2010-08-08

الغارة الاسرائيلية الأخيرة بعيون الشباب السوري

استقالة موصوفة, ومتابعة بالريموت




أربع مقاتلات اسرائيلية على الأقل فيما تناقلت الأنباء يسمع شهود عيان دويها في السادس من أيار الجاري, خارقة جدار الصوت فوق المجال الجوي السوري في هدوء ليل الأربعاء ـ الخميس لمنطقة تل أبيض, على بعد 160 كيلومترا شمال الرقة, قريبا من الحدود التركية.
الطائرات التي قدمت من المتوسط -وربما عن طريق تركيا نفسها- استهدفت وفق التقارير إياها شحنة أسلحة إيرانية كانت موجهة إلى حزب الله على ما يؤكد مسؤولون أمريكيون, ليخالفهم في التو واللحظة مسؤولون آخرون -أمريكيون أيضا- ارتأوا أن الهدف إنما كان موقعا ذا طبيعة (نووية), مع التشديد على وجود زوار من كوريا الشمالية (الديموقراطية) أشرفوا على العناية بعتاد ذري وصل عن طريق ميناء طرطوس أوائل هذا الشهر على متن باخرة من بيونغ يانغ, التقط صورها قمر التجسس الاسرائيلي (أفق 7) الذي أطلق في حزيران الفائت بحسب رئيس جهاز الموساد مائير دغان, قبل أن (تصادر) هذه الشحنة (المهربة) فرقة الكوماندوس الاسرائيلي المرافقة والتي أنزلت في المنطقة, بحسب أنباء متفاوتة الـ(فبركة) في الاعتبار الرسمي السوري.

ومع أنّ رواية الغارة الاسرائيلية الأخيرة هذه والتي من غير المنتظر أن تصدر طبعتها الأخيرة قريبا؛ نالت نصيبها الوافر من التغطية الاعلامية عربيا ودوليا؛ إلا أنها لم تحظ لسبب ما بالقدر ذاته من الاهتمام والمتابعة الشبابية سوريا.
على الرغم من كونها قضية لم يبخل المحللون السياسيون والأمنيون بمختلف مشاربهم على مدى أسبوعين ونصف هما عمر الانتهاك حتى اللحظة في أن يسبغوا عليها صفات ونعوتا من قبيل (بالغة الأهميـّة), و(مؤشر خطير), و(شديدة الحساسية)...
ومن طهران (شبه النووية) وحساباتها, إلى بيروت (شبه الأكثرية) وتحسباتها, امتد طيف العواصم والمواقف واسعا إقليميا ودوليا, والغائب الأكبر عنه ليس سوى أحد أصحاب الشأن الأساسيين من شبيبة البلد نفسها.


للبيت رب يحميه ...

سامر البالغ من العمر السادسة و العشرين يعمل منذ بعض الوقت وبشكل متقطع مترجما بين الانكليزية والعربية, ويقف اليوم بالحاح على أبواب إحدى السفارات الغربية سيئة الصيت محاولا نيل كرت هجرة يعشـّمه بعض الأصدقاء خيرا في تحصيله, يقول سامر:(كنت أعمل كالعادة على ترجمة بعض المواد في المنزل عندما دخل أخي الغرفة وأطلعني على نبأ الغارة الاسرائيلية, والذي ربما كان قد سمعه أو قرأه كخبر عاجل فيما أذكر على إحدى القنوات الفضائية), ويتابع:(أنا عادة ما أشاهد الأخبار بشكل يومي تقريبا, لكن في ذلك النهار بالذات لم أتمكن من ذلك لتراكم بعض المهام علي في العمل, لذلك فقد سارعت الى محاولة استقصاء مزيد من التفاصيل على الانترنت, لكن الأنباء كانت متضاربة بشكل مزعج, الأمر الذي أصابني بالملل فعدت إلى عملي).

وعما إذا كان شعر بالخوف أو بالتهديد في تلك اللحظة يجيب سامر بالنفي قائلا:( لا أبدا, لم أحس بأي خوف أو ماشابه, لاعتقادي أن اسرائيل لا يمكن أن تضرب \عن جد\ حاليا).
أما مصدر يقينه في أن الاسرائيليين لن يعمدوا إلى مهاجمة سوريا؛ فيؤكد سامر أنّ هناك (حالة من عدم الاستقرار كانت سائدة منذ زمن طويل بين سوريا واسرائيل ولازالت), وأنّ الأمور سارت (على ما يرام) بين الطرفين طوال الفترة الماضية, وأن( شيئا جديدا) لم يطرأ ليغير المعادلة القائمة.

وحول الطريقة التي أمضى فيها بقية يومه ذاك يقول سامر(ذهبت ذلك المساء مع رفيقة لي ملببيا دعوة أحد الأصدقاء الى حفلة كنا رتبنا لموعدها مسبقا في منزله, وقد قضينا وقتا ممتعا).
ومادام أن الاسرائيليين غير جادين في مهاجمة سوريا كما يقول, ينظر سامر إلى الغارة الاسرائيلية باعتبار أنـّها(رسالة أكثر منها عملا عسكريا فعليا, بمعنى أنهم في اسرائيل يقولون لنا افهموا أننا نستطيع الوصول الى أي مكان نريده, ومتى شئنا ذلك).
وعما إذا كان قد توقع ردا سوريا من نوع ما على الخرق الاسرائيلي؛ يجيب سامر (لم أتوقع ردا سوريا سريعا في حينه, وشخصيا لا أتوقع ردا سوريا بطيئا كذلك), ويضيف( في الحقيقة لا أنا ولا معظم من أعرفهم ننتظر أي رد سوري على الإطلاق, اللهم فيما عدا التصريحات التي صدرت حتى الآن, وربما المزيد منها, إنما ليس أكثر).

