2014-10-20

فيلم "بلدنا الرهيب": سفر خروج "المثقف".. إلى "الثورة"






ليست رحلة يسيرة تلك التي يقترحها علينا الفيلم الوثائقي السوري "بلدنا الرهيب"، للمخرجين محمد علي أتاسي وزياد حمصي. فالشريط الذي قدّم في عرض أول مؤخراً في بيروت، يتعرّض لجزء من مسيرة الكاتب السوري المعارض ياسين حاج صالح، الذي يقرّر مغادرة الغوطة الشرقية الخارجة عن سيطرة قوات النظام القمعي، متوجهاً نحو مدينته الأم، الرقّة، والتي سرعان ما سيكتشف، استحالة البقاء فيها، بعد أن عاثت فيها المليشيات الإسلامية المتطرفة قطعاً للأرزاق والأعناق.

يوثّق المخرجُ الشاب، حمصي، الرحلة التي قد تتخذ في أي لحظة منعطفاً يهدد حياة الجميع. ليعبر مع حاج صالح هضاباً وفيافٍ نحو الشمال، حيث يدخل المخرج الثاني، أتاسي، على خط العمل، في وقت يقرّر حاج صالح مغادرة البلاد نهائياً إلى تركيا.

يبدأ الفيلم بسلسلة لقطات مؤلمة للدمار الخرافي الذي آلت إليه مناطق شاسعة من البلاد بسبب الحرب الدائرة، قبل أن نجد أنفسنا داخل المنزل المتواضع الذي كان يعيش فيه الكاتب المعروف مع زوجته (سميرة الخليل) في الريف الدمشقي، حيث تبدأ قصة الشريط. 

ينتاب المرء للوهلة الأولى إحساس مشوِشٌ بأنه بصدد مقابلة تلفزيونية، وأنّ الكيمياء المهنية بين المصور الشاب وحاج صالح ليست في أفضل أحوالها، وذلك فيما يحاول حمصي تقديم "الحكيم" لجمهور فيلمه عبر أسئلة تعريفية واستيضاحية.

على أنّ هذا المأخذ الأولي، سرعان ما يتوارى وراء جهد حمصي في التقديم السلس للبيئة "الثورية"غير المستقرّة، بين عسكرة وحملات تطوعية، والتي يتحرك حاج صالح في إطارها.  إنّما مع بروز عثرات المنهجية السينمائية التي اعتمدت من قبل واضع السيناريو، أتاسي، لتقديم ثيمة العمل ككل، وهي دور المثقف في مفصل تاريخي راديكالي من حياة المجتمع الذي ينتمي إليه، مجسَداً بالحرب الأهلية، ومن قبلها الثورة، لا أقل. وهي معضلة لا يُحسد أحدٌ على التنطح لها. 

فالتحدي الماثل أمام وثقائي يلاحق شخصية مثل حاج صالح، هو وضع استراتيجية للتعامل مع مثقف كبير ملمّ بـ"لعبة" الكاميرا وأحابيلها، سواء أنْ انخرط فيها أم لا. وهنا نلمس منذ البدايات انتصاراً للبطل على الإخراج، لتمكّن الأول من فرض تقنية الروي الخارجي لنصوص وضعها ونقّحها وتلاها هو نفسه، بعيداً عن منسوب التلقائية الذي كان يتوقعه كثير من الجمهور أن يأتي أعلى مما كان، أو مما هو موجود في كتابات المثقف المتاحة هنا وهناك أصلاً.

ملاحظات أخرى تشكك في وجود سيناريو واضح لدى أتاسي، تتمثل في المشهدية المتواضعة التي 
يقترحها علينا لأحداث لن تتكرر في حياة حاج صالح الذي أمضى جلّ عمره إمّا بين جدران سجون الطاغية الأب، أو وراء حواجز السلطة الأمنية التي منعته لأعوام من السفر. وهاهو الآن يغادر سوريا، أمام الكاميرا، ويحلّق في طائرة، ويركب "مترو"، للمرة الأولى، فيما لا نرى في العدسة المرافقة له "سينما" تليق بتلك اللحظات.

