يمكن للمرء إفراد المطولات في أي بلد للحديث عن الاستقلال الوطني، ودحر الاستعمار، ونيل السيادة، ... كذا، ولكن حبذا لوكان بالمستطاع حقا التغني بهاتيك السيادة على كل الصعد، لا السياسي العسكري منها فحسب. هذا إن كتب لهذين الأخيرين التمام في هذا العصر الزئبق.
والصحافة السورية والعمل الإعلامي السوري قد يكونا أحد أبرز تلك التداعيات غير الناجزة نحو الاستقلالية.
ولا يتطلب الحديث عن هذه الخلاصة \ المقدمة السورية مطالعة الأرشيف القومي في المكتبات الوطنية، ولا حيازة درجة أكاديمية رفيعة في التاريخ أو الإعلام؛ بقدر ما قد يتأتى ربما من مجرد (صفنة) عابرة بين إشارتي مرور في بعض المواصلات العامة، أمام إحدى لوحات العرض الإعلانية الضخمة المنتصبة على جانب طريق رئيسي في العاصمة المكتظة.
فالإعلان الإعلامي –أو العكس- الذي باغت السوريين منذ ما يقارب السنوات الثلاث مبشرا إياهم بـ"أول صحيفة سورية يومية مستقلة منذ أربعين عاما" فقأ العيون حقا.
في ذلك الوقت، كنا على أعتاب الاحتفال كسوريين باليوبيل الماسي لاستقلالنا عما اعتقدنا أنه آخر احتلال مباشر لأراضينا، كما يوصف عادة في كتبنا القديمة عن تاريخنا الحديث.
(قبل أن يوافينا في الأثناء "الاجتياح" الإسرائيلي، أو يستقرّ "السلخ" التركي، أو يتقدس اسم "التقسيم" القطري).
الإعلان الفضيحة، لم يحاول حينها، ولن يحاول قريبا على ما يبدو، أن يفسر لنا تلك المفارقة البليغة، الكامنة في سؤال كيف أن استقلالنا ناجز منذ ستين عاما، لكن صحافتنا لم تكن كذلك لأربعة عقود من مجمل تلك المدة. وما مدى تأثير هذه على ذاك.
بل حتى أولئك الذين أطلقوا المنفيستو الصحفي (الإستقلالجي) إياه لم يطل بهم المقام طويلا قبل أن ينجروا هم محتلين للرأي الآخر، ضامن استدامة أي تحرر أو استقلالية مزعومة. وذلك عبر نفيهم سوريين من طينتهم إلى معسكر (العدو)، بنشرهم ترهات وسفاسف* تنال من وطنية كتـّاب سوريين آخرين صادف أنهم لا يرتدون ذات النظارة، عند المنعطف ذاته، ومنذ وقت ليس ببعيد عن مناسبة الجلاء الأخيرة ذاتها.
يمكن حقا لسرد تاريخي شيق عن أوائل الصحيف السورية المستقلة، أو لإحصاء أكاديمي عن عدد المطبوعات المحررة في العاصمة دمشق ذات ديموقراطية أو تكاد، أن يكون في صلب المناسبة، لكن أحد الأخبار الواردة كان كفيلا بتعديل مجرى الحديث كما يقال.
ففي هذا العام قرر بعض السوريين، الافتراضيين حتى الآن، مقاربة المناسبة بطريقتهم، محررين جزء آخر من (سورياهم) لم يسبق له أن كان ضمن المخططات الأصيلة للثوار الأجداد في مستهل القرن المنصرم.
جزء لم يدخل كتب الجغرافيا ولم يخرج من خرائط بيكو وسايكس، ولم يحتله الصليبيون أو العثمانيون ولا الفرس والروم من قبلهم. لا يريد الأكراد أو التركمان أو الأثورويون الانفراد بجزء منه، ولا يستطيع العرب الاستبداد بجله. وبالطبع لم يفتحه المسلمون أيضا قبل أن يخسروه لاحقا. وهو –على غناه- إلى اليوم لايزال خارج البيان الوزاري والتقديرات الرسمية لمديريات النفط والثقافة والثروة السمكية.
المحررون الجدد ليسوا سوى ثلة تكبر فتصغر لتعود فتكبر من المدونين السوريين، الذين ركزوا علم بلادهم خفيفا لامعا منذ بضعة أيام كـ(image.jpg)، على مساحة لا تحد من الفضاء السيبيري المفتوح، معلنين إطلاق "ويكي سورية" على موقع "ويكيبيديا"، رافعين الأنخاب إثر قيام الحكومة السورية مؤخرا بسحب وصايتها، وإزالة حجبها عن الصفحة العربية من تلك الموسوعة الشهيرة.
وجاء في "البيان" الصادر عن المحتفلين (لازالت شهيتنا مفتوحة للبيانات على ما يبدو):
"سورية، الويكيبيديا، 17 نيسان، كلماتٌ قد تبدو غريبة عن بعضها للوهلة الأولى، إلا أن هنالك ما يجمعها معاً".
هل في ما سبق ما ينضح بعض الدماء في عروق حياء أولئك الذين زعموا استقلالا إعلاميا منذ قرابة الثلاث سنوات. وهل يفكر ولو واحد منهم ** -فيما لو قيض له القيام بذاك الفعل- العدول عن ذلك الادعاء النكتة، وإعادة (تحرير) النص إياه من جديد، علما أن الوقت لم يفت بعد لذلك؟
في عصر تنحو المفردات والملفوظات فيه بشكل مطرد ومتسارع لأن تكتسي لبوسا (معنويا) جديدا كل يوم، وتميل فيه المصطلحات إلى أن يكون لها حياة (مستقلة) ومتطورة، بمعزل عن تأخر بعض مستخدميها وتخلفهم، أقول في عصر كهذا قد يكون للاستقلال تمظهراته وتجلياته التي قد يفوتنا تضمينها خطاباتنا الاحتفالية البليغة عاما بعد عام.
ووفق ما هو ظاهر اليوم، فإن الاستقلال ليس حديث ذكريات فحسب. أقله بالنسبة لبعض المفترضين سوريين. وإذا صح ذلك الفرض فعلى المرء أن يصيخ السمع قليلا لـ(مدونات) حال أولئك القوم, والتي ما تنفك تردد بعناد أن الاستقلال لا زال ..."...جاري التحميل...".
______________
* أدانت محكمة بداية الجزاء الأولى بدمشق مؤخرا صحفية "الوطن" السورية الخاصة بعد نشرها بيانا يزعم أن كتابا سوريين وعربا باتوا سفراء للاحتلال الإسرائيلي إبان العدوان على غزة لمجرد مخالفتهم وجهة نظر حركة حماس تجاه الجرائم الاسرائيلية.
** من الضروري التنويه هنا إلى أن كثيرا من الصحفيين السوريين المتعاقدين مع صحيفة الوطن كانت لهم آراء نقدية مخالفة لملاك الجريدة في هذه القضية، ولو أن إدارة تحرير الصحيفة أفردت لهم مساحة (استقلالية) ليعبروا عن آرائهم، لكانت رأت منهم ما يفاجئها، ولا يفاجئنا.
2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق