2010-08-08

بمناسبة (قَسَمْ) وزارة الكهرباء, مكافحة الفساد بـ(اليمين) لا ... بـ(اليمين)!

لا تحلفو, محلوف عليكن...



لا يتجادل اثنان في أن الكهرباء السورية تعاني الكثير, غير ان أحدا لن يتعرض في هذه العجالة لكـمّ التراجيديا والكوارث الفنية والتقنية والتخطيطية المحيطة بهذا القطاع, إذ سنقفز حالا على سبيل المثال عن كل وساوس الخصخصة عن طريق التسلل التي تحوم حول مشاريع انتاج هذه الطاقة هذه الأيام (راجع تصريحات الوزير المختص بعد مذكرة التفاهم مع شركة الخرافي مؤخرا), كما اننا سنتستنكف عن إرسال شباكنا في محيط معاناة ما يسمى تقليديا بـ(الإخوة المواطنين) وهم يتلقون بصدور وجيوب عارية ما تتحفهم به دوائر الجباية (والاستثمار) في مؤسسة الكهرباء من فواتير باهظة, قد لا يتاح لبعضهم أحيانا حتى أن ينفذها ويدفعها ومن ثم يعترض -حسب المقولة الدارجة- مثل ما وقع مع أحمد. ح 51 عاماً, والذي أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته على كوة الدفع في فرع الشركة في دير الزور(يعني حدن بيئلك جلطوه؟!....إيه جلطوه).
وأيضا وأيضا لن نشهق عجبا أكثر منه إعجابا ونحن نسلم الفرنسيين (شركة جي أف أي على وجه التحديد) براءة اكتشاف ان بلادنا مشموسة ومشمسة أغلب أيام السنة, وبالتالي فإنه من الممكن اليوم (كما كان منذ عقود طويلة سبقت زيارة ساركوزي, بل قبل ولادة هذا الأخير حتى) بناء محطة توليد كهربائية على الطاقة الشمسية في القطر.
والغاية هنا كلها من هذين السطرين هي التعليق على تفريع وتفصيل ليس من المتوقع له ان يثير كبير جلبة, ولا ان (يكهرب) أحدا على المدى االقصير والمتوسط, والتفصيل المذكور وارد في نص المرسوم رقم 18 الصادر مؤخرا, والمتعلق بمعايير كفاءة استهلاك الطاقة للأجهزة الكهربائية.
وتهدف مواد هذا التشريع وفق نص سانا -الذي لا يطاله الباطل عادة- إلى رفع كفاءة استخدام الطاقة في الأجهزة الكهربائية المستخدمة في القطاعات المنزلية والتجارية والخدمية, وذلك بتطبيق معايير كفاءة استهلاك الطاقة على جميع التجهيزات المستخدمة في سورية, إضافة إلى المساهمة في تلبية متطلبات التنمية المستدامة في إطار آلية التنمية النظيفة وتعزيز القدرة التنافسية للأجهزة المنتجة محلياً والأجهزة المستوردة, وتخفيض الآثار السلبية الناتجة عن توليد الطاقة الكهربائية.
أما الأمر الذي يستوقف المتابع فليس في أي شيء مما جاء في الديباجة السابقة, وإنما عمليا فيما سيلحق, حيث من المنتظر بحسب هذا المرسوم, ووفق مادة مخصوصة فيه أن يلزم السيد وزير الكهرباء العاملين المكلفين بتقصي المخالفات, وقبل مباشرة أعمالهم, أن يؤدوا يميناً أمام القاضي البدائي الذي يتبع له مركز عملهم بالنص الآتي:
(( أقسم بالله العظيم, أن أقوم بعملي بأمانة وكتمان تام, وأن أسلك المسلك الذي يحتمه الواجب, وأن أحترم القوانين والأنظمة النافذة وأتقيد بأحكامها في ممارسة مهامي وأعمالي. )). انتهى (علامات الترقيم من عندي)
ويمر قراء كثيرون على هذا البند بالذات مرور الكرام, على اعتبار أن المشرّع الذي خرج علينا بهذه الفكرة بالذات –فكرة اليمين- وفي هذا الموضع بالذات, قصد وفق ما اوصله إليه (اجتهاده) إلى الاسهام بنصيبه في مكافحة الفساد (الكهربائي) في البلد, والحد من التجاوزات المالية ذات الصلة والمستشرية بكثرة أنى وجه المرء بصره, وكبح العدوان المتواصل على المال العام والذي يرتفع (فولتاجه) باطراد في اوساط المتعاطين بهذا الشأن, خاصة منهم اولئك المتسلطين على (جبهات) بعينها في القطاع الصناعي (كامل الدسم), مع قصص في هذا المجال أكثر من ان تحصى او تعد.
غير أن المرء لا يتمالك نفسه –انطلاقا من تلك القصص بالذات- من السؤال هنا تحديدا عن تلك الفئة الكريمة من موظفي وزارة الكهرباء والتي يمكن وصفها بضمير غير قلق على التوالي بـ(المؤمنة) التي .... (لا تعرف الله), هكذا حرفيا!
وفيما إن كان لنا حقا أن نتعشم في أن يردع أمثال هؤلاء من عن إتيان كبائر ما درجوا على اجتراحه لعقود طويلة من فساد وإفساد؛ مجرد قسم مؤلف من سطر ونصف على ورقة A4 تتأرجح فيه الأيدي في الهواء,ويحمل في ذيله ختما رسميا (دنيويا).
هل بلغ المشرع لدينا من العجز في ضبط تفلت فساد قطاعات عريضة في مجتمعه حدا دفعه إلى تلمس (الخلاص) في أمثال هذه الاقتراحات الشفاهية الغيبية الشخصية, بدل سن قوانين مدروسة وصارمة, والخروج بتشريعات وقوانين ذات موضوع ومغزى, يمكن (وفق الأصول التشريعية) إلزام الناس –كل الناس- بها ومؤاخذتهم على مخالفتها قضائيا (وفق الأصول القانونية والجزائية)!
أم ان المطلوب منا هو أن ننتظر ملحقا تشريعيا ما لـ(القسم) إياه يحذر الحانثين به –وفق المنظومة الفكرية التي انطلق منها- من مغبة منقلب افتراضي كمنقلب (الإدعشري) في باب الحارة على سبيل التقريب, والذي شلت -أو احترقت لايهم- يمينه بقدرة قادر بعد أن أقسم يها زورا وبهتانا في إحدى الحلقات الدراماتيكية في المسلسل الشهير؟
أو ربما كان المطلوب هو ان نمد أجل انتظارنا أبعد من ذلك قليلا إلى (يوم الدين) –(قليلا) على اعتبار اننا في آخر الزمان وفق تأكيدات مطبوعات كثيرة في معرض الكتاب الأخير في دمشق- وذلك قبل أن نشفي غليلنا بإقامة الحد على لصوص المال العام, ونشهد على موافاتهم بـ(جزاءهم) وبئس المصير؟
أم لعل الأمر برمته لن يتعدى –بحسب فتاوى نافذة- أن يدفع هؤلاء (المجرمون) كفارة يمين, و(يصوموا) ثلاثة أيام في أسوأ الأحوال, في حال كانوا انفقوا ما سرقوه على (ملذاتهم الشخصية) –بالإذن من علاء الدين الأيوبي- عقابا على كذبهم ونفاقهم, و(كان الله غفورا رحيما)! من المثير حقا تخيل ما يمكن ان يؤول الحال إليه –من دون تصعيدات درامية- فيما لو سعت وزارات ومؤسسات اخرى في (الدولة) إلى اقتباس تجربة وزارة الكهرباء السورية, أواستنساخها ميدانيا, في حقول اجتماعية وخدمية اخرى, كوزارة التعليم مثلا, او الصناعة, أو الاتحاد الرياضي, أو التلفزيون السوري, أو حتى وزارة الثقافة!
فيصير لزاما على سبيل المثال على تلميذ التعليم الأساسي (الحلفان) انه سيدرس وينجح في الإملاء والحساب والتربية القومية, هو والخمسين طليعي المحشورين معه في ذات الصف, رغم أنف سبيس تون وكارتون نت وورك, وعمالة الأطفال ..
والتاجر أنه سيشتري ويبيع و(يربح) بالحلال الزلال رغم القوانين المالية الرجعية (ذات التأثير الرجعي), والتي تضرب دون سابق إنذار, ودوريات التموين (بنت السوق) التي تتغاضى عن دفتر الحسابات الأصلي المخفي في جبّة الحجي..
والصناعي أنه سيبتكر وينافس وينجح, متجاوزا الضرائب الباهظة على المواد الأولية وإغراقات رفاقنا المليار والنصف شغيل في الصين الشعبية (جدا), ناهيك عن مقاصل قوانين المناطق الحرة العربية والإفرنجية التي لا ترحم..
ولاعب المنتخب أنه سيسجل من أرضية زاحفة تعلو العارضة بقليل –التعليق منسوب لوجيه شويكي- بعد خمس دقائق من شلفه في الملعب دون إحماء وبقميص ورشة الدهان التي ستتكفل بمصاريف عرسه بدل راتب الاحتراف الافتراضي في مجاهل إفريقيا السمراء أو أوروربا الشقراء..
والسيناريست أنه سيكتب دراما سورية شامية واقعية تقدمية, من تسعة اجزاء, لا تتعرض لـ(الأصول!) أو (الفروع!), وتحترم الخلوة الشرعية, وجرائم الشرف, وتشدد على (الكسريـّة)* ترويجا لسوق الكندرجية الآفل فلكلوريا...
والمثقف أنه سينتج شعرا ومسرحا وسينما ونقدا يليق بـ(ستاندرات) الدكتورين, الوزير الآغا, والمدير اللو, ناهيك عن الأمينة قصاب حسن, كي يتاح له لاحقا الاستفادة من العطايا والمنح والفضاءات الأصيلة منها والبديلة لكل من وزارة الثقافة, ودار الأوبرا, وعاصمة الثقافة..
على ان بعضهم يظن -وبعض الظن إثم لا كله- أن موضوع اليمين هذا ليس سوى اقتراح غير موفق من قبل مكتب التشغيل الرسمي في سبيل مكافحة بطالة بعض ممن هم في ملاك الأوقاف هذه الأيام وراء باب الاجتهاد المغلق-ـة, بحيث تتشكل منهم للتو لجان متخصصة لتأليف (أيامين) تناسب جميع الأعمار والمهن وشرائح المجتمع السوري (المعاصر), من أجل (اللحاق) بركب (الماضي) المشرق!
وإلا فما هي الفائدة المتوخاة من وراء هذا النكوص المرضي نحو مفاهيم الحلال والحرام على حساب مبادئ الحقوق والواجبات, وإلى متى هذا الاتكال المستفحل على الغيبي الماورائي, على حساب التحليل المنطقي العقلاني, والمعالجة العلمية الموضوعية والقانونية لما يعاني منه مجتمعنا من أدواء ومفاسد.
لم يكفنا (قسم) أبقراط يوما غائلة الممارسات الطبية الشاذة, ولم تحل (الأيامين) المشبعة وعدا ووعيدا دوننا وأن نقع في الحبائل (الشريرة) للمحامين والمهندسين ودكاترة الجامعة والعسكريين.
ولن أستفيض هنا بالسؤال عن فئة من السوريين (الموظفين) في وزارة الكهرباء العتيدة واخواتها, والذين لا ينظرون إلى انفسهم كمنضوين تحت أية ملة بعينها, وفيما إذا كان فرض (أيامين) من هذا القبيل عليهم يخرق إلى حد ما حقوقهم الدستورية –التي يستمد أي قانون قوته منها- في حرية اختيارهم لما يريدون الاعتقاد به أو ما لا يريدون, وفيما إذا كان قسـمٌ من هذا القبيل يعني لهم أي شيء على الاطلاق, ومدى مساهمته في دفعهم او ثنيهم عن تصرف ما, سواء أكانوا من نظيفي الكف أم غير ذلك.
صديق لي لم يبد له رغم كل شيء, أن القانون إياه يحمل كل هذه (المفاعيل) و(الهواجس) على حد تعبيره.
ومع التاكيد على أن (الحرب) على الفساد تكون بـ(يمين) الساعد واليد والعقل, لا (يمين) الغيب والمرسل, فربما كان من الأنجع لي فحسب الاكتفاء مرة اخرى -وكما أفعل عادة- بالانحناء مليا لردة فعل جدتي التي لم تتأخر لحظة واحدة وأنا أتلو عليها نص المرسوم إياه عن التمتمة في مأثرة أخرى من مآثرها المرتجلة ودون ان تتوقف عن تدريج حبات سبحتها بين أصابعها قائلة:
آلو للحرامي حليف....آل: إجاني الفرج!

