2014-05-07

المشهد سوري، وبيروت الخشبة Drama: Syrian Scene on Beirut`s Stage

 
 
 
 
 
مسرحيون سوريون هاربون من الستارة المسدلة في دمشق، حيث الطَرَقات الثلاث على الخشبة قد تنتهي إحداها بدقّ عنق الممثل.
فهل وجدوا مساحة في لبنان تمكنّهم من إلقاء نصّهم، وتحريك شخوصهم كما أرادوا؟ هل بيروت لهم مجرد خشبة كباقي المسارح في أي مكان آخر، أم ثمة احتطاب جديد هنا، أوان يضطّرم الحريق هناك؟ هل خاطبوا الجمهور اللبناني بلغتهم، أم اكتفوا بخطب ودّه العاطفي؟ أم لعلهم سوريون مثلهم مَن يتلقفون غروضهم هنا أيضا، ويصفق أو لا يصفق لهم؟ هل هم لاجئون مسرحيون - إن كان لا يزال في المسرح أصلاً فسحة للجوء- أم مسرحيون يستكشفون صباح "ثورة"؟
 
 "ليس مهماً لي إن كان جمهور عروضي لبنانياً، وفي الوقت ذاته لا أعتقد أنّي أوجّه عملي لجمهور سوري. ولكن شئنا أم أبينا هناك سوريون كثر في بيروت اليوم".
بهذه العبارات يلخّص الكاتب والمخرج المسرحي الشاب مُضر الحجّي جوابه عن إشكاليّة تلقي الجمهور في لبنان، للعروض السوريّة على ضوء ما يجري الآن في بلده سوريا.

الحجّي الذي مضى على وجوده في لبنان قرابة العام؛ يرى في بيروت مكاناً "مناسباً" لعمل الشبان المسرحيين السوريين، لأنه "ما من خيارات أخرى"، فالقاهرة مثلاً "كبيرة، وليس فيها سوريون كثر"، في حين تفتقد عمّان لـ"هذه الحالة المسرحيّة الموجودة في لبنان".
 
المسرحي السوري الشاب بصدد كتابة نص مسرحي جديد، وقناعته أنّ التفكير في جنسية "المتلقّي" أثناء الكتابة "أمر غير صحّي". وإنْ كانت "حكايته" سوريةً؛ فهذا لا يعني بالضرورة أنّها "موجهة لسوريين"، مجادلاً بأنّ "طرح أسئلة إنسانية عامّة" هو من "لزوم ما يلزم" على من يريد تقديم عمل فنيٍّ خلال "الثورة"؛ وملاحظاً في الظرف "الاستثنائي" السوري "فرصة" لتناول هذه الهموم التي ستتخذ بدون شك "شكلاً" آخر، وبالتالي تمنح الإجابة عن السؤال القديم "مقاربة" أكثر جدّية.


لكنّ الممثل المسرحي هاشم عدنان، وأحد أعضاء فرقة "زقاق" اللبنانية، يرى أنّ ثمّة "مقاومة" من الجمهور اللبناني تجاه أعمال الفنانين السوريين، ناتجة عن "العنصرية الواضحة التي تتملك بعض المجتمع اللبناني تجاه السوريين عموما". ويضيف: "هذا يضع عائقاً أمام تفاعلك مع الفن السوري المعروض، وهو أمر يكبّل الطرفين: الفاعل الفني السوري، والجمهور اللبناني".
 
بدورها تثني الفنانة المسرحيّة اللبنانية لميا أبي عازار على رأي زميلها في فرقة "زقاق"، فتصف الساحة الفنيّة اللبنانية التي يؤمّها كثير من السوريين اليوم بأنّها "فخ". منتقدةً الصورة النمطية عنها التي توحي بوجود "فضاءات حرّة"، و"احتمالات عمل ناجزة"، ناهيك عن الوعود المرسلة ربما بـ"مردود مادّي" أيضاً. بيد أنّ واقع الحال يقول، في نظرها، إنّ بيروت "قاسية"، و"مكلفة". هذا إذا تغاضينا عن "الأوضاع الأمنية الشخصية" لهؤلاء الفنانين، و"القلق السياسي" من المكان الذي يوجدون فيه اليوم، "مرغمين ربما".
 
الاعتبار الأمني الأخير بالذات، أمر لا يمكن لضيفنا الثالث أن "يتغاضى" عنه "أبداً". إذ طلب من "العربي الجديد" عدم ذكر اسمه الحقيقي. فهو يحضّر لعمل جديد، بعد هربه من دمشق أخيراً، ولا يريد أن يفسد على نفسه فرص عملية الاستكشاف التي ما زال مستمراً فيها، بحثاً في إمكانية تنفيذ عرضه هنا.


يقول "لؤي" (اسمه االمستعار)، معلّقاً بهدوء على مسألة الجمهور هذه: "ربما لن يحرم الظرف "التقني" (الأمني) اللبنانيين فقط من حضور عرضي (في مخيم شاتيلا)، بل سيحرمني أيضاً من أن أقدّمه في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي أتمنى أن أعرض فيها وأخرج منها سالما!".

ويؤكدّ "لؤي" أنّ السويّة الفنيّة الجيدة هي ما يشغله في عرضه، وليس مجرد تقديم شعار "عاشت سوريا، يسقط بشار الأسد". وأنّ سعادته بالعرض إيّاه ستكتمل إن كان بين الجمهور "وجوه جديدة من ذوي الأكفّ المشققة، أو ممن تحت أظافرهم سواد"، أكثر من حضور مزيد من الصحفيين. ولكن هذا لا ينسيه قناعته بأنّ الفن "لا يقتصر خطابه على جنسيات وطبقات بعينها. الفن موجه للإنسان، كل إنسان".
 
 

المسرح ملاذاً..


 

بدون عسكر أو قذائف وقبل زمن الغارات الجويّة التي يُفرغ أزيزها الروحَ قبل الشوارع، وقبيل عودة المفخخات إلى ذَرْعِ الهواجس وتَوُسِّدِ الكوابيس؛ أُغلق "مسرح بيروت"، أحد أقدم مسارح المدينة، في نهاية 2011. العام الذي بدأ فيه عدد من المسرحيين السوريين بالتفكير بالقدوم إلى لبنان - وإن مؤقتاً - حاملين بعضاً من خشبتهم.
 
صار الصليب أثقل، وزادت الأوضاع الأمنية غير المستقرة في المسامير المضروبة فيه، خصوصاً للهاربين الذين كانوا يتوسمون في نجوم السماء "الشقيقة" شيئاً من الخلاص.
 
المخرج المسرحي السوري، لؤي، الذي يستخدم هنا اسماً مستعاراً "على نحو مؤقت" على حد تعبيره؛ لا ينكر "الخوف" الذي لَمَسَهُ زملاؤه اللبنانيون لدى بعض المسرحيين السوريين الذين يحاولون الاجتهاد في لبنان؛ بل يؤكد أنّه خوف مرتبط بـ"العرض ذاته"، وبـ"الفريق الذي يقدّمه".
 
لكنّ شغله الشاغل اليوم يتجاوز هذا الأمر، ليس إلى "لوجستيات العرض التي تغيّرت" عن تلك التي اعتادها في سوريا، أو إلى "الميزانية" التي تضاعفت حكماً هنا، أو إلى ضرورة أن تكون المسرحيّة بـ"الفصحى" كما كان مقرراً في دمشق، أو بـ"العاميّة" كما قد تصبح في بيروت؛ بل إلى سؤال "المسرح الآن"، الأكبر برأيه.
 
