2010-08-08

محاولة للإمساك بزمن الكتابة عن وفي ... "من وإلى"

على الرغم من أنّ "الـمقالات تعبّر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مجلة (من وإلى)" غير أنه ليس بوسع الـمرء إلا أن يفتري على الـمطبوعة الجديدة بعكس ذلك، على اعتبار أن ما ضمّته بين دفتيها منذ عددها الأول وحتى اليوم يعبـّر عنها أيما تعبير.

وعندما يستبين الـمرء سريعاً أن اقتراح النشر فلسطيني أيضاً، فإن ذلك لابد له أن يحسم للتو مذاقاً مختلفاً للتوقعات لا يد للـمجلة فيه ولا حيلة. وقد تريده وقد لا تسأل فيه.
بالطريقة نفسها ربما التي يصطاد العين فيها ويغويها منذ اللحظة الأولى الشكل والـمقاس الـمختلف والرشيق لها.

ليس من باب البهلوانيات اللغوية، ولا الجناس الطربي الـمبذول. "من" و"إلى"، أحرف الجر الهيـّنة التي يسهر على حركات ما يليها لغويو الإعدادية ومدققو إملاء الصحف قادرة كما لقنـّا مراراً على جرّ الجبال. ولا يبدو أن مهمة أحرف الجرّ تلك عنواناً لدوريـّة ثقافيـّة هذه الـمرة ستكون أسهل بحال من الأحوال.
(من وإلى) تفترض في ذهن مستطلعها جهات ما، أو أقطاب إرسال واستقبال تدور في بوصلتها الأشعار والقصص والـمنثورات والرسوم، وسواها من مواد العدد.
وبالنظر إلى غياب الافتتاحيات الكلاسيكية عن الـمجلة والتي عادة ما يكون من دأبها التوجيه وتيسير التأويل وابتكار السياق بحسب (سياسة) التحرير، فإن على القارئ هنا الالتحاق بفضاء تمهيدي بديل من قبيل:
"أعداؤنا يسمـّون البيانو (أفسنتير)
منذ متى وهذه الأفسنتيرات تضربُ في
يقظة الـميّت النائم؟
منذ ُمتى تـُواصل شـُغلها من إذاعة (كول
هاموسيكا) ــ بينما طائراتهم تقصف
(الضاحية الجنوبية) وتـُغيرُ على بيت من ثلاث غـُرف في مخيم جـَباليا؟"
إنما تحت اسم مقارب لـ"الافتتاحية"، وهو هنا "فتّاحة عدد". وإن كان يصلح كذلك برأي كثيرين كفتـّاحة مبدئية للفكرة، يسأل الـمرء من خلالها وبلؤم أحيانا، ماذا يريد نجوان درويش، الـمقدسي الشاب، شاعرا أو كاتبا ناشرا، من مجلته وقد بلغت روحها التاسعة؟
أصوات عربية جديدة، كإجابة أولى صارمة، مطوبة منذ الغلاف، قالت إحدى الصديقات مستغربة تجشّم عناء السؤال حتى. ومستشهدة بالجهد التنقيبي الذي قاد الـمحرر "من" رام الله الضفة الغربية "إلى" عربستان فارس. آخذاً بتلابيب أحوازيين جدد إلا عن عروبتـ(ـهم)، من الذين تتخلى عنهم اليوم دون جلبة تذكر أنظمة طوّبت نفسها لعقود حامية حمى هاتيك العروبة.
والصورة في (من وإلى) ليست ــ تشكيلا أو فوتوغرافا ــ متاعا طارئا على النص، بل تكاد تأخذ موضعها هناك في تتام وتناغم مع الـمكتوب الحروفي، كأنه لها وكأنها له.
