2015-04-15

سمير الصايغ.. كلّما اتسع "الخط" ضاقت العبارة


نقف أمام لوحات سمير الصايغ الحروفية في "غاليري أجيال" البيروتي، ونشرع بطريقة آلية في ممارسة ما نعتقد أنه فعل ضروري لتذوقها، أي القراءة. إعجابنا بالشكل لا ينقذنا سريعاً من الوقوع في "فخ" ما أُسقط في وعينا عبر زمن مديد أنّه أساسي للاستمتاع بلوحة خط عربي. فلا مندوحة، بحسب تلك النظرية، عن فهم الكلمة المرسومة، أو إحالتها إلى مرجعيتها المقدسة، أو الشعرية، أو حتّى حكمتها المنطوقة، حيث النص سيد، والخط خادم.

ولمن قرر الاستكانة إلى هذه الخلاصة؛ لا بأس من أن يفوّت على نفسه فرصة الذهاب إلى معرض "ألِف بحروف كثيرة" (يستمر حتى 28 حزيران/ يونيو)، الذي إن كان يحاول شيئاً ما هنا، فهو ذلك العمل الدؤوب والمتواصل على تخليص هذا الحرف من تلك القراءة.
38 محاولة (عدد لوحات المعرض) لترسيخ طلاق قائم بين كلمات أضاعت معانيها لكثرة التداول والتكرار اللَغوي، وبين حروف باتت تلبسها تلك الكلمات كثياب مستعملة منذ أمد. في سبيل إتاحة فرصة للعين كي تلتقط شيئاً آخر غير المعنى، وتضيء في الوعي مساحات بصرية للتشكيل ردِمتْ بفعل الاستخدام النمطي للخط.

يقوم معرض سمير الصايغ (1945) في كثير من مرتكزاته المعرفية على مقولة إن الحرف العربي جاء لاحقاً على الصوت اللُغوي، ولم يأت في غاياته الأولى بقصد الإفهام والتبيين، بقدر ما كان فعلاً تزيينياً، وإنشاءً بصرياً محضاً، سعى للاحتفاء بالنص السماعي "المقدس" منذ أن خُطّت المصاحف الأولى. أي أنّ الحرف أضاف إلى النص الملفوظ، وجاء بكينونته التشكيلية المستقلة ليلتحم إرادياً بالمنطوق الشفاهي، ليجعل له أبعاداً ملموسة فخمة، ووعاء منظوراً، وفق رؤية تمجيدية فنية وجمالية.

فالسطر سطرٌ، لأنه مسطورٌ، لا لأنه مجرد مناخ لناقة اللغة السارحة. والجمع بين كتل الكلمات المرسومة، مبني على علاقة تتال، وتتابع، وانفكاك، بين وحدات "حروفية" تأتلف وتتكون بشكل حرّ، لا لضرورة أن تُكتب، أو تُقرأ.

إشكالية يعانِدُها كثيرون، حتى من بين أولئك الذين ألِفوا على نحو ما "خطّ" صايغ في العمل، والذي لا يريد للناظر أن يرى سطوحاً ملساء ببُعدين أو ثلاثة، كواجهة لنص. لكن مع مرورنا المرة تلو الأخرى أمام اللوحات، ومع بعض المران الروحي، تبدأ الحروف في فرض شخصيتها التجريدية على العين: "الفاء" تابوت مع شاهدة مستديرة محلّقة، وزاوية بيضاء، وليس في "النعش" والـ"تابوت" "فاء"، و"التاء" مربوطة بأضلع مرفوعة على أكتاف صندوق مذهب، وليس في الصندوق "تاء".

أكريليك على قماش، 150 × 100 سم

الحرف، في عرف المحاضر في فنون العمارة والتصميم (الجامعة الأميركية في بيروت 1993-2007) فرس أصيلة بذاتها، لا مطيّة طيّعة، فحسب، للغة. يلوي خطامها الكاتب أو القارئ وفق ما يشتهيان. وعليه يأخذ الفنان على عاتقه مهمة إعادة الحصان إلى بريته الأولى، ويحتفي بغجريته المنفلتة من مهماز السائس الذي قصّ شعره، وقصّر رسنه، وأطال ركوبه.


