2015-04-28

علاء رشيدي.. اقتحام هادئ لكواليس الثورة




"اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد" مجموعة قصصية للكاتب السوري الشاب علاء رشيدي صدرت حديثاً عن دار "أطلس". 

مجموعة لا يبدو أنّ كاتبها كان مفتوناً لدى عمله عليها بإعادة اختراع عجلة الكتابة، أو حتى مجرد تجريب قوالبها الأكثر تداولاً. عوضاً عن ذلك يدخل رشيدي في نسق حكائي يترك له حرية انتقاء الزي السردي الذي يريد أن يظهر، أو يتنكّر، به.

هناك راو مراقب ورزين للحكاية، وهناك الشخصية التي تحكي قصتها بنفسها وكأنها لا تثق بأحد آخر لأداء هذه المهمة. حوارات مسهبة على الـ"سكايب"، ورسائل بريد إلكتروني، وربما فصول متوالية لقصة ممسرحة. قد يُستدرج القارئ إلى هيولى أحلام قلقة وهلوسات سائلة، ليجد نفسه في الصفحة التالية وهو يطالع فهرساً (حرفياً) لأحداث القصة اللاحقة وكأنه تبويب تقرير أكاديمي. والمحكية لغة للحكاية أيضاً إلى جانب الفصحى.

قوالب وتقنيات متعددة بتعدد شخوص الأحداث المروية التي يتورط الكاتب في توثيق مساراتها وأهوائها، أدبياً هذه المرة، إنّما من دون أن تفقد للحظة ارتباطها العضوي بما يُحكى، حقيقة، على الأرض السورية، وعنها. لنلج مع الكاتب بسلاسة أقبية الحراك الشعبي في البلاد، ونحلّق فوق أسطحه التي ستنهار "سلميّتها" في المستقبل الذي يبدأ مباشرةً بعد طي الغلاف الأخير للكتاب.

اقتحام هادئ لكواليس "الثورة" عبر ثماني قصص طويلة، يبدو وكأنّه يحدث اعتباطاً، دون قصدية مبيّتة، من خلال لغة وصفية متقنة، ترتكز على تفاصيل قد تكون متخيّلة تماماً في تتابعها وفضاءات حدوثها، غير أنّها تلمس في الذاكرة الجمعية المحلية خلايا حنينٍ ما زال غضّاً على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.

يكتب رشيدي عن جثث بلا هويات تتوافد إلى منزل فرضت "قواعد اللعبة" على أهله أن يخصّصوا إحدى غرفه لتكون مشرحة مرتجلة، تستريح فيها الأجساد الهامدة ريثما يتم نقلها إلى غرفة أخرى تستحيل بدورها، بين عشية مظاهرة وضحاها، إلى ورشة "روتينية" لخياطة الأكفان، وبحضور ثلاثة أطفال يعتادون هذا الـ"ديكور" الطارئ الرهيب الذي لا يعرف البالغون إلى متى سيستمر.

وهنا لا يجد رشيدي حرجاً من تناول أُناس يستقبلون مصائرهم الجديدة كما يستقبلون بالخطأ مشروباً ساخناً لم يطلبوه من النادل الجديد:

"توقعنا في ذلك اليوم عدداً أكبر من الجثث المجهولة، وحضّرتُ في ذلك النهار ثلاثة أو أربعة أكفان. مساءً، حين لم يصلنا إلا الجثة رقم 15، لم نكن نعرف ما يجري حقيقة في المدينة" (حكاية فريق الموتى).

أمّا في "أسماء مستعارة للمغامرة، أسماء مستعارة للحنين" فتبدو جميع الشخصيات، التي تتفاعل مع بعضها بعضاً عبر البريد الإلكتروني، مربوطة بخيط استعادي، لا يشد إلى الوراء بقدر ما يستدعي قراءة أخرى لما كان ومضى، وكأننا بالكاتب يحاول أن يطلعنا على "مواهبنا" الاستشرافية التي التبست علينا دهراً، وفقدنا النسق المنطقي للاستدلال بها في حينه؛ أو لعله يضيء لقارئه الزمن "المضارع" الذي ليس في النهاية سوى البرزخ الذي تلتقي فيه لحظتا تحقّقِ النبوءة وانقضائها: 

"قامت الثورة وأنا شغّلت هالكاميرا، بس أُصبت بصدمة. لأنّو حتّى وقت بْصوّر وفاة شهيد عم يلفظ أنفاسو الأخيرة؛ ما بحس حالي عم صوّر شي جديد. بحس وكأنّو عم صوّر أشياء كنت إحلم فيها من زمان، من قبل ما يموت الشهيد".