من منزل دمشقي سرعان ما ينسى الـمرء اصطناعيـّة ندف القطن على سلّمه لتستحيل للتو عتبات لسحاب (زياد حلبي)، إلى غرف غزاويـّة في نسخها الأحدث 2008 ــ 2009 بعد القصف، والعربدة الإسرائيلية الأخيرة، وسطح منزل بصحن لاقط (مجعلك) كمظلة كسحتها ريح داهمة، وحمـّام على الشمع (محمد مسلـم).
نجاح عوض الله، حزيمة بشير، أميمة عبد الشافي، حمزة كوتي، فارس البحرة، مصطفى مصطفى، عناية جابر، حمدي زيدان، عبد الوهاب عزاوي، بهيج وردة، سحر مندور، شادي الزقزوق، حازم حرب، هاني زعرب، بهمان غوبادي، آلاء يونس، نسرين بخاري، صلاح أبو الدو، أحمد فارس، عثمان فكراوي.
هنّ وهم بعض شركاء العدد الأخير للـمجلة، منثورون بغير تساوٍ على أبواب لها إشارات ودلالات... "سرد متقطع، قاع الـمدينة، تجارب، قصيدة، قصة، بما إنو، بورتريه، أصوات الجوار، ملامح، فصول، رفوف".
ومن يعرف بعض أولئك الكتاب والتشكيليين يستدل بيسر على أنّ (من وإلى) لا تنتحل ــ أقلـّه حتى الآن ــ أمام قرائها أي غيتو شبابي تبسيطي وفق تعريفات سِنيّ الوجود الفيزيائي للشخص.
رغم أن بعض الـمشاريع الاستشرافية فيها تأتي (آلاء يونس) إنقاذاً للـماضي من تأريخيته الـمزمنة بصيغة "نفرتيتي" ماكنة خياطة فرعونية شغّلت وشغلت أرامل وأيامى الحروب الـمصريات إبان 1952.
أو كشفية فوتوغرافيا أخرى (محمد حرب) لطفل كان عليه أن يمشي على الـماء قبل أن يصل إلى شربة تروي ظمأه. كما يهيئ للناظر.
على أنه يبدو أن (من وإلى) لا تلقي بالاً لـمعاناة جدّاتها العربيات، أو حتى الغربيات الأكثر "إفصاحا" عن بلواهن. مثل (كريستيان ساينس مونيتور) (christian science monitor) و(نيويورك تايمز) (New York Times) و(شيكاغو تريبيون) (chicago tribune) وغيرها من مشيـّدات النشر و"العقارات" الصحافية الـمطبوعة الآيلة سراعا للانترنت، والإفلاس.
فللـمجلة موقع افتراضي على الشبكة الدولية لا تخشى من بث مطبوعها عليه دون كلفة إضافية، ولا تضن بشيء مما "يحبـّر" فيها على متصفحها الالكتروني الذي لا يتحمل أية أعباء مالية على الإطلاق. كيف لا، ومطبوعتها توزع بلا مقابل مادي أصلاً، وتخلو تقريباً من الإعلان والترويج التجاري.
ولعل هذا الأمر دون غيره أثار لدى بعض الدمشقيين بالذات حكة خفيفة في الذقن، خاصة وأن دمشق لـم تلبث طويلا خارجة من "تأميمات" الثقافة و"مجانية" التثاقف. إنْْ في العام الـماضي كعاصمة ثقافية، أو فيما غبر وعبر من "اشتراكية" الفكر ماضيا!.
سؤال الـمنشورات الجديدة حولنا وبلغتنا لـم يعد أقل خطراً اليوم من سؤال الكتابة الجديدة والكتـّاب الجدد، ثالوث يشد بعضه بعضا، أو يرخيه. ودائما نخب قارئ أكثر جدّة، ففاعل مجدد.
ولالتقاط هذا الأخير بالضبط لا مندوحة من انتظار الغد. على أن الغد "أقرب بكثير مما نظن" (نادين باخص).
* الهوامش والاقتباسات والإحالات من مجلة (من وإلى)، العدد التاسع، نيسان 2009، منشورات جيل للنشر، رام الله، فلسطين.

