2014-05-19

ذكرى رياض الصالح الحسين.. ثورة وكأس شاي

 
 
 
 
ما هي فرص أن تصاب بالصمم عام 1967، لا بعد أن تسمع البلاغ رقم 66 من رئيس البلاد القادم معلناً سقوط الجولان بيد العدو قبل 48 ساعة من حدوث ذلك على الأرض؛ إنّما إثر عملية جراحية في الكليتين؟ بل ما هو احتمال أن تجهض روحك بعد مخاض 9 أشهر بعيداً عن حراب البنادق الوالغة في حوض "حماة" الأحمر، لمجرد أن قلبك استنكف فجأة عن بث مزيد من الدم بعد استقالة كليتيك إيّاهما من جسدك، وفي المستشفى نفسه؟

سيكون اسمك عندها رياض الصالح الحسين، وسيكون عمرك 28 عاماً. كلّ عمرك. وستدرك باكراً أنّ الشعراء لا يحتاجون إلى قلوب، القلوب هي من بحاجة إلى الشعراء.
 
"يركض في عينيه كوكب مذبوح
وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
ومحيط من العتمة الطبقية
في عينيه - أيضاً - 
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد".
 
خفقت "دورته الدمويّة" للمرة الأولى في درعا، ولم يكن لاسم المدينة في عام 1954 بعد خرائط مفصّلة في العيون على "غوغل مابس"، ولم تكن شرايين قمحها قد حُزمت لـ"الخراب" القادم.
"أنيروا لنا الشوارع، أطلقوا الحقول كي تركض وراء الماء الذي جفاها، وقبل أي شيء آخر؛ هل في مصانعنا الوطنية كمّادة تعيد لصق أظافر صبياننا المشلوعة ثانية على صورة العائلة؟".
لو كان الصالح الحسين على رأس عمله الصحفي في 2011 لكان هذا هو فحوى الرسالة الهاتفيّة التي سيتلقاها في جريدته من أهله في درعا البلد. ودرعا المحطّة كانت لتقول له:" إنّ حسام، ومحمود، وأيهم، ومنذر، ورائد*، كانوا مثلك عندما قلت:
 
"لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لاثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة".
 
أستاذ رياض، مَنْ كنتَ بانتظارها، تحاول منذ بضع ساعات تخطي حواجز الأمن السياسي كي تتحدث إليك. هل يمكنك شراء جوّال حديث لنرسل لك ببعض الصور كي تراها؟".

نعم، قبل عشرين شتاء، كان أحدهم يلتقط صورة له، لا يظهر فيها الشخص الذي يشير إليه بسبابته.
 
"مساءً جاء الرجال متعبين من المرعى
مساءً جاءت النساء متعبات من الحقول
للرجال قلوب موشكة على السقوط
وللنساء عيون موشكة على البكاء
في المساء جاؤوا ورقصوا حتى الصباح
الجرح صار أغنية
والتعب مزماراً
غير أن رجلاً ما
ظلَّ جالسًا في الزاوية البعيدة
البندقيَّة بين يديه كأفعى
...والحياة في عينيه زمن من فخَّار
الرجل الذي ينظر بصمت
لا يبدو أنَّهُ يشاهد التلفزيون
ولا يبدو أنَّهُ يحلم
ولا يبدو نائمًاً
...اللئيم
ما الذي يفكِّر فيه؟"
 
بسط الشاعر ذراعيه وطار إلى "مارع". أصابعه أطول من الريش الذي غطّى كليتيه.
" قصفَ الطيران الحربي التابع للنظام بالبراميل المتفجرة مدرستين في مدينة مارع بريف حلب، مما أسفر عن جرح عدد من الأطفال".
 
"ومن كأس شاي وسيجارة تبدأ الثورة العالمية
أو تبدأ الأمنيات الكثيرات
يبدأ الخطباء خطاباتهم
والجنود رصاصاتهم
ثمَّ أفرغ من الحزن
أقذفه تحت قبَّعة الجنرال
وأركض في مقتل لا يحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي
ومقتنع باضطهادي
وفي زمن لا يحدُّ أرى من أحبُّ على شاطئ
تستريح من اليأس
تسألني عن مكان لذيذ بلا شرطة
نتبادل فيه الأناشيد والقبلات
أجيب: هو البحر
قالت هو البحر. قالت هو البحر
وابتسمتْ".
 
اكتملت قصائد رياض الصالح الحسين قبل أن ينتهي كلام نبوءته القادمة:
 
"يا سوريا الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سوريا التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سوريا القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء".
--- 
* حسام عياش ومحمود جوابرة وأيهم الحريري ومنذر المسالمة ورائد الأكراد، هم الشهداء الخمسة الأوائل في الثورة السورية من مدينة درعا.
 
 

2014-05-16

النكبة.. خِسّة الكائن التي لا تُحتمل Nakba.. The Unbearable Meanness of Being

 
 
 
 "في مثل هذا اليوم من عام 1948 قام العدو الإسرائيلي باحتلال جزء غال على قلوبنا من وطننا العربي الكبير.."، أو "أيّها الرفاق الشبيبيون، تمرّ علينا اليوم هذه الذكرى الأليمة، ونحن أكثر تصميماً على الصمود، و.."، أو "في 15 من أيار/ مايو قبل 30 (40، 50، 60) عاماً طُرد شعبنا الفلسطيني البطل من..".
 
جمل وعبارات كهذه، طرّزت طوال العقود الماضية مواضيع "التعبير" التي كانت تُطلب منّا في المدارس. صديقي وأنا، تلميذان سوريان في "طلائع البعث" (منظمة حزبية للأطفال)، وفي "شبيبة الثورة" (منظمة حزبية لليافعين والمراهقين)؛ احتكرنا لسنوات العلامة الأعلى في "الإنشاء". وكما في "عيد الأم"، و"يوم الكتاب"، و"الحركة التصحيحية" (انقلاب الأسد الأب)؛ حبّرنا وقتها بأقلام الرصاص معلّقاتنا الصغيرة عن شيء قالوا لنا إنّه مهم، وإنّ اسمه: "النكبة".
 
كان عليّ أن أنتظر حتى عام 1991 (مفاوضات مدريد) كي تنتهي حصّة "التربية القومية الاشتراكية"، لأخرج سريعاً من صفّ "ما أخذّ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة"، وأهرع إلى التلفاز لأشاهد للمرة الأولى وجه رئيس وفد "الكيان الصهيوني التوسعي الاستيطاني الغاشم"، اسحق شامير، جالساً في غرفة نوم الملك الإسباني، مع وزير خارجية "الصمود والتصدي"، فاروق الشرع، بعد خمسة شهور على ذكرى النكبة إيّاها.
 