بيد أنّ الفيلم ينعش فينا، في أماكن أخرى، نزعتنا المستترة أحياناً نحو تفكيك رمزية مشهدية تبدو وكأنّها وحدها الشاهد على عفوية مستحقّة في الشريط. 

فنرى في إحدى اللقطات المشادّة الكلامية التي احتجّ فيها صاحب المطعم الحلبي في تركيا على اعتراض حاج صالح على فاتورة طعامه. وقبلها مشهد حملة التنظيف التطوعية (الفاشلة) في دوما "المحرّرة"، بسبب تلهّي الناس بالكاميرا وفق تعليق حاج صالح، وما رافقها من تحفّظ أحد وجوه المجتمع المحلّي على خروج سافرات في الشارع، رزان زيتونة وسميرة الخليل. (كلتاهما ستختطفا لاحقاً على يد ميليشيا إسلامية مجهولة)

إذ يصعب على المتفرج أن يتجاهل تلك الفجوة بين المثقف ومحيطه، في اللقطتين الأخيرتين، واللتين تنتهيا بـ"استسلام" المثقف (حاج صالح) ومغادرة الموقعين، دوما والمطعم، دون مزيد نقاش. 

وتعبير "استسلام" هنا مقتبس عن فتاة ظهرت في الفيلم، واستخدمته لوصف قرار حاج صالح بالخروج من سوريا إلى اسطنبول، ليأتي تبرير الأخير بالقول:"ولكنني لست سياسياً، ولا عسكرياً، ولاحقوقياً". مفترضاً أن لهؤلاء وحدهم دور في "الداخل"، ومناقضاً ذاته في لقطة أخرى يقول فيها: "أحسّ أني لا أفهم خارج سوريا. كنت أفهم في سوريا". فهل المشكلة حقاً في المكان نفسه؟ وأين هو "التجريد" الفكري الذي يعيننا على الفهم، خاصّة وأن التعليق يأتي على لسان من يُقدّم عادة بوصفه "مفكراً" سورياً، ويُلصق به بغير رضى منه، لقب "حكيم الثورة"؟


 من جهة أخرى، تبدو المعالجة الدرامية للخطّين المتوازيين في مسيرة جيلين من المثقفين، حاج صالح وحمصي، التي يقول تقديم الفيلم إنّه يتطرق إلى إشكاليّاتها؛ ملتبسةً بدورها ضمناً، ويحددها فقط دخول أتاسي إلى الرقّة، وتوليه زمام التصوير بدلاً عن حمصي، والتحوّل المفاجئ للمخرج الشاب، إلى شخصية مشاركة في الفيلم، من دون حامل بصري ممهد لإسهام هذه الشخصية المستجدّة، عندما كان لا يزال في الغوطة مثلاً.

بل وسرعان ما يغيب حمصي عن العدسة لاضطراره إلى العودة من حيث أتى، حيث تتشكّل كلّ دراماه الشخصية المواكبة لتصوير الشريط، من اختفاء أحد أقاربه، واختطافه هو شخصياً من قبل ميليشيا "الدولة الإسلامية"، ومن دون وجود كاميرا مرافقة توثّق تطورات هذه الأحداث الهامّة، ليظهر، فجأة مرّة أخرى، لمجرد أن يتلو شهادته، وهي على أهميّتها لا تختلف "سينمائياً" عمّا تعودنا رؤيته في شهادات آخرين على "يوتيوب".

