2014-05-07

المشهد سوري، وبيروت الخشبة Drama: Syrian Scene on Beirut`s Stage

 
 
 
 
 
مسرحيون سوريون هاربون من الستارة المسدلة في دمشق، حيث الطَرَقات الثلاث على الخشبة قد تنتهي إحداها بدقّ عنق الممثل.
فهل وجدوا مساحة في لبنان تمكنّهم من إلقاء نصّهم، وتحريك شخوصهم كما أرادوا؟ هل بيروت لهم مجرد خشبة كباقي المسارح في أي مكان آخر، أم ثمة احتطاب جديد هنا، أوان يضطّرم الحريق هناك؟ هل خاطبوا الجمهور اللبناني بلغتهم، أم اكتفوا بخطب ودّه العاطفي؟ أم لعلهم سوريون مثلهم مَن يتلقفون غروضهم هنا أيضا، ويصفق أو لا يصفق لهم؟ هل هم لاجئون مسرحيون - إن كان لا يزال في المسرح أصلاً فسحة للجوء- أم مسرحيون يستكشفون صباح "ثورة"؟
 
 "ليس مهماً لي إن كان جمهور عروضي لبنانياً، وفي الوقت ذاته لا أعتقد أنّي أوجّه عملي لجمهور سوري. ولكن شئنا أم أبينا هناك سوريون كثر في بيروت اليوم".
بهذه العبارات يلخّص الكاتب والمخرج المسرحي الشاب مُضر الحجّي جوابه عن إشكاليّة تلقي الجمهور في لبنان، للعروض السوريّة على ضوء ما يجري الآن في بلده سوريا.

الحجّي الذي مضى على وجوده في لبنان قرابة العام؛ يرى في بيروت مكاناً "مناسباً" لعمل الشبان المسرحيين السوريين، لأنه "ما من خيارات أخرى"، فالقاهرة مثلاً "كبيرة، وليس فيها سوريون كثر"، في حين تفتقد عمّان لـ"هذه الحالة المسرحيّة الموجودة في لبنان".
 
المسرحي السوري الشاب بصدد كتابة نص مسرحي جديد، وقناعته أنّ التفكير في جنسية "المتلقّي" أثناء الكتابة "أمر غير صحّي". وإنْ كانت "حكايته" سوريةً؛ فهذا لا يعني بالضرورة أنّها "موجهة لسوريين"، مجادلاً بأنّ "طرح أسئلة إنسانية عامّة" هو من "لزوم ما يلزم" على من يريد تقديم عمل فنيٍّ خلال "الثورة"؛ وملاحظاً في الظرف "الاستثنائي" السوري "فرصة" لتناول هذه الهموم التي ستتخذ بدون شك "شكلاً" آخر، وبالتالي تمنح الإجابة عن السؤال القديم "مقاربة" أكثر جدّية.


لكنّ الممثل المسرحي هاشم عدنان، وأحد أعضاء فرقة "زقاق" اللبنانية، يرى أنّ ثمّة "مقاومة" من الجمهور اللبناني تجاه أعمال الفنانين السوريين، ناتجة عن "العنصرية الواضحة التي تتملك بعض المجتمع اللبناني تجاه السوريين عموما". ويضيف: "هذا يضع عائقاً أمام تفاعلك مع الفن السوري المعروض، وهو أمر يكبّل الطرفين: الفاعل الفني السوري، والجمهور اللبناني".
 
بدورها تثني الفنانة المسرحيّة اللبنانية لميا أبي عازار على رأي زميلها في فرقة "زقاق"، فتصف الساحة الفنيّة اللبنانية التي يؤمّها كثير من السوريين اليوم بأنّها "فخ". منتقدةً الصورة النمطية عنها التي توحي بوجود "فضاءات حرّة"، و"احتمالات عمل ناجزة"، ناهيك عن الوعود المرسلة ربما بـ"مردود مادّي" أيضاً. بيد أنّ واقع الحال يقول، في نظرها، إنّ بيروت "قاسية"، و"مكلفة". هذا إذا تغاضينا عن "الأوضاع الأمنية الشخصية" لهؤلاء الفنانين، و"القلق السياسي" من المكان الذي يوجدون فيه اليوم، "مرغمين ربما".
 