_________

* حذاء أو (صرماية) عادية يتم كسر (طعج) مؤخرتها بشكل فلكلوري لأسباب غامضة تاريخيا




2008

ملفات الثقافة الجنسية في الإعلام السوري


كثير من اللف, قليل من الثقافة, ... ومن دون جنس





لطالما بدا الإعلام المحلي السوري في الفترة الأخيرة مفتونا بصيغة (فتح الملفات) والمجلدات والدفاتر, قديمها وحديثها, ما استطاع إلى ذلك سبيلا, وبشهية طيبة ربما, مقارنة بالفترة الماضية التي نال فيها الكبت والتضييق من أغلب عناوين السياسة والدين والجنس فيما يعني السوريين؛ حدا انقرضت فيه هذي الثيمات من التداول الاعلامي المحلي أو كادت.

ومن هنا, نجد أن هذا الإعلام كثيرا ما انساق مؤخرا -مغفورا له إلى حد ما- وراء غواية التطرق لمواضيع تحمل نكهة هذه التابويات وأثقالها, متسقطا لبلوغ مأربه غفلات الرقيب والعميد وسواهما, أكثر منه مستثمرا هامش ما يقال أنها حرية يمكن له أن يراهن عليها لإثبات استقلاليته المزعومة كإعلام خاص في طور تمييز نفسه عن التيار الرسمي شبه الجاف؛ إنما الجارف.