ويضرب سامر مثلا بالانتهاك الاسرائيلي المماثل الذي وقع السنة الماضية في اللاذقية, ومن قبله الاعتداء الذي تم فيه قصف بناء في "عين الصاحب", قبل أن يضيف (لو كان هناك مزيد من الحرية في البلد لحصل تحرك من قبل الناس من نوع ما للتنديد بهذه الغارة, كي يعرف الآخرون في الخارج أن الناس قد يقومون بشيء اذا سنحت لهم الفرصة), ليستدرك لاحقا (مع أنني لا أفضل أي رد عسكري على أمثال هذه العمليات, بل أرى أنّ التعامل السياسي و الديبلوماسي هو الأجدى).

ويبدو أن هادي. أ يتفق من جانبه مع كثير مما سبق. ونظرا لأنّه يعمل محررا في إحدى وسائل الاعلام السورية الخاصة؛ فقد عرف بخبر خرق الطائرات الاسرائيلية للأجواء السورية أبكر نسبيا من غيره,وذلك عن طريق (الموظف المكلف )AFPمراقبة وكالة فرانس برس
إنما من دون أن يشكل الخبر أية مفاجئة له. ويبررهادي الـ(العاديـّة) التي استقبل بها النبأ بالقول (في المرحلة الحالية يمكن للمرء توقع كل شيء على هذا المستوى). ويستطرد شارحا وجهة نظره(لقد مررنا منذ وقت قريب بفترة من التصعيد \السلمي\ إن صح التعبير, حيث انهمرت رسائل السلام من هنا وهناك, تلاها مباشرة تهديدات متبادلة وأخبارعن تحركات للقوات على الأرض من الجانبين, ومن ثم تراجع هذه القوات, وتسويق للحديث عن جهود لـ\إاراحة\ الجبهة السورية, وتخفيض الاحتقانات, الأمر الذي يجعل أي أحد -وقد مرّ عبر هذه السلسلة- يتوقع خطوة ما تصعيدية من أحد الطرفين, وأنا شخصيا كنت أتوقع للتصعيد أن يأتي من الجانب السوري لا الإسرائيلي).

هادي سيتم الرابعة والعشرين في غضون أسبوع, وهو لا يتوقع أن تقوم بلاده برد عسكري من نوع ما قبل عيد ميلاده, عدا عن(الرد الروتيني بالاحتفاظ بحق الرد), معللا ذلك بأنه لايمكن للسوريين أن يردوا (كلاسيكيا), مع أنه يعود بعد قليل ليتحدث عن أنّه لا يريد أن يقطع (الأمل) نهائيا من هذا الأمر, مرجحا للرد الميداني -فيما لو تم- أن يأتي في (غزة أو الجنوب اللبناني), و(ربما... ربما الجولان), إنما مع مزيد من انتظار (اللحظة الأنسب لسوريا) فيما يخص الخيار الأخير بالذات.

ويسرد هادي مفارقة أنه كان من بين المحررات في مكتب العمل من اطلعن قبل غيرهن على الخبر, إنما من دون أن يحركن ساكنا, إلى اللحظة التي انتبه إليه فيها المحرر السياسي, ويتابع واصفا ما جرى بعد ذلك (تحلقنا جميعا حول التلفزيون بانتظار ما ستبثه الجزيرة في النشرة التالية), معربا عن خيبة أمله في الطريقة التي أتى فيها الرد الرسمي الأولي على الحدث, ووصفا أداء وزير الاعلام بأنّ (أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان سيئا للغاية, وليس على مستوى المستجد من تطورات بأي شكل من الأشكال), مفضلا عدم إعطاء تفاصيل محددة لانتقاداته, مؤكدا أن الحياة استمرت بشكل(طبيعي) بعد (بيان) الوزير, وعاد كل (إلى عمله المعتاد).

وعن الرد الذي كان يراه الأنسب على الانتهاك الاسرائيلي, لايخفي هادي حماسته الشخصية لرد عسكري مباشر, من قبيل( قصف ثكنات ومواقع عسكرية اسرائيلية في الجولان), معتبرا أنّ(لا أهمية لمن يبدأ التصعيد في هذا الوقت, بل ربما يكون ذلك في صالح من يبادر به), باعتبار أنّ الحرب (قادمة قادمة)!

(الله أعلم) يقول مصطفى عن نبوءة (قادمة قادمة) تلك, وقبل أن يطلب مني بتوجس إطفاء جهاز التسجيل بين يدي؛ يذكرني للمرة الثانية أنّه لايملك سيارة الأجرة التي يعمل عليها, وأنها تعود لابن عم محسن له, وهو لايريد (وجع راس), ونصحني أن ابتعد عن هذه المواضيع التي لها (أهلها) ومكانها في (مجلس الشعب) و(قصر المؤتمرات)!!

يقول مصطفى (أبو الخير) بعد تردد ومداورة وهو يقطع بنا أتستراد المزة, مشعلا سيجارة (الحمرا), ماسحا عرقه بفوطة متدلية على كتفه (عندما سمعت عن \القصة\ أول مرة, كنت \أتسبب\ على السيارة عالقا عند زحمة المرور في شارع بغداد, وكان أحد الشوفيرية على محطة الوقود \يتسمّع\ على غارة \ما غارة\, فحاولت البحث في الراديو عن الخبرية, ولكني لم أجد شيئا, ولم يكن هناك شيء على إذاعتنا كذلك, ثم غاب الموضوع عن ذهني \شي ساعت زمن\ بعد أن اتصلوا بي من البيت مشان دوا للوالدة, وعدت فتذكرت الموضوع عند \السمّان\ وأنا اشتري \مونة\ للبيت, لأن المذيع في الدش كان يتحدث عن ذات الموضوع).
ويشرح (أبو الخير) ببعض الضيق كيف اضطر لـ( الأخد والعطا) مع البائع حول المسألة, بعد أن راح العجوز يشتم ويلعن لأنه ليس في موقع يؤهله كي (يحرق نفس أعداء \لا إله إلا الله\ المستكبرين).

