2014-04-07

رياض الكتب وجحيمها






فجأةً، يسارع مثقف عربي مكرّس إلى التخفّف من مكياج رزانته الثقيل، ويلم خصلات شعره الطويلة داخل قناع صوفي داكن، ويخرج من أدراجه السفلية ـ حيث ترقد أفكاره التي ستغيّر العالم ـ قفازاً أسود بنهايات مطاطية سميكة تساعده على إخفاء بصماته الثقافية المميّزة، داسّاً في جيبه كيساً من الكتان يحمل شارة آخر مؤتمر دُعي إليه منذ عقد على الأقل، قبل أن يضع جوّاله في وضعية "صامت"، منتظراً غياب الشمس.

 لم يتمكن أي ناشط في الربيع العربي حتى الآن من بث فيديو المشهد السابق على "يوتيوب"، لكن هذه هي بالضبط التحضيرات التي يستقبل بها معظمنا أنباء ثبوت رؤية هلال معرض الكتاب في إحدى عواصمنا القومية. فقد باتت هذه المعارض توفّر دورات تدريبية مفتوحة لتمكين مَن يسمى بـ"المواطن العربي" من فنون اللصوصيّة والاحتيال. فرص "رسمية" عزّ أن تجد لها نظيراً في أماكن أخرى على هذا الكوكب القارئ.

فبغير هذه الطريقة كيف هو السبيل إلى الحصول على نسخة من كتاب "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد، أو معرفة أسماء "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أو السير على "درب الآلام" السوري لعزمي بشارة، أو حتى تذوّق "الخبز الحافي" لمحمد شكري يومَ جوع؟

فوفقاً لدوائر الحسبة والتحسّب في جزيرة العرب ـ وزارة الثقافة والإعلام وكذا ـ حرّمت إدارة معرض الكتاب في الرياض، على سبيل المثال، هذا العام وحده مشاركة أكثر من 350 دار نشر عربية. وهو رقم يفوق عدد الدور المشاركة في معرض الكتاب العربي في بيروت، ويقارب نصف عدد الناشرين الحلال في معرض القاهرة.

هذا كلّه ولم نقارب بعد "ميلودراما" الثقوب الغائرة في جيب القارئ العربي، الذي يستغفر راتبه كلّما مسّت يده بالخطأ مخطوطاً يحمل في زاوية "باراكوده" ـ التي تشبه قضبان الزنازين ـ أصفاراً تزوغ منها الأبصار، أو انخفاض معدل السعرات الحرارية المطبوعة للفرد في منطقتنا، أو المعدل الأكثر انخفاضاً منه والخاص بنسب القراءة للفرد ذاته وللمنطقة نفسها.

يدخل المثقف، يقف عند زاوية الجناح، يحكّ أذنه مرتين، يمسّد طرف شاربه الأيسر مرة، ثم يدسّ عشرين دولاراً تحت طبق "البرغر" الساخن على الطاولة. يقف الناشر، يستشرف منحنيات الممر النظيف بطرف عينه، يكرّج فيروز حبات سبحته، يرمي بطبق "البرغر" في القمامة طاوياً ورقة العشرين في باطن كفه. ثم يدفع الطرد الملفوف بجريدة الأمس سنتيمترين إلى الأمام وهو يتثائب.يأخذ المثقف نفساً عميقاً، ثم يسحب الطرد من تحت رزمة الفواتير الفارغة إلى داخل جيب خاص وواسع في معطفه البني بحركة واحدة، ويمضي.يجلس الناشر، يفرقع أصابعه، ويخرج طبق الـ"هوت دوغ " ويضعه على الطاولة أمامه، فيما يصدح صوت إمام مسجد المعرض شجيّاً في صلاة العشاء:"إقرأ باسم ربك الذي خلق".



المثقفون السوريون و"الكتاب الأزرق" Syrian intellectuals and the "Blue Book"






ظلّ "كتاب الوجوه" (Facebook) السوري بلا ملامح في سنوات الحجب السلطوي الطويلة، إلى أن جرّ الشباب الثائرُ مثقفيه في  الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى صفحاته الممتدة بلا فهرس ولا مقدّمة، وكما يبدو، بلا خاتمة.