والصايغ إذ يستعيد الالتماعة الأولى للحرف، وينفخ في جمرتها التي صار لها من العمر ألف عام؛ يحثنا من باب سرّي على معاودة اكتشاف القراءة ذاتها، عبر استنطاق الخط الطولي المستقيم، الألف، بأكثر مما قد تمنحه النظرة العارضة من انطباع المحدودية، أو الالتزام والتأطير. فالألف تنحني، ويلتوي خصرها، وتخرج من عموديتها، غير الشعرية، لتنحني معها القراءة، نحو أبعاد في المعنى ما زالت عذراء.

الخط ليس فعلاً مبسطاً للمباشرة، هدفه التيسير والشرح، بل هو كمون تجريدي في وحدته الأساس (النقطة المربعة) حيث تتبدى جذور مغامرة صايغ الحروفية أمامنا وهو يحدثنا عن مغامرة أكبر بدأت في ستينات القرن الآفل، مع "الحداثة" التي أراد رفعها وصحبه الأوائل (أدونيس، وأبي شقرا، والخال، والماغوط، وغيرهم) كبيرق، فإذا بها جلموداً مقدوداً من صوان، أردتها "ردّة" الحرب الأهلية، ورجعية أغلب من خاضها (من منطلقات "تقدمية") إلى قعر الوادي العربي المقفر.

فلم يتبق لنا سوى أنصاف الجمل: نصف مراجعة للتراث، ونصف استشراف للحداثة، ونصف أنسنة، ونصف مدنية، ولكن، اسبارطية كاملة. وما المزاج السياسي والثقافي "التعبوي" اليوم؛ سوى توأم متأخر عن شقيقه "الستيني"، مع انتفاضة غالبية "الشعب"، وخمود غالبية "النخبة".
إذ يرى الصايغ أنّ الكثرة الكاثرة من التجارب الفنية التي نادت بالعودة إلى "التراث"، كانت مجرد صدى للتطلعات السياسية وقتها، اتصالاً وانفصالاً في آن معاً: مع الهوية، وضد التبعية، مع التقدم، وضد الاستعمار. وما اقترحته الأحزاب من العشرينات إلى الأربعينات في السياسة، كان نفسه الذي تردَّد في الفن والثقافة عموماً.

إذ أنّ "النضال الحروفي" للناقد العتيق (في "مواقف"، و"لسان الحال"، و"فنون عربية"، وغيرها) لا يقف عند حدود لوحة الخط، بل يتجاوزها إلى الماورائي السياسي والأيديولجي الذي حرك لزمن طويل أقلام وريش "الخطاطين" الذين ساروا، بقصد أو عن غير قصد، في سيله الترويجي الجارف، والتي كانت إحدى موجاتها العارمة مكرسة على امتداد "رقعة" الإمبراطورية العثمانية، التي "نجحت" في تخريج "صُنّاع"، و"حرفيين"، أكثر مما خرّجت من "فنانين"، بما تنطوي عليه الكلمة من مضامين الإبداع، والإقدام، والخروج على الأطر المرسومة بمراسيم لم تشرع حينها سوى للانحطاط الثقافي في أواخر عهدها الزائل.

ولا يخفي صاحب "الفن الإسلامي: قراءة تأملية في خصائصه وفلسفته الجمالية" (1988)، و"الفن التشكيلي المعاصر في سوريا" (1998) تبرّمه من "أتقياء" التيار الحروفي الذين قنعوا من محيط الخط العربي باغتراف على السطح، وزهدوا في كنوزه التي لا ينالها إلا غواص صبور. فنادرون هم من اتصلوا بابن مقله، وياقوت، وابن البواب، وقره حصاري، والواسطي، وبهزاد. ومن فعل منهم ذلك، فتلمذة على يد كاندينسكي، وبول كليه، وماتيس، الذين قطعوا مسافات طويلة إلى دمشق ليتعلموا، فيما كانت الشام نفسها على مرمى ريش وأقلام أولئك الخطاطين العرب. ولهذا لم يكن غريباً أن يتحول الخط العربي، بسذاجة، من تعبير عن الهوية الحضارية إبان الاستقلال؛ إلى رمز أصولي باهت اليوم، بعد انقلاب الساسة، وتقلّب السياسة.