يتقمّص رشيدي دواخل سكّان قصصه بحساسية "إجرائية" بالغة، وكأنه ينقل عن "موديل" واقف أمامه، أو هو مرّ منذ برهة وجيزة قربه؛ مثل ذلك التفصيل الدقيق المتمثل بإيراد أخطاء "زنجار" (أحد شخوص القصة السابقة) في الإملاء كما هي، وهي الصحفية السويدية التي تتخفّى وراء اسم مستعار، وتحاول كتابة رسائلها إلى أصدقائها السوريين في الداخل بالعربية التي ما زالت في طور تعلّمها.

بيد أنّ تقدير هذه الحساسية "اللغوية" بالذات، إلى جانب استخدام العامية في بعض النصوص، يشوّش عليها أحياناً وقوع الكاتب الشاب في بعض الهنات اللغوية، إملاءً ونحواً، في النصوص المعتمِدة على الفصحى، ما ينغّص إلى حد ما استمتاع القارئ وتركيزه على هذه الميزة بالذات، خاصة عندما يتمدد السرد، وتبدو الجمل بحاجة إلى من يضع لها نقطة على السطر.

على أنّ رشيدي لا يقف عند التوثيق الرومنطيقي لـ"ثورة" كان قد حسم أمر انحيازه لها باكراً في سطور نصوصه الأولى؛ بل يفصح بأمانة عن مطامح وتوقعات "ثوّاره" أنفسهم، ويأخذ حديثَ الانتفاضة السورية إلى مستويات يتم تجاهلها، سهواً أو عمداً، من قبل كتّاب آخرين في الحراك. إذ تصرّح مثلاً إحدى شخصياته بالقول: 

"إنّ ما يحدث في سوريا، وخصوصاً في باب النهر، ليس ثورة، إن لم تحرّر المثليين والمرأة. إن لم يتغير القانون الذي يعاقبهم على رغبات الجسد".

"اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد" (منحة "الصندوق العربي للثقافة والفنون"، 2012) مغامرة في الكتابة، ومغامرة في استكشاف دهاليز الحراك الشعبي المنفلت في البلاد، وبرهان جديد على أنّ "الإبداع" الفني المنبثق عنه، والذي بدأت بواكيره في الخروج إلى النور مؤخراً، يملك حساً نقدياً اجتماعياً عالياً، ومكاشفةً لا تكترث بالحسابات السياسية المبتذلة. 

وهو أمر يفتقر إليه دون شك "إبداع" الطرف الآخر، الذي سيبدو بالمقارنة محافظاً، مطموس الملامح بالمانشيتات، والخطابيات المائعة، ومتمترساً وراء لغة إعلانيّة لا تخاطب في الجسد سوى الأدرينالين، ولا في الروح سوى ثقبها العدمي الأسود.

ومن هنا يلتف الكاتب بمهارة على الإنشائيات الإخبارية والتحليلية ليضع القارئ على الكلمة التي كانت في البدء: "تهلّ الخفة على أعضائها كشلال، وتنسى الوجود، كأنّها تتحرر من ثقل الماضي. وفي الوقت ذاته، من قلق المصير في المستقبل. وفقط حين يغيب هذا المستقبل، تتوهم جمانة أنها قادرة على الطيران". (الضحية تنتصر بالبراءة).



