهما عن فيلم "إصرخ" قد آتى أكله تماما، أقله بالنظر إلى ما رشح من ردة فعل الجمهور السوري الذي حضر العرض الأول للفيلم.
بل إن أحد أسئلة المخرجة لجدّ "عزت" -إحدى شخصيات الفيلم- والأسير السابق في سجون الاحتلال؛ جرّ الأخير مباشرة لحديث معهود ومطروق مرارا عن قضية “الجولان” المحتل، مستخدما كلمات "كبيرة" وفق تعبير حفيده الشاب في مشهد آخر، لدرجة أن الجد نسي في خضم اندفاعه، أن يجيب عن السؤال الأساس الذي وجهته له"سابين لوبه باكر"، والمتعلق مباشرة برؤيته لمستقبل حفيده بالذات. وهي لمحة قيـّض لها أن تجسد مفارقة يعيشها جيل الشباب السوري اليوم على ضفتي الوطن المستقل والمحتل، بين ما مضى وما هو قائم من جهة وما هو آت من جهة أخرى.
وما افتراق خياري الصديقين “الجولانيين”، "بيان" و"عزت"، في نهاية فيلم "إصرخ" بين البقاء في "دمشق" أو العودة إلى "مجدل شمس" تحت الاحتلال الإسرائيلي، سوى مظهر آخر لتلك المفارقة، والتي عبرت عنها "دون صراخ" هذه المرة جملة افتتح الفيلم بها على لسان والد "عزت" الذي قال بصوت أجش وبالمحكيـّة الجولانية :
"40 سنة مش قلال، بيتغير كثير الإنسان فيها".
أجرى الحوار وصاغه عن الانكليزية
خالد الاختيار
الـمعانـاة الإنسـانيـّة أولا، ومن ثم السياسـة
لم يعد "وادي الصراخ" الذي يفصل بين الأرض المحررة وتلك المحتلة من “الجولان” السوري اسما غريبا على الأسماع في الفترة الأخيرة. وباتت مكابدات الأهالي المنقطعين عن ذويهم خلف الأسلاك الشائكة وحقول الألغام ودوريات جيش الاحتلال "الإسرائيلي” تجد طريقها إلى وسائل الإعلام وشاشات التلفزة والسينما.
ومؤخرا، استوقفت آلام “الجولانيين” في غربتهم القسرية تلك والمبثوثة عبر الحناجر ومكبرات الصوت على ضفتي الوطن مخرجتين هولنديتين لمدة عام تقريبا في "الشرق الأوسط"، حيث وجدت كل من "سابين لوبه باكر"، و"استر غولد" نفسيهما تخوضان غمار مقاربة سينمائية تسجيلية لتلك المعاناة التي تعود إلى أربعة عقود، بميزة مستحقة هذه المرة، كونهما تمكنتا من دخول القرى السورية المحتلة، وتصوير مشاهد حية عن أحوال السوريين اليوم تحت الاحتلال. الأمر الذي يجهل كثير من السوريين تفاصيله، نظرا لاستحالة انتقال أي مخرج أو إعلامي سوري إلى الطرف المحتل في ظل حالة الحرب القائمة رسميا حتى الساعة بين الطرفين.
الفيلم الهولندي الذي لم يكن إلا ليحمل اسم "إصرخ" افتتح في أول عرض دولي له الدورة الثالثة لتظاهرة "أيام سينما الواقع – دوكس بوكس" في سورية العام الماضي، متناولا يوميات طلبة جولانيين تركوا أهلهم في قرية "مجدل شمس" المحتلة بعد بلوغهم الثامنة عشرة، ليلتحقوا بـ"جامعة دمشق" في الوطن الأم.
للحديث عن "إصرخ" الذي شهدت صالتا عرضه في العاصمة دمشق آذار الماضي إقبالا جماهيريا عريضا، كان اللقاء التالي مع "سابين لوبه باكر"، إحدى مخرجتي الفيلم.
بداية، لماذا تختار مخرجة أوروبية “الجولان” تحديدا موضوعا لفيلمها الأول؟
من المفترض أنه تكـّون لدي إجابة قصيرة وواضحة الآن، لكنني دائما أجد صعوبة في الرد على عن هذا السؤال لسبب ما.