غير أن عددا لا يستهان به من أولئك الذين خاضوا إعلاميا في تلك الملفات إذ فتحت, سواء في المجلات والجرائد المطبوعة, أو البرامج التلفزيونية والإذاعية, وبطبيعة الحال المواقع الالكترونية السورية, انتهوا بطريقة أو بأخرى إلى التعلق في نهاية المطاف بـأستار (شرف المحاولة), بعد أن فجأ القوم قليل وتواضع ما وصلوا إليه في مادتهم النهائية, على الرغم من كل تلك الفتوح المانشيتية, والاستهلالات التعبوية في الافتتاحيات وبانرات الإعلان, متذرعين أحيانا أمام الأسئلة بضيق الوقت والكوادر عن استكمال العمل, وبأنهم (عائدون) لابد في جولات قادمة, ومتعللين أحايين أخرى بالداهم من متغيرات السياسة والاقتصاد, مستبدلين موضوعا بغيره, وملفا بآخر, وربما منساقين في النهاية –وخروجا من خلاف- لاعتبار أن لملفهم (ربا يحميه), وأن الأعمال إنما هي بالنوايا, وإن إلى حين.

وما تقدم يصلح بلا ريب, ودون تجن يذكر- لوصف حال العديد من تلك الملفات المفتوحة أبدا على مصراعيها في تناولات إعلامنا السوري, ولعل (ملف الثقافة الجنسية) يأتي في مقدمة تلك الملفات, متقدما على غيره في شؤون السياسة المرة, والاقتصاد الذي لا تهمد ناره, ويعتقد كثيرون أن ملف الجنس والثقافة الجنسية ودون مبالغة كبيرة هو صاحب الرصيد الأعلى في التداول الإعلامي على هذا الصعيد.

على أن ملفات الثقافة الجنسية في الإعلام السوري مطبوعة منذ زمن غير يسير بطابع يحمل في طياته مزيجا مرتجلا يجمع قلة الخبرة, إلى الكسل, ومحدودية الأفق, والاستسلام للنمط, من طرف المجتهدين الإعلاميين المحليين تجاه مقاربات من هذا النوع, أكثر منه توجسات رقابية, أو محاذير تحريرية, من دون أن نغفل بحال الكبت الجنسي نفسه موضوع البحث الأثير لدى هؤلاء الإعلاميين, والذي إن لم يعانوا منه كلهم ممارسة, فإن جلهم بالتأكيد ليس بمعصوم عن مفاعيله الاجتماعية والثقافية.

لدرجة أن الخارج عموما من معمعة تصفح ملفات من هذا النوع, بالكاد يحظى بأي جديد, سواء في حقل الفكرة أو الطرح, أو لجهة شكل الإخراج والتقديم.
وكل ما يمكن تحصيله عادة على هذا المستوى لا يتعدى قائمة موسوعية خطيرة من المفردات والاصطلاحات الطبية -لاتينية ومعربة- لعديد الأمراض الجنسية, أو ما بحكمها, والتي تبدوا أعراض بعضها أرحم من أسمائها, وهي تصور لنا وفق تلك الاستطلاعات والمداخلات كمفترس رابض لنا في جنبات وزوايا كل سرير أو خلوة.

فمن الحلأ التناسلي إلى الكلاميديا, ومن السيلان إلى الهربس, ومن الترايكومونس إلى رايتر, ومن الجرب إلى التهاب البروستاتا, مع احتفاء إحصائي خاص كل مرة بالأكثر كلاسيكية.. الايدز.

هذا, أو دزينة مجانية جليلة من الفتاوى الدينية والأحكام الروحية التي لا راد لقضائها, في أرجوحة الحلال والحرام, وبصلاحية مفتوحة ومدى فضفاض يطال مختلف المذاهب والملل, بدء بأحكام البلوغ والحيض, مرورا بأنواع الأنكحة وآداب الجماع وأذكاره, وصولا إلى رجم الزاني المحصن, وكراهة-تحريم إتيان الحلائل في الدبر, وموبقات الاستمناء, وأحكام فرك المني وغسله, وليس انتهاء بالأكثر إثارة للجدل –لاحظ الجدل لا المتعة- من الانعاظات الماراثونية في أحضان الحور العين, والتأويلات التطهرية لنكاح الغلمان المخلدين في الفردوس.

وذلك كله لا ينقضي بحال من الأحوال دون جولة أفق نفسية -غالبا ما تكون بدون أفق- والتي باتت لازمة في ملفات من هذا النوع, بمعلوماتها المكرورة حول الباراسيكولوجي, والعقد النفسية ذات المنشأ الجنسي, من أوديب إلى إلكترا إلى ديانا وسواها, في استنزاف فرويدي طقوسي ممض.

أما الآفات المجتمعية التي تندرج في السياق, فهي المفضلة ولاشك, وتحظى بحصة الأسد من المتابعة والتحليل, ويتم إيلاؤها عناية خاصة, كونها ستمسي قريبا جدا, بعد التفريغ النهائي للمنتج الإعلامي إياه, المصدر الأساس للعناوين الطنانة, والمادة الدسمة للاقتباسات الميلودرامية, التي ستتصيد المشاهدين والقراء الغفل متى سولت لهم أنفسهم تشغيل التلفاز, أو فتح الموقع الالكتروني.
وتتربع على عرش تلك التشوهات المجتمعية أحاديث العنف الجنسي الأسري, وقصص الاغتصاب, وبوليسيات سفاح القربى, وعوالم الدعارة, والشذوذ, وزنا المحارم, وكوابيس التحرش الجنسي, وإتيان البهائم, إلى آخر تلك القائمة الممطوطة.

وبالطبع ترقد هناك في الأثناء وبسلام يقيني لايتزعزع, المقاربة الفلكلورية للمثلية الجنسية, والتي تتعمد تنحية التحليلات النفسية والبيولوجية العلمية الحديثة لهذه الظاهرة, تطهرا من الترويج للـّواط أو السحاق, وفق الانطباعات الرجعية لكثير من إعلاميينا المنفتحين على العالم في مكان آخر, والذين لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتدقيق, وتقديم المادة في إطارها العلمي الموضوعي, مع ضمان حقهم بالاحتفاظ بآرائهم الشخصية لأنفسهم.

لتغدو هذه الملفات وقد (ارتكبت), مسلسل رعب متكامل الحلقات, دونها ملفات عن (القاعدة) و(الأسلحة الذرية) و(الإرهاب الدولي).

فهل الجنس كله يا ترى عبارة عن أمراض فتاكة, ومحرمات مهلكة, ومنازعات اجتماعية متوعدة؟

هل يشفع لنا التذرع بواقع الحال –على افتراض انه كذلك- في التهرب من واجب إلقاء الضوء على زوايا أخرى للموضوع موجودة بين ظهرانينا بالفعل, ولا تحتاج منا إلى أي اختراع أو فبركة, بقدر ما تحتاج إلى إمعان لعين النظر والتفكير, لإنزالها المكانة التي تستحق.

