2014-05-05

يوميّات بيروت: إنْ كانَ "أُنْسيَ"، فنحنُ ذاكرون



 


 

--"خير أستاز، الهيئة في خبر سياسي عاجل؟"

- "توفى أنسي الحاج... الشاعر"

--"أيواا،... أنا ما بعرف شعرا"

مضى زمن قصير بعد وفاة "جوزف حرب"، لكنّ زمناً قد مضى.

ساعتها كنت في غربة "شخصيّة" أخرى، أعمق. غربتي عن الشعر. ونسيت في الديوان الأخير الممتلئ بين يدي ذلك الـ"جوزف" الآخر، كما هُيّئ لي، الذي شاهدته في "ثقافي أبي رمانة" بدمشق، إلى جانب مَنْ قلّدوه أوسمتهم، فقلّدهم بشعره.

"أنسي" كان، شئنا أم أبينا، خبراً متوقعاً. وكما زالت "المجزرة" عن "حرب" اعتباطاً في تلك وبقي الشعر؛ زال الأخير عن "الحاج" في هذه، ضرورة.

يسحب السائق سيجارته من فمه بنزق، رافعا عقيرته بالصراخ عبر الشباك المفتوح، مطالباً بأحقيّته بالانعطاف بعيداً عن "الكورنيش البحري".

أُغلق هاتفي. وأستسلم لرتل السيارات الجديد المتوقف أمامنا. زحام في ساعة الذروة الـ"لا شعريّة" نحو "الحمرا".

هم الذين خلطوا الشعر بالسياسة، وأنّى لهما ألا يختلطا، وبنوا أمجاداً، منها ما بقي، ومنها ما "يتباقون" من أجله. وإلا فما مغزى "الشاعر، الكبير، الحداثوي، المجدد، التقدمي، المناضل، كذا.." في مستهل كل "تصحيف" يقاربهم؟

عندما أنظر مَن حولي، لا أجد مرثاة تملك "قوّة" أن تجبرني على ارتداء "خواتم" الحاج. فما بالي أنا الباحث عن خواتم أهديها، أجبرُ من أحبّ أنْ أمنحها، ولو سطرَ لُغةٍ، على اجتراح ذلك. وإلا فكيف يستقيم أنّ (كلّ قصيدة) هي (كلّ حب).

لعلاقة الفنون المصطفاة من الصفوة، بالسياسي من الاصطفاف؛ أسئلة جمّة، مُشكلة، ومعلّقة.. عند غيري.

أنا أملك في اللحظة استجابتي، أو هي تتملكني.

هو الذي في منافحته عن خبر، احتمال، وجود، تهديد، بخطف، إحدى الممثلات السوريّات من قِبَلِ "معارضيها"؛ نَسَبَ كل إبداعٍ "رَعوي" إلى "كافور" الرَاعي، مَنْ كان أضنّ الناس بالشهيق على أبناء جلدته، وورودهم المتفتّقة على "براميل" الصبّار!

ولكن ما علاقة النقمة على الفعل بـ....، إنْ كنتَ "أنسي الحاج" لا مجرّد "مُحلّلٍ" للتزاني "السياساتي" القائم؟

وهو يجيب على سؤاله قبل أن يصل حتّى إلى نهاية الاستفهام؛ (هل في سوريا بعدُ إلّا هواء المقابر؟). هو الجَذِلُ، التيّاه، بنَرْجِسَته.

وبعد تفعيلة: (لا السلطة _ أيّ سلطة _ تستحقّ نقطة دم ولا الرغبة في التغيير تستحقّ كلّ هذه الأضاحي)؛ يعود واقفاً على رَسْمٍ دَرَسْ، ليقوّلنا، أو يكاد: (النجدة أيّتها الحرب الشاملة!).

ولا بأسْ. طالما كان تعريف (الهولِ) سوريّاً؛ هو ما كان هو وراءه صغيراً، ولو وقف أمامَه لكَبُرْ. وطالما كانت "الحرب الشاملة"، منذ النكبة، هي طاقيّة الإخفاء، اليمينيّة-اليساريّة، لردّ (المؤامرة). المؤامرة التي يُحشّد فيها اليوم قهراً ملايين لا يكاد يجمعهم مشروب ساخن واحد بعد صياح الديك. وبعد ذلك؛ فلْيَعي، ولْيَرعوي، ذلك الفلاح، المتظاهر، المسلح، التكفيري، الذي ترك أرضه بعد عجافٍ سبعٍ، منذ 2004، ونُزِحَ به قبل "النزوح" ليُزْرع على حدود "إسرائيل" كي يَزرعْ. برعاية "اتحاد فلاحي" من هو قائم بالناس إماماً، (بتاريخ علماني ناصع)، طعّاناً لعّاناً، يرد كيد "العدوّ" بمكبّر الصوت، لا مكبّر الفعل. وللصوت أن يرتد صداه من البحر إلى البحر "الديماغوجي"، مادام صَمتُ الجَمْع مكفولا باللّجام.