2015-04-15

سمير الصايغ.. كلّما اتسع "الخط" ضاقت العبارة


نقف أمام لوحات سمير الصايغ الحروفية في "غاليري أجيال" البيروتي، ونشرع بطريقة آلية في ممارسة ما نعتقد أنه فعل ضروري لتذوقها، أي القراءة. إعجابنا بالشكل لا ينقذنا سريعاً من الوقوع في "فخ" ما أُسقط في وعينا عبر زمن مديد أنّه أساسي للاستمتاع بلوحة خط عربي. فلا مندوحة، بحسب تلك النظرية، عن فهم الكلمة المرسومة، أو إحالتها إلى مرجعيتها المقدسة، أو الشعرية، أو حتّى حكمتها المنطوقة، حيث النص سيد، والخط خادم.

ولمن قرر الاستكانة إلى هذه الخلاصة؛ لا بأس من أن يفوّت على نفسه فرصة الذهاب إلى معرض "ألِف بحروف كثيرة" (يستمر حتى 28 حزيران/ يونيو)، الذي إن كان يحاول شيئاً ما هنا، فهو ذلك العمل الدؤوب والمتواصل على تخليص هذا الحرف من تلك القراءة.
38 محاولة (عدد لوحات المعرض) لترسيخ طلاق قائم بين كلمات أضاعت معانيها لكثرة التداول والتكرار اللَغوي، وبين حروف باتت تلبسها تلك الكلمات كثياب مستعملة منذ أمد. في سبيل إتاحة فرصة للعين كي تلتقط شيئاً آخر غير المعنى، وتضيء في الوعي مساحات بصرية للتشكيل ردِمتْ بفعل الاستخدام النمطي للخط.

يقوم معرض سمير الصايغ (1945) في كثير من مرتكزاته المعرفية على مقولة إن الحرف العربي جاء لاحقاً على الصوت اللُغوي، ولم يأت في غاياته الأولى بقصد الإفهام والتبيين، بقدر ما كان فعلاً تزيينياً، وإنشاءً بصرياً محضاً، سعى للاحتفاء بالنص السماعي "المقدس" منذ أن خُطّت المصاحف الأولى. أي أنّ الحرف أضاف إلى النص الملفوظ، وجاء بكينونته التشكيلية المستقلة ليلتحم إرادياً بالمنطوق الشفاهي، ليجعل له أبعاداً ملموسة فخمة، ووعاء منظوراً، وفق رؤية تمجيدية فنية وجمالية.

فالسطر سطرٌ، لأنه مسطورٌ، لا لأنه مجرد مناخ لناقة اللغة السارحة. والجمع بين كتل الكلمات المرسومة، مبني على علاقة تتال، وتتابع، وانفكاك، بين وحدات "حروفية" تأتلف وتتكون بشكل حرّ، لا لضرورة أن تُكتب، أو تُقرأ.

إشكالية يعانِدُها كثيرون، حتى من بين أولئك الذين ألِفوا على نحو ما "خطّ" صايغ في العمل، والذي لا يريد للناظر أن يرى سطوحاً ملساء ببُعدين أو ثلاثة، كواجهة لنص. لكن مع مرورنا المرة تلو الأخرى أمام اللوحات، ومع بعض المران الروحي، تبدأ الحروف في فرض شخصيتها التجريدية على العين: "الفاء" تابوت مع شاهدة مستديرة محلّقة، وزاوية بيضاء، وليس في "النعش" والـ"تابوت" "فاء"، و"التاء" مربوطة بأضلع مرفوعة على أكتاف صندوق مذهب، وليس في الصندوق "تاء".

أكريليك على قماش، 150 × 100 سم

الحرف، في عرف المحاضر في فنون العمارة والتصميم (الجامعة الأميركية في بيروت 1993-2007) فرس أصيلة بذاتها، لا مطيّة طيّعة، فحسب، للغة. يلوي خطامها الكاتب أو القارئ وفق ما يشتهيان. وعليه يأخذ الفنان على عاتقه مهمة إعادة الحصان إلى بريته الأولى، ويحتفي بغجريته المنفلتة من مهماز السائس الذي قصّ شعره، وقصّر رسنه، وأطال ركوبه.