بالنسبة لي، كانت تلك المرة الأخيرة التي أكتب فيها عن شيء يطلب مني "هؤلاء" أن أكتب عنه. وتدهورت بعد ذلك علاماتي الدراسية، لا في الإنشاء فحسب، بل وفي الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والكيمياء، والفتوّة (تدريب عسكري للطلاب). وحده مدرّس التاريخ، حافظ على صداقتنا الحذرة، وظلّ يقترح عليّ، بالرموز والألغاز، عناوين مراجع عن الثورة الفلسطينية لم يرد ذكرها في المقرر "النظامي".
 
سنوات أخرى ستمر ببطء، قبل أن يهمس في أذني مساعد في أمن الدولة بأنّ "فنجان القهوة" التالي قد يكون من بُنّ "فرع فلسطين"، ما لم أتدارك أخطائي الإملائية –والتاريخية- في مقال لي يسيء إلى "البلد"، و"قيادته الحكيمة" التي لن تدخّر جهداً في ردّي إلى جادة الصواب.
 
انتحلت شعبة المخابرات العسكرية 235 تلك اسم فلسطين، بعد أن تخصصت لبعض الوقت في ملاحقة عناصر المنظمات الفلسطينية غير المرغوب فيها من قبل "بطل الحرب والسلام" (حافظ الأسد). وذلك قبل مجزرة "تل الزعتر" (1976) وسواها. وكان من العسير "ممانعة" طعم قهوة ذلك الفرع، فهي تماماً كما وصفها المساعد جذلاً: "غير شكل".
 
"النكبة" اليوم، مصطلح ثقافي بات يُنطق بلغات أخرى بلفظه العربي (استخدمه أمين عام الأمم المتحدة في 2008)، شأنه في ذلك شأن كلمة "انتفاضة". والـ"Intifada"، هي "الربيع الفلسطيني" الذي يفوت المؤرخين والسوسيولوجيين العرب (وغير العرب) الالتفات إليه في معرض تحليلهم، وتركيبهم لسياقات الثورات المحلية والإقليمية في السنوات الأخيرة.
فما قام به الفلسطينيون منفردين بين 1987 و1993، ها نحن ذا نكرره (بأخطائه أيضاً) منذ 2011.
 
بيد أنّ ثقافة التجاهل تلك، لا يفوقها في القدرة على التهميش، وتخريب مداميك البنى الفكرية التي تستعد لوراثة شعبوياتنا النضالية المكرسة بين ظهرانينا، سوى ثقافة "فرّق تسد" الموروثة بدورها عن صديقنا اللدود الذي نسميه "فتوحات" عادةً (هِند، سِند، أندلس..)، أمّا في حال صادف أننا على الجهة المقابلة فسيكون اسمه "استعمار" من دون أدنى ريب عروبي، أو ماركسي.
 
التجزئة القطرية التي يمكننا أن نطالع في مثل هذه الأيام (يوم الأرض، يوم النكبة، يوم النكسة) النسخ الأحدث من تدبيجات مقاومينا الفولكلوريين في هجائها؛ يقوم على تكريسها وصناعة نموذج مطوّر عن محركها القديم (سايكس- بيكو 1916) "الرفاق" إيّاهم، بمواقفهم "النكبوية" تجاه الثورات القائمة، والاصطفائية الدوغمائية التي يحللون بها بعضها (ليبيا ومصر)، فيما يدمغون بعضها الآخر بالحرام شرعاً (سوريا)، ناهيك عن الانتهازية الصبيانية، والمتقلبة، نحو أخرى (البحرين).
 
هؤلاء من يقولون اليوم للفلسطينيين: أنتم لستم جزء من الصراع ضد الطغيان في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا والعراق والجزائر. وفي المقابل يطلقون على شعوب هذه الأقطار نيران بروباغانداهم (وأسلحتهم في سوريا) لحشدهم في "قميص عثمان" الأرض المحتلة. أي ما معناه: "نعم لفلسطين، لا للفلسطينيين". لسان حال عربي قح للمقولة الصهيونية التي ترى في تلك الكينونة أرضاً بلا شعب، وجغرافيا بلا ثقافة.
 
المليون الذين كانوا يقطنون مخيم اليرموك في دمشق (قبل هبوط البراميل) ربعهم فقط من الفلسطينيين. لكن الـ 750 ألف سوري الآخرين يقولون إنّ عاصمتهم الثقافية الأولى هي القدس منذ 1954 (تأسيس المخيم).
 
فأولى شرارات "المؤامرة الكونية الفلسطينية" (الثورة) ضد "واحة الديموقراطية" (إسرائيل) انطلقت من هذا المخيم، واتخذت عصابات "المخربين والإرهابيين" (الكفاح المسلح) من أرضه معقلاً لها منذ السبعينات، بمشاركة الآلاف من السوريين "المرتزقة" (الفدائيين) الذين شاطروا الفلسطينيين فصائلهم منذ العام 1965. وفي اليرموك كانت أول مقبرة لشهداء تلك الثورة الذين شكّل السوريون ما يقارب ثلث عددهم الإجمالي بحسب المؤرخين الفلسطينيين "المُغرضين" أنفسهم.
 
ويأتيك بعد هذا من يحاول إقناعك بأنّ على الجزء الفلسطيني من هذا النسيج الثمين أن يظلّ "فيزيائياً" على الحياد، فيما يحترق باقي الثوب بفعل "الكيماوي". وبأنّه ليس للفلسطيني في بلداننا العربية أن يفتح فمه قبل استرجاع البذور الممضوغة منذ سبعين عاماً لبرتقال يافا. لكنه قد يصبح قائداً للنضال المسلح ضد الاستغلال والقمع (شفيق حنظل جبهة التحرير الشعبية "فارابوندو مارتي" 1980-1992)، أو رئيساً للجمهورية (أنطونيو السقا 2004-2009)، إنّما في السلفادور.
 
"سايكس- بيكو" الجديدة ليست تلك الخريطة التي نشرتها "نيويورك تايمز" في أيلول/ سبتمبر الفائت، ولكنها خريطة أخرى تحفرها معاول من يكتبون أساطيرهم بأيديهم، وينصبون أنفسهم شعوباً ودولاً، وأحزاباً، وقيادات مختارة من قبل الله، صانع أرض الميعاد.
 
مرت دماء فلسطينية كثيرة تحت الجسر، قبل أن يمدّ معتوه دمشق الحالي يده ويصافح رأس النظام الإسرائيلي، موشيه كتساف، في جنازة بابا الفاتكيان (2005)، ليتبعه تصريح شايلوك السوري (اللص متعدد الاستخدامات) رامي مخلوف، بأن استقرار نظام مُبْتَدِع سياسة تكسير عظام الفلسطينيين، وحامل نوبل للسلام النووي، شمعون اسحق بيريز، مِنْ استقرار نظام سيد البراميل، وحامل نوبل للسلام الكيميائي، بشار حافظ الأسد.
 