أين هي حصة المتعة واللذة والإشراق الحسي في (جنسنا)؟

أين هو إيروس (كيوبيد لدى الرومان)، بقوسه المتأهب لإطلاق سهام الحب, من كل ذلك اللغط الإعلامي المتصحف, والجلبة التثاقفية المصطنعة.
(لا صلة للكلمة اللاتينية بالمرادف العربي في اللهجة الدارجة للعضو الذكري)

أين هي مطالعات الكتب التراثية –لمن لا يتقنون لغة أجنبية- والتي قد تفتح بعض صفحاتها آفاقا ما أمام هؤلاء الإعلاميين لسد تلك الثغرة الخطيرة في مقارباتهم البائسة تلك لموضوع على ذلك القدر الرهيف من الحميمية كالجنس.
بل لعله من الطريف أن يجد المرء أن معظم تلك المؤلفات والكتب الإيروتيكية العربية إنما كانت بأقلام أئمة وشيوخ ومحدثين, يفترض بهم أن يكونوا أكثر محافظة وتزمتا من الإعلاميين السوريين, الذين أثبتوا أنهم شديدوا التشبث على ما يبدوا بذلك النوع من الوقار النكد الذي لا يخلوا من غباء, مما وسم مسيرة إعلامنا المحلي لفترة ليست بعيدة.

تقول الكاتبة السورية سلوى النعيمي: اللغة العربية هي لغة الجنس, وطالما هناك التيفاشي, والتيجاني, والسيوطي, والنفزاوي, فلماذا علي أن أقرأ جورج باتاي, وهنري ميللر, ودو ساد, وكازانوفا, والكاما سوترا!

بل بالإمكان الذهاب أبعد من هذا نحو الألف الثالث قبل الميلاد, مولين وجوهنا شطر الشعر الايروتيكي السومري, حيث غراميات الراعي دوموزي والربة إنانا، لنقرأ مع القارئين تعويذة طقوسية طبية لعلاج مشاكل الضعف الجنسي تقول ترتيلاتها: "لتهب الريح، لترتجف الحديقة، لتتجمع الغيوم، ليتدحرج المطر، ليكن انتصابي نهرا فائضا، ليكن قضيبي، المشدود كوتر قيثارة، فيها لا يخرج منها ابدا".

ولوارد ألف ليلة وليلة ما يروي الظمأ, ففي قصة (خفيفة) تحمل عنوان (الحمال والثلاث بنات), يجد المطالع كيف تبدأ الليلة بالطعام, والشراب, والهراش, والبوس, والعض, والفرك، وعندما تبلغ الإثارة مداها؛ تتناوب النساء علي خلع ملابسهن, والارتماء في بحرة الماء, والإشارة إلي موضع (الحياء), والسؤال عن اسمه، وكلما أجاب الحمال باسم، ضربنه علي قفاه عقابا علي قلة حيائه، حتي علمنه الأسماء المحتشمة كلها، وجاء دوره في التعري, فبدأ يختبرهن بالأسماء الممكنة لـ(شيئه)، ولأن الدرس اللغوي طال أكثر من اللازم، أو بسبب تأخير الحمام في ترتيب الطقوس، فإن الحمٌال لم يظفر بأكثر من هذه الملاعبات, إذ دخل القرندلية الثلاثة, وبعدهم الخليفة الرشيد ووزيره جعفر, فسكت الساهرون عن الهراش المباح.

يقول الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا :"الإيروتيكية تعني نزع صفة الحيوانية عن الفعل الجنسي، وتحويله عملا فنيا يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا والثقافة. إنها عامل مغن ومنتج حضاري", ويتابع " في المجتمعات البدائية لم يكن ثمة إيروتيكية، وكان الفعل الجنسي فعلا شبه حيواني جل ما يؤدي إليه هو الإنجاب, ولم تشرع الايروتيكية في الظهور إلا مع تطور المجتمع وتحرره وتثقفه. آنذاك احاطت بفعل الحب طقوس واحتفالات واخراجات ومسرحات، واغتنى هذا بالصور والاستعدادات والغرائز (الذكية) والرغبات السرية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالفن.".

وحبذا لو يصخي بعض إعلامينا السمع قليلا لـ(تصريح) الإمام الحافظ ابن قتيبة الدينوري, إذ يقول "وإذا مرَّ بك حديث فيه إفصاح بـِذكر عورة, أو فـرج, أو وصف فاحشة؛ فلا يحملنك الخشوع -أو التخاشع- على أن تصغـَّر خدَّك, وتعرض بوجهك, فإن أسماء الأعضاء لا تـُؤثم، وإنما المآثم في شتم الأعراض, وقول الزور, والكذب, وأكل لحوم الناس بالغيب.".... والله أعلم.


_________________________________________
للاستزادة
برهان العسل, سلوى النعيمي
ماريو فارغاس يوسا, حوار: جمانة حداد, النهار 2005
الاستشراق جنسياً،إرفن جميل شك, تر: عدنان حسن, تقديم: ممدوح عدوان
الميلاد المتكرر للمتعة والورع, عزت القمحاوي





2008

بين وزيرها, وأمانة احتفاليّتها؛ ارتجالات مزمنة في راهن الثقافة السورية

لا تدّخر الأمينة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008 الدكتورة حنان قصاب حسن مناسبة خاصة أو عامة –آخرها في جلسة حوارية مع الممثل بروس مايرز حول عرض بيتر بروك الأخير- إلا وتعلن فيها على الملأ شكواها الممدد لها من عدم توفر أمكنة ومساحات عرض لاحتضان نشاطات أجندتها الثقافية الآخذ بعضها برقاب بعض, في حين لازال المرء يفاجئ في الوقت عينه تقريبا بعدد من تلك الأمكنة المفتقدة والمتنازع على فضاءاتها الافتراضية؛ وقد أمست مسرحا براحا لمناسبات أخرى يقال أنها (موازية) من خارج البرنامج الرسمي للاحتفالية, مناسبات لا تحمل إلا قدرا متواضعا نسبيا من هاتيك الرصانة, أو المتعة, أو الفائدة, التي يفترض بعروض الاحتفالية أن تتحلى بها أو بإحداها على الأقل, وهو ما ينتظره الجمهور على أية حال من أي نشاط بالمطلق, باحتفالية أم بدونها.

