2014-04-30

اليرموك والقيامة أمس Yarmouk..Apocalypse Yesterday


 
 


 
 
لم يخرجوا ليتشمسوا احتفالا بـ"يوبيل" إعادة الإعمار، ولا تنادوا تحضيراً للنهار المقبل الذي اضطرت الأمم المتحدة لتطويبه يوماً لـ"السعادة" هذا الأسبوع، كما أنّها ليست استذكاراً "نوستاليجياً" جماعياً لإحدى المظاهرات السلمية الأولى المطالبة بإسقاط نظام لا يريد له أحد –غير سلمي- أن يسقط. إنّه طوفان الجوع المتخم في مخيم اليرموك.

حُقّ للخيال المطلق أن تتشنج شطحاته أمام هذا المشهد الأسطوري، فما بالنا بخيال مَنْ هم يعانون أصلاً من فقرٍ مدقع فيه. وعليه فقد كان انسحاب هؤلاء السريع إلى غرف المهاترة والتكاذب أمراً متوقعاً، بل "عقائدياً".

كل "بيكسل" من هذه الصورة هو بعض ممن نجا - حتى الآن - من كائنات إنسانية فلسطينية سورية في مخيم القيامة المحاصر قرب دمشق، أقدم عاصمة مأهولة بالطغيان، حتى الآن.

244 يوماً، دون براز، أو قمامة، وأبنية مهشمة كرقائق الكرتون، ورؤوس، ورؤوس، ورؤوس، وذلك المسيح الشارد فوقها في المؤخرة وكأنه يهم ثانية بأعجوبة المشي على الماء... ماء العيون... العيون الشاخصة... الشاخصة نحو معجزة... معجزة يمكن "اللجوء" إليها هذه المرة، وقابلة للهضم، كالخبز.

ساعة الصحو الطارئة التي لا يمطر سقف الوطن فيها متفجرات، نمارس فيها رياضة "الطوابير". نقف جميعاً في رتلٍ طويل، ونمرّ واحداً واحداً لنفحص كلنا صدر ذلك القادم من العالم الآخر بقميصه الأزرق المدرّع: "هل يعمل قلبك بشكل جيد من دون رصاص؟".

كان يمكن أن تكون لقطة من بث مباشر يصوّر فلسطينيين استنفروا للمّ مزق حيواتهم المتناثرة وراء كل الحدود حازمين الحقائب لزحف العودة إلى فلسطين، لو أنّ الجبهة "الواطئة" كانت هي المفتوحة في الجنوب من قِبَل هذا "المناضل" المدجج بالموت.

سواء أكان فريدريك بيرنارد من قالها للمرة الأولى أم كونفوشيوس أم أحد آخر، ما كان لصورة واحدة أن تساوي ألف كلمة، لو لم تكن محاطة في لحظتها بألف أخرس.
 
 
 

2014-04-22

يوميات بيروت: متلازمة "سندريلا" السورية Cinderella Syndrome and Syrian Refugees in Lebanon

 
 