على أنّ حمصي لا يخفي في السياق ولعه "المبدأي" ببطل فيلمه، ليصبح الشريط برمّته مُنتجاً لمخرِجَين تربطهما علاقة سابقة ما بشخصيتهما الأساس، متناوبين عليها بين صاحب ومريد، آخذين في الاعتبار "الرفاقية" التي جمعت يوماً أتاسي بحاج صالح. لينحو الشريط إلى تكريس مشهدية تطويبية لما هو ناجز أصلاً، أكثر من اهتمامه بطرح أسئلة أعمق وشائكة حول علاقة النخبة المثقّفة بمحيطها الاجتماعي. وليكون الفيلم شريطاً إضافياً على رفّ ما يسمى بسينما الـ"هاغيوغرافي" (سِير القديسين)، مقابل سينما الـ"بيوغرافي"، والتي تحاول غالباً مقاربة حيوات أناس من سلالة المشاة على الأرض.

ويتصادف في هذا السياق أن تقع عين المرء على مقابلة فلمية قصيرة أجرتها مجموعة "أبو نضارة" مع حاج صالح في وقت أسبق، وعنونتها بـ"المثقف وشبيحته"، والتي يقرّ فيها حاج صالح، ضاحكاً، بوجود هؤلاء فعلاً.

بقي حاج صالح متوارياً في العاصمة قرابة العامين ونصف العام، وللعواصم دائماً حسابات أخرى في هذا السياق تتكشّف خصوصيتها لدى الانتقال خارج سواترها المدينية، حيث لا "عاصم" من جلافة التناقضات الثقافية وإقصائيّتها في ظرف متطرف كالحرب الأهلية. لتنحسر قدرة المثقف "الغرامشي" على الصمود من أشهر هناك، إلى أسابيع وأيّام خارجها. 

فما إن يضع المحلّل النخبوي أول إصبع على المعطى الاجتماعي المستجد بعد "ثورة" فاجئته ضد نظام يعتقد أنّه يعرفه؛ حتى يباغته "نظام" جديد في مسقط رأسه، ويعجز هناك عن الصمود، أو الأخذ بيد من حوله نحو بوصلة ما.

نظامٌ طارئ آخر لم يعدّ له أي عدّة، ولا يجدّ بُداً من الدعاء عليه تهكماً تارةً، أو وصفه بالـ"غول" طوراً آخر، في استعارة لتعابير "العوام" في حكايا الجنيّات. ليصبح "داعش" أسطورة بفضلنا، كما، بفضلنا، هو المثقف "مؤسطر".



يصنّف أتاسي فيلمه بأنّه ينتمي إلى "سينما الطوارئ". على أنّ هذا التبويب لا يعدو كونه نحتاً متعجّلاً، والتفافاً على تصنيف موجود أصلاً باسم "التقرير الإخباري العاجل". ويحمل في طيّاته تبريراً للعثرات "السينمائية" التي سيقع فيها صانع أفلام مثقفٌ إبّان محاولته منافسة البث المباشر للمجريات "الوثائقية". وهذا ما يبدو جلياً في الفقر السينمائي البصري بعد دخول الشمال السوري، وعجز المخرج سوى عن تصوير علم واحد لتنظيم "الدولة الإسلامية"، مع أنّ الأخير سيستهلك لاحقاً جُلّ النقاش الدائر في الفيلم.

لا يجب، في حال من الأحوال، أن تقودنا الخيارات الإخراجية في "بلدنا الرهيب" (الجائزة الكبرى في "مهرجان مرسيليا الدولي" 2014) إلى محاكمة شخصيّته الرئيسية كما ظهرت أمامنا بمعزل عن باقي انتاجها الغزير السابق واللاحق على الثورة في  سوريا. بل قد تتجلى بركة الفيلم الجديد في إثارة كل هذه الأسئلة بالذات.

علّنا نصل يوماً إلى خلاصة "رهيبة" بدورها، تقول: "نعم، لقد فاتنا نحن المثقفين أن نكون من طينة هؤلاء الناس، ولكن دعونا نصنع شيئاً آخر من كل هذا التراب".