الاعتبار الأمني الأخير بالذات، أمر لا يمكن لضيفنا الثالث أن "يتغاضى" عنه "أبداً". إذ طلب من "العربي الجديد" عدم ذكر اسمه الحقيقي. فهو يحضّر لعمل جديد، بعد هربه من دمشق أخيراً، ولا يريد أن يفسد على نفسه فرص عملية الاستكشاف التي ما زال مستمراً فيها، بحثاً في إمكانية تنفيذ عرضه هنا.


يقول "لؤي" (اسمه االمستعار)، معلّقاً بهدوء على مسألة الجمهور هذه: "ربما لن يحرم الظرف "التقني" (الأمني) اللبنانيين فقط من حضور عرضي (في مخيم شاتيلا)، بل سيحرمني أيضاً من أن أقدّمه في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي أتمنى أن أعرض فيها وأخرج منها سالما!".

ويؤكدّ "لؤي" أنّ السويّة الفنيّة الجيدة هي ما يشغله في عرضه، وليس مجرد تقديم شعار "عاشت سوريا، يسقط بشار الأسد". وأنّ سعادته بالعرض إيّاه ستكتمل إن كان بين الجمهور "وجوه جديدة من ذوي الأكفّ المشققة، أو ممن تحت أظافرهم سواد"، أكثر من حضور مزيد من الصحفيين. ولكن هذا لا ينسيه قناعته بأنّ الفن "لا يقتصر خطابه على جنسيات وطبقات بعينها. الفن موجه للإنسان، كل إنسان".
 
 

المسرح ملاذاً..


 

بدون عسكر أو قذائف وقبل زمن الغارات الجويّة التي يُفرغ أزيزها الروحَ قبل الشوارع، وقبيل عودة المفخخات إلى ذَرْعِ الهواجس وتَوُسِّدِ الكوابيس؛ أُغلق "مسرح بيروت"، أحد أقدم مسارح المدينة، في نهاية 2011. العام الذي بدأ فيه عدد من المسرحيين السوريين بالتفكير بالقدوم إلى لبنان - وإن مؤقتاً - حاملين بعضاً من خشبتهم.
 
صار الصليب أثقل، وزادت الأوضاع الأمنية غير المستقرة في المسامير المضروبة فيه، خصوصاً للهاربين الذين كانوا يتوسمون في نجوم السماء "الشقيقة" شيئاً من الخلاص.
 
المخرج المسرحي السوري، لؤي، الذي يستخدم هنا اسماً مستعاراً "على نحو مؤقت" على حد تعبيره؛ لا ينكر "الخوف" الذي لَمَسَهُ زملاؤه اللبنانيون لدى بعض المسرحيين السوريين الذين يحاولون الاجتهاد في لبنان؛ بل يؤكد أنّه خوف مرتبط بـ"العرض ذاته"، وبـ"الفريق الذي يقدّمه".
 
لكنّ شغله الشاغل اليوم يتجاوز هذا الأمر، ليس إلى "لوجستيات العرض التي تغيّرت" عن تلك التي اعتادها في سوريا، أو إلى "الميزانية" التي تضاعفت حكماً هنا، أو إلى ضرورة أن تكون المسرحيّة بـ"الفصحى" كما كان مقرراً في دمشق، أو بـ"العاميّة" كما قد تصبح في بيروت؛ بل إلى سؤال "المسرح الآن"، الأكبر برأيه.
 