وإن كنا هنا غير معنيين مباشرة بتفنيد الدعاوى الغيبية للدكتورة قصاب حسن حول قدرتها على اجتراح ما أسمته "أماكن عرض بديلة" مما درجت على التسويق له منذ مؤتمراتها الصحفية الأولى, غير أننا جد معنيين بأن نسحب من التداول العشوائي حجة العوز والافتقار لمثل تلك المساحات والأمكنة؛ والتي أمست بدورها ذريعة طيعة لتبرير قصور التنظيم والإدارة لدى كوادر منظمي الأحداث والحوادث الثقافية بين ظهرانينا, والذين يستمرؤن التحلل -بهذا العذر- من مهام أسمى وأخطر على مستوى التخطيط والإدارة الثقافية بخطوطها العريضة منها, والتفصيلية.
والسعي إلى تحجيم تلك الحجة بالذات؛ يضعنا على الفور وجها لوجه أمام الحصيلة المرة لمواعيد (ثقافية) أخرى تضرب لنا بين الحين والآخر من دون أن تكون ذات موضوع أو فحوى, رغم أنها لطالما (احتلت) على الأرض فسحا ربما كان غيرها أولى بها.

ولعل من آخر تلك المناسبات ما كان من شأن ندوة نظمها (مركز تريم للعمارة والتراث) في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق, مستضيفا فيها السيد وزير الثقافة, الذي استهلك دون جلبة إعلامية تذكر, وفي نفس واحد, ساعة ونصف الساعة من صبر مستمعيه, عبر حديث يزعم كاتب هذه السطور أنه أقرب ليكون حديث ظهيرة في مقهى, أو دردشة شخصية طارئة مع صديق مستجد, أكثر منه محاضرة متماسكة, أو ندوة مدروسة, أو جلسة حوارية, على ما اجتهد المنظمون في تقديم إسهام ضيفهم ذاك المساء.

ولعله من نافل الحديث القول أن سوريا واحدا لا يكاد ينكر للدكتور نعسان آغا باعه الطويل في الارتجال, بل إن كثيرين يجهدون ذاكرتهم بدون طائل تقريبا لاستعادة لقطة واحدة تجمع السيد الوزير بخطاب في يده, أو ورقة على منبره, أو شاشة حاسب تحت ناظره, سواء في افتتاح, أو ختام, أو رعاية, أو لقاء, أو غيرها مما يشغل عادة الرسميين الثقافيين في مركزه.

وفي حين تضبط في (ثقافات) أخرى ساعات المحاضرين على مدة حديث محددة ومدروسة, وتبرمج حصص المداخلين, وأصحاب الرأي المخالف بعناية لا تقل عن العناية بالمحاضرة الأم ذاتها, ويطلب إلى الخطيب تحديد موضوع, ومحاور الحديث سلفا (الأخيرة خدمة موجودة لدينا بالفعل مع بعض التصرف تحت اسم رقابة)؛ هذا إن لم يجر في نهاية المحاضرة توزيع نسخ مكتوبة منها, يصر الدكتور نعسان آغا من جانبه على منح نفسه أنى وأينما حل كارت بلانش (زمكاني) فيما يخص أحاديثه وخطبه ومداخلاته, وكأن كل ما تقدم من أدوات وضوابط مدينية للخطاب أو الحوار؛ إنما هي مرذولات لا تقرب في عرفه, أو لكأن في الورقة والقلم, أو ملف الـ(WORD) والـ(PDF) إذ يستعين بها السيد الوزير على لم شتات أفكاره, ونستعين بها نحن على موافقته أو الرد عليه وفق نقاط محددة, وأفكار منظمة, انتقاصا من ثقافة الوزير, أو مساسا بكاريزميته وهو يرسل الكلام عفو الخاطر, ومزاج اللحظة.

لذلك لم يكن من المستغرب تماما –وإن ظل مستهجنا بالطبع- أن يجد الجالس على كرسي الاستماع في قاعة محاضرات المكتبة الوطنية ذاك اليوم نفسه بمثابة دريئة لجملة من الأفكار العشوائية, والمقتطفات الإنشائية –ليس بالمعنى الرديء للإنشاء دائما على أية حال- التي لا رابط بينها, اللهم عدا أنها كانت تخرج من فم الوزير نفسه.

فمن القمة العربية العشرين؛ إلى الإصابة في معرفة الصحابة, ومن المعادلة من الدرجة الثالثة في الجبر؛ إلى حديث الأربعاء لطه حسين, ومن بر الوالدين؛ إلى الإشادة بالكاتب الإسرائيلي يوري أفنيري المعجب بدوره بشخصية محمد,
ومن الـ"لاأدريـّة"؛ إلى "فتنة" الرسوم الدنمركية, ومن أساور كسرى؛ إلى نكسة حزيران, ومن صلاة العصر في بني قريظة؛ إلى تبادل القبل مع وزراء آخرين في بهو أحد المؤتمرات؛ إلى الثالث المرفوع في المنطق.

ولعل هذا الأخير بالذات –المنطق- هو ما افتقدته هاتيك الأمسية في تداعياتها المرسلة تلك, وإلا فأي نسق حواري –كما هو الزعم في عنوان الندوة- يروم الالتقاء بالآخر, والتفاعل معه؛ ذلك الذي تجد فيه نفسك بغتة وقد نزلت على أسماعك عبارات واستخلاصات مبتورة السياق والمقدمات, من نمط ذلك التعليق على قضية اغتيال الحريري الأب, تعليق أراد له الدكتور أن يلمع في فضاء قاعة المحاضرات لثوان قليلة بدون أي توطئة, أو استدراك, أو تحليل, مستعيرا العامية المصرية ليقول "واتهمونا بقتل اللي يسوا, واللي ما يسواش"!

أو بتصريحه أن "شارون أفضل لنا جميعا من أولمرت",باعتبار أننا نحن العرب "نحب الخصوم الأقوياء"!
دون أن يفلح معظم الحضور في تأويل حماسة الوزير المفاجئة لسفاح صبرا وشاتيلا, أو فيما إن كان هذا يعني أن علينا أن نستكشف بعض جوانب النوستالجي حيال نكسة حزيران مثلا, والتي تمكن فيها خصومنا "الأقوياء" وخلال خمسة أو ستة أيام من إنزال هزيمة نكراء بعدة جيوش عربية, وبالجملة!
أو لعله انتقاد مبطن ربما من طرف الوزير لمفاوضات اسطنبول بين دمشق وتل أبيب, والتي يديرها من المقلب الآخر (الضعيف) أولمرت, باعتبار أن "القوي" شارون مرمي في غيبوبة دماغية لا يود كثيرون له –فيما عدا الدكتور نعسان آغا ربما- أن يصحو منها قريبا, ولو حتى لدقائق يوقع فيها اتفاق سلام (قوي) مع أحد ما!

وإذا كان الارتجال بريئا من أمثال هذه الشطحات, فما الذي تراه يدفع شخصا بمرتبة وزير مثلا ليتبرع من تلقاء قريحته بقول على شاكلة "عندما أرى كونداليزا يحتفى بها كل هذا الاحتفاء؛ أقول لا حول ولا قوة إلا بالله, من هذه كونداليزا..؟", وذلك قبل أن يستشهد فيها ببيت نسبه لـجرير "الظريف" يقول فيه:
"ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن يهجـى به أحـد يهجـوه لا أحد" .....!