والصايغ إذ يستعيد الالتماعة الأولى للحرف، وينفخ في جمرتها التي صار لها من العمر ألف عام؛ يحثنا من باب سرّي على معاودة اكتشاف القراءة ذاتها، عبر استنطاق الخط الطولي المستقيم، الألف، بأكثر مما قد تمنحه النظرة العارضة من انطباع المحدودية، أو الالتزام والتأطير. فالألف تنحني، ويلتوي خصرها، وتخرج من عموديتها، غير الشعرية، لتنحني معها القراءة، نحو أبعاد في المعنى ما زالت عذراء.

الخط ليس فعلاً مبسطاً للمباشرة، هدفه التيسير والشرح، بل هو كمون تجريدي في وحدته الأساس (النقطة المربعة) حيث تتبدى جذور مغامرة صايغ الحروفية أمامنا وهو يحدثنا عن مغامرة أكبر بدأت في ستينات القرن الآفل، مع "الحداثة" التي أراد رفعها وصحبه الأوائل (أدونيس، وأبي شقرا، والخال، والماغوط، وغيرهم) كبيرق، فإذا بها جلموداً مقدوداً من صوان، أردتها "ردّة" الحرب الأهلية، ورجعية أغلب من خاضها (من منطلقات "تقدمية") إلى قعر الوادي العربي المقفر.

فلم يتبق لنا سوى أنصاف الجمل: نصف مراجعة للتراث، ونصف استشراف للحداثة، ونصف أنسنة، ونصف مدنية، ولكن، اسبارطية كاملة. وما المزاج السياسي والثقافي "التعبوي" اليوم؛ سوى توأم متأخر عن شقيقه "الستيني"، مع انتفاضة غالبية "الشعب"، وخمود غالبية "النخبة".
إذ يرى الصايغ أنّ الكثرة الكاثرة من التجارب الفنية التي نادت بالعودة إلى "التراث"، كانت مجرد صدى للتطلعات السياسية وقتها، اتصالاً وانفصالاً في آن معاً: مع الهوية، وضد التبعية، مع التقدم، وضد الاستعمار. وما اقترحته الأحزاب من العشرينات إلى الأربعينات في السياسة، كان نفسه الذي تردَّد في الفن والثقافة عموماً.

إذ أنّ "النضال الحروفي" للناقد العتيق (في "مواقف"، و"لسان الحال"، و"فنون عربية"، وغيرها) لا يقف عند حدود لوحة الخط، بل يتجاوزها إلى الماورائي السياسي والأيديولجي الذي حرك لزمن طويل أقلام وريش "الخطاطين" الذين ساروا، بقصد أو عن غير قصد، في سيله الترويجي الجارف، والتي كانت إحدى موجاتها العارمة مكرسة على امتداد "رقعة" الإمبراطورية العثمانية، التي "نجحت" في تخريج "صُنّاع"، و"حرفيين"، أكثر مما خرّجت من "فنانين"، بما تنطوي عليه الكلمة من مضامين الإبداع، والإقدام، والخروج على الأطر المرسومة بمراسيم لم تشرع حينها سوى للانحطاط الثقافي في أواخر عهدها الزائل.

ولا يخفي صاحب "الفن الإسلامي: قراءة تأملية في خصائصه وفلسفته الجمالية" (1988)، و"الفن التشكيلي المعاصر في سوريا" (1998) تبرّمه من "أتقياء" التيار الحروفي الذين قنعوا من محيط الخط العربي باغتراف على السطح، وزهدوا في كنوزه التي لا ينالها إلا غواص صبور. فنادرون هم من اتصلوا بابن مقله، وياقوت، وابن البواب، وقره حصاري، والواسطي، وبهزاد. ومن فعل منهم ذلك، فتلمذة على يد كاندينسكي، وبول كليه، وماتيس، الذين قطعوا مسافات طويلة إلى دمشق ليتعلموا، فيما كانت الشام نفسها على مرمى ريش وأقلام أولئك الخطاطين العرب. ولهذا لم يكن غريباً أن يتحول الخط العربي، بسذاجة، من تعبير عن الهوية الحضارية إبان الاستقلال؛ إلى رمز أصولي باهت اليوم، بعد انقلاب الساسة، وتقلّب السياسة.