"السؤال الذي بدأت أفكر فيه منذ بداية الثورة في سوريا، وتأكدت من جوابه في بيروت، هو: "هل مِن داع لأن أعمل أنا شخصياً في المسرح أم لا؟". وبعد أخذه نفَساً أخيراً من سيجارته، استطرد قائلاً وهو في طريقه إلى إشعال أخرى على الفور: "للأسف الوضع هنا لا يشجعك عملياً على تقديم عروض مسرحية، لكن هذا ليس ذنب الجمهور كما قد يتراءى لنا عادة".
 
ويكشف لؤي، الذي أخرج أول عمل مسرحي له في 2012، عن بعض الهواجس التي كانت تنتابه أخيراً، حول مقولات "أخذ المسرح إلى الجمهور" بدل انتظاره أن يأتي إليه، مروراً بـ"عدم إدراك الناس لأهميته"، وليس انتهاء بسيل الانتقادات "التثاقفيّة" التي اعتاد الفنانون توجيهها إلى "جمهورهم".
 
النظرة التي كانت في رأسه عن البلد (سوريا)، قبل 2011، بوصفه مجرد "مستنقع"، وعن "الجمهور" كجمعٍ بشري "خانع وضعيف ومذلول وفاقد للطموح"؛ تغيرتْ كليّاً بعد بدء "الثورة". يقول لؤي: "ما زلت أريد أن آخذ المسرح إلى الجمهور، إنّما هذه المرة لأكتشف ذاتي أنا، ولأرى فيما إذا كان هذا الفن الذي أحب وأدعي أنّه يستحق أن يستمر جديراً بذلك فعلاً". ويضيف بثبات: "أنا من كان غبياً، لا مجتمعي، الذي بفضله أقول اليوم إنني استعدت كرامتي، وأعرف أنّ هؤلاء الناس لم يكونوا يفعلون فقط الأكل والشرب، وإنّما امتلكوا في لحظات كثيرة هواجسي ذاتها".
 
"المسرح ملاذاً؟".. عن هذا يجيب هاشم عدنان، كاتب "جنة جنة جنة"، أحد آخر عروض فرقة "زقاق" اللبنانية، والذي لاقى صدى طيباً لدى عرضه في بيروت أخيراً: "نعم، واليوم أكثر من أي وقت مضى". وبالنظر في عينيه، يتأكد لنا أنّها ليست إجابة حاضرة يرتجلها المسرحي اللبناني الشاب جزافاً.
 
ينافح عدنان عن مقولة أنّ المسرح يعرض خيار "المساواة" على الناس وهي مقولة ثوريّة، إذ "يساوي بين الجمهور، ومَن هم على الخشبة، فالجمهور دائماً جزء من العرض"، وهو فن يتعاطى معنا جميعاً كـ"مواطنين يعيشون في ذات الفضاء وذات التجربة".
ويضيف: "هل هي خشبة مسرح فقط تلك التي يرغب الجمهور في اعتلائها، أم خشبة الشارع؟ هل هي المقارّ الحكومية، والفضاءات العامة؟ أم تراها مساحاتنا الخاصّة التي تقتحمها السلطة عبر تفاصيل معيّنة؟". وتومي لميا أبي عازر برأسها موافقة زميلها في "زقاق"، الفرقة اللبنانية التي تعدّ واحدة من المبادرات المسرحية الأكثر انخراطاً في النشاطات المجتمعية محلياً.
 
من جهته، يسارع صاحب مشروع "كيت، كيت" الذي ينظّم ورشات كتابة القصص الشخصية للاجئين السوريين، مضر الحجّي، إلى سرد "أمثلة عملية" مصداقاً لكلام زملائه، مستدلاً بالأشكال الفنيّة التي بدأت تأخذها المظاهرات في إحدى مراحل الثورة في سوريا، و"المشاهد التي كان يمثّلها الناس، ويتفرج عليها الناس، والتي كانت تُعاد، فيعود الناس ليتفرجوا عليها مجدداً".
 