نعم. يحق لدكتاتور ممسوس أن يهاتف المجرم بنيامين نتنياهو عبر سنترال تركي "إخواني" (2008)، ويحق قبلها لميلشيا أصولية أن تعقد هدنة مع ورثة "الهاغاناه"، و"البالماخ"، و"الأرغون"، و"شتيرن" باللغة الأميركية الفصحى (1996)؛ لكنّ مثقفاً (الياس خوري) أقام الفلسطينيون مخيماً يحمل اسم "باب الشمس" بين الضفة والقدس (2013) تيمناً بروايته التي جعلت من النكبة أيقونة أدبية، لا يملك الحق في الترافع عن قضية فلسطين، وإسماع الإسرائيليين ما لا يحبون سماعه في "هآرتس".
 
لماذا؟ لأنه لا يملك قوات "كوماندوس" سلفية خاصة به. ولأنّه لم ينفق ريع كتاباته كي ينشئ جهاز مخابرات مدرّب على حيل القتل الرزين. لأنّنا في "مزرعة الحيوان" هذه، نملك جميعنا حقوقاً متساوية، لكن حقوق بعضنا أكثر مساواة من حقوق بعضنا الآخر على ما يبدو، خاصّة عندما تتأرجح الكفة بين حق القوة، وقوة الحق. بين ثقافة القوة، وقوة الثقافة.
 
خرجنا في دمشق إبان العدوان الإسرائيلي على غزة (2009-2008) متظاهرين، منددين، لكنّ ارتفاع أسعار الديزل عامها بأكثر من 250% منع كثيرين من قيادة مركباتهم المتواضعة في محافظات سورية عدّة للمشاركة في الاعتصام الجامع. فكّرنا حينها أنّ مظاهرة ضد الفساد والنهب الذي رفع الأسعار قد يكون مفيداً أيضاً لفلسطين. بعدها بثلاث سنوات فعلناها.
 
 
 

2014-05-07

المشهد سوري، وبيروت الخشبة Drama: Syrian Scene on Beirut`s Stage

 
 
 
 
 
مسرحيون سوريون هاربون من الستارة المسدلة في دمشق، حيث الطَرَقات الثلاث على الخشبة قد تنتهي إحداها بدقّ عنق الممثل.
فهل وجدوا مساحة في لبنان تمكنّهم من إلقاء نصّهم، وتحريك شخوصهم كما أرادوا؟ هل بيروت لهم مجرد خشبة كباقي المسارح في أي مكان آخر، أم ثمة احتطاب جديد هنا، أوان يضطّرم الحريق هناك؟ هل خاطبوا الجمهور اللبناني بلغتهم، أم اكتفوا بخطب ودّه العاطفي؟ أم لعلهم سوريون مثلهم مَن يتلقفون غروضهم هنا أيضا، ويصفق أو لا يصفق لهم؟ هل هم لاجئون مسرحيون - إن كان لا يزال في المسرح أصلاً فسحة للجوء- أم مسرحيون يستكشفون صباح "ثورة"؟
 
 "ليس مهماً لي إن كان جمهور عروضي لبنانياً، وفي الوقت ذاته لا أعتقد أنّي أوجّه عملي لجمهور سوري. ولكن شئنا أم أبينا هناك سوريون كثر في بيروت اليوم".
بهذه العبارات يلخّص الكاتب والمخرج المسرحي الشاب مُضر الحجّي جوابه عن إشكاليّة تلقي الجمهور في لبنان، للعروض السوريّة على ضوء ما يجري الآن في بلده سوريا.

الحجّي الذي مضى على وجوده في لبنان قرابة العام؛ يرى في بيروت مكاناً "مناسباً" لعمل الشبان المسرحيين السوريين، لأنه "ما من خيارات أخرى"، فالقاهرة مثلاً "كبيرة، وليس فيها سوريون كثر"، في حين تفتقد عمّان لـ"هذه الحالة المسرحيّة الموجودة في لبنان".
 
المسرحي السوري الشاب بصدد كتابة نص مسرحي جديد، وقناعته أنّ التفكير في جنسية "المتلقّي" أثناء الكتابة "أمر غير صحّي". وإنْ كانت "حكايته" سوريةً؛ فهذا لا يعني بالضرورة أنّها "موجهة لسوريين"، مجادلاً بأنّ "طرح أسئلة إنسانية عامّة" هو من "لزوم ما يلزم" على من يريد تقديم عمل فنيٍّ خلال "الثورة"؛ وملاحظاً في الظرف "الاستثنائي" السوري "فرصة" لتناول هذه الهموم التي ستتخذ بدون شك "شكلاً" آخر، وبالتالي تمنح الإجابة عن السؤال القديم "مقاربة" أكثر جدّية.


لكنّ الممثل المسرحي هاشم عدنان، وأحد أعضاء فرقة "زقاق" اللبنانية، يرى أنّ ثمّة "مقاومة" من الجمهور اللبناني تجاه أعمال الفنانين السوريين، ناتجة عن "العنصرية الواضحة التي تتملك بعض المجتمع اللبناني تجاه السوريين عموما". ويضيف: "هذا يضع عائقاً أمام تفاعلك مع الفن السوري المعروض، وهو أمر يكبّل الطرفين: الفاعل الفني السوري، والجمهور اللبناني".
 
بدورها تثني الفنانة المسرحيّة اللبنانية لميا أبي عازار على رأي زميلها في فرقة "زقاق"، فتصف الساحة الفنيّة اللبنانية التي يؤمّها كثير من السوريين اليوم بأنّها "فخ". منتقدةً الصورة النمطية عنها التي توحي بوجود "فضاءات حرّة"، و"احتمالات عمل ناجزة"، ناهيك عن الوعود المرسلة ربما بـ"مردود مادّي" أيضاً. بيد أنّ واقع الحال يقول، في نظرها، إنّ بيروت "قاسية"، و"مكلفة". هذا إذا تغاضينا عن "الأوضاع الأمنية الشخصية" لهؤلاء الفنانين، و"القلق السياسي" من المكان الذي يوجدون فيه اليوم، "مرغمين ربما".
 
الاعتبار الأمني الأخير بالذات، أمر لا يمكن لضيفنا الثالث أن "يتغاضى" عنه "أبداً". إذ طلب من "العربي الجديد" عدم ذكر اسمه الحقيقي. فهو يحضّر لعمل جديد، بعد هربه من دمشق أخيراً، ولا يريد أن يفسد على نفسه فرص عملية الاستكشاف التي ما زال مستمراً فيها، بحثاً في إمكانية تنفيذ عرضه هنا.