"المعلّم" الذي ابتعد عن اللوحة لزمن، يعود اليوم بديوان شعر كأنما أملي عليه (بعد "مقام القوس وأحوال السهم" 1980، و"مذكّرات الحروف" 2003)، وهو الشاعر الذي توقف عن الكتابة لنستعيده بيننا اليوم رساماً خطاطاً. ويحمل الديوان الجديد اسم المعرض نفسه "ألف بحروف كثيرة" (دار كاليغراف - بيروت).




2014-10-20

فيلم "بلدنا الرهيب": سفر خروج "المثقف".. إلى "الثورة"






ليست رحلة يسيرة تلك التي يقترحها علينا الفيلم الوثائقي السوري "بلدنا الرهيب"، للمخرجين محمد علي أتاسي وزياد حمصي. فالشريط الذي قدّم في عرض أول مؤخراً في بيروت، يتعرّض لجزء من مسيرة الكاتب السوري المعارض ياسين حاج صالح، الذي يقرّر مغادرة الغوطة الشرقية الخارجة عن سيطرة قوات النظام القمعي، متوجهاً نحو مدينته الأم، الرقّة، والتي سرعان ما سيكتشف، استحالة البقاء فيها، بعد أن عاثت فيها المليشيات الإسلامية المتطرفة قطعاً للأرزاق والأعناق.

يوثّق المخرجُ الشاب، حمصي، الرحلة التي قد تتخذ في أي لحظة منعطفاً يهدد حياة الجميع. ليعبر مع حاج صالح هضاباً وفيافٍ نحو الشمال، حيث يدخل المخرج الثاني، أتاسي، على خط العمل، في وقت يقرّر حاج صالح مغادرة البلاد نهائياً إلى تركيا.

يبدأ الفيلم بسلسلة لقطات مؤلمة للدمار الخرافي الذي آلت إليه مناطق شاسعة من البلاد بسبب الحرب الدائرة، قبل أن نجد أنفسنا داخل المنزل المتواضع الذي كان يعيش فيه الكاتب المعروف مع زوجته (سميرة الخليل) في الريف الدمشقي، حيث تبدأ قصة الشريط. 

ينتاب المرء للوهلة الأولى إحساس مشوِشٌ بأنه بصدد مقابلة تلفزيونية، وأنّ الكيمياء المهنية بين المصور الشاب وحاج صالح ليست في أفضل أحوالها، وذلك فيما يحاول حمصي تقديم "الحكيم" لجمهور فيلمه عبر أسئلة تعريفية واستيضاحية.

على أنّ هذا المأخذ الأولي، سرعان ما يتوارى وراء جهد حمصي في التقديم السلس للبيئة "الثورية"غير المستقرّة، بين عسكرة وحملات تطوعية، والتي يتحرك حاج صالح في إطارها.  إنّما مع بروز عثرات المنهجية السينمائية التي اعتمدت من قبل واضع السيناريو، أتاسي، لتقديم ثيمة العمل ككل، وهي دور المثقف في مفصل تاريخي راديكالي من حياة المجتمع الذي ينتمي إليه، مجسَداً بالحرب الأهلية، ومن قبلها الثورة، لا أقل. وهي معضلة لا يُحسد أحدٌ على التنطح لها. 

فالتحدي الماثل أمام وثقائي يلاحق شخصية مثل حاج صالح، هو وضع استراتيجية للتعامل مع مثقف كبير ملمّ بـ"لعبة" الكاميرا وأحابيلها، سواء أنْ انخرط فيها أم لا. وهنا نلمس منذ البدايات انتصاراً للبطل على الإخراج، لتمكّن الأول من فرض تقنية الروي الخارجي لنصوص وضعها ونقّحها وتلاها هو نفسه، بعيداً عن منسوب التلقائية الذي كان يتوقعه كثير من الجمهور أن يأتي أعلى مما كان، أو مما هو موجود في كتابات المثقف المتاحة هنا وهناك أصلاً.