اسحبوا أظافركم جميعا من حنجرة فيروز

لم تكد الإشاعات تستحيل حقيقة عن قدوم فيروز إلى دمشق بعد جفوة قاربت العشرين عاما؛ حتى أزّت في أسماعنا دون سابق إنذار بعض النشازات الممرضة والتي انبرت تدعو وتنادي وتطالب وتناشد بلغة المنفستوات سيدة الصباحات الدمشقية أن تعدل عن قرارها بالقدوم إلى الشام, بحجة أن السلطة في سوريا هي المنظم لهذه الدعوة, تحت غطاء فعاليات دمشق عاصمة للثقافة العربية.
وأول ما يتبادر إلى الذهن عطفا على هذا المنطق المعوج في التعاطي مع الحياة -قبل أن نلصق بها كلمة ثقافية أو سياسية- هو إن كان لكاتبنا الحصيف صاحب البيان المبين وغيره من مفتي هذا العصر
ما يقولونه أيضا وفق شرعتهم فيما تبقى لنا من الهواء الذي نتنفس في هذه البلاد.
أليس الأحرى بنا وسد الذرائع قد آل في تهافته لديهم هذا المآل أن نستنكف


بالمعيـّة عن شرب الماء؛ لأن السلطة هي من يدير عنفات (عين الفيجة)؟!
أليس الأحرى بنا وسد الذرائع قد آل في تهافته لديهم هذا المآل أن نستنكف بالمعيـّة عن شرب الماء؛ لأن السلطة هي من يدير عنفات (عين الفيجة)؟!
وأن نضرب صفحا عن تناول خبزنا كفاف يومنا؛ لأن الحكم الحالي هو من يضع خطط الطوارئ في وزارة الزراعة التي تستنبت على ما يبدو بدورها القمح عرفيا؟!
وأن نمتنع أيضا وأيضا عن دفن موتانا في هذه الأرض, لأن النظام يحتكر الدفاع عن كامل التراب الوطني؟!

من المؤسي حقا أن هؤلاء الناس الذين ما فتئوا يبشروننا بالأمجاد الطارفة والتليدة للمجتمع المدني المنشود لا ينسون في غمرة اندفاعهم المدني الميمون ذاك سوى المدنيين أنفسهم.
ليمسوا بذلك الأقصر إدراكا والأكفّ بصرا عن رؤية خامات وقامات الناس والبشر, لأنهم عندما ينظرون إلى سوريا لا يرون إلا السلطة, ما يجعلهم أقرب في ذلك إلى التهمة التي يرمون السلطة بها من أنها لا ترى سوى نفسها ومصالحها عندما تجلس لـ(تتمرا) في البلاد, لتغيب عن الجميع في النهاية رؤيا البلد للبلد.

كثيرون يفضلون أن يقلقوا من كون رواتبهم قاصرة عن إسعافهم بثمن بطاقة حضور لحفلة فيروز, محملين الحكومة وزر وتبعات هذا العجز المؤلم والخطير لدى العديد من شرائح المجتمع السوري المفقـّر, على أن (يسمّـوا) أبدانهم بـ(ولدنة) من نمط الزج باسم فيروز في سجال لازالت سمة السفسطة التخوينية هي الغالبة عليه حتى الآن بين أقطاب المعارضة منذ الاجتماع الأخير لإعلان دمشق, على الرغم من أنّ من تبرع -غير مأجور ولا مشكور- بإطلاق ذلك النداء الأسود ضد مجيء فيروز؛ لا يمكن بعد المستجدات الأخيرة داخل (الإعلان) عده ناطقا باسم المعارضة كلها, على أنّ هذا الأخير لا يرعوي عن اعتبار نفسه في جـُمله البائسة تلك لا خطيبا فيهم بل متحدثا باسمهم وأعني (جميع السوريين الأحرار) وأنى له هذا.