"المعلّم" الذي ابتعد عن اللوحة لزمن، يعود اليوم بديوان شعر كأنما أملي عليه (بعد "مقام القوس وأحوال السهم" 1980، و"مذكّرات الحروف" 2003)، وهو الشاعر الذي توقف عن الكتابة لنستعيده بيننا اليوم رساماً خطاطاً. ويحمل الديوان الجديد اسم المعرض نفسه "ألف بحروف كثيرة" (دار كاليغراف - بيروت).




2014-10-20

فيلم "بلدنا الرهيب": سفر خروج "المثقف".. إلى "الثورة"






ليست رحلة يسيرة تلك التي يقترحها علينا الفيلم الوثائقي السوري "بلدنا الرهيب"، للمخرجين محمد علي أتاسي وزياد حمصي. فالشريط الذي قدّم في عرض أول مؤخراً في بيروت، يتعرّض لجزء من مسيرة الكاتب السوري المعارض ياسين حاج صالح، الذي يقرّر مغادرة الغوطة الشرقية الخارجة عن سيطرة قوات النظام القمعي، متوجهاً نحو مدينته الأم، الرقّة، والتي سرعان ما سيكتشف، استحالة البقاء فيها، بعد أن عاثت فيها المليشيات الإسلامية المتطرفة قطعاً للأرزاق والأعناق.

يوثّق المخرجُ الشاب، حمصي، الرحلة التي قد تتخذ في أي لحظة منعطفاً يهدد حياة الجميع. ليعبر مع حاج صالح هضاباً وفيافٍ نحو الشمال، حيث يدخل المخرج الثاني، أتاسي، على خط العمل، في وقت يقرّر حاج صالح مغادرة البلاد نهائياً إلى تركيا.

يبدأ الفيلم بسلسلة لقطات مؤلمة للدمار الخرافي الذي آلت إليه مناطق شاسعة من البلاد بسبب الحرب الدائرة، قبل أن نجد أنفسنا داخل المنزل المتواضع الذي كان يعيش فيه الكاتب المعروف مع زوجته (سميرة الخليل) في الريف الدمشقي، حيث تبدأ قصة الشريط. 

ينتاب المرء للوهلة الأولى إحساس مشوِشٌ بأنه بصدد مقابلة تلفزيونية، وأنّ الكيمياء المهنية بين المصور الشاب وحاج صالح ليست في أفضل أحوالها، وذلك فيما يحاول حمصي تقديم "الحكيم" لجمهور فيلمه عبر أسئلة تعريفية واستيضاحية.

على أنّ هذا المأخذ الأولي، سرعان ما يتوارى وراء جهد حمصي في التقديم السلس للبيئة "الثورية"غير المستقرّة، بين عسكرة وحملات تطوعية، والتي يتحرك حاج صالح في إطارها.  إنّما مع بروز عثرات المنهجية السينمائية التي اعتمدت من قبل واضع السيناريو، أتاسي، لتقديم ثيمة العمل ككل، وهي دور المثقف في مفصل تاريخي راديكالي من حياة المجتمع الذي ينتمي إليه، مجسَداً بالحرب الأهلية، ومن قبلها الثورة، لا أقل. وهي معضلة لا يُحسد أحدٌ على التنطح لها. 

فالتحدي الماثل أمام وثقائي يلاحق شخصية مثل حاج صالح، هو وضع استراتيجية للتعامل مع مثقف كبير ملمّ بـ"لعبة" الكاميرا وأحابيلها، سواء أنْ انخرط فيها أم لا. وهنا نلمس منذ البدايات انتصاراً للبطل على الإخراج، لتمكّن الأول من فرض تقنية الروي الخارجي لنصوص وضعها ونقّحها وتلاها هو نفسه، بعيداً عن منسوب التلقائية الذي كان يتوقعه كثير من الجمهور أن يأتي أعلى مما كان، أو مما هو موجود في كتابات المثقف المتاحة هنا وهناك أصلاً.

