2014-03-30

مباخر إلكترونية لـ"المستبد الجاهل"








لم يعد كافياً بعد اليوم أن تنأى بنفسك عن التلفزيون، أو تطفئ راديو سيارتك، أو تدسّ الصفحة الرئيسية للجريدة القومية في بلدك تحت صحن طعام حيوانك الأليف، كي تتجنب سفاسف السياسيين العرب. فالخبر العاجل غير السعيد هو أنّه قد فُبرك لوسائل الاتصال الاجتماعي فصل خاص للطبعة المنقحة والمزيدة من كتاب "الأمير" لـ"ميكافيللي" بنسخته المعرّبة "كيف تصبح ديكتاتوراً لخمسة عقود بدون معلّم".

فبعد "فيسبوك"، و"انستغرام"، و"يوتيوب"، ها هم قادتنا وزعماؤنا الأزليون يصدّرون لنا بـ140 حرفاً على "تويتر" عُصارة المادة التي حنّطت تطور حياتنا السياسية لأجيال خلت، عن طريق حُقنٍ "رقمية" هذه المرة يُراد لها أن تتغلغل في شرايين الحياة الافتراضية التي فرّ إليها الناس من جحيم الموت البطيء المفروض على وجودهم "الكلاسيكي".

فرئيس البرلمان اللبناني المُستدام نبيه بري ينقل مائدة "الحوار اللبناني"، التي نأت بحملها كتائب "رانجروفات" المرافقة في "الدوان تاون" البيروتية، إلى ظهر الطائر الأزرق الصغير. ليردّ عليه في التو واللحظة رئيس حكومته السابق المغترب سعد الحريري بـ"إدخال" لبنان أخيراً في "زمن العدالة" بلمسة خفيفة على "إنتر" جوّاله "الذكي". أمّا نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي ضاحي خلفان فلن تأخذ منه إشكالية تحصين الخليج العربي/الفارسي من الثورات والاضطرابات التي تترصده منذ 1979 إلى 2011 سوى "تغريدة" ناعمة واحدة، سيغفو على سقسقتها الوادعة –ولابدّ- 45 مليون من مُواطني و"لا" مواطني الخليج المسبحين بحمد الشركات القابضة على مقدرات بلدانهم.

والأخير بالذات له باع أطول من غيره في ترويض العصفور الذي سبق له أن أقضّ بمنقاره القصير مضاجع جيرانه "الملالي" في طهران إبان "الثورة الخضراء" منذ سنوات ليست بالبعيدة. فخلال زمن قياسي أقصر من الوقت الذي تتطلبه قراءة سيرته الذاتية على "ويكيبيديا"؛ تمكن خلفان على "تويتر" من كشف مؤامرة "الموساد"، وإحباط مشروع "الإخوان"، والتصدي للعصابات الإرهابية والتكفيرية، والتنظّير للحكم الالكتروني الرشيد. بل ووجد متسعاً على "أندرويده" لبعض الإنجازات الثانوية "الشعبية" منذ يومين، كإنقاذ مواطن –أجنبي طبعاً- تائه قرب دبي غاصت عجلات مركبته في الرمال.

نعم، هي الرمال ما يحاول هؤلاء القوم ذرّها في عيوننا التي لم يغمض لها جفن منذ نُحت ذلك الاصطلاح المشؤوم في لغتنا التي يتغنى معجميونا بمدى مرونتها: "المستبد العادل".
الجملة التي كلما حاول أحد في تاريخنا الوطني الحديث تجاوز مبتدأها، أمسى خبراً، وضاع محلّه من الإعراب. على الأقل إلى ما قبل 2011.

لن يضطّر مسؤولونا "الديجتاليون" بعد اليوم إلى الطيران بعيداً في أصقاع مزارعهم في تحد ميداني لثبات صبغات شعرهم، أو جرّ أمراض شيخوخة سلطتهم المزمنة خارج "مايو كلينك"، أو خلع "بيجامتهم" –ربما إعادة ارتداءها- كلما أرادوا توجيه كلمة "تاريخية" لنا، نحن "الديموغرافيا" التي تملأ بمحض الصدفة هذه المراعي الـ"3D" والمدعوة "جغرافياً" بالعالم العربي.