ويعترف مصطفى خيرو أنه لايتذكر الكثيرمن تفاصيل ما وقع, ولم يسمع الكثير من التحليلات على (لندن) لأنها مليئة بـ(الكلام الكبير), بل حتى أنّ متابعته للخبر عند ذلك البائع لم تتعد الدقائق الخمس لاضطراره مغادرة السوبرماركت بسرعة كون السيارة (مصفوفة رتل تاني).

وعن رأيه في السبب الذي شنت إسرائيل هذه الغارة من أجله, يجيب (أبو الخير) فجأة (فركت إدن), ويصمت قليلا منتبها لتغير لهجته في الحديث, ليعود ويؤكد بأن أمورا كهذه (تحصل دائما), لأننا (وحدنا), ولايوجد أحد لـ(يدعمنا), أما (هدول العرب), فلا يمكن أن نستفيد منهم بشيء سوى (الكلام) و(الارهاب)!!
وعن طبيعة الرد الذي يرى أنه الأنسب ليكون من طرفنا, يجيب مصطفى بأنه كان علينا أن (نسقط على الأقل إحدى الطائرات التي هاجمتنا), أمّا مستقبلا فـ(سيقوم حزب الله والشيخ حسن \ربي ينصرو\ باللازم عاجلا ام آجلا), وعما إذا كان قد تحدث مع أحد حول موضوع الخرق الاسرئيلي للأجواء السورية بعد عودته إلى البيت, قال (أبو الخير) أنّه قد تحدث عن ذلك بالفعل مساء مع بعض الأصدقاء الـ(المسقفين), وهم يدخنون النرجيلة في بيت (نزار) -أحد أولئك الصحبة- والذي كان من رأيه أن هذه السنة (لن تمر على ستر وسلامة أبدا), خاصة إذا لم (تنتخي إيران إلى جانبنا).

من جهتها لم تكن يمنى \23\ عاما أقلّ ترددا من مصطفى, إنما لأسبابها المختلفة.
فالطالبة الجامعية, والسكرتيرة في إحدى شركات القطاع الخاص حديثة العهد, تشعر ببعض الحرج كونها كانت (في إجازة على البحر) مع بعض الأصدقاء والصديقات, الأمر الذي حال دونها وأن تعرف عن الموضوع في حينه.
(سمعت الخبر بعد يومين وأنا اقلب محطات التلفزيون) تقول يمنى, وتضيف بأنها لم تشعر بخوف حقيقي إلا عندما علمت أن الطيران الحربي الاسرائيلي الذي دخل الأجواء السورية ربما قد يكون (مرّ فوق المنطقة التي كنت أسبح فيها مع صديقاتي على البحر).

على أن مخاوفها تلك سرعان ما تبددت عندما طمأنها ابن عمها الذي يملك مقهى انترنت, ولديه اطلاع على أخبار (المواقع المحجوبة)؛ أنه (لا وجود لأي خطر), لأنه لو كان مقدرا لأي شيء أن يحدث لـ(حدث يومها مباشرة), أما الآن وقد مرت عدة أيام على الحادثة فكل شيئ مستقر وطبيعي حسب تعبيرهما.

ليس لدى يمنى أي معلومات دقيقة عمـّا كان عليه رد الفعل الرسمي للمسؤولين السوريين, ولم تسمع أيا من محسن بلال أو فيصل المقداد أو وليد المعلم أو عماد مصطفى وهم يدلون بتصريحاتهم تباعا إثر الحادث, ذلك أنها (لاتفتح على القناة الأولى أو الفضائية), كما أنّها لاتملك تصورا يعتد به عن الطريقة التي تريد للرد العسكري أن يكون عليها فيما لو كان, باعتبار (الجيش أدرى بعمله منا جميعا), وهم لن يقصروا في (ساعة الحقيقة).
أما عن إذا ما كانت تشعر بأنه يمكن لهذه الحادثة أن تتكرر قريبا, أجابت يمنى أنها (لاتدري), بيد أننا (تعودنا على هذه الأمور), وأن الوضع عندنا (مهما حصل) يظل (أرحم) من الجاري في (العراق ولبنان وفلسطين), إنما بكل الأحوال (ربنا يحمينا).

أمّا (أم ناريمان) فليس عندها ما تقوله ابدا, و(لاتحاول)!
فهي (لا تفهم بالسياسة), ومع طفلتها التي تبلغ السنة إلا شهرين بالكاد تجد وقتا لأي شيء على الاطلاق. لكن طالبة البكالوريا المتخلفة عن دراستها, وزوجة المهندس الميسور, سرعان ما تبدي استعدادها للتطوع بالحديث عن موضوع آخر هو (الدراما السورية) ومساسلات رمضان, والتي حسب كلامها (تشد المشاهد), وهي شخصيا (لا تفوت منها شيئا) على ضيق وقتها الذي تذمرت منه آنفا!!

حول الـ(لماذا) ...