لقد سبق لي وعشت في سورية، وأحببت هذا البلد، ورغبتي في عمل فيلم عن موضوع “الجولان” عائد لكون الموضوع مثيرا للاهتمام حقا باعتقادي. والإثارة تأتي في المقام الأول من أن المكان هنا بشكل عام يجبرك على اختبار مشاعرك حياله طوال الوقت، فهو تارة بالغ الجمال، وتارة مليء بمظاهر القبح. إنه يشعرك بالغضب أحيانا، وأحيانا اخرى يدفعك دفعا للمرح والضحك، تجد في بعض المواقف سهولة في التأقلم معه، فيما تستصعب ذلك في مواقف أخرى، وهو بكل تأكيد مختلف جدا عن العالم الذي قدمت منه أنا.
لذا فقد أحسست برغبة قوية في إنتاج عمل يعكس صورة هذا المكان في ذهني. وقد التقيت صدفة في أحد شوارع دمشق بطلاب جامعيين قالوا لي إنهم قادمون من مكان يدعى “الجولان”، وقد بدا لي مباشرة أن لديهم شيئا ما يميزيهم عن باقي الشباب السوريين المولودين في العاصمة على سبيل المثال. كانت لهجتهم مختلفة، وثيابهم مختلفة، وهم دائما مع بعضهم، ، ناهيك عن كونهم فضوليين تجاه ما يجري هنا في "دمشق" مقارنة بالمكان الذي قدموا منه. وبالنسبة لي فقد وقعت في حبهم مذ سمعت قصصهم لسبب أجهله. ربما لأنهم تماما في هذا الوضع الـ"مميز" والـ"غريب" نوعا ما.
ومن هؤلاء الطلبة بالذات سمعت لأول مرة عن "وادي الصراخ"، والحديث بواسطة المكبرات بين الأهل، وهي صورة مثيرة سينمائيا باعتقادي، ومنها بدأت بالبحث لأول مرة عن الموضوع وحوله.
يظهر الفيلم أهل طلاب جولانيين في الطرف المحتل وهم منهمكين -قبل سفر أولادهم إلى سورية- في نزع الملصقات "العبرية" عن بعض المواد الاستهلاكية، كون السلطات المحلية في سورية تمنع دخول البضائع "الإسرائيلية". إلى أي حد تعتقدين أن فيلم "أصرخ" قدم ملامح لم تكن معروفة لدى سوريين كثيرين عن الحياة في “الجولان” المحتل؟
أنا على دراية اليوم بعد احتكاكي بجولانيين عاشوا في دمشق لفترة طويلة جاوزت 3 سنوات، ومن خلال التجارب الشخصية لعدد من أولئك الطلاب؛ أن ثمة جهلا من قبل بعض السوريين بتفاصيل تتعلق بالحياة في “الجولان”. وقد رُويت لي قصة أحد سائقي التكسي في العاصمة الذي أخطأ في تحديد مكان قرية جولانية، ظانا أنها تقع قرب الحدود التركية !
وأنا آسفة لقول هذا، لكنه أمر طبيعي برأيي أن يخطئ بعض الناس في أي بلد في تحديد مواقع أماكن بعينها، وهذا لا ينتقص من كون الطلاب “الجولانيين” القادمين إلى دمشق فخورين إلى أبعد الحدود بكونهم سوريين، ما يدفعهم إلى الحرص على أن يكون مواطنوهم جميعا مطلعين قدر الإمكان على أدق تفاصيل حياتهم على الضفة الأخرى رغم انقضاء فترة طويلة لهم تحت ذلك الاحتلال جاوزت الأربعة عقود، وهي صورة ليست مطابقة دائما لما يملك الناس هنا من انطباعات عنها في أذهانهم.
من جانبي، سبق لي كذلك أن شاهدت بعض المقاربات السينمائية للموضوع، مثل الفيلم اللبناني"طيارة من ورق"، وفيلم أديب صفدي والذي أنجرعلى يد طلاب في الحقيقة، وهو يظهر دواخل الموضوع كذلك. إضافة إلى فيلم آخر سوري اسمه "المعبر"، وهذا الأخير يصور جزء فقط من الحكاية الكاملة، لأن لا أحد هنا في سورية بإمكانه أن يعبر عمليا إلى الطرف المقابل ويقدم القصة من جانبها الآخر.