ملاحظات أخرى تشكك في وجود سيناريو واضح لدى أتاسي، تتمثل في المشهدية المتواضعة التي 
يقترحها علينا لأحداث لن تتكرر في حياة حاج صالح الذي أمضى جلّ عمره إمّا بين جدران سجون الطاغية الأب، أو وراء حواجز السلطة الأمنية التي منعته لأعوام من السفر. وهاهو الآن يغادر سوريا، أمام الكاميرا، ويحلّق في طائرة، ويركب "مترو"، للمرة الأولى، فيما لا نرى في العدسة المرافقة له "سينما" تليق بتلك اللحظات.

بيد أنّ الفيلم ينعش فينا، في أماكن أخرى، نزعتنا المستترة أحياناً نحو تفكيك رمزية مشهدية تبدو وكأنّها وحدها الشاهد على عفوية مستحقّة في الشريط. 

فنرى في إحدى اللقطات المشادّة الكلامية التي احتجّ فيها صاحب المطعم الحلبي في تركيا على اعتراض حاج صالح على فاتورة طعامه. وقبلها مشهد حملة التنظيف التطوعية (الفاشلة) في دوما "المحرّرة"، بسبب تلهّي الناس بالكاميرا وفق تعليق حاج صالح، وما رافقها من تحفّظ أحد وجوه المجتمع المحلّي على خروج سافرات في الشارع، رزان زيتونة وسميرة الخليل. (كلتاهما ستختطفا لاحقاً على يد ميليشيا إسلامية مجهولة)

إذ يصعب على المتفرج أن يتجاهل تلك الفجوة بين المثقف ومحيطه، في اللقطتين الأخيرتين، واللتين تنتهيا بـ"استسلام" المثقف (حاج صالح) ومغادرة الموقعين، دوما والمطعم، دون مزيد نقاش. 

وتعبير "استسلام" هنا مقتبس عن فتاة ظهرت في الفيلم، واستخدمته لوصف قرار حاج صالح بالخروج من سوريا إلى اسطنبول، ليأتي تبرير الأخير بالقول:"ولكنني لست سياسياً، ولا عسكرياً، ولاحقوقياً". مفترضاً أن لهؤلاء وحدهم دور في "الداخل"، ومناقضاً ذاته في لقطة أخرى يقول فيها: "أحسّ أني لا أفهم خارج سوريا. كنت أفهم في سوريا". فهل المشكلة حقاً في المكان نفسه؟ وأين هو "التجريد" الفكري الذي يعيننا على الفهم، خاصّة وأن التعليق يأتي على لسان من يُقدّم عادة بوصفه "مفكراً" سورياً، ويُلصق به بغير رضى منه، لقب "حكيم الثورة"؟


 من جهة أخرى، تبدو المعالجة الدرامية للخطّين المتوازيين في مسيرة جيلين من المثقفين، حاج صالح وحمصي، التي يقول تقديم الفيلم إنّه يتطرق إلى إشكاليّاتها؛ ملتبسةً بدورها ضمناً، ويحددها فقط دخول أتاسي إلى الرقّة، وتوليه زمام التصوير بدلاً عن حمصي، والتحوّل المفاجئ للمخرج الشاب، إلى شخصية مشاركة في الفيلم، من دون حامل بصري ممهد لإسهام هذه الشخصية المستجدّة، عندما كان لا يزال في الغوطة مثلاً.

بل وسرعان ما يغيب حمصي عن العدسة لاضطراره إلى العودة من حيث أتى، حيث تتشكّل كلّ دراماه الشخصية المواكبة لتصوير الشريط، من اختفاء أحد أقاربه، واختطافه هو شخصياً من قبل ميليشيا "الدولة الإسلامية"، ومن دون وجود كاميرا مرافقة توثّق تطورات هذه الأحداث الهامّة، ليظهر، فجأة مرّة أخرى، لمجرد أن يتلو شهادته، وهي على أهميّتها لا تختلف "سينمائياً" عمّا تعودنا رؤيته في شهادات آخرين على "يوتيوب".