لايحتاج المراقب كثير جهد ليدرك أنّ أغلب الشبان السوريين ليسوا على ذلك القدر من الاستثارة والاستنفار حتى يعاجلهم بمهدئ موضعي من نمط أن البلاد ليست مستهدفة لذاتها, وأن الغارة قد لا تعدو كونها (بروفه) قريبة لهجوم مستقبلي أبعد في طهران.
F16-Eأو ليضع ذلك الملاحظ ضمن توقعاته أنّ تلك الشبيبة لن تميز بسهولة الـ
أو تتعرف على (بانتسير), نظام الدفاع الجوي الذي تزودت به دمشق مؤخرا من موسكو, والذي يحلو للبعض الاعتقاد أنّ المقاتلات الاسرائيلية إنما شنت تلك الغارة للوقوف على مدى نجاعته في أيدي السوريين.
إذ أنّ هذه المقاربات والتحاليل تظلّ -كغيرها مما سال الحبر فيه مؤخرا- قاصرة عن انتزاع استجابة من شبابنا تداني في حرارتها سخونة الحدث الداهم.

الدكتور مروان قبلان عضو مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة دمشق, والأستاذ فيها, لم تشكل له ردة الفعل المرتخية هذه لدى الشباب السوري أية مفاجئة -شخصيا على الأقل-, حتى وهو يشهد كيف أن هذا المسلسل الرمضاني الطارئ على ما فيه من عناصر التشويق والاثارة السياسية, والأحداث التي تكتسي مع مرور الوقت والتسريبات بوليسية فضفاضة؛ فشل في الاستئثار بانتباه شريحة هي الأوسع ضمن المجتمع السوري اليوم, وكيف أنّ الاستبصاري المتخيل لتمثيليات رمضان ودراماه الأصلية؛ استحوذت على البصري المثخن بواقعية صلدة دونها مثل هذه المستجدات.

ويعزو الدكتور قبلان هذا الأمر إلى مجموعة من العوامل والترسبات القديمة, يأتي على رأسها ضعف المشاركة في الحياة السياسية لدى المجتمع السوري في العموم, ولدى هذه الشريحة الواسعة على وجه الخصوص, والتي تتعدى نسبتها إلى العدد الإجمالي للسكان الـ\43%\.
معللا بأنّ (الحياة المجتمعيّة في سوريا قد مرت بمراحل كان التعاطي خلالها في الشأن السياسي يعد نوعا من أنواع التابو), مذكرا بموروث قديم حديث, يتداول فيه الناس بين بعضهم التحذيرات من الحديث حول التمظهرات السياسية لـ(الأوضاع العامة للبلد), وهي الحالة التي ورثتها الأجيال الجديدة لاحقا, ووجدت نفسها عالقة فيها, الأمر الذي كان من نتيجته أن (ابتعد الشباب عن السياسة, والنشاط السياسي), ووصلوا في ارتدادهم عن التواصل مع مفردات المُعاش السياسي حدا دفع أكثر من\76%\ منهم -وفق دراسة رسمية لافتة- إلى الاعتقاد أن بلدهم لاتتهدده أيّة أخطار عسكرية من أي طرف!
وذلك في وقت يعافر فيه دون جدوى ما يربو على \200,000\ جندي أميريكي ومرتزق لضبط الأوضاع الأمنية المتفلتة في بلد جار لهم, وتجتاح موجة الاغتيالات الجوالة عاصمة لاتبعد عن عاصمتهم أكثر من ساعتين بالسيارة, ويحجر فيه على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة, باحتهم الخلفية إقليميا وسيكولوجيا, دون أن يحرك أحد -دولي- ساكنا. ناهيك عن أنّ بلادهم لازالت عمليا منذ العام 1967في حالة حرب مع اسرائيل, ولديها أراض محتلة تتجاوز مساحتها الـ\1200\ كم‘.

سبب آخر -فيما يرى الدكتور قبلان- يعزز فصام جيل اليوم عن واقعه السياسي, ألا وهو (ضعف أداء الاعلام السوري في مجمله), ضعف حرم هذا الاعلام من أن يكون حاملا موثوقا للمعلومة والخبر أولا, و(منبرا) ومتنفسا لهواجس هذه الفئة في المقام الثاني, وسهل اتجاه هذه الشريحة نحو الـ(استقالة) من الحياة العامة محليا.
يضاف إلى ذلك كله (سلسلة الاحباطات) التي غرق -أو أغرق- فيها الشباب السوري جراء (المواقف العربية من القضايا الأساسية والمصيرية), والنكسات المتتالية التي لازالت شعوب المنطقة ككل تعاني نتائجها وعواقبها المدمرة على مستوى قومي.

وبنسب تعليم متواضعة /85.4% منهم تعليم ثانوي فما دون/, وبطالة مرتفعة؛ يعتبر ارتهان شباب هذا الجيل للهم المعاشي اليومي, وانخراطهم في اللهاث وراء أوليـّات اقتصاديـّة عصيـّة, وآمال الحد الأدنى من مستقبل بلا خضات (داخل او خارج حدود بلادهم), عاملا إضافيا ينأى بهم عن الاشتغال بالهم العام كما يوافق الدكتور قبلان, والذي لا يرى في المدى المنظور أي علاج (فوري) للخلاص من هذه الظاهرة الخطيرة, بيد أنه يعتقد أنّ أيّ محاولة في هذا الصدد لا بد لها إن كانت جادة في سعيها أن تبدأ من نقطة (الاعتراف) بوجود هذه المشكلة بين ظهرانينا, منطلقين نحو (طمأنة) هذه الشريحة الفتية من المجتمع بأنّ (الانخراط إيجابيا في النشاط السياسي؛ أمر لا يترتب عليه أية محاذير, أو متاعب), بل على العكس, يجب أن يكون واضحا في أذهان هؤلاء (المواطنين) أنّ ذلك (مسألة مطلوبة, وواجب وطني).