أين ما ينفع الناس والسوريين في هذا ويدفعهم إلى شد الرحال إلى واحدة من أكبر قاعات المحاضرات في العاصمة؟

من دون أن ننسى أيضا وأيضا مقارنة السيد الوزير المشهودة بين الزعيمين الفلسطينيين أحمد ياسين وياسر عرفات إذ يقول "لذلك انظروا؛ هناك من قـُتلوا بالسم عبر صحن فول –هكذا صحن فول-, وهناك من يقتلون بالصواريخ", محييا أعدائنا الإسرائيليين الذين "يعرفون جلال خصمهم"!!

... هل هي إلا ثقافة الارتجال, واستسهالات المشافهة؟

وأما في المرات النادرة التي استأنس فيها السيد الوزير سياقا ما لأفكاره؛ فقد أتت النتيجة على وزن "سارع مفكرونا إلى التغريب, وقدموا الحداثة لنا تقديما باهتا ورديئا", وذلك فيم يعتقد أنه استطراد مفكك نسبيا لما كان طرحه الدكتور نعسان آغا في إحدى افتتاحيات مجلة المعرفة السورية في وقت سابق.

ليتهم سيادته بدون هوادة "رسل الحداثة" عندنا بأنهم نافحوا من أجل "إحداث قطيعة مع الماضي", عازيا ما يرى أنه "فشل الحداثة في بلادنا" إلى كون حداثيينا "قد سعوا إلى إفهامنا أن القرآن الكريم جزء من التراث", وأن أولئك الرواد إنما جهدوا لهدف واحد هو "تنقية هذا التراث", قبل أن يسترسل ليقدم صورة ساخرة تعبر عن الطريقة التي يفهم فيها السيد الوزير جهود رواد الحداثة أولئك, عبر تشبيه عملهم بمن يأتي إلى القرآن ليأخذ "نصف آية البقرة" –هكذا آية البقرة- ليضم إليها "ثلاثة أرباع آية الواقعة", مستخلصا من مقاربته الكاريكاتورية إياها أن المطلوب منه –ودائما على لسان رواد الحداثة- هو ببساطة ... أن يلحد!

ليعود الدكتور نعسان آغا ويشدد على "المفارقة العجيبة في الفكر العربي" كما دعاها, وهي أن هذا الفكر "لم يصل من الحداثة إلى شيء", وانه كان مجرد مدخل تسربت منه إلينا أفكار اللامعقول, وأدب العبث, مستنكرا أن تجد الدادائية, والتفكيكية, والتحليلية, موئلا لها في بلداننا, وناعيا في الوقت نفسه على المفكرين العرب التعاطي بمثل هذه الأفكار, التي وصفها بأنها "أدوات أوروبية غربية", وأنها "ليست من نتائج الحراك الثقافي العربي".
((أين ترانا نسمع عادة هكذا خطاب؟ ))

والغريب اللافت أن هذا التشنيع كله على الحداثة, والهجوم القاسي الذي شنه الوزير دون سابق مقدمات؛ أتى تماما بعد أن اعترف الدكتور نعسان آغا وأقرّ صراحة بأنه "لا يحق لوزير أن يحكم على الأفكار", ليرمي مقولته تلك في اللحظة التالية وراء ظهره, ويوغل في الاتهامات, والتبسيطات, وأحكام القيمة التي تقدمت الاشارة إليها.

فالوزير الذي انتقد في أول كلامه التعاطي "المتطرف" لدى بعض الأوروبيين مع مجتمعاتنا, آخذا عليهم انصرافهم عن الإصغاء للآخر, يعود هو بلسانه إلى الجناية نفسها بعد دقائق فقط من استهلاله ذاك, من خلال حملته على الحداثة كما فهمها, ومن دون أن يسمح للطرف الآخر, بأن يكون موجودا كمحاور شريك, وند مبين.

لقد كان حريا بالدكتور نعسان آغا أن يتيح بعض فسحة لمن هو قادر على إبراز وجهة النظر الأخرى, التي بالكاد عرف أصحابها أصلا بغارة بالسيد الوزير عليها, على اعتبار أنها جاءت ارتجالا, كطريقة جديدة في تمرير كشوف حسابات, ومن دون ورقة أو قلم.
ناهيك عن أن المعنيين بالرد أو التهم, لم تتح لهم حتى معرفة ما دار في تلك القاعة يومها نتيجة التغطية الإعلامية الركيكة التي خرج بها مراسل الوكالة السورية للأنباء (سانا) عن وقائع الجلسة, أو نظيرتها التي لا تفضلها بكثير, والتي تريث أصحابها بضعة أيام قبل أن يفردوا لها مكانا على صفحات جريدة (تشرين) الحكومية.

ولعلها كانت لتكون مبادرة تحسب له لو أن السيد الوزير عمد للدعوة إلى طاولة مستديرة حول الموضوع –ما لم يكن اهتمامه بالطبع مقصورا على فرض قناعاته وإيمانه الشخصي على الحضور- تماما كتلك التي جلس إليها مع الفرنسيين في مسرح (جان فيلار) في رحلته الأخيرة إلى باريس, بمشاركة فعاليات فكرية فرنسية, لأن مائدة من ذلك النوع هي أحوج ما نحتاجه اليوم, لا هناك فحسب بل هنا أيضا, مائدة يكون لرأي الوزير فيها نصيب, كما لرأي من لا يرى ما يتراءى للوزير أنه الصواب.
بل لعل فائدة مائدة كتلك في الداخل؛ لن تخيس بحال من الأحوال عما يمكن لشخص الوزير إتحافنا عليها من غنائم حوارات في الخارج مع بعض الأوروبيين "المتطرفين" أو (المعتدلين) على السواء.


لم تشفع على ما بدا من مجريات ذاك النهار للدكتور نعسان آغا سيرته الذاتية الفخمة بعض الشيء في أن تعينه على اختيار موضوع بعينه ليحاضر فيه, فلا تدريسه الأدب لبعض الوقت أنجده, ولا حيازته دكتوراه في الفلسفة من أذربيجان أسعفته, ولا كذلك عمله في السابق كمدير لبرامج التلفزيون, أو عضويته في مجلس الشعب, أو عمله كسفير في الخليج, ناهيك عن مشاركاته في العديد من المؤتمرات والندوات حول العالم, هذا إذا استثنينا منصبه الحالي كوزير ثقافة, والذي يعد وحده –أقله لدينا في سوريا- منجما لا ينضب للمواضيع والمواضعات.

الأمر الذي يدفع المرء دفعا للتبرع لسيادة الوزير ببعض الأفكار التي كان من الممكن أن تكون أكثر نجاعة من الاجتهاد الذي طلع به علينا منظمو الندوة الثقافية في المكتبة الوطنية ذلك المساء, وورطوا به الدكتور نعسان آغا, وورطونا.