"السؤال الذي بدأت أفكر فيه منذ بداية الثورة في سوريا، وتأكدت من جوابه في بيروت، هو: "هل مِن داع لأن أعمل أنا شخصياً في المسرح أم لا؟". وبعد أخذه نفَساً أخيراً من سيجارته، استطرد قائلاً وهو في طريقه إلى إشعال أخرى على الفور: "للأسف الوضع هنا لا يشجعك عملياً على تقديم عروض مسرحية، لكن هذا ليس ذنب الجمهور كما قد يتراءى لنا عادة".
 
ويكشف لؤي، الذي أخرج أول عمل مسرحي له في 2012، عن بعض الهواجس التي كانت تنتابه أخيراً، حول مقولات "أخذ المسرح إلى الجمهور" بدل انتظاره أن يأتي إليه، مروراً بـ"عدم إدراك الناس لأهميته"، وليس انتهاء بسيل الانتقادات "التثاقفيّة" التي اعتاد الفنانون توجيهها إلى "جمهورهم".
 
النظرة التي كانت في رأسه عن البلد (سوريا)، قبل 2011، بوصفه مجرد "مستنقع"، وعن "الجمهور" كجمعٍ بشري "خانع وضعيف ومذلول وفاقد للطموح"؛ تغيرتْ كليّاً بعد بدء "الثورة". يقول لؤي: "ما زلت أريد أن آخذ المسرح إلى الجمهور، إنّما هذه المرة لأكتشف ذاتي أنا، ولأرى فيما إذا كان هذا الفن الذي أحب وأدعي أنّه يستحق أن يستمر جديراً بذلك فعلاً". ويضيف بثبات: "أنا من كان غبياً، لا مجتمعي، الذي بفضله أقول اليوم إنني استعدت كرامتي، وأعرف أنّ هؤلاء الناس لم يكونوا يفعلون فقط الأكل والشرب، وإنّما امتلكوا في لحظات كثيرة هواجسي ذاتها".
 
"المسرح ملاذاً؟".. عن هذا يجيب هاشم عدنان، كاتب "جنة جنة جنة"، أحد آخر عروض فرقة "زقاق" اللبنانية، والذي لاقى صدى طيباً لدى عرضه في بيروت أخيراً: "نعم، واليوم أكثر من أي وقت مضى". وبالنظر في عينيه، يتأكد لنا أنّها ليست إجابة حاضرة يرتجلها المسرحي اللبناني الشاب جزافاً.
 
ينافح عدنان عن مقولة أنّ المسرح يعرض خيار "المساواة" على الناس وهي مقولة ثوريّة، إذ "يساوي بين الجمهور، ومَن هم على الخشبة، فالجمهور دائماً جزء من العرض"، وهو فن يتعاطى معنا جميعاً كـ"مواطنين يعيشون في ذات الفضاء وذات التجربة".
ويضيف: "هل هي خشبة مسرح فقط تلك التي يرغب الجمهور في اعتلائها، أم خشبة الشارع؟ هل هي المقارّ الحكومية، والفضاءات العامة؟ أم تراها مساحاتنا الخاصّة التي تقتحمها السلطة عبر تفاصيل معيّنة؟". وتومي لميا أبي عازر برأسها موافقة زميلها في "زقاق"، الفرقة اللبنانية التي تعدّ واحدة من المبادرات المسرحية الأكثر انخراطاً في النشاطات المجتمعية محلياً.
 
من جهته، يسارع صاحب مشروع "كيت، كيت" الذي ينظّم ورشات كتابة القصص الشخصية للاجئين السوريين، مضر الحجّي، إلى سرد "أمثلة عملية" مصداقاً لكلام زملائه، مستدلاً بالأشكال الفنيّة التي بدأت تأخذها المظاهرات في إحدى مراحل الثورة في سوريا، و"المشاهد التي كان يمثّلها الناس، ويتفرج عليها الناس، والتي كانت تُعاد، فيعود الناس ليتفرجوا عليها مجدداً".
 
يقول الحجّي متأثراً: "هل من الحماسة الفارغة في شيء القول إنّ هذا يذكّرنا بنشأة المسرح من الطقس الديني اليوناني؟"، ويضيف: "ماذا أيضاً عن حالات النشاط المسرحي في المخيّمات والمناطق المحررة؟". مطالباً إيّانا بعدم تناسي أنّ جُلّ مَن يعمل في القطاع المسرحي اليوم يقوم بذلك للمرة الأولى في حياته، مستخلصاً من ذلك أننا أمام "فاعلين ثقافيين جدد" ينفّذون "انقلاباً" على "المكرّسين القدامى"، وهذا بحد ذاته "شكل من أشكال الثورة".
 
 في واحد من بواكير العروض المسرحيّة التي تطرقت للأحداث في سوريا، واستضافتها بيروت، تلقّى الفنانان المسرحيان اللبنانيان روجيه عسّاف وحنان الحاج علي، تهديدات بـ"هدّ" مسرح "دوّار الشمس" على رؤوس الحاضرين، في حال أصرّا على المضي قدماً في العمل الذي مهّدا له سبل الخروج إلى الهواء. ما استتبع اتخاذ الجيش اللبناني تدابير أمنية غير اعتيادية قرب المكان. لكنّ العرض استمر، وتلته عروض أخرى على الخشبة نفسها.
 
ولعل مسرح "زهرة سوريا" لن يُذكر في التاريخ على أنّه من أوائل المسارح البيروتية فقط؛ بل ربما يحمل سَمِيٌّ له، في قادم الأيام، لقب أحدثها أيضاً.
 
 

مسرحة الثورة

 

بين العروض السورية التي استضافتها بيروت في السنوات الثلاث الأخيرة ما قدّم نفسه على أنّه "مسرح الثورة". ومنها ما تجنّب حتّى استعمال اللفظة، وهذا ما لا يرى فيه مضر الحجّي، أحد مؤسسي "ورشة الشارع" للكتابة المسرحية في دمشق، ابتعاداً عن "الواقع"؛ ضارباً المثل بمسرحية "الغرف الصغيرة" لوائل قدّور، الذي كان عرضاً بعيداً "نظرياً" عن "الحدث السوري"، لكنّه خلق - مع ذلك - "حواراً حول المسرحيّة،وحول ما يحدث في سوريا الآن".
 
وهذا السؤال، برأي الحجّي، يحيل إلى سؤال أكبر حول علاقة الفن بـ"المرحلة، أو الثورة، أو الأزمة دعني أصغها لك هكذا "بما يحدث"، ويضيف: "بعضهم يبحث في هذا السؤال، وبعضهم الآخر لا، إلى أن يقول أحدهم: هذا العمل لا يقدّم قراءة صحيحة للثورة السورية. ويواصل المخرج الشاب حديثه: "إلى أي حد على العمل المسرحي أن يقدّم قراءة للثورة السورية؟".
 
ولا يدّعي الحجّي أنّه يملك جواباً على هذا السؤال، لكنّه جدّ متأكد من أنّ هذا هو "وقت طرح إشارات الاستفهام هذه". ويؤكدّ عضو فرقة "زقاق" المسرحية في لبنان هاشم عدنان سؤال الحجّي قائلاً: "لقد سألت نفسي في آخر عرض سوري حضرته، إن كان عليّ أن أٌحاكِم العرض انطلاقاً من تعاطفي مع الثورة السوريّة أم من منطلقات إنسانية محضة؟ لدرجة أني كنت أكلّم نفسي داخل العرض".
 
