ظلّ "كتاب الوجوه" (Facebook) السوري بلا ملامح في سنوات الحجب السلطوي الطويلة، إلى أن جرّ الشباب الثائرُ مثقفيه في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى صفحاته الممتدة بلا فهرس ولا مقدّمة، وكما يبدو، بلا خاتمة.
يصل هؤلاء المثقفون أخيراً، قادمين من استنكاف "وجودي"، وشتائميّة "ابستمولوجية"، تجاه جيل ظنّوا به عبر أدوات تواصله الافتراضية، التسيب، والاستقالة من الشأن العام. واسمين إياه حينها بالانغماس بالـ"جيمز"، والـ"سايبر سكس"، قبل أن يمسي لهم، بين عشيّة "الشعب يريد" وضحاها، الحسابات والصفحات ذوات العدد، في عين الفضاء المائع والمسفّ الذي كانوا ينتبذون دونه مكاناً "جيوبوليتيكياً" قصيا.
فقد منحت ما اصطلح على تسميتها بـ"شبكات الاتصال الاجتماعي" شيوخ الثقافة، وشبه السياسة، عندنا إكسير حياة موازية.
ومَن غيرُ "الفيس بوك" كان سيعينهم على "كوبي بيست" مخطوطات سيرهم النضاليّة المريرة (بلَبُوسٍ "ديجيتالي" قشيب) والزج، من ثم، بتلك "السيفيات" في السباق المستعر لإثبات الوجود ميدانياً و"تنسيقه"، أمام جيل ألقى ألواح القراءة "الكلاسيكيّة" وكسرها منذ أمد، حسب الاستطلاعات والأرقام.
إنما، من دون أن تُضطر قامة من قامات مثقفينا (اليائسين قبلاً أو المنشقين بعداً) إلى تقديم انحناءة استعاديّة، أو مراجعة ناقدة، تقيهم، وقد كتب لهم عمر افتراضي جديد، الانزلاق في تكرار كوارث ما اجترحوه في تقمصهم الأول، في سبيلِ تغييرٍ لم تكتمل على أيديهم أركانه آنئذ.
وتجَاوُزُ المراجعةِ، والنقدِ الذاتيّ، و"فلترةِ" مسير "الحراك الأول" الناقصِ، إن صحت تسميته بذلك، سرعان ما شجّع الجيل التالي على "استنساخ" النماذج القديمة، المريضة، ذاتها.
فظهر لدينا كثير من أشباه ذلك المثقف السلطوي "المنشق"، القادر على تحديث "بوستات" بضعة أيام توقيف تعسفي، لتمسي مجلدات "ستاتوساتية" من أدب السجون، بين قوسين.
وهو الذي (على النقيض ممن أورثه عادة تضخيم السير الذاتية) لم يحدث أن خدش أحاسيسه المشذّبة، ولو على "واتس أب"، مخلب مساعد حانق في "أمن الدولة". أيام كان يستمرىء النفخ في الأشرعة الأسديّة، ومراكب الإصلاح على اليبس، و"الطوفان" القادم مجرد فيلم خيال علمي مسرف لـ"عمر أميرلاي".
على خطى مثقف سوري آخر، عتيق إلا من ميوله "الغرامشية" المحدثة، والذي خطّ مرة على "جداره" خبراً عاجلاً يستصرخ فيه مريديه "الافتراضيين" أن يفزعوا إليه بعد أن عجز عن ولوج بريده الالكتروني "الثوري". لتتوالى عليه "تعليقات" بالجملة، غاب عمن يسطرها له أن الرجل يسأل "موضوعيا" عن كيفية استعادة ذلك "الحساب" لا أكثر. لأنّ أحداً لم يعتقد فيه ذلك الجهل الفاضح بمبادئ تقنيات ما هو مفترض أن يكون "عضوياً" فيه، وإلا لاعتبرت "لايكاتهم" استهانة بمأساته.
لقد مضى على الثورة حينٌ من الدهر لم يسبق لكثير من آل الثقافة والتسيس المكرسين في سوريا أن أتحفنا خلاله بتحليل أو نقد "ديالكتيكي"، أو قياس "أصولي"، للثورات والانتفاضات الأسبق في غير بلد عربي، أو غير عربي.
ليستحق عليه "الإضافة" إلى "شات رووم" المقربين المنظمين، أو ينال به شرف "التحميل" على أكتاف المنتفضين المرتجلين. رؤيةٌ تحليليةٌ كنا لنستضيء بها، فتضيء لنا، أقلّه، عتمة الـ"داي أفتر" (اليوم التالي) الذي تجتهد في فقهه وكالات المخابرات الأمريكية والروسية والإيرانية اليوم.
وبدا التلعثم والتأتأة الفكريان للرموز العتيقة للمعارضة والمثاقفة واضحين للعيان منذ اللحظات الأولى. ليقفز هؤلاء القوم فجأة ودفعة واحدة أمامنا على السطر "أون لاين" كربابنة، وأحبار، عارفين لا بحال كل ما كان جرى ويجري اليوم؛ بل وبما ستؤول إليه الأمور حتماً مستقبلا. زادهم في هذا ضوضاء إنشائية بديعة "التدوين"، وأرتال من إشارات التعجب والاستفهام، وسيل لا ينقطع من الوعيد الـ"نوستراداموسي" بسوء عاقبة جماعية على الـ"التايم لاين" الخاص بالحراك الشعبي. والذي كان ينظمه شباب ضمن "غروبات" مغلقة دونهم، بل و"مشفرة" أحيانا. لا سبيل لهم إليها، بحكم الفجوة التقنية الكبيرة التي كانوا على الضفة الجرداء منها.