نشر معظمها في العربي الجديد


2014-05-19

ذكرى رياض الصالح الحسين.. ثورة وكأس شاي

 
 
 
 
ما هي فرص أن تصاب بالصمم عام 1967، لا بعد أن تسمع البلاغ رقم 66 من رئيس البلاد القادم معلناً سقوط الجولان بيد العدو قبل 48 ساعة من حدوث ذلك على الأرض؛ إنّما إثر عملية جراحية في الكليتين؟ بل ما هو احتمال أن تجهض روحك بعد مخاض 9 أشهر بعيداً عن حراب البنادق الوالغة في حوض "حماة" الأحمر، لمجرد أن قلبك استنكف فجأة عن بث مزيد من الدم بعد استقالة كليتيك إيّاهما من جسدك، وفي المستشفى نفسه؟

سيكون اسمك عندها رياض الصالح الحسين، وسيكون عمرك 28 عاماً. كلّ عمرك. وستدرك باكراً أنّ الشعراء لا يحتاجون إلى قلوب، القلوب هي من بحاجة إلى الشعراء.
 
"يركض في عينيه كوكب مذبوح
وسماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
ومحيط من العتمة الطبقية
في عينيه - أيضاً - 
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد".
 
خفقت "دورته الدمويّة" للمرة الأولى في درعا، ولم يكن لاسم المدينة في عام 1954 بعد خرائط مفصّلة في العيون على "غوغل مابس"، ولم تكن شرايين قمحها قد حُزمت لـ"الخراب" القادم.
"أنيروا لنا الشوارع، أطلقوا الحقول كي تركض وراء الماء الذي جفاها، وقبل أي شيء آخر؛ هل في مصانعنا الوطنية كمّادة تعيد لصق أظافر صبياننا المشلوعة ثانية على صورة العائلة؟".
لو كان الصالح الحسين على رأس عمله الصحفي في 2011 لكان هذا هو فحوى الرسالة الهاتفيّة التي سيتلقاها في جريدته من أهله في درعا البلد. ودرعا المحطّة كانت لتقول له:" إنّ حسام، ومحمود، وأيهم، ومنذر، ورائد*، كانوا مثلك عندما قلت:
 
"لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لاثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة".
 
أستاذ رياض، مَنْ كنتَ بانتظارها، تحاول منذ بضع ساعات تخطي حواجز الأمن السياسي كي تتحدث إليك. هل يمكنك شراء جوّال حديث لنرسل لك ببعض الصور كي تراها؟".

نعم، قبل عشرين شتاء، كان أحدهم يلتقط صورة له، لا يظهر فيها الشخص الذي يشير إليه بسبابته.
 
"مساءً جاء الرجال متعبين من المرعى
مساءً جاءت النساء متعبات من الحقول
للرجال قلوب موشكة على السقوط
وللنساء عيون موشكة على البكاء
في المساء جاؤوا ورقصوا حتى الصباح
الجرح صار أغنية
والتعب مزماراً
غير أن رجلاً ما
ظلَّ جالسًا في الزاوية البعيدة
البندقيَّة بين يديه كأفعى
...والحياة في عينيه زمن من فخَّار
الرجل الذي ينظر بصمت
لا يبدو أنَّهُ يشاهد التلفزيون
ولا يبدو أنَّهُ يحلم
ولا يبدو نائمًاً
...اللئيم
ما الذي يفكِّر فيه؟"
 
بسط الشاعر ذراعيه وطار إلى "مارع". أصابعه أطول من الريش الذي غطّى كليتيه.
" قصفَ الطيران الحربي التابع للنظام بالبراميل المتفجرة مدرستين في مدينة مارع بريف حلب، مما أسفر عن جرح عدد من الأطفال".
 