لا تخفي زميلة عدنان في "زقاق"، لميا أبي عازار أنّها تتقصّد حضور العروض السورية في بيروت، من باب "الفضول أولاً"، ورغبة منها في معرفة "ما يدور في رؤوس الفنانين السوريين ومواقفهم والإبداع الذي يقدمونه في الوضع الذي هم فيه حالياً، من لجوء أو صمود داخل سوريا". إنما دائما "بغض النظر عن التوجهات السياسية". قبل أن تضيف: "هناك عروض شبابية سورية فتنتني لدرجة أني ألحَحْتُ على أصحاب العرض كي يقدّموا عرضهم في فضاء "زقاق". لقد كان شيئاً لم أحظ بمشاهدة نظير له منذ فترة طويلة". وهنا يقاطع عدنان زميلته ليقول: "علينا أن ندرك أنه قد يكون بين الفنانين السوريين مَن هو بحاجة إلى أن يضع مسافة ربما تكون ضروريّة له مع الواقع، والتي قد لا يتمكن بدونها من إنتاج عمل مسرحي أصلاً".
 
ويلمس عدنان من خلال تجربته مع بعض العروض السورية تأثير البيئة التي يعيش فيها الفنانون، من حيث "وجود سلطة رقابية تلقائية ما زالت قائمة في أذهانهم"، علاوة على وجود "خوف معين" من المكان الذي قدموا منه وخوف آخر من المكان الذي يعرضون فيه.. وهما خوفان مبرران برأيه.
 
 
 
 
 

2014-05-05

يوميّات بيروت: إنْ كانَ "أُنْسيَ"، فنحنُ ذاكرون



 


 

--"خير أستاز، الهيئة في خبر سياسي عاجل؟"

- "توفى أنسي الحاج... الشاعر"

--"أيواا،... أنا ما بعرف شعرا"

مضى زمن قصير بعد وفاة "جوزف حرب"، لكنّ زمناً قد مضى.

ساعتها كنت في غربة "شخصيّة" أخرى، أعمق. غربتي عن الشعر. ونسيت في الديوان الأخير الممتلئ بين يدي ذلك الـ"جوزف" الآخر، كما هُيّئ لي، الذي شاهدته في "ثقافي أبي رمانة" بدمشق، إلى جانب مَنْ قلّدوه أوسمتهم، فقلّدهم بشعره.

"أنسي" كان، شئنا أم أبينا، خبراً متوقعاً. وكما زالت "المجزرة" عن "حرب" اعتباطاً في تلك وبقي الشعر؛ زال الأخير عن "الحاج" في هذه، ضرورة.

يسحب السائق سيجارته من فمه بنزق، رافعا عقيرته بالصراخ عبر الشباك المفتوح، مطالباً بأحقيّته بالانعطاف بعيداً عن "الكورنيش البحري".

أُغلق هاتفي. وأستسلم لرتل السيارات الجديد المتوقف أمامنا. زحام في ساعة الذروة الـ"لا شعريّة" نحو "الحمرا".

هم الذين خلطوا الشعر بالسياسة، وأنّى لهما ألا يختلطا، وبنوا أمجاداً، منها ما بقي، ومنها ما "يتباقون" من أجله. وإلا فما مغزى "الشاعر، الكبير، الحداثوي، المجدد، التقدمي، المناضل، كذا.." في مستهل كل "تصحيف" يقاربهم؟

عندما أنظر مَن حولي، لا أجد مرثاة تملك "قوّة" أن تجبرني على ارتداء "خواتم" الحاج. فما بالي أنا الباحث عن خواتم أهديها، أجبرُ من أحبّ أنْ أمنحها، ولو سطرَ لُغةٍ، على اجتراح ذلك. وإلا فكيف يستقيم أنّ (كلّ قصيدة) هي (كلّ حب).

لعلاقة الفنون المصطفاة من الصفوة، بالسياسي من الاصطفاف؛ أسئلة جمّة، مُشكلة، ومعلّقة.. عند غيري.

أنا أملك في اللحظة استجابتي، أو هي تتملكني.

هو الذي في منافحته عن خبر، احتمال، وجود، تهديد، بخطف، إحدى الممثلات السوريّات من قِبَلِ "معارضيها"؛ نَسَبَ كل إبداعٍ "رَعوي" إلى "كافور" الرَاعي، مَنْ كان أضنّ الناس بالشهيق على أبناء جلدته، وورودهم المتفتّقة على "براميل" الصبّار!

ولكن ما علاقة النقمة على الفعل بـ....، إنْ كنتَ "أنسي الحاج" لا مجرّد "مُحلّلٍ" للتزاني "السياساتي" القائم؟

وهو يجيب على سؤاله قبل أن يصل حتّى إلى نهاية الاستفهام؛ (هل في سوريا بعدُ إلّا هواء المقابر؟). هو الجَذِلُ، التيّاه، بنَرْجِسَته.

وبعد تفعيلة: (لا السلطة _ أيّ سلطة _ تستحقّ نقطة دم ولا الرغبة في التغيير تستحقّ كلّ هذه الأضاحي)؛ يعود واقفاً على رَسْمٍ دَرَسْ، ليقوّلنا، أو يكاد: (النجدة أيّتها الحرب الشاملة!).

ولا بأسْ. طالما كان تعريف (الهولِ) سوريّاً؛ هو ما كان هو وراءه صغيراً، ولو وقف أمامَه لكَبُرْ. وطالما كانت "الحرب الشاملة"، منذ النكبة، هي طاقيّة الإخفاء، اليمينيّة-اليساريّة، لردّ (المؤامرة). المؤامرة التي يُحشّد فيها اليوم قهراً ملايين لا يكاد يجمعهم مشروب ساخن واحد بعد صياح الديك. وبعد ذلك؛ فلْيَعي، ولْيَرعوي، ذلك الفلاح، المتظاهر، المسلح، التكفيري، الذي ترك أرضه بعد عجافٍ سبعٍ، منذ 2004، ونُزِحَ به قبل "النزوح" ليُزْرع على حدود "إسرائيل" كي يَزرعْ. برعاية "اتحاد فلاحي" من هو قائم بالناس إماماً، (بتاريخ علماني ناصع)، طعّاناً لعّاناً، يرد كيد "العدوّ" بمكبّر الصوت، لا مكبّر الفعل. وللصوت أن يرتد صداه من البحر إلى البحر "الديماغوجي"، مادام صَمتُ الجَمْع مكفولا باللّجام.

اختارَ "أنسي" مؤخراً أن يكون ضمن النُخبَة القَصيّة، التي استمرأَتْ "تخزين" البشارة في أفواهها، فلمّا نَطَقَ بالنبوّة من لا يملك الطينَ حتّى؛ أبا التنازل له عن "حداثة" المنسوخ من مصحف "رسولته". متناسياً أنّ فعل الولادة الجديد، هو من أقدم الأفعال. ولكنّ المُصاب قد شخّص مُصيبته في غيره، وهو يقول: (إنّها ظاهرةُ عمَى الشَمْس).

في المَوتْ، إن كانَ لي أنْ أكونَ "مع" أحدٍ؛ فسأكون مع صديقة لي في الشّام تقطّعت بيننا الأسباب، إلا الأثيريّة الهوائيّة منها، على أنْ أكونَ "معه". هنا، في مدينته التي يأكل اسفلتها من حذائي، وآكل منه، إذ تكتب، صدفة، في ذات عين يوم وفاته:

"كنتُ أحاول أن أُقنعَ نفسي بأنّ الموتَ قد أضحى طقساً اعتيادياً في حياتنا. توفي اليوم خالي نتيجةَ خطأ طبّي غبي. كانت وصيّته أن يُدفن بجانب أمّه وأبيه في حمَاة. لا أدري إن كنّا نستطيع العبور به إلى هناك. سوف يُدفَنُ غريباً في دمشق. وسوف يبقى الموت خارج قوانين الاعتياد!".

إنْ تكتُبْ فيه بعد مَمَاتِهِ، فَقدْ كَتَبَ فيك وأنتَ تُقتل. ولعله كان عليه (وما زال… هل هناك وقت؟) أن يمتلك صدراً أرحب من "حداثييه" المقلّدين.