يصل هؤلاء المثقفون أخيراً، قادمين من استنكاف "وجودي"، وشتائميّة "ابستمولوجية"، تجاه جيل ظنّوا به عبر أدوات تواصله الافتراضية، التسيب، والاستقالة من الشأن العام. واسمين إياه حينها بالانغماس بالـ"جيمز"، والـ"سايبر سكس"، قبل أن يمسي لهم، بين عشيّة "الشعب يريد" وضحاها، الحسابات والصفحات ذوات العدد، في عين الفضاء المائع والمسفّ الذي كانوا ينتبذون دونه مكاناً "جيوبوليتيكياً" قصيا.

فقد منحت ما اصطلح على تسميتها بـ"شبكات الاتصال الاجتماعي" شيوخ الثقافة، وشبه السياسة، عندنا إكسير حياة موازية.

ومَن غيرُ "الفيس بوك" كان سيعينهم على "كوبي بيست" مخطوطات سيرهم النضاليّة المريرة (بلَبُوسٍ "ديجيتالي"  قشيب) والزج، من ثم، بتلك "السيفيات" في السباق المستعر لإثبات الوجود ميدانياً و"تنسيقه"، أمام جيل ألقى ألواح القراءة "الكلاسيكيّة" وكسرها منذ أمد، حسب الاستطلاعات والأرقام.

إنما، من دون أن تُضطر قامة من قامات مثقفينا (اليائسين قبلاً أو المنشقين بعداً) إلى تقديم انحناءة استعاديّة، أو مراجعة ناقدة، تقيهم، وقد كتب لهم عمر افتراضي جديد، الانزلاق في تكرار كوارث ما اجترحوه في تقمصهم الأول، في سبيلِ تغييرٍ لم تكتمل على أيديهم أركانه آنئذ.

وتجَاوُزُ المراجعةِ، والنقدِ الذاتيّ، و"فلترةِ" مسير "الحراك الأول" الناقصِ، إن صحت تسميته بذلك، سرعان ما شجّع الجيل التالي على "استنساخ" النماذج القديمة، المريضة، ذاتها.

فظهر لدينا كثير من أشباه ذلك المثقف السلطوي "المنشق"، القادر على تحديث "بوستات" بضعة أيام توقيف تعسفي، لتمسي مجلدات "ستاتوساتية" من أدب السجون، بين قوسين.

وهو الذي (على النقيض ممن أورثه عادة تضخيم السير الذاتية) لم يحدث أن خدش أحاسيسه المشذّبة، ولو على "واتس أب"، مخلب مساعد حانق في "أمن الدولة". أيام كان يستمرىء النفخ في الأشرعة الأسديّة، ومراكب الإصلاح على اليبس، و"الطوفان" القادم مجرد فيلم خيال علمي مسرف لـ"عمر أميرلاي".

على خطى مثقف سوري آخر، عتيق إلا من ميوله "الغرامشية" المحدثة، والذي خطّ مرة على "جداره" خبراً عاجلاً يستصرخ فيه مريديه "الافتراضيين" أن يفزعوا إليه بعد أن عجز عن ولوج بريده الالكتروني "الثوري". لتتوالى عليه "تعليقات" بالجملة، غاب عمن يسطرها له أن الرجل يسأل "موضوعيا" عن كيفية استعادة ذلك "الحساب" لا أكثر. لأنّ أحداً لم يعتقد فيه ذلك الجهل الفاضح بمبادئ تقنيات ما هو مفترض أن يكون "عضوياً" فيه، وإلا لاعتبرت "لايكاتهم" استهانة بمأساته.

لقد مضى على الثورة حينٌ من الدهر لم يسبق لكثير من آل الثقافة والتسيس المكرسين في سوريا أن أتحفنا خلاله بتحليل أو نقد "ديالكتيكي"، أو  قياس "أصولي"، للثورات والانتفاضات الأسبق في غير بلد عربي، أو غير عربي. 
ليستحق عليه "الإضافة" إلى "شات رووم" المقربين المنظمين، أو ينال به شرف "التحميل" على أكتاف المنتفضين المرتجلين. رؤيةٌ تحليليةٌ كنا لنستضيء بها، فتضيء لنا، أقلّه، عتمة الـ"داي أفتر" (اليوم التالي) الذي تجتهد في فقهه وكالات المخابرات الأمريكية والروسية والإيرانية اليوم.