فبعد كل هذا العجز والخصاء المزمن عن تقديم بدائل برامجية موضوعية وإن حتى من قبيل الاستشرافي الافتراضي بما يتجاوز التظلم والاستضعافية والنق الممض على المستوى السياسي البحت, لانعدم أصواتا تسترسل في مسيرتها العرجاء محاولة أن تقطع عنا غيث البقية الباقية من أمل قد يلوح في ترنيمة (ترندحها) فيروز بملائكية على مسامعنا المثخنة عرائضا وبيانات.
فيروز ليست بحاجة إلى (نداء) كي يفلتر للسوريين صوتها وطنيا, أو (إعلان) كي يلقنـّها وجهتها أيديولجيا, وهي قادرة تمام القدرة على التمييز بين (أمانة) الكلمة التي تحمل, و(أمانة) الكرنفال التي تصوب الدعوات, فـ(نهاد حداد) لم تبني خلال 77 عاما عزيمتها من (العزائم), ومن المعيب اتهامها بعد ما شهدنا من مسيرة حجها الموسيقي إلى الآن بأن ولائها مرهون لـثقافة (الولائم) وموائدها المنزلة على من لا يقرأ.
وما شيوع هذه الأنباء وسواها مؤخرا جدا إلا دليل نافر آخر على أنّ قياس الوقت بالسنوات الـ6 أو الـ7 أو الـ8 بعد الـ2000 أو قبلها مجرد تعلـّة لا تكاد تخفي الاستمرارية التسونامية لهذا السقم والزناخة في ثقافتنا المحلية, سقم لطالما تشكى وتذمر منه من كان بالضبط أمينا عليه وجزء أصيلا آخر منه.

أولئك الذين يحلو لهم التبختر بالنسخة الوحيدة لسجل نفوس (السوريين الأحرار), محتكرين تلك الحرية في استبداد لا يقل خطورة وعنجهية عن الاستبداد المقابل الذي يقفون ضده.
وإذا كانت البيانات والتقارير والتصريحات التي ترصد استبداد السلطة أكثر من أن تعد وتحصى؛ فمن تراه يتفرغ لرصد هذا التسلط والإقصاء المموه الذي ينتف دون هوادة ريش الجناح الآخر للحرية الطريدة.

سنميز بما لا يترك مجالا لشك في (الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية) بين (الأمانة العامة للاحتفالية) و (دمشق عاصمة للثقافة), بالطريقة نفسها التي سنميز فيها في (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي) بين (الإعلان) و (دمشق التغيير الوطني الديمقراطي).
فمعظمنا لا ينتظر الكثير من هذه (الأمانة العامة) لكننا لا نبرح نتعشـّم في دمشق الكثير مما تتعشـّمه هي فينا, تماما مثلما لا نتوقع الكثير من (الإعلان), من دون أن يهز هذا إيماننا بضرورة التغيير.

ولعل هذه التوقعات في حدودها الدنيا -والتي قد تثير حفيظة بعضهم- تكون في صالح الطرفين معا, فتخفف عنهما عبء ما ينوءان بحمله مما تنضح به أسماؤهما الجليلة التي تخيروها لأنفسهم, وتفسح أمام آخرين مجالا هو رحب للمشاركة في كلا الواجبين المتحدين, ثقافيا سياسيا.
هل ساء أولئك القوم حقا أن يروا فيروز وغيرها وهي تـُغنـِي وتـُغنـّي, علها تنفخ في رميم الثقافة (العاصمة) بعض روح.