يقول "لؤي" (اسمه االمستعار)، معلّقاً بهدوء على مسألة الجمهور هذه: "ربما لن يحرم الظرف "التقني" (الأمني) اللبنانيين فقط من حضور عرضي (في مخيم شاتيلا)، بل سيحرمني أيضاً من أن أقدّمه في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي أتمنى أن أعرض فيها وأخرج منها سالما!".

ويؤكدّ "لؤي" أنّ السويّة الفنيّة الجيدة هي ما يشغله في عرضه، وليس مجرد تقديم شعار "عاشت سوريا، يسقط بشار الأسد". وأنّ سعادته بالعرض إيّاه ستكتمل إن كان بين الجمهور "وجوه جديدة من ذوي الأكفّ المشققة، أو ممن تحت أظافرهم سواد"، أكثر من حضور مزيد من الصحفيين. ولكن هذا لا ينسيه قناعته بأنّ الفن "لا يقتصر خطابه على جنسيات وطبقات بعينها. الفن موجه للإنسان، كل إنسان".
 
 

المسرح ملاذاً..


 

بدون عسكر أو قذائف وقبل زمن الغارات الجويّة التي يُفرغ أزيزها الروحَ قبل الشوارع، وقبيل عودة المفخخات إلى ذَرْعِ الهواجس وتَوُسِّدِ الكوابيس؛ أُغلق "مسرح بيروت"، أحد أقدم مسارح المدينة، في نهاية 2011. العام الذي بدأ فيه عدد من المسرحيين السوريين بالتفكير بالقدوم إلى لبنان - وإن مؤقتاً - حاملين بعضاً من خشبتهم.
 
صار الصليب أثقل، وزادت الأوضاع الأمنية غير المستقرة في المسامير المضروبة فيه، خصوصاً للهاربين الذين كانوا يتوسمون في نجوم السماء "الشقيقة" شيئاً من الخلاص.
 
المخرج المسرحي السوري، لؤي، الذي يستخدم هنا اسماً مستعاراً "على نحو مؤقت" على حد تعبيره؛ لا ينكر "الخوف" الذي لَمَسَهُ زملاؤه اللبنانيون لدى بعض المسرحيين السوريين الذين يحاولون الاجتهاد في لبنان؛ بل يؤكد أنّه خوف مرتبط بـ"العرض ذاته"، وبـ"الفريق الذي يقدّمه".
 
لكنّ شغله الشاغل اليوم يتجاوز هذا الأمر، ليس إلى "لوجستيات العرض التي تغيّرت" عن تلك التي اعتادها في سوريا، أو إلى "الميزانية" التي تضاعفت حكماً هنا، أو إلى ضرورة أن تكون المسرحيّة بـ"الفصحى" كما كان مقرراً في دمشق، أو بـ"العاميّة" كما قد تصبح في بيروت؛ بل إلى سؤال "المسرح الآن"، الأكبر برأيه.
 
"السؤال الذي بدأت أفكر فيه منذ بداية الثورة في سوريا، وتأكدت من جوابه في بيروت، هو: "هل مِن داع لأن أعمل أنا شخصياً في المسرح أم لا؟". وبعد أخذه نفَساً أخيراً من سيجارته، استطرد قائلاً وهو في طريقه إلى إشعال أخرى على الفور: "للأسف الوضع هنا لا يشجعك عملياً على تقديم عروض مسرحية، لكن هذا ليس ذنب الجمهور كما قد يتراءى لنا عادة".
 
ويكشف لؤي، الذي أخرج أول عمل مسرحي له في 2012، عن بعض الهواجس التي كانت تنتابه أخيراً، حول مقولات "أخذ المسرح إلى الجمهور" بدل انتظاره أن يأتي إليه، مروراً بـ"عدم إدراك الناس لأهميته"، وليس انتهاء بسيل الانتقادات "التثاقفيّة" التي اعتاد الفنانون توجيهها إلى "جمهورهم".
 
النظرة التي كانت في رأسه عن البلد (سوريا)، قبل 2011، بوصفه مجرد "مستنقع"، وعن "الجمهور" كجمعٍ بشري "خانع وضعيف ومذلول وفاقد للطموح"؛ تغيرتْ كليّاً بعد بدء "الثورة". يقول لؤي: "ما زلت أريد أن آخذ المسرح إلى الجمهور، إنّما هذه المرة لأكتشف ذاتي أنا، ولأرى فيما إذا كان هذا الفن الذي أحب وأدعي أنّه يستحق أن يستمر جديراً بذلك فعلاً". ويضيف بثبات: "أنا من كان غبياً، لا مجتمعي، الذي بفضله أقول اليوم إنني استعدت كرامتي، وأعرف أنّ هؤلاء الناس لم يكونوا يفعلون فقط الأكل والشرب، وإنّما امتلكوا في لحظات كثيرة هواجسي ذاتها".
 
"المسرح ملاذاً؟".. عن هذا يجيب هاشم عدنان، كاتب "جنة جنة جنة"، أحد آخر عروض فرقة "زقاق" اللبنانية، والذي لاقى صدى طيباً لدى عرضه في بيروت أخيراً: "نعم، واليوم أكثر من أي وقت مضى". وبالنظر في عينيه، يتأكد لنا أنّها ليست إجابة حاضرة يرتجلها المسرحي اللبناني الشاب جزافاً.
 
ينافح عدنان عن مقولة أنّ المسرح يعرض خيار "المساواة" على الناس وهي مقولة ثوريّة، إذ "يساوي بين الجمهور، ومَن هم على الخشبة، فالجمهور دائماً جزء من العرض"، وهو فن يتعاطى معنا جميعاً كـ"مواطنين يعيشون في ذات الفضاء وذات التجربة".
ويضيف: "هل هي خشبة مسرح فقط تلك التي يرغب الجمهور في اعتلائها، أم خشبة الشارع؟ هل هي المقارّ الحكومية، والفضاءات العامة؟ أم تراها مساحاتنا الخاصّة التي تقتحمها السلطة عبر تفاصيل معيّنة؟". وتومي لميا أبي عازر برأسها موافقة زميلها في "زقاق"، الفرقة اللبنانية التي تعدّ واحدة من المبادرات المسرحية الأكثر انخراطاً في النشاطات المجتمعية محلياً.
 
من جهته، يسارع صاحب مشروع "كيت، كيت" الذي ينظّم ورشات كتابة القصص الشخصية للاجئين السوريين، مضر الحجّي، إلى سرد "أمثلة عملية" مصداقاً لكلام زملائه، مستدلاً بالأشكال الفنيّة التي بدأت تأخذها المظاهرات في إحدى مراحل الثورة في سوريا، و"المشاهد التي كان يمثّلها الناس، ويتفرج عليها الناس، والتي كانت تُعاد، فيعود الناس ليتفرجوا عليها مجدداً".
 