(على قدر تسلط هذا النظام فلم يبق له كثير، فإذا رشقته بحجر سيسقط، لذلك فأنا لست متفائلاً بالوضع في سوريا). لا، لا منْ أجْلِ "الحاج"، ولا من أجْلِ سِواهُ منَ "الحجيج" سنعيد تعريفَ الأمل.

لقد خاض أجدادنا حروبَهم ولا شك، ندوبُهم وِراثيّةٌ بالمناسبة، وها هم اليوم يَنعُونَ علينا، ما نُعيَ عليهم.

نعم، فلتسقط "العاموديّة" السياسيّة في معلّقات مثقفينا "التفعيليين"، الذين لا بدّ نحن مُسائلوهم: (ماذا صنعتَم بالذّهب، ماذا فعلتَم بالوردة).

__

v   كل ما بين قوسين (...) هو اقتباس عن الشاعر الراحل
 
19-02-14

2014-04-30

اليرموك والقيامة أمس Yarmouk..Apocalypse Yesterday


 
 


 
 
لم يخرجوا ليتشمسوا احتفالا بـ"يوبيل" إعادة الإعمار، ولا تنادوا تحضيراً للنهار المقبل الذي اضطرت الأمم المتحدة لتطويبه يوماً لـ"السعادة" هذا الأسبوع، كما أنّها ليست استذكاراً "نوستاليجياً" جماعياً لإحدى المظاهرات السلمية الأولى المطالبة بإسقاط نظام لا يريد له أحد –غير سلمي- أن يسقط. إنّه طوفان الجوع المتخم في مخيم اليرموك.

حُقّ للخيال المطلق أن تتشنج شطحاته أمام هذا المشهد الأسطوري، فما بالنا بخيال مَنْ هم يعانون أصلاً من فقرٍ مدقع فيه. وعليه فقد كان انسحاب هؤلاء السريع إلى غرف المهاترة والتكاذب أمراً متوقعاً، بل "عقائدياً".

كل "بيكسل" من هذه الصورة هو بعض ممن نجا - حتى الآن - من كائنات إنسانية فلسطينية سورية في مخيم القيامة المحاصر قرب دمشق، أقدم عاصمة مأهولة بالطغيان، حتى الآن.

244 يوماً، دون براز، أو قمامة، وأبنية مهشمة كرقائق الكرتون، ورؤوس، ورؤوس، ورؤوس، وذلك المسيح الشارد فوقها في المؤخرة وكأنه يهم ثانية بأعجوبة المشي على الماء... ماء العيون... العيون الشاخصة... الشاخصة نحو معجزة... معجزة يمكن "اللجوء" إليها هذه المرة، وقابلة للهضم، كالخبز.

ساعة الصحو الطارئة التي لا يمطر سقف الوطن فيها متفجرات، نمارس فيها رياضة "الطوابير". نقف جميعاً في رتلٍ طويل، ونمرّ واحداً واحداً لنفحص كلنا صدر ذلك القادم من العالم الآخر بقميصه الأزرق المدرّع: "هل يعمل قلبك بشكل جيد من دون رصاص؟".

كان يمكن أن تكون لقطة من بث مباشر يصوّر فلسطينيين استنفروا للمّ مزق حيواتهم المتناثرة وراء كل الحدود حازمين الحقائب لزحف العودة إلى فلسطين، لو أنّ الجبهة "الواطئة" كانت هي المفتوحة في الجنوب من قِبَل هذا "المناضل" المدجج بالموت.

سواء أكان فريدريك بيرنارد من قالها للمرة الأولى أم كونفوشيوس أم أحد آخر، ما كان لصورة واحدة أن تساوي ألف كلمة، لو لم تكن محاطة في لحظتها بألف أخرس.
 
 
 

2014-04-22

يوميات بيروت: متلازمة "سندريلا" السورية Cinderella Syndrome and Syrian Refugees in Lebanon

 
 
 
إذا سألك سائل عن سبب استعجالك الانصراف قبيل انتصاف الليل في بيروت؛ يمكنك أن تتذرع بضرورة مباشرتك بالإجراءات الطويلة لركن الـ"مازدا 323" الخاصّة بك (في الواقع أنت لا تملك أية سيارة) في مرآب الـ"تاور" الزجاجي حيث يقيم مُضيفك.
فالحارس ناعس الطرف الذي يطمح منفرداً لتدارك "تقصير جميع الأجهزة الأمنيّة في لبنان منذ الطائف"؛ سيستيقظ دفعة واحدة لدى رؤيتك (يا سوري)، ليمرّر عصاه الالكترونيّة الصفراء على كل عضو ظاهر، أو ضامر، من الأعضاء المختونة لعربتك ذات لوحة التسجيل التي تحمل بخط رقعة سائل اسم "دمشق"، بالأسود.
ذلك، وإلا..
فإنّ سيّارة الأجرة "المرسيدس" المتهالكة التي ستضطر لركوبها (إن تأخرت في حفلتك بعد 12 ليلاً) قد تستحيل في غمضة عين إلى "هامفي" عسكريّة، أو "دودج شارجر" دركيّة، وتتغير بالتالي ملامح الوجهة، كما قد تتغير –لاحقا- معالم الوجه، أو القفا، في أحد بيانات "هيومن رايتس ووتش" الغزيرة عن الأجانب المستجدين في لبنان.
أو أنّ السائق الذي سيستسلم مبدئياً، على فطرته، بشكل غير متوقع للـ"ألفين" ليرة لبنانيّة الشحيحين (1.3$ تسعيرتك الثابتة للتنقل بين "الحمرا" و"مار مخايل")، قد تطفر جينات هدوءه السياسي فجأة، إثر ملاحظة مسيئة لشخص السيد الرئيس (هناك)، فيلوي خُطام فرسه إلى محطّة "مستودع آل المقداد" (جوقة محلية من خاطفي السوريين) بدلاً من حانة "راديو بيروت". حيث سيعجز قصاصو الأثر في "فرع المعلومات" عن إدراكه، بالطبع. رغم أنهم يعرفون مكانه، بالطبع أيضاً.
أمّا في حين كان خيارك مشواراً مع "فان رقم 4" (خط الضاحية الجنوبية في بيروت) بأغانيه التي تشجع على "النأي بالنفس"، في أول شارعين (وتوسم عادة بالهابطة)؛ فقد تستحيل العربة "المقاومة" للبيئة –إذا سحبتك رقصة الفالس من زمانك الأرضي- إلى دورة حزبيّة عقائدية على عجلات. بفصحى مقعّرة، وأحرف جرّ لا نهائية إلى "حيفا"، وما وراء "حيفا"، حيث لا يصل تردد "إذاعة النور" (راديو حزب الله) عادة بعد 2006.
إذنْ..
قبّـل سريعاً مودّعيك ثلاثاً على الخدّين (عادة لبنانية) في "مزيان"، و"تاء مربوطة"، و"أم نزيه". ومرتين فقط (عادة سورية)، مغادرا شبّاك توزيع السلال الغذائيّة الخيريّة، أو العيادة البدويّة النقّالة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ومرةً واحدةً (عادة شخصية) صورةَ منْ تركتَ في محفظتك سنتين حتى اهترأت. على أمل ألا يُجبركَ أحدٌ على تقبيل "مكونات" إضافية أنكى (عادة أمنية) وأنت في طابور –مظاهرة- تجديد أوراق إقامتك في اليوم التالي.
في حكايات ما قبل النوم، تُضيّع حسناء القصر حذائها، مُسابقَةً دقات الساعة "التوراتيّة". ومع انتصاف الليل؛ تعود الفتاة إلى مسح البلاط، وجلي الصحون.
في مرويّات ما بعد اليقظة (2011)، تواصل الفتاة بعد الدقات الاثنتي عشر "تعزيل" الحظيرة، مطمئنة إلى حُسنها، وخدودها الموّردة... وتقرر في اليوم التالي أن تذهب إلى حفلة الأمير حافية.