وبدا التلعثم والتأتأة الفكريان للرموز العتيقة للمعارضة والمثاقفة واضحين للعيان منذ اللحظات الأولى. ليقفز هؤلاء القوم فجأة ودفعة واحدة أمامنا على السطر "أون لاين" كربابنة، وأحبار، عارفين لا بحال كل ما كان جرى ويجري اليوم؛ بل وبما ستؤول إليه الأمور حتماً مستقبلا. زادهم في هذا ضوضاء إنشائية بديعة "التدوين"، وأرتال من إشارات التعجب والاستفهام، وسيل لا ينقطع من الوعيد الـ"نوستراداموسي" بسوء عاقبة جماعية على الـ"التايم لاين" الخاص بالحراك الشعبي. والذي كان ينظمه شباب ضمن "غروبات" مغلقة دونهم، بل و"مشفرة" أحيانا. لا سبيل لهم إليها، بحكم الفجوة التقنية الكبيرة التي كانوا على الضفة الجرداء منها.

وأقلّ ما يقال عن طائفة "العقل القديم" هذه، أنها ولجت باب "المشاع الإبداعي" لـ"ميكانيزمات" التواصل المعاصر بالرأس الخطأ. وبعد الكتاب الأحمر، والكتاب الأخضر، ظنّ هؤلاء (بعد أن أصبحنا أخيراً "أصدقاء") أنّهم وقعوا في النهاية على اللون المنشود، فكان الكتاب الأزرق: "الفيسبوك". المروج المجّاني "الرقمي"، لرُقمهم المثاقلة إلى الأرض، عجزاً، أو تقية، أمام "النظام" الفالت.

نعم، عجزت المعارضة البائدة إلا عن إعادة استيلاد مريضة لتلفيقاتها القديمة، المضبوطة قواعدياً، نحواً وإملاء، مقابل لغة "الشارع" المتفلتة ببلاغة من سيور "التقليد". حيث فاقت "أرابيش" المحادثات عبر "سكايب" و"فايبر" بإفصاحها الثوري كل ذلك الهراء الموزون خليلياً، والذي لطالما تمترس وراءه مثقفون لم يفارقوا خطاب السلطة القمعية ذاته، فانساقوا مبكراً من دون جدل يغني وراء طروحات الأمن، والسلفيّة، والعسكرة. وعجزوا عن اجتراح لغة سياقية مختلفة، ولزموا التكرار الفج أحيانا، أو التأويلات الباطنية أحايين أخرى؛ التي تصب في النهاية غير بعيد عما يسوّقه النظام عن ذاته، باعتباره المخلّص من ربقة الطائفية، وهو الطائفي بامتياز، أو الحارس للاستقرار والأمن، وهو اللص والمجرم.

يذكر بعضنا جيدا تلك الاستدعاءات الموتورة إلى فرع مخابرات "الخطيب" في قلب دمشق خلال الأيام الثلاثة الأولى من شباط/ فبراير 2011. حين سُئلنا إن كنا نحن من يقف وراء تلك "الايفنتات" ليوم غضب سوري، أسوة بالمصري، في الخامس من ذلك الشهر.

ورغم قوائم "الأتندينغ" الطويلة على "الصفحات"، و"السبامات" الغزيرة التي غزت صناديق البريد الالكترونية، والتي قادها مغتربون، بالمعنى الأعمق للكلمة (من ثلاجات "استوكهولم" وطاولات شاي "لندن") لم يخرج يومها أحد إلى الشارع. وكان قرار الناس الـ"أوفلاين" على الأرض هو "إيغنور" على مساحة أزيد من 185 ألف كيلو متر مربع.

فصفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011" ليست مَن أطلق شرارة الانتفاضة، ولا حتى أول نكتة فيها. بل وجع فيّاض من ملح ودم فجرّ سلوانا لأظافر أطفال لم يعد مهماً اليوم (بعد أن اجتثت الأراوح من الصدور) إن كانت قد اقتلعت من تلك الأصابع الطرية حقاً أم لا.