سادت لفترة طويلة –ولازالت- نظرة قاصرة لدى بعضهم هنا حيال تناول مواضيع تتعلق بـ“الجولان” المحتل، وصلت حد تأثيم التعرض لتفاصيل الحياة الاعتيادية للجولانيين لحساب السياسي والخطابي المباشر، فأخذوا على فيلمك مثلا مشهد حفلة الوداع الصاخبة التي يقيمها الأصدقاء لشخصيات العمل عشية السفر إلى دمشق، كيف ترين الأمر من وجهة نظرك؟
بالنسبة لي كان شيئا سهلا أن أحاول تكريس الصورة النمطية عن الطلاب الجولانيين، ورغم أنه من المهم للفيلم أن تبقى الخلفية السياسية للموضوع ماثلة في الأذهان، لكننا لم نكن بحال من الأحوال بصدد عمل فيلم سياسي محض عن هذه القضية.
وغياب البعد السياسي المباشر كان سبب كثير من النقد الذي تلقيته بعد العرض الأول للفيلم في سورية خلال مهرجان "دوكس بوكس" هذا العام، حيث عاتبني الناس مثلا لعدم إبراز مظاهر الاحتلال كاملة على الطرف الآخر، وهذا أمر –الانتقاد- شيء أتفهمه جيدا، بيد أن هذه النقطة لم تكن المحور الأساس الذي بنينا عليه قصة فيلمنا أصلا، أنا وإستر. ولو أني انسقت أكثر وراء تجسيد هذا الجانب بالذات لبدا حينها أننا نصور فيلمين في فيلم واحد. وهذا باعتقادي الشخصي خطأ يجب تجنبه عندما يكون المرء بصدد عمل تسجيلي، ناهيك عن أنه كان سيقصيني على نحو ما عن الشخصيات التي اخترت تصويرها في فيلمي منذ البداية، بل الأصح القول: اخترت تصوير فيلمي من خلال عيون ورؤية تلك الشخصيات لما يجري حولها.
وأنا شخصيا ما كنت لأتجاهل أي تأثير للاحتلال "الإسرائيلي" على مسار حياة هذه الشخصيات طالما أنه مرتبط مباشرة بوجهة نظر تلك الشخصيات تحديدا، وهو الاعتبار الأوحد الذي نظم مسيرة الفيلم حتى النهاية.
وبالنسبة لي كمخرجة أجنبية قادمة من خارج هذه المنطقة من العالم فإن أفضل طريقة لرواية قصة “الجولان” و"الاحتلال" كانت من خلال هؤلاء الطلبة أنفسهم وليس عبر اتباع خط محض سياسي.
ما هي التحديات برأيك أمام فيلم كهذا عندما يعرض على جمهور أجنبي قد لايكون ملمـّا تماما بتفاصيل وحيثيات قضية حساسة كتلك التي يتعرض لها "إصرخ"؟
جوابا لهذا السؤال أعتقد أنني سأستبق الأمور بعض الشيء وأقول بأنني سأحب الجمهور هنا في دمشق أكثر من أي مكان آخر. فعندما يجلس الناس في السينما ويبدؤون بإصدار الأصوات والتصفيق، أو الاعتراض على بعض المواقف وصولا إلى الهدوء المطبق أحيانا قبل أن يبادروا إلى إخراج المناديل والبكاء، متفاعلين مع مجريات الأحداث في الفيلم؛ فإن ذلك يشكل لي متعة لا توصف، وهذا امر قد لا أجده تماما مع جمهور أجنبي.
لكننا وضعنا في اعتبارنا بكل الأحوال ومنذ البداية، بأن الفيلم موجه لجمهور غربي أساسا، حيث يوجد من لا يعرف شيئا على الاطلاق عن قضية هضبة “الجولان” والسوريين الذين يعيشون فيه تحت الاحتلال منذ 43 سنة. كما لم يسبق لغالبية كبيرة في الغرب أن التقوا بأي سوريين طوال حياتهم، بل يكاد بعضهم لا يعرفون شيئا عن سورية نفسها، ما بالك بطلاب من مرتفعات “الجولان” لا يستطيعون عبور الحدود سوى مرة واحدة في السنة لرؤية أهلهم الذين يرفضون رفضا قاطعا حمل الجنسية "الإسرائيلية"، حيث تمنع سلطات الاحتلال عبور ذويهم إلى البلد الأم.
ولهذا اعتقد بأنه يتوجب علينا أن نزود مشاهدينا الغربيين أولئك بالكثير من المعلومات والنصوص والخلفيات عن الوضع القائم في المنطقة، والذي تم تصوير الفيلم في إطاره.