2014-04-21

خريف البطريرك العربي.. وداعية مؤجلة




خرج من منزله تلك الليلة محاولاً بالمشي شفاء نزلة الصدر الوجودية التي انتابته فجأة. أخرج هاتفه من جيب بنطال الجينز، وقبل أن ينبس صديقه على الطرف الآخر بحرف؛ بادره بالصراخ:

"ابن الـ...، لقد قاربت على الانتهاء من قراءة الجزء الأول، وأخو الـ... ما زال في الخامسة والعشرين فقط!"

لم يكن ذلك الشتّام اللعّان سوى أنا، ولم يكن ذلك الشاب ابن الخامسة والعشرين الذي زلزلني وأثار حنقي سوى غابرييل غارسيا ماركيز، ولم يكن الجزء الأول الذي تحدثت عنه لصديقي سوى الدفعة الأولى من مذكرات هذا الكاتب التي التهمتها بلقمة واحدة بعد صدور طبعتها الأولى في دمشق بعنوان "عشت لأروي".

أن تجاوز الـ250 صفحة وأنت تقرأ عن الحياة (العادية) لشخص ما في منتصف العشرينات من عمره دون أن تجد متسعاً لوساوس إلقاء كتاب هذا المراهق المزمن جانباً؛ أمر لا يحدث كلّ يوم. ثمّ أن تقارن تلك الصفحات التي تطفر بأنفاس وعرق صاحبها بحياتك السائلة أمامك في رمادي الشام حينها؛ أدعى لأن تصاب بنوبة جنون رقيقة.

ستجري مياه كثيرة تحت الجسر إيّاه بعد ذلك، وستأخذ حلقات رواياته لبّك الطري، ثم ستنقلب عليه لتتمكن من قراءة كتّاب آخرين سواه، من دون أن تظلّ نظارته على عينيك تقيس بها كلماتهم وسطورهم بالسنتيمتر الماركيزي.

"الواقعية السحرية" لم تكن حلاً من "غابو" لتقديم تفسير علمي للخوارق المجتمعية التي تربينا عليها، كما يتربى غيرنا على القانون والمنطق؛ بل جاءت كتوصيف حال فج يقول إنّ القاعدة (عندنا كما في أميركا اللاتينية) كانت للشاذ والطارئ اللذين يستطيلان في حيواتنا فلا يعود هناك بد من بناء عش مؤقت فوق الأغصان المتكسرة تلك ريثما تنبت أجنحة للشجرة بكاملها، لا لسكانها من العصافير الصغيرة فقط.

الطاغية الذي درّب جنوده ليعملوا مجاناً و"يثبتوا بأنهم قادرون على تمزيق أمهاتهم إرباً إرباً وإلقاء المزق إلى الخنازير دون أن يتحرك لهم ساكن"؛ يرقد اليوم بثقب هادئ في رأسه، أسفل خندق محكم، ومبخّر بمواد تزرد اللحم الميت بشهوة كيميائية، بين "مصراتة" وساحل المتوسط.

الأب القائد الذي حزّ بنياشين انتصاراته الملحمية ستة رؤوس وكوّن لنفسه ستين عدواً، ومقابل الستين رأساً التالية صاروا ستمائة، "ثم ستة آلاف، ثم ستة ملايين، ثم كل البلاد"؛ افتقد الشامبو الأثير لديه في حفرته الدودية، قبل أن يخرج ليعتمر قلنسوته السوداء حتى عنقه، ويُربطَ له فوقها "كرافات" من أسلاك خشنة ستكون رسمياً آخر ما سيرتديه في حياته، وبدون سيجار أو بندقية صيد.

المستبد الشيخ الذي كان من الصعب التسليم بأنه لا يمكن إصلاحه "هو بقية إنسان، كانت سلطته من القوة بحيث سأل ذات يوم [كم الساعة الآن؟] فأجابوه: [الساعة التي تريدها سيدي الجنرال]"؛ يتمشى اليوم بكرسي الحكم الذي أضاف إلى ديكوره عجلات مدولبة تعين جسده الشبحي على ولوج القلم الانتخابي ليقترع لنفسه عن ولاية أبدية جديدة، ويقول بعد اضمحلال حنجرته إيماءً: "عاش أنا".

الجنرال الذي أمر بتعليق الناس مقيدي الأرجل والأيدي ورؤوسهم إلى أسفل مدة ساعات وساعات، ثمّ "اختار واحداً من المجموعة الرئيسة، وأمر بسلخه حياً على مرأى الجميع. والجميع رأوا الجلد اللين الأصفر مثل غشاء جنين ولد حديثاً، وأحسوا بأنهم تبللوا بذلك السائل الدموي الغالي من لحم مسلوق يحتضر واثباً على بلاط الباحة"؛ توقف دماغه الفذ عن ابتكار مزيد من ضروب السحل والتمثيل بالأحياء، ودخل غيبوبة لمدة ثماني سنوات، رأى فيها أحلام جميع من قتلهم في حرب الأيام الستة، والسبعة، والسبعين عاماً.

 والدكتاتور الوديع بعينيه السماويتين وضحكته الهوائية سيصدر عفوأً عامّاً بعد أن لم يبق مكان في سجنه لفرد، "منزعجاً من حشد من البُرص والعميان والمشلولين المتوسلين، ومن سياسيين متعلمين ومتملقين بلا حياء كانوا ينادون به قائداً أعلى للزلازل الأرضية، وللكسوف وللخسوف والسنوات الكبيسة، وأخطاء الرب الأخرى"؛ لن يتمكنّ من الاعتناء شخصياً بتجهيز "برميله" الأخير الذي كان سيدحرجه فوق مدينة ما في مزرعته التي ورثها عن أبيه "الخالد"، إذ أنّ العقبان ستنقض على شرفات قصره الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، "ومع بزوغ شمس يوم الاثنين ستستيقظ المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة. نسمة ميت عظيم، ورِفْعَةٍ متعفنة".

كان بانتظار غابيتو، أن يكتب 6 روايات مفصّلة أخرى عن معتوهي تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين وسوريا والجزائر و..و.. لو أنّ جهازه اللمفاوي سمح له بهذا. لكنّه منحنا مع ذلك رؤوس الأقلام التي لا بدّ أن نخطّ بها يوماً سير هؤلاء، وعلى زاوية منضدتنا 500 ورقة بيضاء، وزنبقة صفراء في عروة القميص.

"الواقعية السحرية" هو التعريف "السوسيولوجي" الرصين لنمط الحياة التي صنعتنا بأيد عابثة (لكن صلدة) كفخار معدّ لشهوة التحطيم.

وهل أقلّ سحراً وعبثية من أن تبرمج نفسك لسنوات خلتها ستكون طويلة، كي تذهب في معرض الكتاب السنوي بدمشق إلى إحدى دور النشر، وتحاول تكراراً إقناع القائمين عليها بأنّ ماركيز يحبذ عنوان "خريف البطريرك" لروايته، وليس "خريف البطريق" كما يظهر العنوان على نسخة الدار من الكتاب؟

أصدقاء قالوا لي إنّ الرجل الكولومبي المرح كان مريضاً. وكأنّ الموت طبيعي في المرض، أو بعده. أين ماركيز ليقص عليهم حكاية من حكاياته يخبرهم فيها كيف أزاحت إحدى شخصياته القادمة حجر المدفن الثقيل وخرجت من القبر المائل بكامل زينتها، وأوقفت "تاكسي" عابراً لتلحق بالمشيعين وتواسيهم عن قطعهم روتين أشغالهم من أجل جنازة ليس اليوم هو الوقت الأمثل للسير في ركابها.