وجعٌ، تواصل مواره بـ"الله أكبر" ومن دونها، بعد قطع خطوط الكهرباء، والهاتف، والانترنت، والهواء، ليركب الـ"لايف ستريمينغ" للحشود المتدفقة لاحقا من ركب، ويعبث بوسطاه وسبابته بأسلاك الـ"الويرلس" الطويلة في الداخل المحتل، من عبث. متوهماً في الحراك دمية تستكين للتحريك بالـ"ريموت كونترول".

بعد فشل الجيل الأسبق في إرساء حياة مجتمعية مدنية سورية واقعية، لجأ شبابنا إلى المديني "الافتراضي".
واليوم، بعد أن فاضت الحواس بالتغيير الملموس (إيجاباً وسلباً، يرتد فعل مثقفي معارضاتنا إلى المتوهم "السايبيري"، حيث "يهيْبَرُ" التعليق، وتتطاول الحواشي و"الشاتات" لتغطي على النص، بدل أن "تغطيه".

وكما ينبذ سوريون اليوم رموز سلطة الأمر الواقع الاستبدادية من وجدانهم السياسي والاجتماعي، خلّف سوريون كثر أيضاً من قبل وراء ظهورهم الشاردَ من مثقفيهم ومعارضيهم، ممن أمست مسايرتهم عبئاً قاتلاً على القافلة. وذلك منذ التجأ "العامة" إلى الصحون اللاقطة في تسعينيات القرن المنصرم، ناشدين "فرجة" أخرى، بعيداً عن إلغائية السلطة، ولغو المعارضة.

غير أن عدداً لا يستهان به من هؤلاء المثقفين يعود اليوم لمحاولة "تفعيل" حسابه، غير "المعرّف" أصلاً لدى قطاع واسع من "جمهوره/ شعبه". مقتنصاً هذه المرة فرصة "تقنيّة" في الإعلام الاجتماعي الذي لم يكن له أي يد نضالية وإن في رفع الحجب عنه قبيل الثورة.

إعلام اجتماعي مبذول حتى لمن لا يملك منهم شخصيّة "حقيقيّة". أو لأولئك من مدمني التنكر "الأيديولوجي". لينطبق عليهم (بكل متاعهم الثقافي الرصين) ما سبق ونعتوا به شباب الجيل الذي تلاهم بأنهم:

"متهورون، مباشرون، ومهتمون بالتواصل... حتى وإن لم يكن لديهم شيء مهم يقولونه"!



اكذب ولن تصدّق أحداً بعد اليوم






سامورا غوشي ("بيتهوفن" الياباني)، المنكوب مؤخراً بافتضاح كذبه "السيمفوني"، ليس سوى طالب فاشل في إحدى زوايا المدينة الجامعية مترامية الأطراف، والتي تخرّج في كل لحظة أفواجاً من الموسيقيين والرسامين والكتّاب والراقصين والأكاديميين، ممن يتقنون حرفة الكذب بنموذجه "الطوباوي" الأمثل.

دعونا لا نقف عند غوشي الوقفة التي بُهت لها كثير من مثقفينا الشهر الفارط. فلدينا في مراكز البحوث والدراسات، العربية منها والإفرنجية، أكثر مما يسد الرمق فيما يتعلق بمسألة الانتحال أو "Pseudologia Fantastica" وشقيقتها "Mythomania" أي الكذب، إذ أننا ما زلنا قريبي عهد بما درجت عليه تلك المنابر "الأكاديمية" لعقود من الترويج لفكرة أنّه نتيجة للديكتاتوريات المستحكمة في بلداننا، وبسبب الفقر والعوز المستشريين في طبقاتنا "الكالحة"؛ واستتباعاً لمخاوف "الأسلمة" و"السلفنة"، وانكفاء شباب العرب نحو الجنس "السايبيري" وطوابير تأشيرات الهجرة، ناهيك عن قرب احتفال "أولاد عمومتنا" النوويين بأول مائوية استعمارية على أرض فلسطين؛ فإنّ شيئاً ما في منطقتنا لن يتغير. وما حصل هو أنّه للأسباب آنفة الذكر بالضبط تغيّر كل شيء.