يقول الحجّي متأثراً: "هل من الحماسة الفارغة في شيء القول إنّ هذا يذكّرنا بنشأة المسرح من الطقس الديني اليوناني؟"، ويضيف: "ماذا أيضاً عن حالات النشاط المسرحي في المخيّمات والمناطق المحررة؟". مطالباً إيّانا بعدم تناسي أنّ جُلّ مَن يعمل في القطاع المسرحي اليوم يقوم بذلك للمرة الأولى في حياته، مستخلصاً من ذلك أننا أمام "فاعلين ثقافيين جدد" ينفّذون "انقلاباً" على "المكرّسين القدامى"، وهذا بحد ذاته "شكل من أشكال الثورة".
 
 في واحد من بواكير العروض المسرحيّة التي تطرقت للأحداث في سوريا، واستضافتها بيروت، تلقّى الفنانان المسرحيان اللبنانيان روجيه عسّاف وحنان الحاج علي، تهديدات بـ"هدّ" مسرح "دوّار الشمس" على رؤوس الحاضرين، في حال أصرّا على المضي قدماً في العمل الذي مهّدا له سبل الخروج إلى الهواء. ما استتبع اتخاذ الجيش اللبناني تدابير أمنية غير اعتيادية قرب المكان. لكنّ العرض استمر، وتلته عروض أخرى على الخشبة نفسها.
 
ولعل مسرح "زهرة سوريا" لن يُذكر في التاريخ على أنّه من أوائل المسارح البيروتية فقط؛ بل ربما يحمل سَمِيٌّ له، في قادم الأيام، لقب أحدثها أيضاً.
 
 

مسرحة الثورة

 

بين العروض السورية التي استضافتها بيروت في السنوات الثلاث الأخيرة ما قدّم نفسه على أنّه "مسرح الثورة". ومنها ما تجنّب حتّى استعمال اللفظة، وهذا ما لا يرى فيه مضر الحجّي، أحد مؤسسي "ورشة الشارع" للكتابة المسرحية في دمشق، ابتعاداً عن "الواقع"؛ ضارباً المثل بمسرحية "الغرف الصغيرة" لوائل قدّور، الذي كان عرضاً بعيداً "نظرياً" عن "الحدث السوري"، لكنّه خلق - مع ذلك - "حواراً حول المسرحيّة،وحول ما يحدث في سوريا الآن".
 
وهذا السؤال، برأي الحجّي، يحيل إلى سؤال أكبر حول علاقة الفن بـ"المرحلة، أو الثورة، أو الأزمة دعني أصغها لك هكذا "بما يحدث"، ويضيف: "بعضهم يبحث في هذا السؤال، وبعضهم الآخر لا، إلى أن يقول أحدهم: هذا العمل لا يقدّم قراءة صحيحة للثورة السورية. ويواصل المخرج الشاب حديثه: "إلى أي حد على العمل المسرحي أن يقدّم قراءة للثورة السورية؟".
 
ولا يدّعي الحجّي أنّه يملك جواباً على هذا السؤال، لكنّه جدّ متأكد من أنّ هذا هو "وقت طرح إشارات الاستفهام هذه". ويؤكدّ عضو فرقة "زقاق" المسرحية في لبنان هاشم عدنان سؤال الحجّي قائلاً: "لقد سألت نفسي في آخر عرض سوري حضرته، إن كان عليّ أن أٌحاكِم العرض انطلاقاً من تعاطفي مع الثورة السوريّة أم من منطلقات إنسانية محضة؟ لدرجة أني كنت أكلّم نفسي داخل العرض".
 