"ومن كأس شاي وسيجارة تبدأ الثورة العالمية
أو تبدأ الأمنيات الكثيرات
يبدأ الخطباء خطاباتهم
والجنود رصاصاتهم
ثمَّ أفرغ من الحزن
أقذفه تحت قبَّعة الجنرال
وأركض في مقتل لا يحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي
ومقتنع باضطهادي
وفي زمن لا يحدُّ أرى من أحبُّ على شاطئ
تستريح من اليأس
تسألني عن مكان لذيذ بلا شرطة
نتبادل فيه الأناشيد والقبلات
أجيب: هو البحر
قالت هو البحر. قالت هو البحر
وابتسمتْ".
 
اكتملت قصائد رياض الصالح الحسين قبل أن ينتهي كلام نبوءته القادمة:
 
"يا سوريا الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سوريا التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سوريا القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء".
--- 
* حسام عياش ومحمود جوابرة وأيهم الحريري ومنذر المسالمة ورائد الأكراد، هم الشهداء الخمسة الأوائل في الثورة السورية من مدينة درعا.
 
 

2014-05-16

النكبة.. خِسّة الكائن التي لا تُحتمل Nakba.. The Unbearable Meanness of Being

 
 
 
 "في مثل هذا اليوم من عام 1948 قام العدو الإسرائيلي باحتلال جزء غال على قلوبنا من وطننا العربي الكبير.."، أو "أيّها الرفاق الشبيبيون، تمرّ علينا اليوم هذه الذكرى الأليمة، ونحن أكثر تصميماً على الصمود، و.."، أو "في 15 من أيار/ مايو قبل 30 (40، 50، 60) عاماً طُرد شعبنا الفلسطيني البطل من..".
 
جمل وعبارات كهذه، طرّزت طوال العقود الماضية مواضيع "التعبير" التي كانت تُطلب منّا في المدارس. صديقي وأنا، تلميذان سوريان في "طلائع البعث" (منظمة حزبية للأطفال)، وفي "شبيبة الثورة" (منظمة حزبية لليافعين والمراهقين)؛ احتكرنا لسنوات العلامة الأعلى في "الإنشاء". وكما في "عيد الأم"، و"يوم الكتاب"، و"الحركة التصحيحية" (انقلاب الأسد الأب)؛ حبّرنا وقتها بأقلام الرصاص معلّقاتنا الصغيرة عن شيء قالوا لنا إنّه مهم، وإنّ اسمه: "النكبة".
 
كان عليّ أن أنتظر حتى عام 1991 (مفاوضات مدريد) كي تنتهي حصّة "التربية القومية الاشتراكية"، لأخرج سريعاً من صفّ "ما أخذّ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة"، وأهرع إلى التلفاز لأشاهد للمرة الأولى وجه رئيس وفد "الكيان الصهيوني التوسعي الاستيطاني الغاشم"، اسحق شامير، جالساً في غرفة نوم الملك الإسباني، مع وزير خارجية "الصمود والتصدي"، فاروق الشرع، بعد خمسة شهور على ذكرى النكبة إيّاها.
 
بالنسبة لي، كانت تلك المرة الأخيرة التي أكتب فيها عن شيء يطلب مني "هؤلاء" أن أكتب عنه. وتدهورت بعد ذلك علاماتي الدراسية، لا في الإنشاء فحسب، بل وفي الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والكيمياء، والفتوّة (تدريب عسكري للطلاب). وحده مدرّس التاريخ، حافظ على صداقتنا الحذرة، وظلّ يقترح عليّ، بالرموز والألغاز، عناوين مراجع عن الثورة الفلسطينية لم يرد ذكرها في المقرر "النظامي".
 
سنوات أخرى ستمر ببطء، قبل أن يهمس في أذني مساعد في أمن الدولة بأنّ "فنجان القهوة" التالي قد يكون من بُنّ "فرع فلسطين"، ما لم أتدارك أخطائي الإملائية –والتاريخية- في مقال لي يسيء إلى "البلد"، و"قيادته الحكيمة" التي لن تدخّر جهداً في ردّي إلى جادة الصواب.
 