وأقلّ ما يقال عن طائفة "العقل القديم" هذه، أنها ولجت باب "المشاع الإبداعي" لـ"ميكانيزمات" التواصل المعاصر بالرأس الخطأ. وبعد الكتاب الأحمر، والكتاب الأخضر، ظنّ هؤلاء (بعد أن أصبحنا أخيراً "أصدقاء") أنّهم وقعوا في النهاية على اللون المنشود، فكان الكتاب الأزرق: "الفيسبوك". المروج المجّاني "الرقمي"، لرُقمهم المثاقلة إلى الأرض، عجزاً، أو تقية، أمام "النظام" الفالت.
نعم، عجزت المعارضة البائدة إلا عن إعادة استيلاد مريضة لتلفيقاتها القديمة، المضبوطة قواعدياً، نحواً وإملاء، مقابل لغة "الشارع" المتفلتة ببلاغة من سيور "التقليد". حيث فاقت "أرابيش" المحادثات عبر "سكايب" و"فايبر" بإفصاحها الثوري كل ذلك الهراء الموزون خليلياً، والذي لطالما تمترس وراءه مثقفون لم يفارقوا خطاب السلطة القمعية ذاته، فانساقوا مبكراً من دون جدل يغني وراء طروحات الأمن، والسلفيّة، والعسكرة. وعجزوا عن اجتراح لغة سياقية مختلفة، ولزموا التكرار الفج أحيانا، أو التأويلات الباطنية أحايين أخرى؛ التي تصب في النهاية غير بعيد عما يسوّقه النظام عن ذاته، باعتباره المخلّص من ربقة الطائفية، وهو الطائفي بامتياز، أو الحارس للاستقرار والأمن، وهو اللص والمجرم.
يذكر بعضنا جيدا تلك الاستدعاءات الموتورة إلى فرع مخابرات "الخطيب" في قلب دمشق خلال الأيام الثلاثة الأولى من شباط/ فبراير 2011. حين سُئلنا إن كنا نحن من يقف وراء تلك "الايفنتات" ليوم غضب سوري، أسوة بالمصري، في الخامس من ذلك الشهر.
ورغم قوائم "الأتندينغ" الطويلة على "الصفحات"، و"السبامات" الغزيرة التي غزت صناديق البريد الالكترونية، والتي قادها مغتربون، بالمعنى الأعمق للكلمة (من ثلاجات "استوكهولم" وطاولات شاي "لندن") لم يخرج يومها أحد إلى الشارع. وكان قرار الناس الـ"أوفلاين" على الأرض هو "إيغنور" على مساحة أزيد من 185 ألف كيلو متر مربع.
فصفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011" ليست مَن أطلق شرارة الانتفاضة، ولا حتى أول نكتة فيها. بل وجع فيّاض من ملح ودم فجرّ سلوانا لأظافر أطفال لم يعد مهماً اليوم (بعد أن اجتثت الأراوح من الصدور) إن كانت قد اقتلعت من تلك الأصابع الطرية حقاً أم لا.
وجعٌ، تواصل مواره بـ"الله أكبر" ومن دونها، بعد قطع خطوط الكهرباء، والهاتف، والانترنت، والهواء، ليركب الـ"لايف ستريمينغ" للحشود المتدفقة لاحقا من ركب، ويعبث بوسطاه وسبابته بأسلاك الـ"الويرلس" الطويلة في الداخل المحتل، من عبث. متوهماً في الحراك دمية تستكين للتحريك بالـ"ريموت كونترول".
بعد فشل الجيل الأسبق في إرساء حياة مجتمعية مدنية سورية واقعية، لجأ شبابنا إلى المديني "الافتراضي".
واليوم، بعد أن فاضت الحواس بالتغيير الملموس (إيجاباً وسلباً، يرتد فعل مثقفي معارضاتنا إلى المتوهم "السايبيري"، حيث "يهيْبَرُ" التعليق، وتتطاول الحواشي و"الشاتات" لتغطي على النص، بدل أن "تغطيه".
وكما ينبذ سوريون اليوم رموز سلطة الأمر الواقع الاستبدادية من وجدانهم السياسي والاجتماعي، خلّف سوريون كثر أيضاً من قبل وراء ظهورهم الشاردَ من مثقفيهم ومعارضيهم، ممن أمست مسايرتهم عبئاً قاتلاً على القافلة. وذلك منذ التجأ "العامة" إلى الصحون اللاقطة في تسعينيات القرن المنصرم، ناشدين "فرجة" أخرى، بعيداً عن إلغائية السلطة، ولغو المعارضة.
غير أن عدداً لا يستهان به من هؤلاء المثقفين يعود اليوم لمحاولة "تفعيل" حسابه، غير "المعرّف" أصلاً لدى قطاع واسع من "جمهوره/ شعبه". مقتنصاً هذه المرة فرصة "تقنيّة" في الإعلام الاجتماعي الذي لم يكن له أي يد نضالية وإن في رفع الحجب عنه قبيل الثورة.
إعلام اجتماعي مبذول حتى لمن لا يملك منهم شخصيّة "حقيقيّة". أو لأولئك من مدمني التنكر "الأيديولوجي". لينطبق عليهم (بكل متاعهم الثقافي الرصين) ما سبق ونعتوا به شباب الجيل الذي تلاهم بأنهم:
"متهورون، مباشرون، ومهتمون بالتواصل... حتى وإن لم يكن لديهم شيء مهم يقولونه"!
نشرت في العربي الجديد