2014-04-19

يوميات بيروت: ثورة في لبنان.. "بدك تطوّل بالك أستاز" Revolution in Lebanon...Take it Easy dude, He Said






الزحام، ورائحة العرق الممزوج بالمطاط المحترق، والعيون المُسهَدةُ التي ترمي بشرر، هي أجمل ما يمكن لزائر بيروت هذه الأيام أن يمتّع بها ما بقي له من حواس أعطبتها المدينة في أماكن أخرى.

أترجل من "السرفيس" الذي أطفأ السائق محركه. أمامنا سدّ مستحكم من العربات الأخرى المتكدسة في شارع زَرعَ في نهايته "الدرك" محرساً طارئاً. بوابة لتاريخ "مُعجّل مُكرر" (كما تختصرها اللغة القانونية الملتوية هنا). تاريخ يعيد نفسه كلّ مرّة، بإتقان المرّة الأولى.

الخطوات التالية تقودني على الرصيف لأتجاوز بخفةِ السحرِ الزحامَ المتفاقم لحظة بعد لحظة. يبزغ مشهد الاعتصام بضوضائه الأليفة من خلف خطوط "حفظ النظام" و"الأمن العام" و"الجيش" وعناصر "التحري" باللباس المدني.

قلوب المسؤولين سوداء كهذا الدخان الذي يتصاعد. أين خبز أولادنا يا من قتلتم آبائنا؟ هل أنهيتم اقتسام كعكة مناصبكم، وتشحذون سكاكينكم الآن لالتهام ما تبقى من عشاءنا الأخير؟
هكذا أقرأ الشعارات على اليافطات المرفوعة فوق الرؤوس المنتفضة.

 هيئة التنسيق النقابية (وليت هيئة التنسيق السورية لديها مثل هذه القدرة على الحشد والتحرك) ليست كائناً أخضر، نحيلاً، جاحظ العينين، سقط علينا ذات عصر ذهبي من طبق طائر، فخلخل العيش المشترك الرغيد، لجمع سكاني ينام أفراده العُشاق على كرنفال من القبل الفرنسية كل ليلة.

والعمّال المياومون، ليسوا قُطّاع طرق من العصور الوسطى، مشوهي الوجوه، يتلطون في الغابات المعتمة ليلاً؛ ليصلبوا عابري السبيل الآمنين، نهاراً.

ومتطوعو الدفاع المدني، ليسوا حفنة لصوص متنكرين بزي الشرطة، يخلعون الأبواب، ويدخلون البيوت لنهب مدخرات قاطنيها الذين أهدر حيواتهم العتهُ السياسي المستشري في الأرجاء لعقود.

ستدور الكاميرات كعادتها بالـ"زوم آوت" فوق أرتال هياكل السيارات المستسلمة لمحطاتها الإجباريّة غير المتوقعة، على مشارف "الداون تاون"، و"كورنيش النهر"، و"الجميزة"، وساحتي "الشهداء" و"رياض الصلح". ولجالسٍ بسيجاره أمام شاشة الـ 40 إنش الـ"هاي ديفينشن" أن يلعن، ما طاب له اللعن، ذلك الشلل الذي يسببه هؤلاء الرعاع.

 ولكن شلل ماذا؟

وكأنّ دوران الدم كان مكتملاً في أعضاء الجسد "الوطني" قبل لحظات التظاهر تلك. وكأنّ نبض قلب البلد الوادع مستقرٌ على ترنيمة حياة طبيعية، وجاء اليوم من يغرز فيه فيروساً خبيثاً يحيل إيقاعَه الهادئ إلى هدير وخفقان مضطرب، كما لو أنّ مساً شيطانياً أصابه. بالقطع لا.

فتلك "الثوابت" الجامعة، و"المبادئ" الراسخة التي يَنْظـُم فيها الساسة اللبنانيون خطبهم "البروباغاندية" (مرة بالكرافات وأخرى بالعمائم والقلانس) لم تعد هي ما يشدّ الناس إلى بعضهم بعضاً. بل يتضّح يوماً بعد يوم أنّها ـ كما كانت دائماً ـ مجرّد شعوذة منمّقة غايتها أن توهم الناس أن لبنان معهم بخير. (أين تُرانا سمعنا شبيهاً لهذا الإعلان من قبل؟)

بيد أنّ من يعاند المتظاهرين في مطالبهم البديهية ليسوا عبدة السلطة المدمنين من أمراء الحرب، وسماسرة المال العام فحسب؛ بل وينأى بنفسه عنهم اليوم ذلك النوع من الناشطين المكرّسين، الذين تفاقمت خيباتهم من مشاريعهم التي لا ينزل في ساحة التضامن معها كل مرة سوى بقية أقران فقاعتهم الرقيقة، ليوم أو يومين. قبل أن يتبخروا جميعاً في المقاهي والحانات ومدارج المطارات، مهددين (مَنْ؟) بالسفر والارتحال إلى بلاد تصفق لـ"نضالهم"، وتمنحهم "المواطنة"، و"التغيير"، و"الجوائز".

شهور طويلة من الوجع الشعبي ولا ترى "بوستراً" إعلانياً واحداً، أو شريط "فيديو آرت"، أو "غرافيتي" ناجزاً عن هذه المسيرة (غير البيضاء) الهادرة من العمال، والموظفين، وشغيلة السخرة الذين لا يُنظر إليهم عادة إلا كمادة خام (وحطب) لأحابيل السجال الطائفي والعشائري والإثني، ورسائل الـ"دكتوراه" في علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والفقه الشرعي.

شهور طويلة من الصراخ المضني لهذه الجموع المطالبة بحق تقرير مصيرها المخطوف؛ ولا تجد بينهم سوى بضعة أصدقاء لبنانيين "ناشطين"، من أصل كتيبة تواصل انشغالها بالتنقل بين مكاتب المنظمات غير الحكومية الأجنبية، و"ووركشوبات" بناء المجتمع المدني (أين؟)، و"إيفنتات" إطلاق المشاريع والأفلام (التي تتحدث عن هموم الشعب بالطبع)، في سبيل الوصول إلى الناس.
نعم الناس. أولئك الواقفون أنفسهم عند الناصية منذ ساعات، يتلقفون الوعود الكاذبة والهراوات.

والتاريخ يعيد نفسه أيضاً وأيضاً. هل سينفث ثعبان السياسة سمّه في وجوه القادة النقابيين فيعميهم عن متابعة مسيرتهم؟
هل سيُستدرج منظمو الحراك المطلبي إلى المحاصصات الفئوية البخسة، ويضيعوا البوصلة التي منحهم الشعب (بألف ولام العهد) إيّاها؟

لم يعد ذلك مهمّاً. نعم لا يهم. لقد فعلها الناس مرة، وسيفعلونها ثانية، وثالثة، ورابعة. سواء مع هؤلاء الذين وضعوهم في مقدمة صفوفهم، أم بغيرهم.
لقد صنع المقهورون ذكرى زحفهم. ذكرى ثورتهم.
"بَدّك تطول بالك استاز" مازحني أحد العمال المياومين وهو يخفي حجراً في معطفه.
ومن الذكريات ما لم نعشه بعد.

سأفوّت على نفسي ـ ثانية ـ دعوة أصدقاء لبنانيين أحبهم يهيئون لاعتصام من أجل سوريا.
أنا، سأنزل اليوم إلى شارع بيروتي، من أجل لبنان.

فلا تعطوني سلّة غذائية هذه المرة، أو بطانيّة إسفنجية. لا، ولا تعرضوا عليّ خيمة، وكيس ملابس مستعملة.
فأنا هنا أشم رائحة أهلي وأصدقائي.
وليوم واحد، لن أكون مجرد لاجئ.