ملاحظات أخرى تشكك في وجود سيناريو واضح لدى أتاسي، تتمثل في المشهدية المتواضعة التي 
يقترحها علينا لأحداث لن تتكرر في حياة حاج صالح الذي أمضى جلّ عمره إمّا بين جدران سجون الطاغية الأب، أو وراء حواجز السلطة الأمنية التي منعته لأعوام من السفر. وهاهو الآن يغادر سوريا، أمام الكاميرا، ويحلّق في طائرة، ويركب "مترو"، للمرة الأولى، فيما لا نرى في العدسة المرافقة له "سينما" تليق بتلك اللحظات.

بيد أنّ الفيلم ينعش فينا، في أماكن أخرى، نزعتنا المستترة أحياناً نحو تفكيك رمزية مشهدية تبدو وكأنّها وحدها الشاهد على عفوية مستحقّة في الشريط. 

فنرى في إحدى اللقطات المشادّة الكلامية التي احتجّ فيها صاحب المطعم الحلبي في تركيا على اعتراض حاج صالح على فاتورة طعامه. وقبلها مشهد حملة التنظيف التطوعية (الفاشلة) في دوما "المحرّرة"، بسبب تلهّي الناس بالكاميرا وفق تعليق حاج صالح، وما رافقها من تحفّظ أحد وجوه المجتمع المحلّي على خروج سافرات في الشارع، رزان زيتونة وسميرة الخليل. (كلتاهما ستختطفا لاحقاً على يد ميليشيا إسلامية مجهولة)

إذ يصعب على المتفرج أن يتجاهل تلك الفجوة بين المثقف ومحيطه، في اللقطتين الأخيرتين، واللتين تنتهيا بـ"استسلام" المثقف (حاج صالح) ومغادرة الموقعين، دوما والمطعم، دون مزيد نقاش. 

وتعبير "استسلام" هنا مقتبس عن فتاة ظهرت في الفيلم، واستخدمته لوصف قرار حاج صالح بالخروج من سوريا إلى اسطنبول، ليأتي تبرير الأخير بالقول:"ولكنني لست سياسياً، ولا عسكرياً، ولاحقوقياً". مفترضاً أن لهؤلاء وحدهم دور في "الداخل"، ومناقضاً ذاته في لقطة أخرى يقول فيها: "أحسّ أني لا أفهم خارج سوريا. كنت أفهم في سوريا". فهل المشكلة حقاً في المكان نفسه؟ وأين هو "التجريد" الفكري الذي يعيننا على الفهم، خاصّة وأن التعليق يأتي على لسان من يُقدّم عادة بوصفه "مفكراً" سورياً، ويُلصق به بغير رضى منه، لقب "حكيم الثورة"؟


 من جهة أخرى، تبدو المعالجة الدرامية للخطّين المتوازيين في مسيرة جيلين من المثقفين، حاج صالح وحمصي، التي يقول تقديم الفيلم إنّه يتطرق إلى إشكاليّاتها؛ ملتبسةً بدورها ضمناً، ويحددها فقط دخول أتاسي إلى الرقّة، وتوليه زمام التصوير بدلاً عن حمصي، والتحوّل المفاجئ للمخرج الشاب، إلى شخصية مشاركة في الفيلم، من دون حامل بصري ممهد لإسهام هذه الشخصية المستجدّة، عندما كان لا يزال في الغوطة مثلاً.

بل وسرعان ما يغيب حمصي عن العدسة لاضطراره إلى العودة من حيث أتى، حيث تتشكّل كلّ دراماه الشخصية المواكبة لتصوير الشريط، من اختفاء أحد أقاربه، واختطافه هو شخصياً من قبل ميليشيا "الدولة الإسلامية"، ومن دون وجود كاميرا مرافقة توثّق تطورات هذه الأحداث الهامّة، ليظهر، فجأة مرّة أخرى، لمجرد أن يتلو شهادته، وهي على أهميّتها لا تختلف "سينمائياً" عمّا تعودنا رؤيته في شهادات آخرين على "يوتيوب".