يقول الحجّي متأثراً: "هل من الحماسة الفارغة في شيء القول إنّ هذا يذكّرنا بنشأة المسرح من الطقس الديني اليوناني؟"، ويضيف: "ماذا أيضاً عن حالات النشاط المسرحي في المخيّمات والمناطق المحررة؟". مطالباً إيّانا بعدم تناسي أنّ جُلّ مَن يعمل في القطاع المسرحي اليوم يقوم بذلك للمرة الأولى في حياته، مستخلصاً من ذلك أننا أمام "فاعلين ثقافيين جدد" ينفّذون "انقلاباً" على "المكرّسين القدامى"، وهذا بحد ذاته "شكل من أشكال الثورة".
 
 في واحد من بواكير العروض المسرحيّة التي تطرقت للأحداث في سوريا، واستضافتها بيروت، تلقّى الفنانان المسرحيان اللبنانيان روجيه عسّاف وحنان الحاج علي، تهديدات بـ"هدّ" مسرح "دوّار الشمس" على رؤوس الحاضرين، في حال أصرّا على المضي قدماً في العمل الذي مهّدا له سبل الخروج إلى الهواء. ما استتبع اتخاذ الجيش اللبناني تدابير أمنية غير اعتيادية قرب المكان. لكنّ العرض استمر، وتلته عروض أخرى على الخشبة نفسها.
 
ولعل مسرح "زهرة سوريا" لن يُذكر في التاريخ على أنّه من أوائل المسارح البيروتية فقط؛ بل ربما يحمل سَمِيٌّ له، في قادم الأيام، لقب أحدثها أيضاً.
 
 

مسرحة الثورة

 

بين العروض السورية التي استضافتها بيروت في السنوات الثلاث الأخيرة ما قدّم نفسه على أنّه "مسرح الثورة". ومنها ما تجنّب حتّى استعمال اللفظة، وهذا ما لا يرى فيه مضر الحجّي، أحد مؤسسي "ورشة الشارع" للكتابة المسرحية في دمشق، ابتعاداً عن "الواقع"؛ ضارباً المثل بمسرحية "الغرف الصغيرة" لوائل قدّور، الذي كان عرضاً بعيداً "نظرياً" عن "الحدث السوري"، لكنّه خلق - مع ذلك - "حواراً حول المسرحيّة،وحول ما يحدث في سوريا الآن".
 
وهذا السؤال، برأي الحجّي، يحيل إلى سؤال أكبر حول علاقة الفن بـ"المرحلة، أو الثورة، أو الأزمة دعني أصغها لك هكذا "بما يحدث"، ويضيف: "بعضهم يبحث في هذا السؤال، وبعضهم الآخر لا، إلى أن يقول أحدهم: هذا العمل لا يقدّم قراءة صحيحة للثورة السورية. ويواصل المخرج الشاب حديثه: "إلى أي حد على العمل المسرحي أن يقدّم قراءة للثورة السورية؟".
 
ولا يدّعي الحجّي أنّه يملك جواباً على هذا السؤال، لكنّه جدّ متأكد من أنّ هذا هو "وقت طرح إشارات الاستفهام هذه". ويؤكدّ عضو فرقة "زقاق" المسرحية في لبنان هاشم عدنان سؤال الحجّي قائلاً: "لقد سألت نفسي في آخر عرض سوري حضرته، إن كان عليّ أن أٌحاكِم العرض انطلاقاً من تعاطفي مع الثورة السوريّة أم من منطلقات إنسانية محضة؟ لدرجة أني كنت أكلّم نفسي داخل العرض".
 
لا تخفي زميلة عدنان في "زقاق"، لميا أبي عازار أنّها تتقصّد حضور العروض السورية في بيروت، من باب "الفضول أولاً"، ورغبة منها في معرفة "ما يدور في رؤوس الفنانين السوريين ومواقفهم والإبداع الذي يقدمونه في الوضع الذي هم فيه حالياً، من لجوء أو صمود داخل سوريا". إنما دائما "بغض النظر عن التوجهات السياسية". قبل أن تضيف: "هناك عروض شبابية سورية فتنتني لدرجة أني ألحَحْتُ على أصحاب العرض كي يقدّموا عرضهم في فضاء "زقاق". لقد كان شيئاً لم أحظ بمشاهدة نظير له منذ فترة طويلة". وهنا يقاطع عدنان زميلته ليقول: "علينا أن ندرك أنه قد يكون بين الفنانين السوريين مَن هو بحاجة إلى أن يضع مسافة ربما تكون ضروريّة له مع الواقع، والتي قد لا يتمكن بدونها من إنتاج عمل مسرحي أصلاً".
 
ويلمس عدنان من خلال تجربته مع بعض العروض السورية تأثير البيئة التي يعيش فيها الفنانون، من حيث "وجود سلطة رقابية تلقائية ما زالت قائمة في أذهانهم"، علاوة على وجود "خوف معين" من المكان الذي قدموا منه وخوف آخر من المكان الذي يعرضون فيه.. وهما خوفان مبرران برأيه.
 
 
 
 
 

2014-05-05

يوميّات بيروت: إنْ كانَ "أُنْسيَ"، فنحنُ ذاكرون



 


 

--"خير أستاز، الهيئة في خبر سياسي عاجل؟"

- "توفى أنسي الحاج... الشاعر"

--"أيواا،... أنا ما بعرف شعرا"

مضى زمن قصير بعد وفاة "جوزف حرب"، لكنّ زمناً قد مضى.

ساعتها كنت في غربة "شخصيّة" أخرى، أعمق. غربتي عن الشعر. ونسيت في الديوان الأخير الممتلئ بين يدي ذلك الـ"جوزف" الآخر، كما هُيّئ لي، الذي شاهدته في "ثقافي أبي رمانة" بدمشق، إلى جانب مَنْ قلّدوه أوسمتهم، فقلّدهم بشعره.

"أنسي" كان، شئنا أم أبينا، خبراً متوقعاً. وكما زالت "المجزرة" عن "حرب" اعتباطاً في تلك وبقي الشعر؛ زال الأخير عن "الحاج" في هذه، ضرورة.

يسحب السائق سيجارته من فمه بنزق، رافعا عقيرته بالصراخ عبر الشباك المفتوح، مطالباً بأحقيّته بالانعطاف بعيداً عن "الكورنيش البحري".

أُغلق هاتفي. وأستسلم لرتل السيارات الجديد المتوقف أمامنا. زحام في ساعة الذروة الـ"لا شعريّة" نحو "الحمرا".

هم الذين خلطوا الشعر بالسياسة، وأنّى لهما ألا يختلطا، وبنوا أمجاداً، منها ما بقي، ومنها ما "يتباقون" من أجله. وإلا فما مغزى "الشاعر، الكبير، الحداثوي، المجدد، التقدمي، المناضل، كذا.." في مستهل كل "تصحيف" يقاربهم؟

عندما أنظر مَن حولي، لا أجد مرثاة تملك "قوّة" أن تجبرني على ارتداء "خواتم" الحاج. فما بالي أنا الباحث عن خواتم أهديها، أجبرُ من أحبّ أنْ أمنحها، ولو سطرَ لُغةٍ، على اجتراح ذلك. وإلا فكيف يستقيم أنّ (كلّ قصيدة) هي (كلّ حب).