هل ترانا ننتظر من أولئك المنرفزين أن يفتحوا دفاتر فيروز القديمة ويحاسبونها مثلا على آثامها الغنائية بعد كل تلك الحفلات والمسرحيات التي قدمتها في سوريا (الأسد) وبشكل شبه سنوي حتى العام 1977, ربما عرفانا منها بما منحتها إياه إذاعة دمشق منذ بداية الخمسينات عندما دعاها مدير البرامج فيها وقتذاك الأمير يحيى الشهابي ومنحها يوما أسبوعيا خاصا بها مع الرحابنة الأخوين؟

أم تراهم سيفرضون على الناس تطنيش (صبحيات) الإذاعات الرسمية الثلاث -ناهيك عن الخاصة- والتي لم يجرؤ رسمي أو غير رسمي من مدرائها على إزالة أرشيف أغاني الرحابنة منذ ما يقرب ثمانية عقود من غرفة البث المباشر, رغم كل ما اعترى تلك الفترة من الزمن من تبدلات و(جمودات) سياسية؟
أم أنهم سيجمعون كلا على حدة -مثلما ما عودونا- على مقاطعة هذه المناسبة أيضا -مثل ما عودونا-؟

أتركوا لنا متنفسا خارج هذه المعمة الغبراء, والتي لا يكاد يعرف بعض المنخرطين فيها أنفسهم رؤوسهم من أرجلهم, اللهم إلا عندما تتدحرج تلك الرؤوس في الزنازين وراء قضبان القهر والقمع, أو عندما تنزلق بعض تلك الأرجل في مهاوي ودركات ما تتوهمه صراط (الخلاص).

ولتأذنوا لنا بأن نبترد على الظمأ بشربة الحلم الفيروزي هذه, ريثما يتسنى لكم ولغيركم قص شريط افتتاح الفردوس الإصلاحي الديمقراطي الموعود ميدانيا.

لن يطلب أحد إليكم التعفف عن لعن الظلام, فالعنوه ما طاب لكم اللعن, إنما كونوا على ثقة بأننا سنطالبكم أبدا, بل ونقف في وجهكم إن تطلب الأمر كي ترفعوا أيديكم عمن يحاول إضاءة بعض الشموع هنا وهناك في عاتي الرياح, أقله إلى أن تتعلموا القيام بهذه المهمة النبيلة بأنفسكم من باب التغيير (الديمقراطي أيضا).



2008

ليس كل ما يلمع دراما سورية ...

لم يكن السوريون في يوم من الأيام بعيدين عن الدراما بحال ؛ سواء التي يصطنعونها لأنفسهم أو تلك التي يصنعها الآخرون لهم و بهم , و كلنا يذكر من عهد غير بعيد كيف غزا أحد المسلسلات المكسيكية حياتهم بكل ما تحتمل الكلمتان "غزا" و "حياة" من معان ,

فصار اسم "كساندرا" _البطلة المتوجة لذلك العمل_ يطلق على كل شيء ؛ ابتداء بالمتاجر و السوبرماركات والمكاتب العقارية , مروراً بالعلكة و الشوكولا و السكربينات و ألقاب الدلع لباصات النقل الداخلي , و ليس انتهاء بأسماء المولودات حديثاً لآباء لا ينقصهم التهور , ناهيك عن أول الأخبار و آخر النكات , و لو أن بعض المتنفذين يتابعون على التلفزيونات شيئاً آخر سوى فتوحاتهم الخطابية و إعجازاتهم المنبرية ؛ لكان ثمة احتمال كبير لأن ينتهي بنا الأمر ذات صباح مواطنين في جمهورية "كساندرا" (الديموقراطية ربما).


كان ذلك في الماضي , أما الآن فصار للسوريين ما يشغلهم محلياً بعد تلك الفورة, (الثورة , الوفرة , الطفرة).. الدرامية أو أي اسم آخر برسم الاجتهاد , كلها لتوصف تلك الحال التي نعيشها و تعيشنا على شاشة التلفزيون يومياً , إن لم يكن على مدار الساعة.

لكن غياب المشروع الفكري لا وبل أحياناً الإبداعي التقني عن كم غير يسير من هذه الأعمال , و طغيان الهم الربحي الصرف على مشاغل القائمين عليها و بها , ألزم غير مرة التحقيق والمسائلة .