على أنّ حمصي لا يخفي في السياق ولعه "المبدأي" ببطل فيلمه، ليصبح الشريط برمّته مُنتجاً لمخرِجَين تربطهما علاقة سابقة ما بشخصيتهما الأساس، متناوبين عليها بين صاحب ومريد، آخذين في الاعتبار "الرفاقية" التي جمعت يوماً أتاسي بحاج صالح. لينحو الشريط إلى تكريس مشهدية تطويبية لما هو ناجز أصلاً، أكثر من اهتمامه بطرح أسئلة أعمق وشائكة حول علاقة النخبة المثقّفة بمحيطها الاجتماعي. وليكون الفيلم شريطاً إضافياً على رفّ ما يسمى بسينما الـ"هاغيوغرافي" (سِير القديسين)، مقابل سينما الـ"بيوغرافي"، والتي تحاول غالباً مقاربة حيوات أناس من سلالة المشاة على الأرض.

ويتصادف في هذا السياق أن تقع عين المرء على مقابلة فلمية قصيرة أجرتها مجموعة "أبو نضارة" مع حاج صالح في وقت أسبق، وعنونتها بـ"المثقف وشبيحته"، والتي يقرّ فيها حاج صالح، ضاحكاً، بوجود هؤلاء فعلاً.

بقي حاج صالح متوارياً في العاصمة قرابة العامين ونصف العام، وللعواصم دائماً حسابات أخرى في هذا السياق تتكشّف خصوصيتها لدى الانتقال خارج سواترها المدينية، حيث لا "عاصم" من جلافة التناقضات الثقافية وإقصائيّتها في ظرف متطرف كالحرب الأهلية. لتنحسر قدرة المثقف "الغرامشي" على الصمود من أشهر هناك، إلى أسابيع وأيّام خارجها. 

فما إن يضع المحلّل النخبوي أول إصبع على المعطى الاجتماعي المستجد بعد "ثورة" فاجئته ضد نظام يعتقد أنّه يعرفه؛ حتى يباغته "نظام" جديد في مسقط رأسه، ويعجز هناك عن الصمود، أو الأخذ بيد من حوله نحو بوصلة ما.

نظامٌ طارئ آخر لم يعدّ له أي عدّة، ولا يجدّ بُداً من الدعاء عليه تهكماً تارةً، أو وصفه بالـ"غول" طوراً آخر، في استعارة لتعابير "العوام" في حكايا الجنيّات. ليصبح "داعش" أسطورة بفضلنا، كما، بفضلنا، هو المثقف "مؤسطر".



يصنّف أتاسي فيلمه بأنّه ينتمي إلى "سينما الطوارئ". على أنّ هذا التبويب لا يعدو كونه نحتاً متعجّلاً، والتفافاً على تصنيف موجود أصلاً باسم "التقرير الإخباري العاجل". ويحمل في طيّاته تبريراً للعثرات "السينمائية" التي سيقع فيها صانع أفلام مثقفٌ إبّان محاولته منافسة البث المباشر للمجريات "الوثائقية". وهذا ما يبدو جلياً في الفقر السينمائي البصري بعد دخول الشمال السوري، وعجز المخرج سوى عن تصوير علم واحد لتنظيم "الدولة الإسلامية"، مع أنّ الأخير سيستهلك لاحقاً جُلّ النقاش الدائر في الفيلم.

لا يجب، في حال من الأحوال، أن تقودنا الخيارات الإخراجية في "بلدنا الرهيب" (الجائزة الكبرى في "مهرجان مرسيليا الدولي" 2014) إلى محاكمة شخصيّته الرئيسية كما ظهرت أمامنا بمعزل عن باقي انتاجها الغزير السابق واللاحق على الثورة في  سوريا. بل قد تتجلى بركة الفيلم الجديد في إثارة كل هذه الأسئلة بالذات.

علّنا نصل يوماً إلى خلاصة "رهيبة" بدورها، تقول: "نعم، لقد فاتنا نحن المثقفين أن نكون من طينة هؤلاء الناس، ولكن دعونا نصنع شيئاً آخر من كل هذا التراب".




نشر معظمها في العربي الجديد


2014-05-19

ذكرى رياض الصالح الحسين.. ثورة وكأس شاي

 
 
 
 
ما هي فرص أن تصاب بالصمم عام 1967، لا بعد أن تسمع البلاغ رقم 66 من رئيس البلاد القادم معلناً سقوط الجولان بيد العدو قبل 48 ساعة من حدوث ذلك على الأرض؛ إنّما إثر عملية جراحية في الكليتين؟ بل ما هو احتمال أن تجهض روحك بعد مخاض 9 أشهر بعيداً عن حراب البنادق الوالغة في حوض "حماة" الأحمر، لمجرد أن قلبك استنكف فجأة عن بث مزيد من الدم بعد استقالة كليتيك إيّاهما من جسدك، وفي المستشفى نفسه؟

سيكون اسمك عندها رياض الصالح الحسين، وسيكون عمرك 28 عاماً. كلّ عمرك. وستدرك باكراً أنّ الشعراء لا يحتاجون إلى قلوب، القلوب هي من بحاجة إلى الشعراء.
 