على أنّ حمصي لا يخفي في السياق ولعه "المبدأي" ببطل فيلمه، ليصبح الشريط برمّته مُنتجاً لمخرِجَين تربطهما علاقة سابقة ما بشخصيتهما الأساس، متناوبين عليها بين صاحب ومريد، آخذين في الاعتبار "الرفاقية" التي جمعت يوماً أتاسي بحاج صالح. لينحو الشريط إلى تكريس مشهدية تطويبية لما هو ناجز أصلاً، أكثر من اهتمامه بطرح أسئلة أعمق وشائكة حول علاقة النخبة المثقّفة بمحيطها الاجتماعي. وليكون الفيلم شريطاً إضافياً على رفّ ما يسمى بسينما الـ"هاغيوغرافي" (سِير القديسين)، مقابل سينما الـ"بيوغرافي"، والتي تحاول غالباً مقاربة حيوات أناس من سلالة المشاة على الأرض.

ويتصادف في هذا السياق أن تقع عين المرء على مقابلة فلمية قصيرة أجرتها مجموعة "أبو نضارة" مع حاج صالح في وقت أسبق، وعنونتها بـ"المثقف وشبيحته"، والتي يقرّ فيها حاج صالح، ضاحكاً، بوجود هؤلاء فعلاً.

بقي حاج صالح متوارياً في العاصمة قرابة العامين ونصف العام، وللعواصم دائماً حسابات أخرى في هذا السياق تتكشّف خصوصيتها لدى الانتقال خارج سواترها المدينية، حيث لا "عاصم" من جلافة التناقضات الثقافية وإقصائيّتها في ظرف متطرف كالحرب الأهلية. لتنحسر قدرة المثقف "الغرامشي" على الصمود من أشهر هناك، إلى أسابيع وأيّام خارجها. 

فما إن يضع المحلّل النخبوي أول إصبع على المعطى الاجتماعي المستجد بعد "ثورة" فاجئته ضد نظام يعتقد أنّه يعرفه؛ حتى يباغته "نظام" جديد في مسقط رأسه، ويعجز هناك عن الصمود، أو الأخذ بيد من حوله نحو بوصلة ما.

نظامٌ طارئ آخر لم يعدّ له أي عدّة، ولا يجدّ بُداً من الدعاء عليه تهكماً تارةً، أو وصفه بالـ"غول" طوراً آخر، في استعارة لتعابير "العوام" في حكايا الجنيّات. ليصبح "داعش" أسطورة بفضلنا، كما، بفضلنا، هو المثقف "مؤسطر".



يصنّف أتاسي فيلمه بأنّه ينتمي إلى "سينما الطوارئ". على أنّ هذا التبويب لا يعدو كونه نحتاً متعجّلاً، والتفافاً على تصنيف موجود أصلاً باسم "التقرير الإخباري العاجل". ويحمل في طيّاته تبريراً للعثرات "السينمائية" التي سيقع فيها صانع أفلام مثقفٌ إبّان محاولته منافسة البث المباشر للمجريات "الوثائقية". وهذا ما يبدو جلياً في الفقر السينمائي البصري بعد دخول الشمال السوري، وعجز المخرج سوى عن تصوير علم واحد لتنظيم "الدولة الإسلامية"، مع أنّ الأخير سيستهلك لاحقاً جُلّ النقاش الدائر في الفيلم.

لا يجب، في حال من الأحوال، أن تقودنا الخيارات الإخراجية في "بلدنا الرهيب" (الجائزة الكبرى في "مهرجان مرسيليا الدولي" 2014) إلى محاكمة شخصيّته الرئيسية كما ظهرت أمامنا بمعزل عن باقي انتاجها الغزير السابق واللاحق على الثورة في  سوريا. بل قد تتجلى بركة الفيلم الجديد في إثارة كل هذه الأسئلة بالذات.

علّنا نصل يوماً إلى خلاصة "رهيبة" بدورها، تقول: "نعم، لقد فاتنا نحن المثقفين أن نكون من طينة هؤلاء الناس، ولكن دعونا نصنع شيئاً آخر من كل هذا التراب".




نشر معظمها في العربي الجديد