لقد جاء الانفلاش الهائل في فضاء البث العربي ليضع هذه الدراما أمام تحد لم تكن عناصر استعدادها له قد بلغت تمامها بعد , فعلى صعيد الحرية الافتراضية التي كان مؤملاً منها أن توسع أطر الخطاب الإعلامي العربي ؛ بدا السوريون متلعثمين في منطوقهم الدرامي , منفعلين و منتظرين أسوة بغيرهم في البلد أن تسفر حمى الطلق المستعرة من حولهم عن ولادة ما , تتقاذفهم هبات رياح ما اصطلح عليه بالتغيير , والذي كان أقرب إلى التحيير منه إلى أي شيء آخر.

أما على صعيد التمويل و الإنتاج فلم تكن الصورة رمادية تماماً , فالدراما كصناعة _أو تكاد_ لم تعول على ما يبدو على الاقتصاد المحلي الأعرج , والذي اتضح أن انشغال القيمين عليه تداولاً إلى حد أكثر من بعيد إنما كان انشغالاً لغوياً (بضم اللام و فتحها) بين اشتراكي , واجتماعي , مفتوح أو مغلق ؛ أكثر منه انشغالاً بالاستراتيجي والمنهجي , و عليه يمم صانعو الدراما وجههم شطر التمويل و من ثم التسويق الخارجي_ إن كان ثمة ما يزال خارجي بهذا المعنى _ الأمر الذي أدى لاحقاً و كما أظهرت السنوات العشر الأخيرة إلى طرح الدراما السورية كأسهم _ بخسة أحياناً إن على مستوى المادة أو المضمون _ في بورصة شرسة كان للمال الخليجي فيها القدح المعلى . وهكذا أصبح للشرط الاقتصادي الإنتاجي الكلمة الفصل في تحديد الكم العددي , و الإطار الزمني , و نافذة العرض لإنجاز و إيصال تلك الأعمال إلى جمهورها .

كالحاصل مثلاً في شهر رمضان , و الذي استحال إلى سوبر ماركت سنوية بأكداس مسلسلاته الثلاثينية الفضفاضة , دون أن يسهم دخول عدد من العاملين الأصلاء في الحقل الدرامي من ممثلين و مخرجين على خط الإنتاج من تحسين هذه الشروط إلا لماماً .


على أن هذا الصنف من الأعمال لم يعدم رغم كل شيء جمهوراً أزلي الوفاء و القناعة , و جاهزاً _ ما شاءت له الطوارئ _ للجلوس لساعات ماراثونية خلف جهاز التلفزيون , متماهياً مع الأبطال و الضحايا الذين تقترحهم على أحلامه و هواجسه أزرار الشاشات المختلفة .

ولم يكن خافياً أن هذا النوع من الإنتاج قد انتحى جانب التاريخ و الفنتزة كمخرج براغماتي يوفق بين شراهة السوق ممثلاً بالفضائيات العربية النامية ؛ و الرقابة الرابضة التي تناسلت رقابات عديدة طرداً و أعداد المحطات و توجهاتها , الأمر الذي فرض على المشاهد قراءات معكوفة وملتوية لهذا التاريخ , متجنية طوراً , طهرانية أطواراً أخرى , مع العجز الفاقع لهذه الطروحات عن الصمود زمناً أطول مما أراده لها أربابها في العرف و السياسة .

و كلنا يذكر هبة المسلسلات التي أفرطت في تناول الحقبة العثمانية , لتشبعها تحميصاً و بحشاً أكثر منه تمحيصاُ و بحثاً , و من ثم ارتداد تلك الموجة على أعقابها حد التلاشي بعد و بين قوسين (التحسن) في العلاقات السورية التركية و الذي _ وأقصد هنا هذا التحسن بالذات _ قد تفوق بأشواط على خيال أي كاتب درامي للسيناريو أو التاريخ صادف و كان مستيقظاً في تلك المرحلة .