حتّى وإن زلّت وسطى أحدهم على "الكيبورد" بقشة قد تستشرف فيها مراكز البحوث والاستخبارات قصماً لظهر البعير المثقل، فالجواب الافتراضي جاهز: "كان هذا هو الحساب الشخصي للمسؤول، وهو يعبّر عن وجهة نظره الشخصية"، وإن لم يقتنع قطيع "الفولورز"، فسيأتي يوم "الحساب" العام سريعاً، اعتقالاً، وترحيلاً، ودكاً بالبراميل المتفجرة. أو ربما الأسوأ: "انقطاع مفاجئ لخدمة الانترنت عن كامل البلاد".  

                                                                                                                                                                                                          13 مارس 2014

"اللحظة" العربية في مطولات وثائقية




نَفَسٌ طويل ذاك الذي يتمتع به الشباب من مخرجي الوثائقي الجديد هذه الأيام. فالداخل إلى صالة "متروبوليس" في بيروت لمشاهدة أحد تلك الأفلام في "أسبوع آفاق السينمائي" -اختتم أمس الثلاثاء بفيلم "هرج ومرج" للمصرية الشابة نادين خان- لن يغادرها غالباً قبل أقلّ من ساعتين، وإن كان من ضمنها طبعاً جلسة النقاش القصيرة التي تلي العرض مع مخرج أو مخرجة العمل.


ففائضُ الـ"رشز" (مسودات التصوير) في أيدي صانعي الأعمال التي أنتجها "الصندوق العربي للثقافة والفنون" في السنتين الأخيريتين واضح جداً في المتن ذاته الذي يُعرض على الجمهور المتحمس. ومع أنّ الدقائق الطويلة التي كرسها لأفلامهم المخرجون والمخرجات –عددهن أكبر- ليست بالضرورة ثرثرة مجانية، ولكنّها مع ذلك تشي بحجم الضغط التسجيلي الذي يجد الـ"مونتيير" نفسه في خضمّه من دون ترتيب واضح للأوليات فيما يُراد له أن يعرض في النهاية على الشاشة البيضاء.


أفلام "أريج" لفيولا شفيق (90 دقيقة)، و"حبيبي بيستناني عند البحر" لميس دروزة (80 دقيقة)، و"بيت التوت" لساره إسحق (65 دقيقية)، و"موج" لأحمد نور (70 دقيقة)، و"طيور أيلول" لساره فرنسيس (93 دقيقة)، وغيرها، كلّها أمثلة عن الشرائط الطويلة المقترحة على الجمهور البيروتي الصبور هذا الأسبوع.

كاميرات نَهِمَةٌ تجُول في الوقت الطبيعي للأشياء، حتى يخال المشاهد أنّ أصحابها لا يريدون لعدساتها أن ترفّ لئلا تفّوتَ سرديّة جهة من الجهات الأربع التي تسرح كلّ منها في هاجس، بين الداخلي والخارجي، في الذات والمحيط.

لنتنفس بصدر رحب –مع الإخراج- زفير الشارع المائج يمنة ويسرة، ونتلقف معه الكوادر ذاتها أحياناً لجدران تتلاحق عليها وراء كلمة "يسقط" إيّاها؛ أسماءٌ وأحزابٌ وشعارات مختلفة في كل مرّة. أو نغوص بشهيق واحد، في لُجج النفوس المضطربة، اللاهثة وراء "لقطة" الهويّة والدور، في لوحة متراميّة الأطراف تغصّ بالكينونات المتحولة باضطراد.

هذا لا ينفي أني كنت تواقاً بشكل شخصيّ لأن أعرف المزيد عن "محمد" إحدى شخصيّات ميس دروزة في "حبيبي بيستناني عند البحر" لصداقة جمعتني به ذات يوم في مخيم اليرموك قبل أن تتقطع بنا السبل، وعادت دروزة هنا لتجمعنا ثانية على غير موعد. لكنّ هذا يظلّ هماً ذاتياً لي أنا.

فيما يتمنّى –سراً- نديم لي في عرض "أريج" على فيولا شفيق لو أنّها صوبت "زوومها" أكثر على فكرة توحش رأس المال "الوطني" الذي يبتلع تاريخ مصر صفحةً صفحة، ونُصباً نُصباً، والذي لم تصل الثورة "السياسية" بعدُ إلى أنيابه المشرعة، بدل القفز المتكرر إلى جوانب الحراك الشعبي الذي "بتنا جميعاً نحفظ له في رؤوسنا صوراً فوتوغرافية ناجزة". والكلام لصديقي دائماً.