اختارَ "أنسي" مؤخراً أن يكون ضمن النُخبَة القَصيّة، التي استمرأَتْ "تخزين" البشارة في أفواهها، فلمّا نَطَقَ بالنبوّة من لا يملك الطينَ حتّى؛ أبا التنازل له عن "حداثة" المنسوخ من مصحف "رسولته". متناسياً أنّ فعل الولادة الجديد، هو من أقدم الأفعال. ولكنّ المُصاب قد شخّص مُصيبته في غيره، وهو يقول: (إنّها ظاهرةُ عمَى الشَمْس).

في المَوتْ، إن كانَ لي أنْ أكونَ "مع" أحدٍ؛ فسأكون مع صديقة لي في الشّام تقطّعت بيننا الأسباب، إلا الأثيريّة الهوائيّة منها، على أنْ أكونَ "معه". هنا، في مدينته التي يأكل اسفلتها من حذائي، وآكل منه، إذ تكتب، صدفة، في ذات عين يوم وفاته:

"كنتُ أحاول أن أُقنعَ نفسي بأنّ الموتَ قد أضحى طقساً اعتيادياً في حياتنا. توفي اليوم خالي نتيجةَ خطأ طبّي غبي. كانت وصيّته أن يُدفن بجانب أمّه وأبيه في حمَاة. لا أدري إن كنّا نستطيع العبور به إلى هناك. سوف يُدفَنُ غريباً في دمشق. وسوف يبقى الموت خارج قوانين الاعتياد!".

إنْ تكتُبْ فيه بعد مَمَاتِهِ، فَقدْ كَتَبَ فيك وأنتَ تُقتل. ولعله كان عليه (وما زال… هل هناك وقت؟) أن يمتلك صدراً أرحب من "حداثييه" المقلّدين.

(على قدر تسلط هذا النظام فلم يبق له كثير، فإذا رشقته بحجر سيسقط، لذلك فأنا لست متفائلاً بالوضع في سوريا). لا، لا منْ أجْلِ "الحاج"، ولا من أجْلِ سِواهُ منَ "الحجيج" سنعيد تعريفَ الأمل.

لقد خاض أجدادنا حروبَهم ولا شك، ندوبُهم وِراثيّةٌ بالمناسبة، وها هم اليوم يَنعُونَ علينا، ما نُعيَ عليهم.

نعم، فلتسقط "العاموديّة" السياسيّة في معلّقات مثقفينا "التفعيليين"، الذين لا بدّ نحن مُسائلوهم: (ماذا صنعتَم بالذّهب، ماذا فعلتَم بالوردة).

__

v   كل ما بين قوسين (...) هو اقتباس عن الشاعر الراحل
 
19-02-14

2014-04-30

اليرموك والقيامة أمس Yarmouk..Apocalypse Yesterday


 
 


 
 
لم يخرجوا ليتشمسوا احتفالا بـ"يوبيل" إعادة الإعمار، ولا تنادوا تحضيراً للنهار المقبل الذي اضطرت الأمم المتحدة لتطويبه يوماً لـ"السعادة" هذا الأسبوع، كما أنّها ليست استذكاراً "نوستاليجياً" جماعياً لإحدى المظاهرات السلمية الأولى المطالبة بإسقاط نظام لا يريد له أحد –غير سلمي- أن يسقط. إنّه طوفان الجوع المتخم في مخيم اليرموك.

حُقّ للخيال المطلق أن تتشنج شطحاته أمام هذا المشهد الأسطوري، فما بالنا بخيال مَنْ هم يعانون أصلاً من فقرٍ مدقع فيه. وعليه فقد كان انسحاب هؤلاء السريع إلى غرف المهاترة والتكاذب أمراً متوقعاً، بل "عقائدياً".

كل "بيكسل" من هذه الصورة هو بعض ممن نجا - حتى الآن - من كائنات إنسانية فلسطينية سورية في مخيم القيامة المحاصر قرب دمشق، أقدم عاصمة مأهولة بالطغيان، حتى الآن.

244 يوماً، دون براز، أو قمامة، وأبنية مهشمة كرقائق الكرتون، ورؤوس، ورؤوس، ورؤوس، وذلك المسيح الشارد فوقها في المؤخرة وكأنه يهم ثانية بأعجوبة المشي على الماء... ماء العيون... العيون الشاخصة... الشاخصة نحو معجزة... معجزة يمكن "اللجوء" إليها هذه المرة، وقابلة للهضم، كالخبز.

ساعة الصحو الطارئة التي لا يمطر سقف الوطن فيها متفجرات، نمارس فيها رياضة "الطوابير". نقف جميعاً في رتلٍ طويل، ونمرّ واحداً واحداً لنفحص كلنا صدر ذلك القادم من العالم الآخر بقميصه الأزرق المدرّع: "هل يعمل قلبك بشكل جيد من دون رصاص؟".