"يركض في عينيه كوكب مذبوح
وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
ومحيط من العتمة الطبقية
في عينيه - أيضاً - 
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد".
 
خفقت "دورته الدمويّة" للمرة الأولى في درعا، ولم يكن لاسم المدينة في عام 1954 بعد خرائط مفصّلة في العيون على "غوغل مابس"، ولم تكن شرايين قمحها قد حُزمت لـ"الخراب" القادم.
"أنيروا لنا الشوارع، أطلقوا الحقول كي تركض وراء الماء الذي جفاها، وقبل أي شيء آخر؛ هل في مصانعنا الوطنية كمّادة تعيد لصق أظافر صبياننا المشلوعة ثانية على صورة العائلة؟".
لو كان الصالح الحسين على رأس عمله الصحفي في 2011 لكان هذا هو فحوى الرسالة الهاتفيّة التي سيتلقاها في جريدته من أهله في درعا البلد. ودرعا المحطّة كانت لتقول له:" إنّ حسام، ومحمود، وأيهم، ومنذر، ورائد*، كانوا مثلك عندما قلت:
 
"لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لاثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة".
 
أستاذ رياض، مَنْ كنتَ بانتظارها، تحاول منذ بضع ساعات تخطي حواجز الأمن السياسي كي تتحدث إليك. هل يمكنك شراء جوّال حديث لنرسل لك ببعض الصور كي تراها؟".

نعم، قبل عشرين شتاء، كان أحدهم يلتقط صورة له، لا يظهر فيها الشخص الذي يشير إليه بسبابته.
 
"مساءً جاء الرجال متعبين من المرعى
مساءً جاءت النساء متعبات من الحقول
للرجال قلوب موشكة على السقوط
وللنساء عيون موشكة على البكاء
في المساء جاؤوا ورقصوا حتى الصباح
الجرح صار أغنية
والتعب مزماراً
غير أن رجلاً ما
ظلَّ جالسًا في الزاوية البعيدة
البندقيَّة بين يديه كأفعى
...والحياة في عينيه زمن من فخَّار
الرجل الذي ينظر بصمت
لا يبدو أنَّهُ يشاهد التلفزيون
ولا يبدو أنَّهُ يحلم
ولا يبدو نائمًاً
...اللئيم
ما الذي يفكِّر فيه؟"
 
بسط الشاعر ذراعيه وطار إلى "مارع". أصابعه أطول من الريش الذي غطّى كليتيه.
" قصفَ الطيران الحربي التابع للنظام بالبراميل المتفجرة مدرستين في مدينة مارع بريف حلب، مما أسفر عن جرح عدد من الأطفال".
 
"ومن كأس شاي وسيجارة تبدأ الثورة العالمية
أو تبدأ الأمنيات الكثيرات
يبدأ الخطباء خطاباتهم
والجنود رصاصاتهم
ثمَّ أفرغ من الحزن
أقذفه تحت قبَّعة الجنرال
وأركض في مقتل لا يحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي
ومقتنع باضطهادي
وفي زمن لا يحدُّ أرى من أحبُّ على شاطئ
تستريح من اليأس
تسألني عن مكان لذيذ بلا شرطة
نتبادل فيه الأناشيد والقبلات
أجيب: هو البحر
قالت هو البحر. قالت هو البحر
وابتسمتْ".
 
اكتملت قصائد رياض الصالح الحسين قبل أن ينتهي كلام نبوءته القادمة:
 
"يا سوريا الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سوريا التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سوريا القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء".
--- 
* حسام عياش ومحمود جوابرة وأيهم الحريري ومنذر المسالمة ورائد الأكراد، هم الشهداء الخمسة الأوائل في الثورة السورية من مدينة درعا.