أما المتابع للمعاصر من مسلسلات هذه الإنتاجية فعليه و قد أدركها أن يتمنطق ذخيرة غير يسيرة من المعاجم و القواميس , و يستل ما تطال يداه من عدة جلب الغائب و فك المربوط , كي يستعين بها على سبر طلاسم و خوارزميات العمل الفني , الذي لا يتوانى عن أن يرمي في وجهه و بلا هوادة كميات لا يستهان بها من الرموز و الإيحاءات و الإسقاطات , لينتهي الأمر بالمشاهد بعد طول عمر خريجاً صلداً لا يشق له غبار ؛ إما في ترصيص الشيفرات و المكوّدات , أو في تفصيص البزر و القلوبات , في حالة من الاستلاب الوجداني و المعرفي تتركه فريسة سائغة لباقي برامج التلفزيون الموجهة , و الأعتى خبرة في التفريغ والتجريف.

فقد كان الفرق و لا يزال جد شاسع بين سبر آفاق الهوية الوطنية و التسلح بمعرفة ما مضى لمواجهة الآني والآتي ؛ و بين الاتكاء على جدران آيلة للسقوط أو هي سقطت فعلاً , بانتظار جلاء الرؤية .


إلا أن ذلك كله لحسن الحظ و كنتيجة _ متأخرة ربما إنما ليست بحال مفاجئة _ لم يحل دون تنامي فئة أخرى من المتابعين باتت أكثر انتقائية و تطلباً مما تشاهده , و إن لم يكن ذلك تماماً بفضل الإعلام مرئياً أو مقروءاً كان أم مسموعاً , و لا بفضل البرامج النقدية و التحليلية ؛ بقدر ما كان بدافع الملل من التكرار و ضيق الوقت المعاشي . ذلك أن الإعلام السوري قد أظهر عجزاً مخزياً عن مجاراة الزخم الدرامي , نتيجة نوسانه المرضي المزمن بين المديح والهجاء , و عدم تمكنه لا أولاً و لا أخيراً من طرح وجهة نظر علمية موضوعية , تقوم بدورها أساساً بتقويم هذه الأعمال الفنية بعيداً عن المصالح الشخصية و الشللية و الزيت الشخصي العكر .



غير أنه لا يسع المرء إلا و أن يقر لبعض هذه الدراما بإسهامها بقدر ما في تغيير النظرة المجتمعية التقليدية تجاه جملة قضايا _ قد يكون منها عمل المرأة , و معضلة الفساد ، بل حتى تكريس الفن الدرامي نفسه _ أو على الأقل البدء في طرح مقدمات آفاق أخرى كبدائل محتملة للتعاطي مع بعض هذه الأمور , بانتظار نضوج الظروف الموضوعية لتطور طريقة تناول تلك المواضيع والدراما في آن.

فراحت الأعمال المنتجة _ و لا سيما الحديثة منها _ في تواترها المتصاعد ؛ تتبارى على لمس هذا السقف , والأكثر طموحاً منها ربما حتى على رفعه , و بالتالي تم تجاوز بعض هذه الخطوط التي طالما نعتت بالحمراء في سياق العمل الدرامي , إن لم يكن من خلال الفعل و تطور الحدث و الشخصية ؛ كان شفاهة عبر السرد و الحوار.

بيد أن الترهل النقدي الذي سبقت الإشارة إليه أجبر الدراما على أن تواصل السير على قدم واحدة في مواجهة كل ما سبق , ناهيك عن المعوقات المجتمعية الأخرى التي لا تقل عناداً و تسلطاَ , ممثلة بالأعراف السائدة , و التفاوت الطبقي المستفحل الذي حرم الدراما _كما حرم غيرها من قبل!_ مساندة و دعم طبقة وسطى متلاشية يفترض بها القيام بدور الحامل و المحرض لأي جهد تغييري حقيقي تكون هذه الدراما بالمقابل انعكاساً أميناً له , و التي عندما تحاول أن تكون كذلك فعلاً ؛ لا تسلم من تدخل الرقيب حكومياً مرة ليشذب بمقصه الرشيق و يقلم مثلاً قرون بعض الغزلان في غابة الذئاب , و مجتمعياً أخرى معترضاً بمهابة على تشخيص بعض الرموز الدينية على الشاشة , كما حصل مع غضب متدينين من إحدى الطوائف من وجود غسان مسعود في دور الإمام الرضا أمام أبناء الرشيد .