فقد كان بمقدور السيد الوزير الذي حار موضوعا يومها الحديث مثلا في شأن هام, وجد آني, ليس إلا حال دمشق, وحال الثقافة فيها, وهي اليوم عاصمتها المتوجة على ما يشتهى لها أن تكون, والتي اعترف السيد الوزير في غير مكان بأن وزارته العتيدة لا تعلم شيئاً عن دورها فيها, وأنه شخصيا غير دار بما يدور في أروقتها والكواليس.
في ظل غياب مصارحة حقيقية أمام الناس –شركاء الحوار- عن المآخذ التي يأخذها كل من سيادته وحضرة الأمينة العامة للاحتفالية قصاب حسن على بعضهما حيال التصورات الإخراجية لثقافتنا اليوم, إن لم يكن ثمة ما هو أخطر, رابض وراء الأكمة.

كان بإمكان السيد الوزير أن يحدثنا, ويحادثنا مليا عن أوضاع المؤسسة العامة للسينما, والذي سبق له نفسه أن وصف حالها بأنه "واقع سيئ", دون أن يسهب لنا كعادته في تبيان أسباب هذا السوء, أم أن سيادته فضل الركون لقدريـّته الناجزة, والتي يستشفها المرء من قوله في ثنايا لقاءه الأخير "إن أمتنا لا تستيقظ إلا حتى يصبح الخطر قبالة العينين", أقله كي يفسر لنا مسوغات تطيره من تركته السينمائية التي سبق له أن قال في وصفها "لا أنا ولا الوزير الذي سيأتي بعدي يستطيع تغييرها وحل مشاكلها", وعما إذا كان علينا كسوريين أن نقصد وزراء ثقافة في بلدان مجاورة ربما, كي يداووا لنا عاهاتنا الثقافية المحلية, والتي بلغت من السوء ما وصف.

كان بإمكان السيد الوزير أن يفضفض لنا عن شجونه ومآخذه على الصحافة الثقافية الصادرة عن وزارته نفسها, والتي بدا أن للدكتور نعسان آغا موقفا لا ينم عن رضا على أدائها, غامزا من قناة مجلة المعرفة, والموقف الأدبي, وحبذا لو أنه تفضل فشرح لنا خفايا لمزاته بخصوص تلك الإصدارات بالذات عندما لم يكن معاونوه هم الذين يشرفون عليهما –حسبما قال- وعما إذا كان علينا كقراء ومتابعين أن نلمس تغييرا ما في تلك الإصدارات إبان عهده.

وقريبا من ذلك كان بإمكان السيد الوزير أن يصارحنا بالعثرات التي تواجه وزارة الثقافة السورية في تعاطيها مع الهيئة العامة للكتاب والتي تم إحداثها منذ وقت قريب, خاصة وأن سيادته اعتبر أن الحديث في هذا الموضع؛ حديثا "ذا شجون", غير منتبه ربما إلى أن ساعة ونصف كانت لتكفي نسبيا -لو أنه استغلها لذلك- في طرح ذلك الموضوع المشكل على الملأ.

كان بإمكان سيادة الوزير أن يخطو خطوة أخرى إلى الأمام في الحديث عن معتقلي الرأي السوريين, وهو الذي صرح من ما وراء الحدود عن عشمه بـ"أن تصدر أحكام براءة بكافة المثقفين, لأني لا أحب أن أرى مثقفا سوريا معتقلا", خاصة بعد أن (طمأننا) إلى أن نظيرته الفرنسية في زيارته الأخيرة لباريس لم تطرح معه قضية "المثقفين المعتقلين", وهي خطوة –التصريح الأول- متقدمة ولاشك عما كان علق به هو نفسه على قناة الجزيرة في وقت أسبق,
منكرا في حينه وجود هؤلاء القوم في الزنازين, قبل أن يطلق وعده الشهير قائلا للمذيع الملحاح "أعدك، إذا كان أحد هؤلاء القابعين في السجون لديه قصيدة.... أعدك بنشرها"!

كان بإمكان الدكتور الوزير الذي حار موضوعا أن يستثمر وقتنا لكي يشرح لنا مثلا مفهومه عن المشاركة, والانفتاح على الآخر, من وجهة نظر رقابية, وهو من برر لنفسه ولغيره- على سبيل المثال- تشويه فيلم افتتاح مهرجان دمشق السينمائي 2007 بعد أن أطلق فيه مقص الرقيب, الذي أتى على ثلاثة مشاهد أساسية فيه, الأمر الذي أثار حنق المشاهدين والنقاد على السواء حيال تلك الوصاية الأخلاقية (اللاأخلاقية), وبعد أن اعتبر الدكتور الوزير المشاهد التي جرى اقتطاعها مشاهدا "إباحية", و"يجب أن تحذف", مع أن الفيلم الروماني المشار إليه (أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان) لمخرجه (كريستيان مانجيو)؛ كان قد حاز -بمشاهده البورنو, والمنافية للحشمة المحلية- السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي ما قبل الأخير, وهو بالضبط ما أغرى إدارة مهرجان دمشق بأن تأتي بالفيلم المنكوب لـ(يتشرف) بأول عرض له في المنطقة.
وإذا كان الوزير غير مهتم حقا بالتكريم الذي حازه الفيلم, على اعتبار أنه قد أتى من (ثقافة أخرى) لا تحترم (أخلاقنا)؛ فما الذي دعاه أصلا وغيره في إدارة المهرجان إلى إحاطته بكل تلك الحفاوة, والحرص على أن يكون الفيلم إياه في صدارة ما سيعرض في مهرجاننا (الرزين).
ألم يكن من الأفضل لأخلاقنا المرهفة أن يتم في حينه اختيار فيلم آخر لا يعالج قضية حساسة كالإجهاض لعرضه على الجمهور السوري القاصر, بدل أن تتنطح الوزارة لما هي ليست أهله من عناوين حرية التعبير الفضفاضة, مما هو مطروح للاستهلاك المحلي, و(تجرّصنا) بقصقصة الأعمال الإبداعية الراقية, في مفارقة مضحكة مبكية مع وزير كان يشكو منذ فترة قريبة لإحدى الجرائد الرسمية "قلـّة النوم", كونه لا يجد وقتا كافيا لممارسة "دور المبدع"!
أم أنه كان من رأي الوزير حقا أن يعرض الفيلم في كلية الطب, على اعتبار أن الطلاب هناك قد يستفيدون عمليا من تصوير واقعة الإجهاض, في حين أن تلك المشاهد بالذات لن تكون ذات قيمة بالنسبة للمشاهد العادي, الغر, الذي لن تتأثر متابعته بخلخلة السياق الدرامي للعمل, كون هذا المواطن العادي اعتاد على خلخلة من هذا النوع في حياته اليومية, فيما خص الثقافي وغيره.
أم أنها ببساطة الطريقة التي يفهم فيها السيد الوزير الحوار مع الآخر, "إننا نؤمن بالحوار, وعلينا تعميقه بين الشعوب والأفراد", قصا,وحجبا, وإقصاء, وفق ذائقته الشخصية, وإملاءات اعتقاداته الخاصة, التي يستخدم منابر حكومية عامة, ملكا لكل الناس, في تزيينها, والترويج لها.