لعلاقة الفنون المصطفاة من الصفوة، بالسياسي من الاصطفاف؛ أسئلة جمّة، مُشكلة، ومعلّقة.. عند غيري.

أنا أملك في اللحظة استجابتي، أو هي تتملكني.

هو الذي في منافحته عن خبر، احتمال، وجود، تهديد، بخطف، إحدى الممثلات السوريّات من قِبَلِ "معارضيها"؛ نَسَبَ كل إبداعٍ "رَعوي" إلى "كافور" الرَاعي، مَنْ كان أضنّ الناس بالشهيق على أبناء جلدته، وورودهم المتفتّقة على "براميل" الصبّار!

ولكن ما علاقة النقمة على الفعل بـ....، إنْ كنتَ "أنسي الحاج" لا مجرّد "مُحلّلٍ" للتزاني "السياساتي" القائم؟

وهو يجيب على سؤاله قبل أن يصل حتّى إلى نهاية الاستفهام؛ (هل في سوريا بعدُ إلّا هواء المقابر؟). هو الجَذِلُ، التيّاه، بنَرْجِسَته.

وبعد تفعيلة: (لا السلطة _ أيّ سلطة _ تستحقّ نقطة دم ولا الرغبة في التغيير تستحقّ كلّ هذه الأضاحي)؛ يعود واقفاً على رَسْمٍ دَرَسْ، ليقوّلنا، أو يكاد: (النجدة أيّتها الحرب الشاملة!).

ولا بأسْ. طالما كان تعريف (الهولِ) سوريّاً؛ هو ما كان هو وراءه صغيراً، ولو وقف أمامَه لكَبُرْ. وطالما كانت "الحرب الشاملة"، منذ النكبة، هي طاقيّة الإخفاء، اليمينيّة-اليساريّة، لردّ (المؤامرة). المؤامرة التي يُحشّد فيها اليوم قهراً ملايين لا يكاد يجمعهم مشروب ساخن واحد بعد صياح الديك. وبعد ذلك؛ فلْيَعي، ولْيَرعوي، ذلك الفلاح، المتظاهر، المسلح، التكفيري، الذي ترك أرضه بعد عجافٍ سبعٍ، منذ 2004، ونُزِحَ به قبل "النزوح" ليُزْرع على حدود "إسرائيل" كي يَزرعْ. برعاية "اتحاد فلاحي" من هو قائم بالناس إماماً، (بتاريخ علماني ناصع)، طعّاناً لعّاناً، يرد كيد "العدوّ" بمكبّر الصوت، لا مكبّر الفعل. وللصوت أن يرتد صداه من البحر إلى البحر "الديماغوجي"، مادام صَمتُ الجَمْع مكفولا باللّجام.

اختارَ "أنسي" مؤخراً أن يكون ضمن النُخبَة القَصيّة، التي استمرأَتْ "تخزين" البشارة في أفواهها، فلمّا نَطَقَ بالنبوّة من لا يملك الطينَ حتّى؛ أبا التنازل له عن "حداثة" المنسوخ من مصحف "رسولته". متناسياً أنّ فعل الولادة الجديد، هو من أقدم الأفعال. ولكنّ المُصاب قد شخّص مُصيبته في غيره، وهو يقول: (إنّها ظاهرةُ عمَى الشَمْس).

في المَوتْ، إن كانَ لي أنْ أكونَ "مع" أحدٍ؛ فسأكون مع صديقة لي في الشّام تقطّعت بيننا الأسباب، إلا الأثيريّة الهوائيّة منها، على أنْ أكونَ "معه". هنا، في مدينته التي يأكل اسفلتها من حذائي، وآكل منه، إذ تكتب، صدفة، في ذات عين يوم وفاته:

"كنتُ أحاول أن أُقنعَ نفسي بأنّ الموتَ قد أضحى طقساً اعتيادياً في حياتنا. توفي اليوم خالي نتيجةَ خطأ طبّي غبي. كانت وصيّته أن يُدفن بجانب أمّه وأبيه في حمَاة. لا أدري إن كنّا نستطيع العبور به إلى هناك. سوف يُدفَنُ غريباً في دمشق. وسوف يبقى الموت خارج قوانين الاعتياد!".

إنْ تكتُبْ فيه بعد مَمَاتِهِ، فَقدْ كَتَبَ فيك وأنتَ تُقتل. ولعله كان عليه (وما زال… هل هناك وقت؟) أن يمتلك صدراً أرحب من "حداثييه" المقلّدين.

(على قدر تسلط هذا النظام فلم يبق له كثير، فإذا رشقته بحجر سيسقط، لذلك فأنا لست متفائلاً بالوضع في سوريا). لا، لا منْ أجْلِ "الحاج"، ولا من أجْلِ سِواهُ منَ "الحجيج" سنعيد تعريفَ الأمل.

لقد خاض أجدادنا حروبَهم ولا شك، ندوبُهم وِراثيّةٌ بالمناسبة، وها هم اليوم يَنعُونَ علينا، ما نُعيَ عليهم.

نعم، فلتسقط "العاموديّة" السياسيّة في معلّقات مثقفينا "التفعيليين"، الذين لا بدّ نحن مُسائلوهم: (ماذا صنعتَم بالذّهب، ماذا فعلتَم بالوردة).

__

v   كل ما بين قوسين (...) هو اقتباس عن الشاعر الراحل
 
19-02-14

2014-04-30

اليرموك والقيامة أمس Yarmouk..Apocalypse Yesterday


 
 


 
 
لم يخرجوا ليتشمسوا احتفالا بـ"يوبيل" إعادة الإعمار، ولا تنادوا تحضيراً للنهار المقبل الذي اضطرت الأمم المتحدة لتطويبه يوماً لـ"السعادة" هذا الأسبوع، كما أنّها ليست استذكاراً "نوستاليجياً" جماعياً لإحدى المظاهرات السلمية الأولى المطالبة بإسقاط نظام لا يريد له أحد –غير سلمي- أن يسقط. إنّه طوفان الجوع المتخم في مخيم اليرموك.

حُقّ للخيال المطلق أن تتشنج شطحاته أمام هذا المشهد الأسطوري، فما بالنا بخيال مَنْ هم يعانون أصلاً من فقرٍ مدقع فيه. وعليه فقد كان انسحاب هؤلاء السريع إلى غرف المهاترة والتكاذب أمراً متوقعاً، بل "عقائدياً".