لا تخفي زميلة عدنان في "زقاق"، لميا أبي عازار أنّها تتقصّد حضور العروض السورية في بيروت، من باب "الفضول أولاً"، ورغبة منها في معرفة "ما يدور في رؤوس الفنانين السوريين ومواقفهم والإبداع الذي يقدمونه في الوضع الذي هم فيه حالياً، من لجوء أو صمود داخل سوريا". إنما دائما "بغض النظر عن التوجهات السياسية". قبل أن تضيف: "هناك عروض شبابية سورية فتنتني لدرجة أني ألحَحْتُ على أصحاب العرض كي يقدّموا عرضهم في فضاء "زقاق". لقد كان شيئاً لم أحظ بمشاهدة نظير له منذ فترة طويلة". وهنا يقاطع عدنان زميلته ليقول: "علينا أن ندرك أنه قد يكون بين الفنانين السوريين مَن هو بحاجة إلى أن يضع مسافة ربما تكون ضروريّة له مع الواقع، والتي قد لا يتمكن بدونها من إنتاج عمل مسرحي أصلاً".
 
ويلمس عدنان من خلال تجربته مع بعض العروض السورية تأثير البيئة التي يعيش فيها الفنانون، من حيث "وجود سلطة رقابية تلقائية ما زالت قائمة في أذهانهم"، علاوة على وجود "خوف معين" من المكان الذي قدموا منه وخوف آخر من المكان الذي يعرضون فيه.. وهما خوفان مبرران برأيه.
 
 
 
 
 

2014-05-05

يوميّات بيروت: إنْ كانَ "أُنْسيَ"، فنحنُ ذاكرون



 


 

--"خير أستاز، الهيئة في خبر سياسي عاجل؟"

- "توفى أنسي الحاج... الشاعر"

--"أيواا،... أنا ما بعرف شعرا"

مضى زمن قصير بعد وفاة "جوزف حرب"، لكنّ زمناً قد مضى.

ساعتها كنت في غربة "شخصيّة" أخرى، أعمق. غربتي عن الشعر. ونسيت في الديوان الأخير الممتلئ بين يدي ذلك الـ"جوزف" الآخر، كما هُيّئ لي، الذي شاهدته في "ثقافي أبي رمانة" بدمشق، إلى جانب مَنْ قلّدوه أوسمتهم، فقلّدهم بشعره.

"أنسي" كان، شئنا أم أبينا، خبراً متوقعاً. وكما زالت "المجزرة" عن "حرب" اعتباطاً في تلك وبقي الشعر؛ زال الأخير عن "الحاج" في هذه، ضرورة.

يسحب السائق سيجارته من فمه بنزق، رافعا عقيرته بالصراخ عبر الشباك المفتوح، مطالباً بأحقيّته بالانعطاف بعيداً عن "الكورنيش البحري".

أُغلق هاتفي. وأستسلم لرتل السيارات الجديد المتوقف أمامنا. زحام في ساعة الذروة الـ"لا شعريّة" نحو "الحمرا".

هم الذين خلطوا الشعر بالسياسة، وأنّى لهما ألا يختلطا، وبنوا أمجاداً، منها ما بقي، ومنها ما "يتباقون" من أجله. وإلا فما مغزى "الشاعر، الكبير، الحداثوي، المجدد، التقدمي، المناضل، كذا.." في مستهل كل "تصحيف" يقاربهم؟

عندما أنظر مَن حولي، لا أجد مرثاة تملك "قوّة" أن تجبرني على ارتداء "خواتم" الحاج. فما بالي أنا الباحث عن خواتم أهديها، أجبرُ من أحبّ أنْ أمنحها، ولو سطرَ لُغةٍ، على اجتراح ذلك. وإلا فكيف يستقيم أنّ (كلّ قصيدة) هي (كلّ حب).

لعلاقة الفنون المصطفاة من الصفوة، بالسياسي من الاصطفاف؛ أسئلة جمّة، مُشكلة، ومعلّقة.. عند غيري.

أنا أملك في اللحظة استجابتي، أو هي تتملكني.