انتحلت شعبة المخابرات العسكرية 235 تلك اسم فلسطين، بعد أن تخصصت لبعض الوقت في ملاحقة عناصر المنظمات الفلسطينية غير المرغوب فيها من قبل "بطل الحرب والسلام" (حافظ الأسد). وذلك قبل مجزرة "تل الزعتر" (1976) وسواها. وكان من العسير "ممانعة" طعم قهوة ذلك الفرع، فهي تماماً كما وصفها المساعد جذلاً: "غير شكل".
 
"النكبة" اليوم، مصطلح ثقافي بات يُنطق بلغات أخرى بلفظه العربي (استخدمه أمين عام الأمم المتحدة في 2008)، شأنه في ذلك شأن كلمة "انتفاضة". والـ"Intifada"، هي "الربيع الفلسطيني" الذي يفوت المؤرخين والسوسيولوجيين العرب (وغير العرب) الالتفات إليه في معرض تحليلهم، وتركيبهم لسياقات الثورات المحلية والإقليمية في السنوات الأخيرة.
فما قام به الفلسطينيون منفردين بين 1987 و1993، ها نحن ذا نكرره (بأخطائه أيضاً) منذ 2011.
 
بيد أنّ ثقافة التجاهل تلك، لا يفوقها في القدرة على التهميش، وتخريب مداميك البنى الفكرية التي تستعد لوراثة شعبوياتنا النضالية المكرسة بين ظهرانينا، سوى ثقافة "فرّق تسد" الموروثة بدورها عن صديقنا اللدود الذي نسميه "فتوحات" عادةً (هِند، سِند، أندلس..)، أمّا في حال صادف أننا على الجهة المقابلة فسيكون اسمه "استعمار" من دون أدنى ريب عروبي، أو ماركسي.
 
التجزئة القطرية التي يمكننا أن نطالع في مثل هذه الأيام (يوم الأرض، يوم النكبة، يوم النكسة) النسخ الأحدث من تدبيجات مقاومينا الفولكلوريين في هجائها؛ يقوم على تكريسها وصناعة نموذج مطوّر عن محركها القديم (سايكس- بيكو 1916) "الرفاق" إيّاهم، بمواقفهم "النكبوية" تجاه الثورات القائمة، والاصطفائية الدوغمائية التي يحللون بها بعضها (ليبيا ومصر)، فيما يدمغون بعضها الآخر بالحرام شرعاً (سوريا)، ناهيك عن الانتهازية الصبيانية، والمتقلبة، نحو أخرى (البحرين).
 
هؤلاء من يقولون اليوم للفلسطينيين: أنتم لستم جزء من الصراع ضد الطغيان في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا والعراق والجزائر. وفي المقابل يطلقون على شعوب هذه الأقطار نيران بروباغانداهم (وأسلحتهم في سوريا) لحشدهم في "قميص عثمان" الأرض المحتلة. أي ما معناه: "نعم لفلسطين، لا للفلسطينيين". لسان حال عربي قح للمقولة الصهيونية التي ترى في تلك الكينونة أرضاً بلا شعب، وجغرافيا بلا ثقافة.
 
المليون الذين كانوا يقطنون مخيم اليرموك في دمشق (قبل هبوط البراميل) ربعهم فقط من الفلسطينيين. لكن الـ 750 ألف سوري الآخرين يقولون إنّ عاصمتهم الثقافية الأولى هي القدس منذ 1954 (تأسيس المخيم).
 
فأولى شرارات "المؤامرة الكونية الفلسطينية" (الثورة) ضد "واحة الديموقراطية" (إسرائيل) انطلقت من هذا المخيم، واتخذت عصابات "المخربين والإرهابيين" (الكفاح المسلح) من أرضه معقلاً لها منذ السبعينات، بمشاركة الآلاف من السوريين "المرتزقة" (الفدائيين) الذين شاطروا الفلسطينيين فصائلهم منذ العام 1965. وفي اليرموك كانت أول مقبرة لشهداء تلك الثورة الذين شكّل السوريون ما يقارب ثلث عددهم الإجمالي بحسب المؤرخين الفلسطينيين "المُغرضين" أنفسهم.
 