وكغيره من الباحثين, والسياسيين, وأصحاب الرأي في هذا المجال, لا يألو الدكتور قبلان جهدا, في الحث على ضرورة البدء بتهيئة الأرضية الملائمة لاستقبال وتفعيل المشاركة الشبابية في الشأن العام, من قبيل (إصدار قانون عصري وملائم للأحزاب والجمعيات) و(السماح بقدر أكبر من الحريات الإعلامية).
وهما مطلبان ملحان, من شأنهما اليوم أن يفسحا المجال أمام فئات المجتمع المختلفة -وعلى رأسها الشباب- لـ(التداول في الشأن السياسي, وبالتالي تحمل هذه الفئات لمسؤولياتها تجاه وطنها وما يحيط به من تحديات وأخطار).

........

وبين تطنيش أولمرت, وتبصيرات بولتون, وهزة أكتاف كوشنير؛ لا يبدو على الشباب السوري أنّه تسلم حقا, عبر ذلك البريد الجوي الحربي المضمون؛ ما اصطلح عليه أخيرا ليكون الـ(رسالة) الاسرائيلية.
وجدار الصوت الذي تتفنن مقاتلات الـ(عدو) في خرقه كل مرة, هش على ما يظهرمقارنة بجدار الصمت الذي يعلو ويرتفع مع غيره من الجدران في المنطقة, ليلف مواقف وردات فعل سوريين شباب.
لتبدو في النهاية تلك الأسماء المستعارة التي أصرّ الشباب على تنقبها والتـلطي خلفها قبل أي حديث, مقدمة منطقية للحقائق المستعارة التي تمنح الواشنطن بوست نفسها –على سبيل المثال- ترف تخليقها بلا رادع.
ومن اتهم سوريا بالأمس باستخراج اليورانيوم من (الفوسفات) الذي قد يتراجع مخزونه مع الوقت, قد يعنّ على باله اتهامها غدا باستخراجه من (المتـّة), والتي قد لا تنضب أبدا, شراب الاسترخاء الشبابي المفضل كل يوم.



2007

على سبيل الإعلام المقاوم: مقاومة (التخوين), وممانعة (الإسفاف) أولا ً !

طالعت صحيفة الوطن الخاصة الصادرة في دمشق السوريين في عددها رقم /572/ صباح الأربعاء 28-01-2009 بخبر منقول عمّا قالت أنه بيان لـ"حركة القوميين العرب" يتهم فيه كتابا عربا وسوريين بمهاجمة حركة المقاومة الاسلامية (حماس), ويصف البيان فيما نشرت الصحيفة السورية على لسان وزيرة خارجية دولة الاحتلال الاسرائيلي هؤلاء الكتاب بأنهم "سفراء" لتل أبيب في العالم العربي.