 
إذا سألك سائل عن سبب استعجالك الانصراف قبيل انتصاف الليل في بيروت؛ يمكنك أن تتذرع بضرورة مباشرتك بالإجراءات الطويلة لركن الـ"مازدا 323" الخاصّة بك (في الواقع أنت لا تملك أية سيارة) في مرآب الـ"تاور" الزجاجي حيث يقيم مُضيفك.
فالحارس ناعس الطرف الذي يطمح منفرداً لتدارك "تقصير جميع الأجهزة الأمنيّة في لبنان منذ الطائف"؛ سيستيقظ دفعة واحدة لدى رؤيتك (يا سوري)، ليمرّر عصاه الالكترونيّة الصفراء على كل عضو ظاهر، أو ضامر، من الأعضاء المختونة لعربتك ذات لوحة التسجيل التي تحمل بخط رقعة سائل اسم "دمشق"، بالأسود.
ذلك، وإلا..
فإنّ سيّارة الأجرة "المرسيدس" المتهالكة التي ستضطر لركوبها (إن تأخرت في حفلتك بعد 12 ليلاً) قد تستحيل في غمضة عين إلى "هامفي" عسكريّة، أو "دودج شارجر" دركيّة، وتتغير بالتالي ملامح الوجهة، كما قد تتغير –لاحقا- معالم الوجه، أو القفا، في أحد بيانات "هيومن رايتس ووتش" الغزيرة عن الأجانب المستجدين في لبنان.
أو أنّ السائق الذي سيستسلم مبدئياً، على فطرته، بشكل غير متوقع للـ"ألفين" ليرة لبنانيّة الشحيحين (1.3$ تسعيرتك الثابتة للتنقل بين "الحمرا" و"مار مخايل")، قد تطفر جينات هدوءه السياسي فجأة، إثر ملاحظة مسيئة لشخص السيد الرئيس (هناك)، فيلوي خُطام فرسه إلى محطّة "مستودع آل المقداد" (جوقة محلية من خاطفي السوريين) بدلاً من حانة "راديو بيروت". حيث سيعجز قصاصو الأثر في "فرع المعلومات" عن إدراكه، بالطبع. رغم أنهم يعرفون مكانه، بالطبع أيضاً.
أمّا في حين كان خيارك مشواراً مع "فان رقم 4" (خط الضاحية الجنوبية في بيروت) بأغانيه التي تشجع على "النأي بالنفس"، في أول شارعين (وتوسم عادة بالهابطة)؛ فقد تستحيل العربة "المقاومة" للبيئة –إذا سحبتك رقصة الفالس من زمانك الأرضي- إلى دورة حزبيّة عقائدية على عجلات. بفصحى مقعّرة، وأحرف جرّ لا نهائية إلى "حيفا"، وما وراء "حيفا"، حيث لا يصل تردد "إذاعة النور" (راديو حزب الله) عادة بعد 2006.
إذنْ..
قبّـل سريعاً مودّعيك ثلاثاً على الخدّين (عادة لبنانية) في "مزيان"، و"تاء مربوطة"، و"أم نزيه". ومرتين فقط (عادة سورية)، مغادرا شبّاك توزيع السلال الغذائيّة الخيريّة، أو العيادة البدويّة النقّالة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ومرةً واحدةً (عادة شخصية) صورةَ منْ تركتَ في محفظتك سنتين حتى اهترأت. على أمل ألا يُجبركَ أحدٌ على تقبيل "مكونات" إضافية أنكى (عادة أمنية) وأنت في طابور –مظاهرة- تجديد أوراق إقامتك في اليوم التالي.
في حكايات ما قبل النوم، تُضيّع حسناء القصر حذائها، مُسابقَةً دقات الساعة "التوراتيّة". ومع انتصاف الليل؛ تعود الفتاة إلى مسح البلاط، وجلي الصحون.
في مرويّات ما بعد اليقظة (2011)، تواصل الفتاة بعد الدقات الاثنتي عشر "تعزيل" الحظيرة، مطمئنة إلى حُسنها، وخدودها الموّردة... وتقرر في اليوم التالي أن تذهب إلى حفلة الأمير حافية.

2014-04-21

خريف البطريرك العربي.. وداعية مؤجلة




خرج من منزله تلك الليلة محاولاً بالمشي شفاء نزلة الصدر الوجودية التي انتابته فجأة. أخرج هاتفه من جيب بنطال الجينز، وقبل أن ينبس صديقه على الطرف الآخر بحرف؛ بادره بالصراخ:

"ابن الـ...، لقد قاربت على الانتهاء من قراءة الجزء الأول، وأخو الـ... ما زال في الخامسة والعشرين فقط!"

لم يكن ذلك الشتّام اللعّان سوى أنا، ولم يكن ذلك الشاب ابن الخامسة والعشرين الذي زلزلني وأثار حنقي سوى غابرييل غارسيا ماركيز، ولم يكن الجزء الأول الذي تحدثت عنه لصديقي سوى الدفعة الأولى من مذكرات هذا الكاتب التي التهمتها بلقمة واحدة بعد صدور طبعتها الأولى في دمشق بعنوان "عشت لأروي".

أن تجاوز الـ250 صفحة وأنت تقرأ عن الحياة (العادية) لشخص ما في منتصف العشرينات من عمره دون أن تجد متسعاً لوساوس إلقاء كتاب هذا المراهق المزمن جانباً؛ أمر لا يحدث كلّ يوم. ثمّ أن تقارن تلك الصفحات التي تطفر بأنفاس وعرق صاحبها بحياتك السائلة أمامك في رمادي الشام حينها؛ أدعى لأن تصاب بنوبة جنون رقيقة.

ستجري مياه كثيرة تحت الجسر إيّاه بعد ذلك، وستأخذ حلقات رواياته لبّك الطري، ثم ستنقلب عليه لتتمكن من قراءة كتّاب آخرين سواه، من دون أن تظلّ نظارته على عينيك تقيس بها كلماتهم وسطورهم بالسنتيمتر الماركيزي.

"الواقعية السحرية" لم تكن حلاً من "غابو" لتقديم تفسير علمي للخوارق المجتمعية التي تربينا عليها، كما يتربى غيرنا على القانون والمنطق؛ بل جاءت كتوصيف حال فج يقول إنّ القاعدة (عندنا كما في أميركا اللاتينية) كانت للشاذ والطارئ اللذين يستطيلان في حيواتنا فلا يعود هناك بد من بناء عش مؤقت فوق الأغصان المتكسرة تلك ريثما تنبت أجنحة للشجرة بكاملها، لا لسكانها من العصافير الصغيرة فقط.

الطاغية الذي درّب جنوده ليعملوا مجاناً و"يثبتوا بأنهم قادرون على تمزيق أمهاتهم إرباً إرباً وإلقاء المزق إلى الخنازير دون أن يتحرك لهم ساكن"؛ يرقد اليوم بثقب هادئ في رأسه، أسفل خندق محكم، ومبخّر بمواد تزرد اللحم الميت بشهوة كيميائية، بين "مصراتة" وساحل المتوسط.