هو الذي في منافحته عن خبر، احتمال، وجود، تهديد، بخطف، إحدى الممثلات السوريّات من قِبَلِ "معارضيها"؛ نَسَبَ كل إبداعٍ "رَعوي" إلى "كافور" الرَاعي، مَنْ كان أضنّ الناس بالشهيق على أبناء جلدته، وورودهم المتفتّقة على "براميل" الصبّار!

ولكن ما علاقة النقمة على الفعل بـ....، إنْ كنتَ "أنسي الحاج" لا مجرّد "مُحلّلٍ" للتزاني "السياساتي" القائم؟

وهو يجيب على سؤاله قبل أن يصل حتّى إلى نهاية الاستفهام؛ (هل في سوريا بعدُ إلّا هواء المقابر؟). هو الجَذِلُ، التيّاه، بنَرْجِسَته.

وبعد تفعيلة: (لا السلطة _ أيّ سلطة _ تستحقّ نقطة دم ولا الرغبة في التغيير تستحقّ كلّ هذه الأضاحي)؛ يعود واقفاً على رَسْمٍ دَرَسْ، ليقوّلنا، أو يكاد: (النجدة أيّتها الحرب الشاملة!).

ولا بأسْ. طالما كان تعريف (الهولِ) سوريّاً؛ هو ما كان هو وراءه صغيراً، ولو وقف أمامَه لكَبُرْ. وطالما كانت "الحرب الشاملة"، منذ النكبة، هي طاقيّة الإخفاء، اليمينيّة-اليساريّة، لردّ (المؤامرة). المؤامرة التي يُحشّد فيها اليوم قهراً ملايين لا يكاد يجمعهم مشروب ساخن واحد بعد صياح الديك. وبعد ذلك؛ فلْيَعي، ولْيَرعوي، ذلك الفلاح، المتظاهر، المسلح، التكفيري، الذي ترك أرضه بعد عجافٍ سبعٍ، منذ 2004، ونُزِحَ به قبل "النزوح" ليُزْرع على حدود "إسرائيل" كي يَزرعْ. برعاية "اتحاد فلاحي" من هو قائم بالناس إماماً، (بتاريخ علماني ناصع)، طعّاناً لعّاناً، يرد كيد "العدوّ" بمكبّر الصوت، لا مكبّر الفعل. وللصوت أن يرتد صداه من البحر إلى البحر "الديماغوجي"، مادام صَمتُ الجَمْع مكفولا باللّجام.

اختارَ "أنسي" مؤخراً أن يكون ضمن النُخبَة القَصيّة، التي استمرأَتْ "تخزين" البشارة في أفواهها، فلمّا نَطَقَ بالنبوّة من لا يملك الطينَ حتّى؛ أبا التنازل له عن "حداثة" المنسوخ من مصحف "رسولته". متناسياً أنّ فعل الولادة الجديد، هو من أقدم الأفعال. ولكنّ المُصاب قد شخّص مُصيبته في غيره، وهو يقول: (إنّها ظاهرةُ عمَى الشَمْس).

في المَوتْ، إن كانَ لي أنْ أكونَ "مع" أحدٍ؛ فسأكون مع صديقة لي في الشّام تقطّعت بيننا الأسباب، إلا الأثيريّة الهوائيّة منها، على أنْ أكونَ "معه". هنا، في مدينته التي يأكل اسفلتها من حذائي، وآكل منه، إذ تكتب، صدفة، في ذات عين يوم وفاته:

"كنتُ أحاول أن أُقنعَ نفسي بأنّ الموتَ قد أضحى طقساً اعتيادياً في حياتنا. توفي اليوم خالي نتيجةَ خطأ طبّي غبي. كانت وصيّته أن يُدفن بجانب أمّه وأبيه في حمَاة. لا أدري إن كنّا نستطيع العبور به إلى هناك. سوف يُدفَنُ غريباً في دمشق. وسوف يبقى الموت خارج قوانين الاعتياد!".