على أنّ المطولات السينمائية هذه مسألة غير نادرة أبداً عند الوثائقيين والتسجيليين السوريين، الذين غابت أعمالهم بالصدفة عن هذه الاحتفالية السينمائية، ممن لا يزيد فضل بعض منهم فيما قدموه حتى الآن عن اختصار ساعات الـ"يوتيوب" السوري الطويلة المتاحة على الفضاء الافتراضي، و"فلترة" بعض المقاطع المؤسيّة التي تسحبنا إليها عادة الروابط و"الـ"لينكات" التي لانهاية لدفقها على "فيسبوك" و"تويتر".

عبء كبير ولا شك نلقيه على عاتق المصور الشاب، إضافة إلى وزن كاميرته الأصلي، ونحن نطلب منه أن يهضم لنا مشهدياً طوفان المارثون البصري الذي لم تهدأ سيوله منذ كانون الثاني/ يناير 2010. أو أن ننتظر ممن تكتب "سكريبتها" لأول مرة أن تجمع لنا اللقطات المفككة، بين القاهرة والسويس وبيروت وبغداد والقدس وصنعاء، في نسق يصوب الضوء على الفكري الجامع، بدل الاستسلام الكلي فقط للضوء الآخر القادم من خارج "الغرفة المظلمة"، والذي تكدّ العدسات "المستقلة" في الاغتراف منه، باحتراف أحياناً، وبدونه في أحايين أخرى غالبة.

تَفرُدُ اللحظة العربية كنوزها بإلحاح أمام صيادي الصورة الشبّان، العارفين بلا شك بأنّ "ليس كلّ ما يلمع ذهباً"، لكنهم -على ما يبدو- يفضلون اليوم أن يحرثوا بشباكهم كلّ البحر، خشيةً على ما "يلمع" اليومَ منْ أن "يذهب" في معمعة الأخبار العاجلة التي تسرق بريق اللحظات الأولى، فينحدر لؤلؤها منسياً نحو القاع.



                                                                                                                 نشرت في العربي الجديد
                                                                                                                               12  مارس 2014

"بانكسي" ناشطاً على "يوتيوب" السوري Banksy as an Activist on Syrian YouTube

 
 
 
 
ستة ملايين ونصف المليون مشاهَدة حتى اللحظة، هي نصيب الفيديو المثير للجدل الذي وضعه "فنان الشوارع" البريطاني المعروف باسم "بانكسي" على موقع "يوتيوب" منذ أشهر قليلة، ويَظهر فيه مقاتلون يتحدثون اللهجة السوريّة ويسقطون إحدى شخصيات "والت ديزني" الكرتونية بصاروخ مضاد للطائرات.
ويظهر العمل المصور رجالاً بزي مقاتلين إسلاميين بمصاحبة تسجيل صوتي يبدو أنه مأخوذ عن تسجيل آخر لمقاتلي المعارضة السوريّة على "الانترنت"، باسم "المجلس الثوري العسكري" في حلب، يسقطون فيه طائرة للجيش السوري النظامي.

وبعد التكبير والتهليل، ينجح المقاتلون في إصابة الهدف الذي سرعان ما يكتشف المشاهد أنّه ليس سوى الفيل "دمبو" إحدى الشخصيّات الكرتونيّة الشهيرة لشركة "والت ديزني".
ويلفظ الفيل الصغير أنفاسه الأخيرة فيما يقف أمامه طفل صغير غاضب سرعان ما يوجه ركلة قوية إلى ساق الرجل الذي أطلق الصاروخ، ليقع الأخير أرضاً، وهو يتألم.

وبما أنّ "بانكسي" لم يوضح صراحة قصده من وراء بثّ هذا الفيديو، ولا الرسالة التي أراد إيصالها؛ فقد سارع زوار "يوتيوب" إلى إبداء وجهات نظرهم بالموضوع. ويلحظ المتابع مدى الانقسام الحاصل بين من يرى في المقطع تنبيهاً إلى حقوق الطفل المنتهكة في مناطق النزاع المسلح، ومنها سوريا، ومن يقرأ العمل على أنّه انتقاد لسياسة الدفع بالمزيد من مشاهد العنف التي تستقطب مشاهدي شاشات التلفزة، وبالتالي أموال الإعلان الطائلة.