الأب القائد الذي حزّ بنياشين انتصاراته الملحمية ستة رؤوس وكوّن لنفسه ستين عدواً، ومقابل الستين رأساً التالية صاروا ستمائة، "ثم ستة آلاف، ثم ستة ملايين، ثم كل البلاد"؛ افتقد الشامبو الأثير لديه في حفرته الدودية، قبل أن يخرج ليعتمر قلنسوته السوداء حتى عنقه، ويُربطَ له فوقها "كرافات" من أسلاك خشنة ستكون رسمياً آخر ما سيرتديه في حياته، وبدون سيجار أو بندقية صيد.

المستبد الشيخ الذي كان من الصعب التسليم بأنه لا يمكن إصلاحه "هو بقية إنسان، كانت سلطته من القوة بحيث سأل ذات يوم [كم الساعة الآن؟] فأجابوه: [الساعة التي تريدها سيدي الجنرال]"؛ يتمشى اليوم بكرسي الحكم الذي أضاف إلى ديكوره عجلات مدولبة تعين جسده الشبحي على ولوج القلم الانتخابي ليقترع لنفسه عن ولاية أبدية جديدة، ويقول بعد اضمحلال حنجرته إيماءً: "عاش أنا".

الجنرال الذي أمر بتعليق الناس مقيدي الأرجل والأيدي ورؤوسهم إلى أسفل مدة ساعات وساعات، ثمّ "اختار واحداً من المجموعة الرئيسة، وأمر بسلخه حياً على مرأى الجميع. والجميع رأوا الجلد اللين الأصفر مثل غشاء جنين ولد حديثاً، وأحسوا بأنهم تبللوا بذلك السائل الدموي الغالي من لحم مسلوق يحتضر واثباً على بلاط الباحة"؛ توقف دماغه الفذ عن ابتكار مزيد من ضروب السحل والتمثيل بالأحياء، ودخل غيبوبة لمدة ثماني سنوات، رأى فيها أحلام جميع من قتلهم في حرب الأيام الستة، والسبعة، والسبعين عاماً.

 والدكتاتور الوديع بعينيه السماويتين وضحكته الهوائية سيصدر عفوأً عامّاً بعد أن لم يبق مكان في سجنه لفرد، "منزعجاً من حشد من البُرص والعميان والمشلولين المتوسلين، ومن سياسيين متعلمين ومتملقين بلا حياء كانوا ينادون به قائداً أعلى للزلازل الأرضية، وللكسوف وللخسوف والسنوات الكبيسة، وأخطاء الرب الأخرى"؛ لن يتمكنّ من الاعتناء شخصياً بتجهيز "برميله" الأخير الذي كان سيدحرجه فوق مدينة ما في مزرعته التي ورثها عن أبيه "الخالد"، إذ أنّ العقبان ستنقض على شرفات قصره الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، "ومع بزوغ شمس يوم الاثنين ستستيقظ المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة. نسمة ميت عظيم، ورِفْعَةٍ متعفنة".

كان بانتظار غابيتو، أن يكتب 6 روايات مفصّلة أخرى عن معتوهي تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين وسوريا والجزائر و..و.. لو أنّ جهازه اللمفاوي سمح له بهذا. لكنّه منحنا مع ذلك رؤوس الأقلام التي لا بدّ أن نخطّ بها يوماً سير هؤلاء، وعلى زاوية منضدتنا 500 ورقة بيضاء، وزنبقة صفراء في عروة القميص.

"الواقعية السحرية" هو التعريف "السوسيولوجي" الرصين لنمط الحياة التي صنعتنا بأيد عابثة (لكن صلدة) كفخار معدّ لشهوة التحطيم.

وهل أقلّ سحراً وعبثية من أن تبرمج نفسك لسنوات خلتها ستكون طويلة، كي تذهب في معرض الكتاب السنوي بدمشق إلى إحدى دور النشر، وتحاول تكراراً إقناع القائمين عليها بأنّ ماركيز يحبذ عنوان "خريف البطريرك" لروايته، وليس "خريف البطريق" كما يظهر العنوان على نسخة الدار من الكتاب؟

أصدقاء قالوا لي إنّ الرجل الكولومبي المرح كان مريضاً. وكأنّ الموت طبيعي في المرض، أو بعده. أين ماركيز ليقص عليهم حكاية من حكاياته يخبرهم فيها كيف أزاحت إحدى شخصياته القادمة حجر المدفن الثقيل وخرجت من القبر المائل بكامل زينتها، وأوقفت "تاكسي" عابراً لتلحق بالمشيعين وتواسيهم عن قطعهم روتين أشغالهم من أجل جنازة ليس اليوم هو الوقت الأمثل للسير في ركابها.