ثم ماذا عن فلول الكتبة الكذبة الذين تزدهر صحائفهم (المتربصة بالعدو طبعاً) على حساب غابات الأمازون؟ زادهم في هذا ليس سوى قول من قال: "من السهل على الناس تصديق كذبة سمعوها في الماضي، على أن يصدّقوا حقيقة يسمعونها للمرة الأولى".

ذلك أنّ الكذب الإعلامي لا يستفحل إلا عندما يبدأ الشعب بالظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، إذ لا ضرورة لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين حتّى آذانهم في بؤس الواقع. والاقتباس السابق للفيلسوف البرازيلي باولو ريجلوس فريري، الذي توفي أواخر القرن المنصرم بعد أن صبغ لحيته البياض وهو ينادي ـ من واد آخر ـ بتحرير التعليم من الأكاذيب الرصينة الموثّقة "علمياً" و"تاريخياً".

فمنذ أيام تعليمك الأولى ـ كمثقف في "الكُتّاب" ـ تدخل المدرسة وتشاهد الكذبة "التربوية" الأولى محبّرة بحجم جدارية للأب القائد. ليدركك اللباس العسكري المدرسي سريعاً على سبيل إعدادك لمعركة مصيرية لا نيّة أصلا،ً لمن ألبسك تلك البزة، في اجتراحها ولو لفظياً. لتعلم بعد سنوات أنك أنت من أُردي ـ لا عدوك ـ لحظة ارتدائك إيّاها.

وكل هذا ولم تفتح بعد صفحة واحدة في دفترك الصغير الذي ستتسع سطوره تباعاً وبالإكراه الاستظهاري لمجلدات من النفاق القومي، والتقية الماركسية، والحتمية التاريخية المذهبية، واستشرافية التراث ومستقبليته.

الكذب هنا بوصفه آلة من آلات القهر، وسلاحاً من أسلحة الدمار "الثقافي" الشامل الذي يذوّب ـ كالكيماوي ـ مَلَكَةَ النقد وفطرته لحساب مسلمات مفبركة، أو فبركات تُلصق بالمسلمات فيصير نقضها وكأنّه نقض للبديهية نفسها.

تـَكاذبُ الإكليريوس على غاليلو وكوبرنيكوس لم يوقف دوران الأرض لا في رأسَي الفلكيَيْن ولا في عينَي تلسكوبيهما المصوبين نحو "الصدق" السارح في أعماق المجرّة؛ بل أوقف سيلان المادة العصبية لعقود في أدمغة الملايين الذين ظنوا بهذين المناضلين الشعوذة والهرطقة، قبل أن يصبح التجديف القديم ـ لاحقاً ـ مادة أصيلة لكل إيمان بالمستقبل.

والكذب يستبطن العنف ضرورة، رمزياً بحسب بورديو، أو ناعماً باجتهاد ألتوسير، إلى أن ينتهي بنا المقام متفرجين على نهاياتنا بأيدي وأرجل قبائل موظفي العلاقات العامة وعشائر الخبراء المشهود لهم من طبقة "الزبد" السياسي الطافية.

لكن دعونا لا ننسى أن الكذب في النهاية بحاجة إلى اثنين لتقوم قائمته: كذوب شارد، وصدّيق وارد.
يأخذ بيدنا إلى عينة من الكذب "المثقف" الذي تواضعنا على الفخر به، ما يقوله ابن سلام الجمحي البصري في لحظة مكاشفة (لعل لحيته ورأسه ابيضّا بسببها وله سبع وعشرون سنة): "وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة من بعد، فزادوا في الأشعار".

وتبقى المأساة الملهاة أنّ "عقاب الكاذب ليس بأنّ أحداً لن يصدقه مستقبلاً، بل بأنّه هو من سيفقد القدرة على تصديق أي شيء بعد اليوم". صدق برنارد شو. هذا أو فلنُقنع المحاصرين في مخيم اليرموك بأنّ لهم في "البسكويت" حصة.