ويأتيك بعد هذا من يحاول إقناعك بأنّ على الجزء الفلسطيني من هذا النسيج الثمين أن يظلّ "فيزيائياً" على الحياد، فيما يحترق باقي الثوب بفعل "الكيماوي". وبأنّه ليس للفلسطيني في بلداننا العربية أن يفتح فمه قبل استرجاع البذور الممضوغة منذ سبعين عاماً لبرتقال يافا. لكنه قد يصبح قائداً للنضال المسلح ضد الاستغلال والقمع (شفيق حنظل جبهة التحرير الشعبية "فارابوندو مارتي" 1980-1992)، أو رئيساً للجمهورية (أنطونيو السقا 2004-2009)، إنّما في السلفادور.
 
"سايكس- بيكو" الجديدة ليست تلك الخريطة التي نشرتها "نيويورك تايمز" في أيلول/ سبتمبر الفائت، ولكنها خريطة أخرى تحفرها معاول من يكتبون أساطيرهم بأيديهم، وينصبون أنفسهم شعوباً ودولاً، وأحزاباً، وقيادات مختارة من قبل الله، صانع أرض الميعاد.
 
مرت دماء فلسطينية كثيرة تحت الجسر، قبل أن يمدّ معتوه دمشق الحالي يده ويصافح رأس النظام الإسرائيلي، موشيه كتساف، في جنازة بابا الفاتكيان (2005)، ليتبعه تصريح شايلوك السوري (اللص متعدد الاستخدامات) رامي مخلوف، بأن استقرار نظام مُبْتَدِع سياسة تكسير عظام الفلسطينيين، وحامل نوبل للسلام النووي، شمعون اسحق بيريز، مِنْ استقرار نظام سيد البراميل، وحامل نوبل للسلام الكيميائي، بشار حافظ الأسد.
 
نعم. يحق لدكتاتور ممسوس أن يهاتف المجرم بنيامين نتنياهو عبر سنترال تركي "إخواني" (2008)، ويحق قبلها لميلشيا أصولية أن تعقد هدنة مع ورثة "الهاغاناه"، و"البالماخ"، و"الأرغون"، و"شتيرن" باللغة الأميركية الفصحى (1996)؛ لكنّ مثقفاً (الياس خوري) أقام الفلسطينيون مخيماً يحمل اسم "باب الشمس" بين الضفة والقدس (2013) تيمناً بروايته التي جعلت من النكبة أيقونة أدبية، لا يملك الحق في الترافع عن قضية فلسطين، وإسماع الإسرائيليين ما لا يحبون سماعه في "هآرتس".
 
لماذا؟ لأنه لا يملك قوات "كوماندوس" سلفية خاصة به. ولأنّه لم ينفق ريع كتاباته كي ينشئ جهاز مخابرات مدرّب على حيل القتل الرزين. لأنّنا في "مزرعة الحيوان" هذه، نملك جميعنا حقوقاً متساوية، لكن حقوق بعضنا أكثر مساواة من حقوق بعضنا الآخر على ما يبدو، خاصّة عندما تتأرجح الكفة بين حق القوة، وقوة الحق. بين ثقافة القوة، وقوة الثقافة.
 
خرجنا في دمشق إبان العدوان الإسرائيلي على غزة (2009-2008) متظاهرين، منددين، لكنّ ارتفاع أسعار الديزل عامها بأكثر من 250% منع كثيرين من قيادة مركباتهم المتواضعة في محافظات سورية عدّة للمشاركة في الاعتصام الجامع. فكّرنا حينها أنّ مظاهرة ضد الفساد والنهب الذي رفع الأسعار قد يكون مفيداً أيضاً لفلسطين. بعدها بثلاث سنوات فعلناها.