بل لقد كان بإمكان السيد الوزير أن يستفيد من مشورة معاونه القيـّم, والذي طرح في آخر عشر دقائق من الندوة إياها –من باب المشاركة يعني- سؤالا يحتاج لندوة كاملة للإجابة عليه, حيث سأل الدكتور القيم الوزير قائلا "أنت كأديب وكإعلامي وكمفكر وكوزير للثقافة ..(كذا).. كيف تنظر إلى الثقافة في جملة المتغيرات والتحولات العالمية, وكيف يمكن للثقافة العربية أن تواجه كل تلك التحديات؟" ... لا أقل.

نعم كان بإمكان السيد الوزير.., وكان بإمكانه..., وكان بإمكانه..., على اعتبار أننا واثقون من أنه (ثمة بالإمكان أبدع مما كان), ومتضامنين هذه المرة مع مقولة السيد الوزير عندما أنف عن أن يصف أرضنا بـ"الأرض اليباب", من دون أن نذهب بعيدا في التقليل من شأن تي إس إليوت كما أراد بعضهم.

وانطلاقا من كون "المواطنة" و"المسؤولية" شعارين أساسيين للمرحلة المقبلة -كما اعتبرهما السيد الوزير في بعض مقابلاته- لا يملك المرء إلا أن يهيب بأصحاب الفعاليات الثقافية, والمؤسسات المحلية –الخاص منها تحديدا- التي تسعى لأن تضيف شيئا إلى المشهد الثقافي السوري؛ بأن يعينوا السيد الوزير ويعينونا –وغيرنا- على التخفف مما دعاه هو نفسه بـ"مسببات الغرور", من قبيل الاستنكاف عن توجيه دعوات عامة للسوريين لحضور حوارات هوائية, لا أسس لها ولا محددات, يستهلك فيها شخص فرد واحد ما يزيد عن 75 بالمائة من زمنها, اللهم ما لم يعلن مسبقا وصراحة أنها لتزجية الوقت, والذي يبدو أن ثمة من يدأب على ألا يصبح يوما –الوقت- ذهبا في أيدي السوريين.

كما نهيب بتلك الجهات –عامة وخاصة- ألا تعمد إلى حجز مراكز ثقافية يصرف عليها دافعوا الضرائب السوريين من جيوبهم المثقوبة مشرق كل شمس من اجل محاضرات بلا مواضيع, وندوات بلا محاور أو آفاق, تنحصر الفائدة فيها ربما بكشف المزيد من عوراتنا الثقافية المزمنة.

لقد طلب السيد الوزير إلى جمهوره –أن يتجاوزوا عن استطراداته, واستفاضاته في الحديث, وقال بالحرف الواحد "أرجو أن تغفروا لي سراحي, لأنه لم يكن لي موضوع"!
وهو اعتراف خطير قد لا يكون بيد من حضر تلك الجلسة بالذات وحدهم قرار الصفح عنه من عدمه, كونه قضية حق عام, خاصة وأن المرء لا يستطيع أن يجزم فيما إذا كان بعض ممن تواجدوا في قاعة المحاضرات ذلك اليوم موظفين حضروا إلزاميا بفضل تعميمات مديرية الثقافة عن محاضرات الوزير.


لن يعدم السوريون يوما محاضرين بمحاضرات ذات موضوع, حتى يتحفنا مسؤولونا بتلك التي لا موضوع لها, بل عن المفارقة تأبى إلا أن تطل برأسها عندما نعلم أن وزارة الثقافة بالذات كانت قد ألغت منذ فترة غير بعيدة محاضرة
في إحدى المراكز الثقافية التابعة لها, والمحاضرة الملغاة كان لها بالمناسبة موضوع يدور حول حرية الصحافة, وقد تم الإلغاء الاعتباطي برغم وجود موافقة مسبقة من الوزارة العتيدة حملت اسم وإمضاء اثنين من السادة المعاونين الذين يفخر بهم السيد الوزير بهم.

وختاما, لا نملك إلا أن نشاطر السيد الوزير أمله بألا تستمر أعباؤه الوزارية بالإثقال عليه طويلا على هذا المنوال, وهو القائل "أرجو ألا يطول هذا الانشغال, لأنني أحب أن أعود إلى طاولتي حيث التأليف والكتابة, لأن ذلك يمتعني أكثر", ولا نزيد.

فالذي يريد أن يستمع لخطبة جمعة؛ لن تخذله دور العبادة في العاصمة دمشق بالتأكيد, وليس عليه حتى أن يستقبل الروزنامة أو يستدبرها في استجلاب ليوم الجمعة بالذات دون غيره, فكل ما عليه أن يفعله –بغض النظر عن اليوم الذي هو فيه- هو أن يصعد إلى أحد السرافيس أو التكاسي من مواصلات عامة ليجد نفسه على الفور في حضرة احد المشايخ أو الدعاة, إما (لايف) عبر المذياع, وإما استرجاعا عبر الكاسيتات والسيديات, وهي فتوحات إعلامية تعبيرية قد تكون عزيزة بعض الشيء عن أولئك الذين لا يشاطرون السيد الوزير كل آراءه في السياسة, والفلسفة, والعلمانية, والحداثة, وما بعدها.

وعليه فلزام على وزارة الثقافة التي من المفترض بها أن تكون لكل السوريين أن تبقي أبواب مرافقها مفتوحة أمام وجهات النظر الثقافية الأخرى الموجودة في المجتمع السوري المتنوع, وأن تتخير لنشاطاتها ما يعبر بالضبط عن هذا التنوع, ولعلنا عندها فقط نتيح مجالا أوسع أمام منابرنا –الوافرة فيزيائيا بزعم الكاتب- كي تكون هي نفسها مسرحا لأنشطة بديلة, بدلا عن مناطحة عقدة وهمية هي عقدة (الأماكن البديلة), والتي صدعت أمانة الاحتفالية رؤوسنا بها.

فما تفتقر إليه أمانة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة –أقله في هذه الفترة- ليس الأبنية والمجمعات والجدران ومنصات العرض, وإنما الرؤية التحليلية والاستشرافية لراهن ومستقبل الثقافة السورية, بما هو كائن, وسيكون, رؤية تخرجها من النوسان المرضي بين متراسي ثقافتنا اليوم, القائمة على (بمن حضر), و(بما حضر).

وهي –إدارة الاحتفالية- في إصرارها على المضي دونما التفات لهذه المرتكزات التي تعد أساسية لأي عمل ثقافي ذو بعد أو مغزى؛ لا تقل ارتجالا أو "سراحا" –وفق التفضيلات اللغوية للوزير- عن اجتهادات غيرها من مخضرمي المؤسسات الثقافية الرسمية, وإن تحاشت لأسبابها الخاصة الانتساب إليهم صراحة, وهذا لا يعني أن بعض تلك الارتجالات قد لا توافق نجاحا أو إحراز نقاط من نوع ما –وهذا ما حصل فعلا في بعض المناسبات- لكنها ارتجالات تبقى عاجزة عن تشكيل وعي ثقافي فعلي –كيلا نقول حقيقي- لطالما تبجح كثيرون على منابرهم (منابرنا) أنهم بصدد بناءه.



2008