بيد أن هناك تحد آخر برأيي ماثل أمام الفيلم، بالنظر إلى أنه كان هناك ثمة كثير من الأفلام التي أنتجت عن منطقة الشرق الأوسط مؤخرا، وخاصة في أوروبا، حيث بدأ بعض الناس يشعرون بالملل من مواضيع كهذه، قائلين: "لا، رجاء ليس الشرق الأوسط مجددا"، وهذا امر مؤسف برأيي، لأن الصراع الدائر في هذا الجزء من الأرض واحد من أطول الصراعات في التاريخ، وأنا معنية جدا بإيصال رسالة عن بعض ما يحدث هنا لبقية العالم رغم أي شيء.
هل تعتربين نفسك منحازة في فيلمك لأحد طرفي النزاع كما يتم التعبير أحيانا، وبالتالي هل تتوقعين أن يثير "إصرخ" مشاكل من نوع ما لدى عرضه في أوروبا لأسباب تتعلق بالتمويل أو التوجه السياسي للعمل؟
لا، لا اعتقد أننا (أنا وإستر) منحازتان في عملنا هذا لأي طرف، نحن فعلنا ما بوسعنا كي نترك زمام قيادة مسار الأحداث بيد شخصيات الفيلم نفسها التي رأيتموها على الشاشة، وما قمنا به عمليا هو مجرد أننا حملنا آلة التصوير وتبعناهم. ومن البديهي القول أن شخصيات الفيلم بطبيعة الحال ليست مناصرة لـ”إسرائيل”، فهم سوريون أولا وآخرا.
وأنا معنية هنا بالتأكيد أنه رغم صحة ما ورد من أن تمويل الفيلم جاء من مباشرة من الحكومة الهولندية، بيد أن رسميي الحكومة لم يكن لهم أي تأثير على خططنا في تصوير الفيلم من قريب أو بعيد، فكل الشروط المتعلقة بموضوع التمويل كانت محصورة بمدى جدّة الموضوع، ودرجة أهميته للجمهور المتلقي في العالم، إضافة لأهلية جهة الإخراج للعمل على القصة المطروحة.
وأذكرك هنا بأننا تجنبنا في "إصرخ" اللجوء إلى السرد السياسي المباشر. وأنا شخصيا آمل أن يسمح لفيلمي بأن يعرض في “إسرائيل” نفسها، كما أنني أنوي عرضه على أية حال في “الجولان” المحتل الصيف القادم، ربما في واحد من حقول التفاح المنتشرة هناك، أو خلال إحدى تلك الاحتفالات التي تجري هناك على الهضبة. ذلك أنني أشعر بواجب ومسؤولية أن أوفر فيلمي في تلك البقعة بالذات، إذ ليس من المنطقي أن تصور فيلما عن الناس هناك ثم تتأخر في عرضه عليهم، والتعرف على ردة فعلهم حياله.
..
رغم كل شيء، لا يبدو أن إصرار المخرجتين الهولنديتين على إقصاء السياسية "الفجة" برأيهما عن فيلم "إصرخ" قد آتى أكله تماما، أقله بالنظر إلى ما رشح من ردة فعل الجمهور السوري الذي حضر العرض الأول للفيلم.
بل إن أحد أسئلة المخرجة لجدّ "عزت" -إحدى شخصيات الفيلم- والأسير السابق في سجون الاحتلال؛ جرّ الأخير مباشرة لحديث معهود ومطروق مرارا عن قضية “الجولان” المحتل، مستخدما كلمات "كبيرة" وفق تعبير حفيده الشاب في مشهد آخر، لدرجة أن الجد نسي في خضم اندفاعه، أن يجيب عن السؤال الأساس الذي وجهته له"سابين لوبه باكر"، والمتعلق مباشرة برؤيته لمستقبل حفيده بالذات. وهي لمحة قيـّض لها أن تجسد مفارقة يعيشها جيل الشباب السوري اليوم على ضفتي الوطن المستقل والمحتل، بين ما مضى وما هو قائم من جهة وما هو آت من جهة أخرى.
وما افتراق خياري الصديقين “الجولانيين”، "بيان" و"عزت"، في نهاية فيلم "إصرخ" بين البقاء في "دمشق" أو العودة إلى "مجدل شمس" تحت الاحتلال الإسرائيلي، سوى مظهر آخر لتلك المفارقة، والتي عبرت عنها "دون صراخ" هذه المرة جملة افتتح الفيلم بها على لسان والد "عزت" الذي قال بصوت أجش وبالمحكيـّة الجولانية :
"40 سنة مش قلال، بيتغير كثير الإنسان فيها".
أجرى الحوار وصاغه عن الانكليزية
خالد الاختيار