كما تصدر موقع الصحيفة المذكورة على الانترنت عنوان يقول "ليفني توصي بنشر مقالات عدد من الكتاب العرب على موقع وزارة الخارجية باعتبارهم «سفراء»".
وختمت جريدة الوطن خبرها بنشر أسماء اثنين وعشرين كاتبا عربيا ينشرون في صحف ومواقع خليجية ولبنانية ومصرية وأردنية منهم خمسة كتاب سوريين على الأقل.
وقد اصطدمت محاولات الاستفسار وتقصي مصادر الصحيفة السورية في خبرها الخطير إياه بتهرب أحد مسؤولي تحريرها المتكرر عن الإجابة, في تقمص سافر لذلك اللبوس التراثي السمج لكثير من المسؤولين السوريين على الجملة, وباختلاف مواقعهم ودرجات مسؤوليتهم, والمتمثل بالأذنين الفلكلوريتين المقدودتين من الطين والعجين.
وهكذا آثرت الصحيفة الصمت العنيد تجاه مادة مثيرة للجدل ترمي دون براهين أو أدلة كتابا سوريين بتهمة تمثيل مصالح العدو الاسرائيلي في عاصمة بلادهم, والتي لاتزال عمليا في حالة حرب مع تلك (الدولة).
المحرر (المهني) -كما أصرّ مسؤول الصحيفة إياه- قام بخفة لا يحسد عليها بنشر مادة زعم أنها وصلته عبر البريد الالكتروني من جهة تسمي نفسها "حركة القوميين العرب", بعد أن أسبغ عليها –المادة- صفة (التقرير).
على أنّ محرر (الوطن) لم يكلـّف خاطره الصحفي بذل أدنى حد من المتابعة البحثية, والتمحيص الضروري في أصل الخبر وفصله, ولم يطرح على ما يبدو -وإن بينه وبين نفسه- سؤالا واحدا من الأسئلة الصحفية الخمسة او السبعة اللازمة لمصداقية ومهنية أي خبر على الاطلاق.
وإلا لكان الناشر الحصيف –والمستقل- لذلك المنفيستو تبين على سبيل المثال أن رابط الموقع الالكتروني الموجود في أصل البيان الذي بين يديه, والذي يزعم أنه يحيل إلى أحد منافذ وزارة الخارجية الاسرائيلية بهدف التعرف على المزيد من من "سفراء اسرائيل" المعتمدين صهيونيا من الكتاب العرب والسوريين؛ لا يحوي أي رابط او مادة على الاطلاق لواحد على الأقل من أولئك الكتاب السوريين الذين تقصد البيان سيء الذكر التشهير بهم, والتحريض عليهم.
لتتساوى بذلك الجريدة اليومية المطبوعة ذات الميزانية المرقومة, مع مواقع (الشات), ونوادي الترفيه المبتذل على الانترنت, والتي يتغذى معظمها على الاشاعات والنميمة, وما يعرف بالدارجة الشاميـّة بـ(العلاك المصدي), والتي لا ترقى بالطبع لشعار فضفاض من قبيل "أول وسيلة إعلامية مستقلة منذ 40 عاما", مع كل تلك الخطوط وإشارت التعجب والاستفهام التي يمكن تذييل تلك (الاستقلالية) بها من حين لآخر.
أين هي المهنية المزعومة التي ينافح مسؤولوا الجريدة عنها؛ عندما يكون الموقع الوحيد الذي يحمل اسم مصدر خبرهم "حركة القوميين العرب" خاليا من أي من الادعاءات التي روّج لها بيانهم, علما أن الموقع المذكور يتصدره بيان آخر لايمت من قريب او بعيد لبيان الجريدة, ينادي بالحرية من سجون الاحتلال الاسرائيلي لأحمد سعدات (أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -جناح جورج حبش- في الأرض المحتلة)؟
ثم منذ متى واجتهادات العدو الاسرائيلي (الهمجي, البربري, المجرم, الغادر, الكاذب, ...كذا) تشكل مرجعا –لا أقول لا ينشر- وإنما لا يترك منه, ولا يناقش, ولايرد, ولا يعلـّق عليه, في إعلامنا السوري رسميا وخاصا على الجملة؟
ومنذ متى تحيل المطبوعات المحلية السورية أيا كان ولاؤها السياسي لمواقع اسرائيلية للاستزادة في (الخبر) و(المعرفة)؟
هذا إذا تجاوز المرء حقيقة صعوبة الوصول لغالبية المواقع الالكترونية الرسمية للعدو ضمنا, نتيجة الجهود الحثيثة والموصولة لمؤسسة الاتصالات السورية الرسمية في الحجب والتشويش على العشرات من المواقع الالكترونية على الشبكة الدولية, في حين يفاجئ المتصفح السوري هذه المرة بأن الموقع مثار الجدل -والاسرائيلي كما هو مفترض- متاح بصفحاته العربية, والانكليزية, والفارسية, وبالطبع العبرية!
هل من عادة الصحيفة المذكورة حقا –على ما زعم مسؤول فيها - نشر ما يردها من بيانات بمثل هذه الخفـّة والارتجال بعفـّة تحريرية ملحوظة, وعلى صدر صفحتها الأولى, ما لم يكن قد وافقت المادة –أي مادة- هوى في نفس القيم على تلك المطبوعة؟
خاصة وأننا لا نتحدث هنا عن صحف التابلويد والفضائح الصفراء. (أليس كذلك؟)
ألم يكن بمقدور المحرر الهمام, الفخور بسبقه الإعلامي رفع سماعة الهاتف للاتصال بأحد أولئك الكتاب السوريين للحصول -ولو من باب رفع العتب- على تعليق ما,أو ردة فعل, أو تصديق, أو تكذيب, والمتابعة بعد ذلك في نشر المادة كما يريد ذلك المحرر ويشتهي؟
لماذا هذا السقوط غير المبرر في المزالق العريقة للبروباغندا غير المسؤولة, والتي تستند إلى مساواة مقلقة بين المادة الاعلامية والاعلانية, والتي يرمح بعض ناشرينا في غياهبها دون وازع؟
بل يبلغ الأمر حدا مثيرا للسخرية, عندما يتلطـّى ذلك المسؤول الإعلامي في صحيفة الوطن وراء سكرتيرته, التي لم يكن لها خلاص في النهاية سوى ترديد جملة ببغائية مفادها أنّ "الأستاذ خرج, وترك - نسي موبايله في المكتب"!