كل "بيكسل" من هذه الصورة هو بعض ممن نجا - حتى الآن - من كائنات إنسانية فلسطينية سورية في مخيم القيامة المحاصر قرب دمشق، أقدم عاصمة مأهولة بالطغيان، حتى الآن.

244 يوماً، دون براز، أو قمامة، وأبنية مهشمة كرقائق الكرتون، ورؤوس، ورؤوس، ورؤوس، وذلك المسيح الشارد فوقها في المؤخرة وكأنه يهم ثانية بأعجوبة المشي على الماء... ماء العيون... العيون الشاخصة... الشاخصة نحو معجزة... معجزة يمكن "اللجوء" إليها هذه المرة، وقابلة للهضم، كالخبز.

ساعة الصحو الطارئة التي لا يمطر سقف الوطن فيها متفجرات، نمارس فيها رياضة "الطوابير". نقف جميعاً في رتلٍ طويل، ونمرّ واحداً واحداً لنفحص كلنا صدر ذلك القادم من العالم الآخر بقميصه الأزرق المدرّع: "هل يعمل قلبك بشكل جيد من دون رصاص؟".

كان يمكن أن تكون لقطة من بث مباشر يصوّر فلسطينيين استنفروا للمّ مزق حيواتهم المتناثرة وراء كل الحدود حازمين الحقائب لزحف العودة إلى فلسطين، لو أنّ الجبهة "الواطئة" كانت هي المفتوحة في الجنوب من قِبَل هذا "المناضل" المدجج بالموت.

سواء أكان فريدريك بيرنارد من قالها للمرة الأولى أم كونفوشيوس أم أحد آخر، ما كان لصورة واحدة أن تساوي ألف كلمة، لو لم تكن محاطة في لحظتها بألف أخرس.
 
 
 

2014-04-22

يوميات بيروت: متلازمة "سندريلا" السورية Cinderella Syndrome and Syrian Refugees in Lebanon

 
 
 
إذا سألك سائل عن سبب استعجالك الانصراف قبيل انتصاف الليل في بيروت؛ يمكنك أن تتذرع بضرورة مباشرتك بالإجراءات الطويلة لركن الـ"مازدا 323" الخاصّة بك (في الواقع أنت لا تملك أية سيارة) في مرآب الـ"تاور" الزجاجي حيث يقيم مُضيفك.
فالحارس ناعس الطرف الذي يطمح منفرداً لتدارك "تقصير جميع الأجهزة الأمنيّة في لبنان منذ الطائف"؛ سيستيقظ دفعة واحدة لدى رؤيتك (يا سوري)، ليمرّر عصاه الالكترونيّة الصفراء على كل عضو ظاهر، أو ضامر، من الأعضاء المختونة لعربتك ذات لوحة التسجيل التي تحمل بخط رقعة سائل اسم "دمشق"، بالأسود.
ذلك، وإلا..
فإنّ سيّارة الأجرة "المرسيدس" المتهالكة التي ستضطر لركوبها (إن تأخرت في حفلتك بعد 12 ليلاً) قد تستحيل في غمضة عين إلى "هامفي" عسكريّة، أو "دودج شارجر" دركيّة، وتتغير بالتالي ملامح الوجهة، كما قد تتغير –لاحقا- معالم الوجه، أو القفا، في أحد بيانات "هيومن رايتس ووتش" الغزيرة عن الأجانب المستجدين في لبنان.
أو أنّ السائق الذي سيستسلم مبدئياً، على فطرته، بشكل غير متوقع للـ"ألفين" ليرة لبنانيّة الشحيحين (1.3$ تسعيرتك الثابتة للتنقل بين "الحمرا" و"مار مخايل")، قد تطفر جينات هدوءه السياسي فجأة، إثر ملاحظة مسيئة لشخص السيد الرئيس (هناك)، فيلوي خُطام فرسه إلى محطّة "مستودع آل المقداد" (جوقة محلية من خاطفي السوريين) بدلاً من حانة "راديو بيروت". حيث سيعجز قصاصو الأثر في "فرع المعلومات" عن إدراكه، بالطبع. رغم أنهم يعرفون مكانه، بالطبع أيضاً.
أمّا في حين كان خيارك مشواراً مع "فان رقم 4" (خط الضاحية الجنوبية في بيروت) بأغانيه التي تشجع على "النأي بالنفس"، في أول شارعين (وتوسم عادة بالهابطة)؛ فقد تستحيل العربة "المقاومة" للبيئة –إذا سحبتك رقصة الفالس من زمانك الأرضي- إلى دورة حزبيّة عقائدية على عجلات. بفصحى مقعّرة، وأحرف جرّ لا نهائية إلى "حيفا"، وما وراء "حيفا"، حيث لا يصل تردد "إذاعة النور" (راديو حزب الله) عادة بعد 2006.
إذنْ..
قبّـل سريعاً مودّعيك ثلاثاً على الخدّين (عادة لبنانية) في "مزيان"، و"تاء مربوطة"، و"أم نزيه". ومرتين فقط (عادة سورية)، مغادرا شبّاك توزيع السلال الغذائيّة الخيريّة، أو العيادة البدويّة النقّالة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ومرةً واحدةً (عادة شخصية) صورةَ منْ تركتَ في محفظتك سنتين حتى اهترأت. على أمل ألا يُجبركَ أحدٌ على تقبيل "مكونات" إضافية أنكى (عادة أمنية) وأنت في طابور –مظاهرة- تجديد أوراق إقامتك في اليوم التالي.
في حكايات ما قبل النوم، تُضيّع حسناء القصر حذائها، مُسابقَةً دقات الساعة "التوراتيّة". ومع انتصاف الليل؛ تعود الفتاة إلى مسح البلاط، وجلي الصحون.
في مرويّات ما بعد اليقظة (2011)، تواصل الفتاة بعد الدقات الاثنتي عشر "تعزيل" الحظيرة، مطمئنة إلى حُسنها، وخدودها الموّردة... وتقرر في اليوم التالي أن تذهب إلى حفلة الأمير حافية.

2014-04-21

خريف البطريرك العربي.. وداعية مؤجلة




خرج من منزله تلك الليلة محاولاً بالمشي شفاء نزلة الصدر الوجودية التي انتابته فجأة. أخرج هاتفه من جيب بنطال الجينز، وقبل أن ينبس صديقه على الطرف الآخر بحرف؛ بادره بالصراخ:

"ابن الـ...، لقد قاربت على الانتهاء من قراءة الجزء الأول، وأخو الـ... ما زال في الخامسة والعشرين فقط!"

لم يكن ذلك الشتّام اللعّان سوى أنا، ولم يكن ذلك الشاب ابن الخامسة والعشرين الذي زلزلني وأثار حنقي سوى غابرييل غارسيا ماركيز، ولم يكن الجزء الأول الذي تحدثت عنه لصديقي سوى الدفعة الأولى من مذكرات هذا الكاتب التي التهمتها بلقمة واحدة بعد صدور طبعتها الأولى في دمشق بعنوان "عشت لأروي".