نشرت  في العربي الجديد

2014-04-12

شعر طائش للموت السوري







الهواء الذي تشهقه دمشق في الأشهر الأخيرة، بعد أن دفع النظام المعارك إلى جبهات أخرى؛ تتنسّمه براعم صغيرة، لا يدخّر نسغ الحياة فرصة كي يندفع فيها بخضرته الطرية موازياً أسنة الحراب الناتئة.

"ثلاثاء شعر" أحد تلك الأعشاب البازغة التي تحاول إن داسها "بسطار" عسكري طارئ في "باب توما"؛ أن تنبت قريباً من ساحة "الشهبندر"، أو تمدّ أوراقها الغضة ثانية وراء أسوار السفارة الفرنسية في "العفيف". أيام قليلة، ويمرّ عام على إطلاق هذا الملتقى الأدبي الذي واكبه تأسيس دار "سرجون" للنشر، التي سارعت بدورها إلى إصدار "كريستال طائش" (2013)، باكورة مجموعاتها الشعرية الموعودة، وأول حصيلة لنشاطها الثقافي الأسبوعي، كتابة ونقدا،ً مع شباب عشريني يناور بحواسه لالتقاط ما يفوت باقي القناصين قنصه.

أحمد ودعة، ومعاذ زمريق، وجوزف حداد، وأحمد علاء الدين، وأحمد سبيناتي، خمسة أمزجة في الكتابة السورية الجديدة بعد "الثورة"، أو "الأزمة" ربما، أو "الحرب الأهلية" باللغة الأممية، ولكن بالقطع بعد أن بات دوام الحال الآفل مُحالاً، سياسياً وثقافياً.

يأتلف خماسي الشعر في المجموعة المشتركة بعفوية مفهومة على مقارعة اليومي الكارثي الذي يفرض نفسه وقذائفه، وكلٌّ بطريقته. لكن النوسان بين التفعيلة وقصيدة النثر والاتكاء على التراثي بين التجارب التي يضعها كُتّابُها أمامنا؛ يكاد يحسم تأرجحه ميلٌ جامحٌ لا يمكن إغفاله إلى السرد والاستطراد لديهم جميعاً.

سرد لاهث في المسافة البعيدة، التي تفصلهم في قصائدهم عن الأنثى المتوارية وراء دخان الاحتراب المستعر، والتي إن أطلّت أحياناً بحضورها المشتهى، عادت أطيافها سراباً عصياً، كما يستحضرها لنا جوزيف حداد في "قلّة آدمية ليس إلا" "ما ذنبي/ إن كان كلما تراءى لي نهد/ منتفخ قليلاً/ حفزني بصعوبة لاجتياز "الأوتوسترادات" لألحقه/ ومن ثمّ أُشيد منه آبدة في خيالي لأنتشي قليلاً/ ناسياً الوصايا العشر بأكملها/ ما ذنبي إن كان قلبي كعكة إسفنجية فاسدة/ وأصابعي عشر سجائر مبللة بالدمع/ ودماغي كرة جوز بني، في أوسطها/ نُزُل فاخر للسوس والبكتيريا".

والسرد الآخر ـ إن لم يكن الأول ـ الذي تنساق قصائد المجموعة وراءه ليس سوى شبح الموت الذي يخرج عن كونه هاجساً ليصبح حالة تتلبس المجاز كما الإفصاح. ويتجلى ذلك في عدد من عناوين قصائد المجموعة: "سأقبّلك قبل أن تنهي الحرب"، "في البدء كان الموت"، "أنعي لكم"، "انتحاري بجسد منسوف"، "أبجدية الموت". ويضيف عليها أحمد ودعة قصيدته "بورتريه للموت" التي يقول فيها: "رأيت صور أناس/ رُسمت بمهارة وإتقان/ فاكتشفت أنّ الموت/ يملك موهبة/ غير قطف الأرواح...!/ فهو يرسم "بورتريه" للأبرياء/ ويحتفظ به على هيئة اعتذار...!/ سُلبت ما جئت لأجله/ وأنهكني الخوف المتصبب من أصابعي/ حطّمت أقفاله الصدئة/ وتهت في أزقة مذكراته/ لأجد ألبوم صور/ يروي ماضيه../ لكن الشيء الغريب/ أنه كان وحيداً في هذا المكان".

أمّا الحزن واليأس، فهما ظلان حميمان للموت الرابض ينهكان أحمد سبيناتي "حتّى الذوبان". يقول في "سيناريو حزين لليلة حزينة": "يصدر الحكم بالحزن حتى الذوبان/ على أقلام الرصاص... والممحاة/ بتهمة التحفظ على الذكريات/ الحزن يملأ حنجرتي يرتعش في دمي/ يختبئ خلف دريئة عمياء/ يسمع أوجاعنا ويحزن/ يشارك بالبكاء... ويجهش/ ..../ يدخل الحمام/ ويتبول بنشوة مفرطة/ ثم يجلس حزيناً".

بيد أنّ عدم امتلاك أصحاب النصوص ناصية لغتهم حتّى الآن؛ جرّهم إلى الوقوع أحياناً في الإنشائية، والصور المتداولة المطروقة. ومع ذلك فإنّ العين لا تخطئ الالتماعات التي تعيد الإمساك بالقارئ إذ يتفلت بعض النص منه. يقول، معاذ زمريق، في "مقتنيات كاتب فاشل": "لديّ ما يكفيني من الجرأة/ كي أصيح: أيّها الجندي/ تعال كي تقطفني/ ألا تريد تذوّق ما سيجود به جسدي/ من دمار شهي..؟/ تعال.. لا تتردد/ لديّ إخوة كثيرون/ نحن وجبة دموية كاملة الدسم..!".

من جهته ينسج أحمد علاء الدين أجواءه الخاصّة بنثرية عالية تتجاوز ما لدى زملائه، متلاعباً بعلامات الترقيم. بل إنّه يترك انطباعاً لدى قارئه أنّه يتعمّد الشطح أحياناً ومداورة "الخاتمة". حتّى وإن بدا السياق التعبيري بصوره ومعانيه أقرب إلى الاكتمال بصيغة أقلّ انفلاشاً. يقول في "إبحار الخلاص": "بادياً من آخر البحر وجسمي أُبّهة التعب/ جئتكم والباقيات من عمر قصير. قرون ويل-/ صبايا الثلج يرتحلن، والسنين اللافحات مرآة للعمق./ وأنا أمدّ الشوقّ للشاطئ المغطى بشرايين موتى متصلبة./ جماجم مرصوصة تحت السماء/ والأكباد تشدّ الموج المجرّح بأظافر الشرر-تنهش أطراف قلوبٍ/ لم تزل فيها أمارات الحبّ الأخير/ لعينيّ يلوح منظر الوجوه اللئيمة/ لأبناء رايتي".

هو إلى الآن تجريب للكتابة أكثر منه تجريباً في الكتابة نفسها، ولا يشذّ هذا القول عن تعريف الشاعر، زيد قطريب، نفسه للملتقى الذي أنتج هذه الأعمال بأنّه "نواة ورشة عمل إبداعية تهتم بالشعر"، من دون أي ادعاءات. لكنّ ما يحسب لهذه الثلة من المتأدبين الشباب نفضهم الغبار عن خيار المقاومة الثقافية، ومبادرتهم إلى استرجاع مساحة عامّة قد يعجز نظراؤهم عن مقاربتها في مدن سورية أخرى أكثر اكتواء بنار القمع والمنع. وإن لم تأت ثمارهم الأولى يانعة كما نشتهي ونحب؛ فلا ضير في ذلك:

"كلما قلت لها: أحبّيني/ تقول: إن أحببتك اليوم/ فماذا أفعل غداً..؟!!"