إنْ تكتُبْ فيه بعد مَمَاتِهِ، فَقدْ كَتَبَ فيك وأنتَ تُقتل. ولعله كان عليه (وما زال… هل هناك وقت؟) أن يمتلك صدراً أرحب من "حداثييه" المقلّدين.

(على قدر تسلط هذا النظام فلم يبق له كثير، فإذا رشقته بحجر سيسقط، لذلك فأنا لست متفائلاً بالوضع في سوريا). لا، لا منْ أجْلِ "الحاج"، ولا من أجْلِ سِواهُ منَ "الحجيج" سنعيد تعريفَ الأمل.

لقد خاض أجدادنا حروبَهم ولا شك، ندوبُهم وِراثيّةٌ بالمناسبة، وها هم اليوم يَنعُونَ علينا، ما نُعيَ عليهم.

نعم، فلتسقط "العاموديّة" السياسيّة في معلّقات مثقفينا "التفعيليين"، الذين لا بدّ نحن مُسائلوهم: (ماذا صنعتَم بالذّهب، ماذا فعلتَم بالوردة).

__

v   كل ما بين قوسين (...) هو اقتباس عن الشاعر الراحل
 
19-02-14

2014-04-30

اليرموك والقيامة أمس Yarmouk..Apocalypse Yesterday


 
 


 
 
لم يخرجوا ليتشمسوا احتفالا بـ"يوبيل" إعادة الإعمار، ولا تنادوا تحضيراً للنهار المقبل الذي اضطرت الأمم المتحدة لتطويبه يوماً لـ"السعادة" هذا الأسبوع، كما أنّها ليست استذكاراً "نوستاليجياً" جماعياً لإحدى المظاهرات السلمية الأولى المطالبة بإسقاط نظام لا يريد له أحد –غير سلمي- أن يسقط. إنّه طوفان الجوع المتخم في مخيم اليرموك.

حُقّ للخيال المطلق أن تتشنج شطحاته أمام هذا المشهد الأسطوري، فما بالنا بخيال مَنْ هم يعانون أصلاً من فقرٍ مدقع فيه. وعليه فقد كان انسحاب هؤلاء السريع إلى غرف المهاترة والتكاذب أمراً متوقعاً، بل "عقائدياً".

كل "بيكسل" من هذه الصورة هو بعض ممن نجا - حتى الآن - من كائنات إنسانية فلسطينية سورية في مخيم القيامة المحاصر قرب دمشق، أقدم عاصمة مأهولة بالطغيان، حتى الآن.

244 يوماً، دون براز، أو قمامة، وأبنية مهشمة كرقائق الكرتون، ورؤوس، ورؤوس، ورؤوس، وذلك المسيح الشارد فوقها في المؤخرة وكأنه يهم ثانية بأعجوبة المشي على الماء... ماء العيون... العيون الشاخصة... الشاخصة نحو معجزة... معجزة يمكن "اللجوء" إليها هذه المرة، وقابلة للهضم، كالخبز.

ساعة الصحو الطارئة التي لا يمطر سقف الوطن فيها متفجرات، نمارس فيها رياضة "الطوابير". نقف جميعاً في رتلٍ طويل، ونمرّ واحداً واحداً لنفحص كلنا صدر ذلك القادم من العالم الآخر بقميصه الأزرق المدرّع: "هل يعمل قلبك بشكل جيد من دون رصاص؟".

كان يمكن أن تكون لقطة من بث مباشر يصوّر فلسطينيين استنفروا للمّ مزق حيواتهم المتناثرة وراء كل الحدود حازمين الحقائب لزحف العودة إلى فلسطين، لو أنّ الجبهة "الواطئة" كانت هي المفتوحة في الجنوب من قِبَل هذا "المناضل" المدجج بالموت.

سواء أكان فريدريك بيرنارد من قالها للمرة الأولى أم كونفوشيوس أم أحد آخر، ما كان لصورة واحدة أن تساوي ألف كلمة، لو لم تكن محاطة في لحظتها بألف أخرس.