أن تجاوز الـ250 صفحة وأنت تقرأ عن الحياة (العادية) لشخص ما في منتصف العشرينات من عمره دون أن تجد متسعاً لوساوس إلقاء كتاب هذا المراهق المزمن جانباً؛ أمر لا يحدث كلّ يوم. ثمّ أن تقارن تلك الصفحات التي تطفر بأنفاس وعرق صاحبها بحياتك السائلة أمامك في رمادي الشام حينها؛ أدعى لأن تصاب بنوبة جنون رقيقة.

ستجري مياه كثيرة تحت الجسر إيّاه بعد ذلك، وستأخذ حلقات رواياته لبّك الطري، ثم ستنقلب عليه لتتمكن من قراءة كتّاب آخرين سواه، من دون أن تظلّ نظارته على عينيك تقيس بها كلماتهم وسطورهم بالسنتيمتر الماركيزي.

"الواقعية السحرية" لم تكن حلاً من "غابو" لتقديم تفسير علمي للخوارق المجتمعية التي تربينا عليها، كما يتربى غيرنا على القانون والمنطق؛ بل جاءت كتوصيف حال فج يقول إنّ القاعدة (عندنا كما في أميركا اللاتينية) كانت للشاذ والطارئ اللذين يستطيلان في حيواتنا فلا يعود هناك بد من بناء عش مؤقت فوق الأغصان المتكسرة تلك ريثما تنبت أجنحة للشجرة بكاملها، لا لسكانها من العصافير الصغيرة فقط.

الطاغية الذي درّب جنوده ليعملوا مجاناً و"يثبتوا بأنهم قادرون على تمزيق أمهاتهم إرباً إرباً وإلقاء المزق إلى الخنازير دون أن يتحرك لهم ساكن"؛ يرقد اليوم بثقب هادئ في رأسه، أسفل خندق محكم، ومبخّر بمواد تزرد اللحم الميت بشهوة كيميائية، بين "مصراتة" وساحل المتوسط.

الأب القائد الذي حزّ بنياشين انتصاراته الملحمية ستة رؤوس وكوّن لنفسه ستين عدواً، ومقابل الستين رأساً التالية صاروا ستمائة، "ثم ستة آلاف، ثم ستة ملايين، ثم كل البلاد"؛ افتقد الشامبو الأثير لديه في حفرته الدودية، قبل أن يخرج ليعتمر قلنسوته السوداء حتى عنقه، ويُربطَ له فوقها "كرافات" من أسلاك خشنة ستكون رسمياً آخر ما سيرتديه في حياته، وبدون سيجار أو بندقية صيد.

المستبد الشيخ الذي كان من الصعب التسليم بأنه لا يمكن إصلاحه "هو بقية إنسان، كانت سلطته من القوة بحيث سأل ذات يوم [كم الساعة الآن؟] فأجابوه: [الساعة التي تريدها سيدي الجنرال]"؛ يتمشى اليوم بكرسي الحكم الذي أضاف إلى ديكوره عجلات مدولبة تعين جسده الشبحي على ولوج القلم الانتخابي ليقترع لنفسه عن ولاية أبدية جديدة، ويقول بعد اضمحلال حنجرته إيماءً: "عاش أنا".

الجنرال الذي أمر بتعليق الناس مقيدي الأرجل والأيدي ورؤوسهم إلى أسفل مدة ساعات وساعات، ثمّ "اختار واحداً من المجموعة الرئيسة، وأمر بسلخه حياً على مرأى الجميع. والجميع رأوا الجلد اللين الأصفر مثل غشاء جنين ولد حديثاً، وأحسوا بأنهم تبللوا بذلك السائل الدموي الغالي من لحم مسلوق يحتضر واثباً على بلاط الباحة"؛ توقف دماغه الفذ عن ابتكار مزيد من ضروب السحل والتمثيل بالأحياء، ودخل غيبوبة لمدة ثماني سنوات، رأى فيها أحلام جميع من قتلهم في حرب الأيام الستة، والسبعة، والسبعين عاماً.

 والدكتاتور الوديع بعينيه السماويتين وضحكته الهوائية سيصدر عفوأً عامّاً بعد أن لم يبق مكان في سجنه لفرد، "منزعجاً من حشد من البُرص والعميان والمشلولين المتوسلين، ومن سياسيين متعلمين ومتملقين بلا حياء كانوا ينادون به قائداً أعلى للزلازل الأرضية، وللكسوف وللخسوف والسنوات الكبيسة، وأخطاء الرب الأخرى"؛ لن يتمكنّ من الاعتناء شخصياً بتجهيز "برميله" الأخير الذي كان سيدحرجه فوق مدينة ما في مزرعته التي ورثها عن أبيه "الخالد"، إذ أنّ العقبان ستنقض على شرفات قصره الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، "ومع بزوغ شمس يوم الاثنين ستستيقظ المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة. نسمة ميت عظيم، ورِفْعَةٍ متعفنة".

كان بانتظار غابيتو، أن يكتب 6 روايات مفصّلة أخرى عن معتوهي تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين وسوريا والجزائر و..و.. لو أنّ جهازه اللمفاوي سمح له بهذا. لكنّه منحنا مع ذلك رؤوس الأقلام التي لا بدّ أن نخطّ بها يوماً سير هؤلاء، وعلى زاوية منضدتنا 500 ورقة بيضاء، وزنبقة صفراء في عروة القميص.

"الواقعية السحرية" هو التعريف "السوسيولوجي" الرصين لنمط الحياة التي صنعتنا بأيد عابثة (لكن صلدة) كفخار معدّ لشهوة التحطيم.

وهل أقلّ سحراً وعبثية من أن تبرمج نفسك لسنوات خلتها ستكون طويلة، كي تذهب في معرض الكتاب السنوي بدمشق إلى إحدى دور النشر، وتحاول تكراراً إقناع القائمين عليها بأنّ ماركيز يحبذ عنوان "خريف البطريرك" لروايته، وليس "خريف البطريق" كما يظهر العنوان على نسخة الدار من الكتاب؟

أصدقاء قالوا لي إنّ الرجل الكولومبي المرح كان مريضاً. وكأنّ الموت طبيعي في المرض، أو بعده. أين ماركيز ليقص عليهم حكاية من حكاياته يخبرهم فيها كيف أزاحت إحدى شخصياته القادمة حجر المدفن الثقيل وخرجت من القبر المائل بكامل زينتها، وأوقفت "تاكسي" عابراً لتلحق بالمشيعين وتواسيهم عن قطعهم روتين أشغالهم من أجل جنازة ليس اليوم هو الوقت الأمثل للسير في ركابها.