على أن فقدان الذاكرة ليس مرضا نادراعلى أية حال في أوساطنا الاعلامية والصحفية, وإلا كيف يفسر المرء إلحاح الاعلامي ذاته وغيره, هو ووسيلته فيما تبقى لهم من وقت قرائهم على مواصلة ذم سياسة حجب المعلومات –عند الآخرين طبعا- وتدبيج المقالات المنافحة عن حرية الإعلام, واستحضار الكربلائيات لطما على الشفافيـّة الإعلامية, وتعريضا بالتطنيش المثير للغثيان من بعض أصحاب القرار تجاه الصحافة المحلية, ونعيا للحق المسفوح في الحصول على المعلومة والخبر من مصادره؟
بل لعل الأنكى هو تلكؤ محرر الجريدة المذكورة في نشر رد لأحد الكتاب المشهر بهم, واشتراطه المسبق بأن تتم قراءة الرد من قبل محرر الصحيفة لمعرفة مدى صلاحيته للنشر أولا؟
الأمر الذي يظهر مدى الاسفاف في لي عنق المهنية التي يتم التشدق بها, والتعلق بأستارها الطوباوية, ويكشف عن تناقض فاضح في ادعاء مسؤول التحرير إياه عن انه ينشر عادة ما يرده من تقارير دون جلبة تذكر.
ومن نافلة الحديث القول أن هذا الزعم يحمل في ذاته من التهافت الفاقع ما يجعل في مجرد التفكير في تفنيده والرد عليه مضيعة للوقت, وامتهانا لمدارك أقلّ السوريين إلماما بواقع الاعلام المحلي ووقائعه, مع افتراض حسن النوايا, وسذاجة الادعاء.
فحتى جرائد الحائط في مدارسنا لديها (سياسة تحريرية), ولا تقبل على نفسها نشر كل (إبداعات) طلابها فما بالك بمؤسسة إعلامية ناجزة.
هل تخفى على ذي نظر ومتابعة تلك الوسواسيـّة الراسخة التي يتسم بها -كخلـّة أساس- مسؤولوا التحرير الكبار في أوساطنا الصحفية والاعلامية المحلية ؟
لدرجة باتت معها هذه الصفة بالذات تشكل لدى عدد منهم الميزة الوحيدة تقريبا التي يتم بناء عليها اصطفاؤهم لمناصبهم الجليلة!
ويملك كثيرون منا في الوسط الاعلامي السوري مرويـّات لاتنقضي, ومطولات موثقة في الحوادث والقصص التي تدور حول المدى الميتافيزيقي الذي يمكن لـ(مراجعة) المادة الاعلامية من قبل مسؤول التحرير أن يبلغه لدينا قبل النشر, إن تم.
إذ يـُجهد –والكلام هنا وصفي محض- أولئك القوم أنفسهم في بحث مضن عن كل ما يمكن أن يكون تضمينا, أو إشارة, أو تلميحا, أو حرتقة -متعمدة او عفوية- من قبل كاتبـ/ ـة المادة, وسوى ذلك مما هو مرشح لأن يكون له نصيب ليتطور تأويليا إلى (وجع رأس) رقابي لاحق, يرتب بدوره على المؤسسة نتائج لاتحمد عقباها عادة, مما يعتبر أصحاب الشأن الاعلامي في تلك الوسيلة انفسهم هم ومحرروهم وممولوهم في غنى عنه.
أين هي المسؤولية –وليس الرقابة أبدا- في تعريض أرواح وممتلكات مواطنين لاينقصون سوريـّة عن غيرهم لخطر الاعتداء, أو المساءلة الأمنية دون دليل أو برهان ؟
ماذا لو أن بعض الغوغاء تبرعوا لمعاقبة "أصدقاء وداعمي إسرائيل" المزعومين هؤلاء مدفوعين بما يخالون انـّه حسهم الوطني المستثار ؟
ماذا لو عن ّ على بال أحدهم مثلا الاستشهاد (في) أحد هؤلاء الكتاب الذين يعيش عدد منهم بيننا ويمشون في شوارعنا, ويركبون وسائل نقلنا, والذين لا يحول بين المادة المنشورة في تلك الصحيفة وبين أن تصفهم بالخونة والعملاء سوى ذكر كلمة (الخيانة) حرفيا؟
وهل يبدو هذا الاحتمال ضربا من المبالغة أو الغلو حقا في ظل الأجواء المشحونة التي يعيشها الشارع السوري إثر كل تلك المذابح والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين العزّل, والذين لاتزال كثير من جثث شهدائهم مدفونة تحت أنقاض البيوت والمدارس؟
هل هذا هو ما تحتاجه (مقاومتنا) حقا من الإعلام ؟
هل هذه هي الطريقة الرسولية التي نحاول من خلالها تنمية الوعي الوطني لمواجهة المحتل على ما تزعم منابرنا الاعلامية وتدعي؟
ليس مثار خلاف جدي الادعاء أنه لازال أمام الإعلام السوري, وملكاته التحاورية مع هذا الآخر, دربا مضنية ليقطعها قبل ان يستحق وظيفته ودوره.
وإذا وفرنا على أنفسنا الاستماع من هؤلاء القوم الموكلين بمنابرنا الإعلامية لسفسطة الاجابة على سؤال حرية التعبير, والرأي الآخر, ومقارعة الحجة بالحجة,...
فهل يمكن لنا أن نسأل على الأقل عن أية دروس بين ظهرانينا وحولنا يمكن لأحد على الاطلاق أن يستشف منها ضرورة الكف –ولو مؤقتا- عن توزيع صكوك الغفران, وشهادات حسن السلوك الوطني, بهذه المجانية المخزية؟
على جريدة الوطن التي لايملك أحد الحق في أن يملي عليها توجهها وسياستها –ونرجو ان يكون الحال كذلك- ألا تتباطأ أبدا في فتح صفحتها الأولى إياها للردود والتوضيحات التي تردها من الكتاب السوريين وغيرهم ممن أحسوا في مادتها المنشورة تلك إجحافا بحقهم, ومساسا بكرامتهم, أو تأليبا عليهم.
ويجب على مسؤولي تلك الصحيفة ألا يتذرعوا بحجج واهية للتفلـّت من مسؤوليتهم حيال أي أذى جسدي أو معنوي يمكن له ان يلحق بهؤلاء الكتاب, شركائهم في القلم, سواء اتفقوا وإيـّاهم في الرأي, أم اختلفوا عليه.
وللصحيفة -من باب الاختيار الحر دوما- أن تتحرى في المستقبل مهنيـّة أعلى لأداءها, تليق بإعلامنا الخاص الموعود, وتحترم قارئها السوري, الذي يقضي بالمناسبة معظم وقته داخل هذا البلد!
وأن يكفّ إعلامنا المحلي عن معاملة السوريين كلاجئين إعلاميين, او سياحا أجانب, لا يفقهون, ولا يبالون.
وان يتوقف هذا الإعلام عن ركل جمهوره خارج مجال بثه الافتراضي, ودفعه مرغما إلى مصادر أخرى, وصل بنا مطاف الأمور أن تكون إسرائيلية.