كان يمكن أن تكون لقطة من بث مباشر يصوّر فلسطينيين استنفروا للمّ مزق حيواتهم المتناثرة وراء كل الحدود حازمين الحقائب لزحف العودة إلى فلسطين، لو أنّ الجبهة "الواطئة" كانت هي المفتوحة في الجنوب من قِبَل هذا "المناضل" المدجج بالموت.

سواء أكان فريدريك بيرنارد من قالها للمرة الأولى أم كونفوشيوس أم أحد آخر، ما كان لصورة واحدة أن تساوي ألف كلمة، لو لم تكن محاطة في لحظتها بألف أخرس.
 
 
 

2014-04-22

يوميات بيروت: متلازمة "سندريلا" السورية Cinderella Syndrome and Syrian Refugees in Lebanon

 
 
 
إذا سألك سائل عن سبب استعجالك الانصراف قبيل انتصاف الليل في بيروت؛ يمكنك أن تتذرع بضرورة مباشرتك بالإجراءات الطويلة لركن الـ"مازدا 323" الخاصّة بك (في الواقع أنت لا تملك أية سيارة) في مرآب الـ"تاور" الزجاجي حيث يقيم مُضيفك.
فالحارس ناعس الطرف الذي يطمح منفرداً لتدارك "تقصير جميع الأجهزة الأمنيّة في لبنان منذ الطائف"؛ سيستيقظ دفعة واحدة لدى رؤيتك (يا سوري)، ليمرّر عصاه الالكترونيّة الصفراء على كل عضو ظاهر، أو ضامر، من الأعضاء المختونة لعربتك ذات لوحة التسجيل التي تحمل بخط رقعة سائل اسم "دمشق"، بالأسود.
ذلك، وإلا..
فإنّ سيّارة الأجرة "المرسيدس" المتهالكة التي ستضطر لركوبها (إن تأخرت في حفلتك بعد 12 ليلاً) قد تستحيل في غمضة عين إلى "هامفي" عسكريّة، أو "دودج شارجر" دركيّة، وتتغير بالتالي ملامح الوجهة، كما قد تتغير –لاحقا- معالم الوجه، أو القفا، في أحد بيانات "هيومن رايتس ووتش" الغزيرة عن الأجانب المستجدين في لبنان.
أو أنّ السائق الذي سيستسلم مبدئياً، على فطرته، بشكل غير متوقع للـ"ألفين" ليرة لبنانيّة الشحيحين (1.3$ تسعيرتك الثابتة للتنقل بين "الحمرا" و"مار مخايل")، قد تطفر جينات هدوءه السياسي فجأة، إثر ملاحظة مسيئة لشخص السيد الرئيس (هناك)، فيلوي خُطام فرسه إلى محطّة "مستودع آل المقداد" (جوقة محلية من خاطفي السوريين) بدلاً من حانة "راديو بيروت". حيث سيعجز قصاصو الأثر في "فرع المعلومات" عن إدراكه، بالطبع. رغم أنهم يعرفون مكانه، بالطبع أيضاً.
أمّا في حين كان خيارك مشواراً مع "فان رقم 4" (خط الضاحية الجنوبية في بيروت) بأغانيه التي تشجع على "النأي بالنفس"، في أول شارعين (وتوسم عادة بالهابطة)؛ فقد تستحيل العربة "المقاومة" للبيئة –إذا سحبتك رقصة الفالس من زمانك الأرضي- إلى دورة حزبيّة عقائدية على عجلات. بفصحى مقعّرة، وأحرف جرّ لا نهائية إلى "حيفا"، وما وراء "حيفا"، حيث لا يصل تردد "إذاعة النور" (راديو حزب الله) عادة بعد 2006.
إذنْ..
قبّـل سريعاً مودّعيك ثلاثاً على الخدّين (عادة لبنانية) في "مزيان"، و"تاء مربوطة"، و"أم نزيه". ومرتين فقط (عادة سورية)، مغادرا شبّاك توزيع السلال الغذائيّة الخيريّة، أو العيادة البدويّة النقّالة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ومرةً واحدةً (عادة شخصية) صورةَ منْ تركتَ في محفظتك سنتين حتى اهترأت. على أمل ألا يُجبركَ أحدٌ على تقبيل "مكونات" إضافية أنكى (عادة أمنية) وأنت في طابور –مظاهرة- تجديد أوراق إقامتك في اليوم التالي.
في حكايات ما قبل النوم، تُضيّع حسناء القصر حذائها، مُسابقَةً دقات الساعة "التوراتيّة". ومع انتصاف الليل؛ تعود الفتاة إلى مسح البلاط، وجلي الصحون.
في مرويّات ما بعد اليقظة (2011)، تواصل الفتاة بعد الدقات الاثنتي عشر "تعزيل" الحظيرة، مطمئنة إلى حُسنها، وخدودها الموّردة... وتقرر في اليوم التالي أن تذهب إلى حفلة الأمير حافية.