لكن القافلة هنا عودتنا أن تسير إن بكلاب نابحة أو بدونها , فنقرأ مثلاً في نَفَسٍ واحد "" أن ال( mbc ) و هي من هي ؛ إحدى حيتان الإنتاج و البث الفضائي , تسعى بل و تقوم عملياً _ بتوظيف ثلاثة مخرجين سوريين بغية الانتهاء بأسرع ما يمكن من (13) حلقة من أحد الأعمال , و قبل أسابيع ثلاثة فقط من رمضان (المبارك) , حيث انكب كل من هؤلاء الثلاثة و بالتزامن على تصوير جزء من العمل , ملتهمين جهد كتبة السيناريو الذين كان المطلوب منهم أن يرموا في كل يوم حلقة ناجزة على مكتب المنتج , ليصار إلى تصويرها على الفور في اليوم التالي , دون أن يتاح للممثلين حتى مجرد الإطلاع عليها مسبقاً , لتعرض الحلقة التي يتم الانتهاء من عملياتها الفنية في اليوم الذي يلي ذلك مباشرة على الشاشة .... "" (من دون إشارة تعجب).


و ختاماً _ و قد لا يكون _ فإن غياب التخطيط الإعلامي و النظرة الإستراتيجية البعيدة لآفاق العمل الدرامي عن أولئك المهتمين أو المتلبسين به ؛ لا يمكن أن يجعل من الدراما السورية سلاحاً في أي مواجهة سواء كانت اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية , بل إن ذلك يهددها حتى في غايتها الأدنى منالاً و المتمثلة في الإمتاع والتسلية _ إن كان لنا أن نفترض ذلك حتى _ مع قلة البدائل الأخرى حد الندرة من مسرح و سينما و موسيقى , و غياب طقوس أي منها عن حياة الفرد السوري .

و هذا الإعلام نفسه إذا لم يرتق ليمارس مهنيته بحرية , خالعاً عنه صوتيات شعاريات منهَكة منهِكة , و خارج أطر المخلد من طوارئ و عرفيات , معبراً بصدق يلزمه عن طموحات و هواجس من يمثلهم بموزاييكهم الفريد ؛ فلن يتأتى له يوماً أن يهيئ المناخ الصحي ليس أقله لدراما فاعلة .

أمَا أولئك الذين لهجوا بالدفاع عن عصمة شخصيات و أحداث , فعليهم أن ينتبهوا _ و غيرهم الكثير _ إلى أنهم جميعاً لم يكونوا معصومين أنفسهم على سبيل المثال في ذلك اليوم من "أيام شامية" أو تلك الليلة من "ليالي الصالحية" , عندما أنفقوا بلا حساب على أبنائهم لا "أبناء الرشيد" لشراء الخناجر و الشنتيانات _ من البلاستيك لحسن الحظ_ أو عندما راحوا يراقبون صغارهم بمزيج من الدهشة وقلة الحيلة و هم يشحطون أقدامهم في الشوارع شحطاً مؤتسين بمشية "الزعيم" .

لقد نجحت الدراما في تقديم السوري ممثِلاً أكثر مما قاربته ممثَلاً , و أنا هنا لا أحاول أن أضع "المخرز" في عين أحد , بقدر ما أنا متورط ربما بالقول : ( كما تكونوا يسلسل عليكم ) .




2007