و"إثارة الجدل" ليس أمراًغريباً على "بانكسي" الذي يصر على الاحتفاظ باسمه الحقيقي سراً حتى اليوم، والتفاته هذه المرّة إلى انتاج أعمال فيديو يزيد من هذا اللغط الدائر حوله، فيما إذا كان هذا الأمر مجرد "تكتيك" فني، أم تبنيّاً مستجداً لـ"الفيديو آرت"، على حساب، أو بالتوازي، مع شغفه الأصلي بالرسم على الجدران.

فنان "غرافيتي" سوري مقيم في بيروت، وأحد "مريدي" الفنان الشهير قال لـ"العربي الجديد" إنّه يتأرجح بين تأويلين للعمل، أولهما أنّ الفنان البريطاني "الثوري" يسخر بمرارة من طريقة تعاطي وكالات الأنباء مع "الحدث السوري" باعتباره "منجم ذهب" لترسيخ الصور النمطيّة عن أبناء هذه المنطقة من العالم، و"تسخيف جهودهم للخروج من واقعهم السياسي البائس، عبر تظهير أخطائهم اللوجستية، وتعميمها كأنّها هي الخيط الناظم لكل هذا الحراك الشعبي".

أمّا "التأويل" الثاني لمحدثنا الذي لن يفصح عن اسمه، قبل أن يفصح "بانكسي" ذاته عن اسمه الحقيقي، كما قال؛ فيذهب في اتجاه تفسير "لا يحبذه" عن كون "بانكسي" قد تقصّد التهكم على المعارضة السوريّة المسلحة مباشرة. لكنّ فنان الـ"غرافيتي" السوري الشاب، يستبعد هذا الاحتمال سريعاً، بالنظر إلى مواقف "بانكسي" المشرّفة من قضية فلسطين، دون أن يصادر حقّ "الفنان" في التعبير عن مواقفه أياً كانت، "وله في أدونيس أسوة حسنة!". لكنّ ذلك يظل مستبعداً، ما لم يعبّر "بانكسي" عنه بـ"صريح القول"، على حد تعبير معلّقنا.

وسبق لـ"بانكسي" أن شدً رحاله إلى الضفة الغربية في 2005، حيث وضع "لوحاته"على الجانب الفلسطيني من جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، راسماً صورتين باتتا معروفتين اليوم، تمثل إحداهما فتحة في الجدار تظهر للمشاهد وكأن شاطئاً جميلًا يمتد خلفه، وأخرى تجسد طفلة تحاول الطيران فوق الجدار بواسطة "بالونات" تحلق بها عالياً.
واشتهر "بانكسي" خلال تسعينيات القرن الماضي، وخاصّة بعد تصويره ملكة بريطانيا "إليزابيث الثانية" على هيئة "شامبانزي" في 2002، قبل أن يصدر كتاباً بعنوان "انطح الجدار برأسك". وهو الذي يصرّ على عدم عرض أعماله في المعارض والصالونات الفنية. لدرجة أنّه تسلل في أحد أيام 2005 إلى المتحف البريطاني ووضع قطعة من الحجر مرسوم عليها رجل وهو يدفع عربة تسوق، مظهراً الحجر وكأنه مأخوذ من أحد كهوف الإنسان القديم.

يذكر أنّ صالة مزادات "فاين آرت أوكشنز" الأميركية، باعت الأسبوع الماضي جداريّة له تحمل اسم "قبلة بين رجلي شرطة"، بمبلغ وصل إلى 575 ألف دولار، حيث سبق لهذا لعمل بالذات أن ظهر للمرة الأولى على جدار مبنى في مدينة "برايتون" (إنكلترا) عام 2005.

ولجأ "بانكسي" إلى وضع رقم هاتف قرب بعض رسوماته الأخيرة، بحيث يمكن لمشاهد عمله الاتصال به ليستمع إلى تسجيل صوتي لرجل يتحدث عن اللوحة، لكن لا يعرف إن كان المتحدث هو "بانكسي" نفسه أم لا. ما نعرفه على وجه الدقة هو أنّ "بانكسي" سبق له أن قال مرّة: "بعضهم يحاول أن يجعل العالم مكاناً أفضل، أما أنا فأحاول أن أجعل منه مكاناً أجمل، إن لم يعجبك رسمي، يمكنك محوه".

                                                                                                                                                                                                           23  فبراير 2014