في حديث الجنس السوري, ... وللرقيب (شبقه)

لا تخفي سلوى النعيمي دهشتها حيال (فرمان) سحب كتابها برهان العسل من على الرفوف الثقافية الرسمية, والمرسومة في بلدها الأم.
ولم يكن إنكارها -وهي الدارسة (الأكاديمية) لهذه اللغة- لوجود كلمات سافرة في العربية على حساب الـكلمات الـ محجبة , أو احتجاجها على مجتمع التقية الذي نعيش فيه سرا ما عاشه أجدادنا في العلن ؛ ليزيد او ينقص على ما يبدو في ميزان (احتشام) عاصمة الثقافة العربية 2008 .... المنتهية ولايتها.

بل إن محاولة الشاعرة السورية المقيمة في باريس (إنقاذ) مفردات الجنس, وأسماء الأعضاء الجنسية, و(أفعالها), من درك توظيفها (الشتائمي) على مستوى التعاطي اليومي معها، لا تلبث ان تصطدم بالعادات السرية الفكرية لـ(الراشدين فقط), والذين يغتسلون صبح مساء من (مجانبة) ما يزعمون بهتانا أنه ليس من (ثقافتنا) (أصلا).
إذ أن الجنس وعلى الرغم من اتساع ثقوب غربال الرقابة في بعض الأحيان كما تقول النعيمي, إلا أن المتابع لا يزال يجده هناك بوتيرة متزايدة معلقا على الخشبة, دريئة منخولة بالشك والمقصات.

بل لا يبالغ من يزعم أن ثمة ردة (مقدسة) لتمكين هذا التابو, وشد دعائمه أكثر فأكثر بين ظهرانينا, وفي برهان العسل نفسه برهان.
فالكتاب (السوري) الذي سلم جانبه في معرض بيروت للكتاب, وغـُضت الأبصار عنه في معرض أبوظبي, كان لابد أن يغص به معرض دمشق للكتاب.

ربما لأن الوصايات تلح من (منابرها) أن السوريين لم يبلغوا سن الرشد بعد, وربما لأن المافيات (الدينـ-ــوية) ومن بحكمها شنت في حينه –على هذا الكتاب وغيره- داخل أجنحة المعرض وكواليسه بضع (غزوات) مبيتة, تكللت في نهاية المطاف –ليس آخره- بالسرقة الموصوفة, وحجب الأفكار.
ولا رادا على (القضاء) يقضي, ولا عاصمة للثقافة تعصم.

بل إن هؤلاء (الحجَاب) ليجدون على غير موعد سندا لهم في بعضنا الملجم الساكت, أو المقارب المضطر او المدعي, او بأحسن الأحوال فاقد الرؤية, وإن امتلك الأداة.
فتناولنا الصحافي والإعلامي على سبيل المثال للجنس وثقافته يشي بالكثير من الخفة, إذ لا يزال هذا الموضوع بالذات يراوح في التداول (الصحافاتي) بين (العنـّة) و(سرعة القذف).

فهو إما مسربل بالتوريات, والمجاز القاصر, او مثقل بالأكاديمية التربوية, والوعظي المفتعل, وفي كلا الحالين تـُغتال المتعة, وتـُسفـّه الأحلام, ليتمخض الجمل عن مقاربة مبتسرة يابسة, لا نشوة فيها ولا رهز.

وإلا كيف ترانا نقيـّم مركونات كل تلك الملفات الجنسية التي يتعاورها إعلامنا المحلي بين الحين والآخر, والتي لا (تفتح) في فتوحاتها المبينة لا وعيا, ولا جسدا.
أو بماذا عسانا نفسر (الحفاوة) التي استقبلت فيها صحيفة سورية (مستقلة) –جدا- زميلتها البيروتية التي صدرت مؤخرا تحت مسمى "جسد", عندما لا يستطيع المحرر-المحتل الثقافي في صفحته أن (يقاوم) نشر الخبر إياه؛ من دون (بعبصة) رصينة, تستدعي التربوي الوصائي, ليأتي سياق مادته على شاكلة:

"... وحتى لا تتسرعوا بالحكم على الناشرة اللبنانية «المجتهدة»، فهي لا تقدم بورنو رخيصاً باسم الفن, أو جنساً مبتذلاً باسم الثقافة, حاشا للخالق!" نعم, لـ(الخالق).
أو نمط :

"..حسناً, في الغرب هناك اسم مخصص لهذا النوع من «الثقافة» له رواده وأعماره، لكنهم على الأقل لا يتشدقون بالثقافة والفن كلما قاموا بمشروع «هادف» كهذا." نعم, (هادف).

ويـُسقط عزيز قومنا من (شهوته) التطهرية الجارفة أن ثمة في ناسه و(عشيرته) "ن يعيش ويموت من دون أن يعرف طريق جسده, وأجساد الآخرين"*, وإن وفق الأمثولات (الشرعية) وأحابيلها حتى.

ومن قبل هذه وتلك؛ ما اجترحته وزارة الثقافة السورية في مهرجان دمشق السينمائي منذ عام تقريبا, عندما قرر السيد الوزير (ختان) فيلم الافتتاح الروماني (أربعة أشهر, وثلاثة أسابيع, ويومان) لمخرجه (كريستيان مانجيو), وذلك عبر (فرفطة) عدد من مشاهده في سلة قمامته, واقتطاعها لحساب إقطاعيته (الأخلاقية), باعتبارها بورنو, و"إباحية", ودوما في سبيل الحفاظ على (عفة) مهرجاننا و(رزانته).

ورغم أن الكاتبة سلوى النعيمي بثت في أعطاف مؤلفها الأخير "برهان العسل" ما مؤداه أنه من غير المحتمل أن تكون الرقابة "على هذه الدرجة من الغباء"* , فإن كثراً يميلون للاعتقاد أن الكاتبة لم تكن جادة تماما في هذا الجزء بالذات!

لا تجد النعيمي مندوحة من الاستسلام لطلبتها الوحيدة, في ومض حسي لاهث وراء أناه, وإن كان هناك ثمة من يوقد الشمع ويوصد النوافذ لاستحضار الأرواح, فإن بخور الكاتبة و(عسلها) كله منذور لاستحضار الأجساد, بل -وبمزيد من الإمعان- جسدها وشبقها هي بالذات.

على أن القصة تبدأ دائما حين ينتهي الكلام.
بعد ان تفلتنا آخر صفحة من الكتاب وجها لوجه أمام التابو إياها, (منشورا) في عسل وحنظل كل منا بشخصه, محرما يكرر بكارته, وينسج عشه الدبق في رؤوسنا وفروجنا من جديد.

* الاقتباسات المشار إليها مأخوذة من كتاب برهان العسل الصادر مؤخرا في طبعته الثالثة عن دار رياض نجيب الريس-بيروت