2014-04-07

عودة "غرامشي" السوري إلى صباه ... Syrian "Gramsci" is Back





كأي صياد سمك في سيريلانكا، فوجئ المثقّفون السوريون بالرجفة العظيمة التي هزّت البلاد من جنوبها في آذار/ مارس 2011. وكما التقط مذياع الصياد الشارد موجة الأثير التي سحبه إليها موج الماء المتلاطم ليسمع اسم سوريا للمرة الأولى؛ وقعت بالصدفة أقلام ورِيَش وعدسات المثقّفين المحليين على صرخة "الشعب"، عارية للمرة الأولى. صرخةٌ كان قد أتلفها المجاز في عروضهم، وأنهكتها التورية والاستعارة في كتاباتهم، وأوشكنا بعد أربعين عاماً أن نقتنع بأنّ "الحرية" لا تُلفظ إلا همْساً، وأنّ هذه البحّة المزمنة في حناجرنا هي طبع "بيولوجي" كألوان العيون وطول الأصابع.

 فإنْ كان إسقاط النظام الديكتاتوري في سوريا يحتاج، بعد ثلاث سنوات، إلى عسكرة وتسليح ومناطق حظر جويّ؛ فإنّ الأقدام الحافية الأولى التي تدافعت في درعا لم تواجه عناءً يُذكر في إسقاط أقنعة المثقّفين السوريين المكرسين في البلاد وخارجها.

ومع أنّ الكثرة الكاثرة من هؤلاء المثقّفين ما زالت على استنكافها عن إجراء أي مراجعة جديّة للشيء الذي كانت تدعوه "فعلها الثقافي" على مَرّ السنوات الماضية ومُرّها؛ إلا أنّ الهزّة التي زلزلت مسلّمات فكرية كان مثقفون يركنون إليها أو يتلطون وراءها، انعكست مَيلاً واضحاً لدى عديد منهم إلى العودة نحو الجذور "الميدانية" للتجريد الذي احترفوه فأسرفوا فيه. وذلك بحثاً عن "حبل سُري" مقطوع بين المثقّف ومحيطه الذي من المفترض أنّه يُنظّر له، في حين أنّه كان لسنوات ينظّر عليه.

ولا يخفى أنّ الخلفيّات "اليسارية" و"القومية" لمثقّفين سوريين ملتحقين بقطار الثورة قد يسّرت عليهم بعض الشيء التقاط تذكرة الإياب تلك. فنفضوا الغبار في رؤوسهم عن جوهر المقولات "النضالية" التي كانوا يرددونها استظهاراً من قبيل "الإرادة الشعبية"، و"الطبقات المحرومة"، و"الفئات المهمشة".

ولم يعد نادراً أن نرى مُخرجاً مسرحياً يدق المسامير في منصة اعتصام في بلدته، أو رساماً مشقق الكفّ من نقل أكياس البرغل والطحين، أو عازفاً موسيقياً خبيراً بالأصناف الطبية لأكياس الدم ومسالك تهريب إبر الكزاز. وهو مشهدٌ كان يجدد دائماً نسغ الحياة في الشرايين النازفة لأيّام التظاهر الدامية.

غير أنّ هزة أخرى ستأتي سريعاً لتنغص على كثير من المثقّفين هذه النشوة "الغرامشية" المتمثلة بعودة العضو المبتور إلى الجسد الناهض. فهذا التناغم الـ"طوباوي" الذي بدا لوهلة أنّه في طريقه إلى لمّ شمل "الجماهير" مع "طبقتها المفكرة"؛ سيفسده ـ من وجهة نظر المثقّفين بالطبع ـ "كورال" الرصاص الهادر، بعد نشاز "الله أكبر" الذي كان من الممكن "تكتيكياً" بنظرهم احتواؤه أو معادلته في الإعلام.

وهي مفاجأة أخرى، تأتي في التحليل البارد كنتيجة منطقية للوقت الطويل ـ الأشهر الستة إلى الثمانية الأولى ـ الذي استغرقه المثقّفون السوريون في إعادة ارتداء قميص "المثقّف العضوي" الفضفاض أصلاً، ومحاولة "الالتحام" ثانية مع الجموع المنتفضة.
غافلين عن أنّهم كانوا طوال تلك الفترة مجرّد مجموعة مضطربة تجري لاهثة وراء الحشود السائرة، بعيداً عن غرف عمليات توجيه الحراك.تلك الغرف كانت تنتج ـ بمعزل عنهم مرة أخرى ـ آليات زحفها، وتقترح من عنديّاتها ـ ولنقل ترتجل ـ الحلول لما تواجهه من تحديات خطيرة على الأرض، وعلى رأسها إصرار النظام على فرض شرطه العسكري "التوراتي"، وإطلاق يد غوله الأمني اغتصاباً، وتقتيلاً، وتدميراً، استجلاباً منه لردة فعل غريزية، ليس أقلّها غريزة البقاء، وهو ما نجح فيه نهاية.

فكان لاجتماع "العسكرة" مع تنسيقيات "التأسلم" في ردة فعل الناس على الأرض وقع الصاعقة على كثير من الرؤوس المثقّفة الحالمة. ما خلق فصاماً جديداً في خطاب المثقّفين السوريين تجاه "شعبهم/جمهورهم".

خطابٌ كانت أقلامهم بالكاد قد خطّت أحرفه "الرومانسية" الأولى، والتي ستستحيل لاحقاً لدى جماعة منهم إلى معلقات تقريعيّة مقذعة، ومحض إنشائية. ولدى جماعة أخرى ـ لم تضغط زناد بندقية صيد يوماً ـ إلى تمجيد أعمى للسلاح، من دون أن تتنازل بالطبع عن "هواجسها" العلمانية التي ستظل ملتبسة في نظر مَنْ من المفترض أنّها تدعمهم "روحياً" في "كفاحهم المسلح".
في حين سينأى فصيل مثقّف آخر بنفسه عن كل هذه المعمعة، لينكص القهقرى إمّا إلى عدميّته الأصيلة السابقة على الثورة، أو إلى صفوف مثقفي السلطة القمعية، والذين انتظموا على متاريسهم في خنادق "المعركة".

وبهذا المعنى، ستغدو السيرة المؤسفة ـ حتّى الآن ـ لأحد "المثقّفين العضويين" السوريين مضرباً للمثل والعبرة لمدة طويلة ولا بدّ. فبعد أكثر من سنتين من النضال "المثقّف" في العاصمة، والعاصمة لا تعصم؛ يضطره الظرف الأمني القاهر إلى الفرار إلى بلدته ومسقط رأسه في الشرق، والتي، بحسب النظرية الغرامشية، كان من المفترض بها أن تكون أكثر أماناً بالنسبة إليه تحديداً، لكنّه لن يتمكن من الصمود فيها لأكثر من عشرين يوماً.

وللمرء أن يتخيل تلك الفجيعة المؤلمة لنا جميعاً.نعم. كان الأحرى بنصف المليون فلاح الذين نكبهم الجفاف المتواصل منذ 2005 ـ على أقرب تقدير ـ وهجّرهم من أراضيهم في شمال وشرق البلاد؛ أن يفتحوا جلابيبهم طوعاً لرصاص النظام الذي ألجأهم إلى غور الأردن على حدود فلسطين المحتلة بحثاً عن عمل.
وكان الأحرى بهم قبل ذلك، وهم المتروكون بلا مدارس أو كهرباء أو خدمات زراعية حتّى، أن يهتفوا "فولتير.. سبينوزا.. دريدا" عوضاً عن "مالنا غيرك يا الله". ومَن يعلم، ربما كانت "الثورة السورية" حينها ستكون أليَق بروايات وأشعار ما قبل النوم التي كان مثقفونا على أهبة الاستعداد لتسطيرها، بدلاً من هذا الأحمر الوحشي الذي يفترس وثير كراسي مؤتمراتهم بلا هوادة.