2014-04-07

عودة "غرامشي" السوري إلى صباه ... Syrian "Gramsci" is Back





كأي صياد سمك في سيريلانكا، فوجئ المثقّفون السوريون بالرجفة العظيمة التي هزّت البلاد من جنوبها في آذار/ مارس 2011. وكما التقط مذياع الصياد الشارد موجة الأثير التي سحبه إليها موج الماء المتلاطم ليسمع اسم سوريا للمرة الأولى؛ وقعت بالصدفة أقلام ورِيَش وعدسات المثقّفين المحليين على صرخة "الشعب"، عارية للمرة الأولى. صرخةٌ كان قد أتلفها المجاز في عروضهم، وأنهكتها التورية والاستعارة في كتاباتهم، وأوشكنا بعد أربعين عاماً أن نقتنع بأنّ "الحرية" لا تُلفظ إلا همْساً، وأنّ هذه البحّة المزمنة في حناجرنا هي طبع "بيولوجي" كألوان العيون وطول الأصابع.

 فإنْ كان إسقاط النظام الديكتاتوري في سوريا يحتاج، بعد ثلاث سنوات، إلى عسكرة وتسليح ومناطق حظر جويّ؛ فإنّ الأقدام الحافية الأولى التي تدافعت في درعا لم تواجه عناءً يُذكر في إسقاط أقنعة المثقّفين السوريين المكرسين في البلاد وخارجها.

ومع أنّ الكثرة الكاثرة من هؤلاء المثقّفين ما زالت على استنكافها عن إجراء أي مراجعة جديّة للشيء الذي كانت تدعوه "فعلها الثقافي" على مَرّ السنوات الماضية ومُرّها؛ إلا أنّ الهزّة التي زلزلت مسلّمات فكرية كان مثقفون يركنون إليها أو يتلطون وراءها، انعكست مَيلاً واضحاً لدى عديد منهم إلى العودة نحو الجذور "الميدانية" للتجريد الذي احترفوه فأسرفوا فيه. وذلك بحثاً عن "حبل سُري" مقطوع بين المثقّف ومحيطه الذي من المفترض أنّه يُنظّر له، في حين أنّه كان لسنوات ينظّر عليه.

ولا يخفى أنّ الخلفيّات "اليسارية" و"القومية" لمثقّفين سوريين ملتحقين بقطار الثورة قد يسّرت عليهم بعض الشيء التقاط تذكرة الإياب تلك. فنفضوا الغبار في رؤوسهم عن جوهر المقولات "النضالية" التي كانوا يرددونها استظهاراً من قبيل "الإرادة الشعبية"، و"الطبقات المحرومة"، و"الفئات المهمشة".

ولم يعد نادراً أن نرى مُخرجاً مسرحياً يدق المسامير في منصة اعتصام في بلدته، أو رساماً مشقق الكفّ من نقل أكياس البرغل والطحين، أو عازفاً موسيقياً خبيراً بالأصناف الطبية لأكياس الدم ومسالك تهريب إبر الكزاز. وهو مشهدٌ كان يجدد دائماً نسغ الحياة في الشرايين النازفة لأيّام التظاهر الدامية.

غير أنّ هزة أخرى ستأتي سريعاً لتنغص على كثير من المثقّفين هذه النشوة "الغرامشية" المتمثلة بعودة العضو المبتور إلى الجسد الناهض. فهذا التناغم الـ"طوباوي" الذي بدا لوهلة أنّه في طريقه إلى لمّ شمل "الجماهير" مع "طبقتها المفكرة"؛ سيفسده ـ من وجهة نظر المثقّفين بالطبع ـ "كورال" الرصاص الهادر، بعد نشاز "الله أكبر" الذي كان من الممكن "تكتيكياً" بنظرهم احتواؤه أو معادلته في الإعلام.

وهي مفاجأة أخرى، تأتي في التحليل البارد كنتيجة منطقية للوقت الطويل ـ الأشهر الستة إلى الثمانية الأولى ـ الذي استغرقه المثقّفون السوريون في إعادة ارتداء قميص "المثقّف العضوي" الفضفاض أصلاً، ومحاولة "الالتحام" ثانية مع الجموع المنتفضة.
غافلين عن أنّهم كانوا طوال تلك الفترة مجرّد مجموعة مضطربة تجري لاهثة وراء الحشود السائرة، بعيداً عن غرف عمليات توجيه الحراك.تلك الغرف كانت تنتج ـ بمعزل عنهم مرة أخرى ـ آليات زحفها، وتقترح من عنديّاتها ـ ولنقل ترتجل ـ الحلول لما تواجهه من تحديات خطيرة على الأرض، وعلى رأسها إصرار النظام على فرض شرطه العسكري "التوراتي"، وإطلاق يد غوله الأمني اغتصاباً، وتقتيلاً، وتدميراً، استجلاباً منه لردة فعل غريزية، ليس أقلّها غريزة البقاء، وهو ما نجح فيه نهاية.

فكان لاجتماع "العسكرة" مع تنسيقيات "التأسلم" في ردة فعل الناس على الأرض وقع الصاعقة على كثير من الرؤوس المثقّفة الحالمة. ما خلق فصاماً جديداً في خطاب المثقّفين السوريين تجاه "شعبهم/جمهورهم".

خطابٌ كانت أقلامهم بالكاد قد خطّت أحرفه "الرومانسية" الأولى، والتي ستستحيل لاحقاً لدى جماعة منهم إلى معلقات تقريعيّة مقذعة، ومحض إنشائية. ولدى جماعة أخرى ـ لم تضغط زناد بندقية صيد يوماً ـ إلى تمجيد أعمى للسلاح، من دون أن تتنازل بالطبع عن "هواجسها" العلمانية التي ستظل ملتبسة في نظر مَنْ من المفترض أنّها تدعمهم "روحياً" في "كفاحهم المسلح".
في حين سينأى فصيل مثقّف آخر بنفسه عن كل هذه المعمعة، لينكص القهقرى إمّا إلى عدميّته الأصيلة السابقة على الثورة، أو إلى صفوف مثقفي السلطة القمعية، والذين انتظموا على متاريسهم في خنادق "المعركة".

وبهذا المعنى، ستغدو السيرة المؤسفة ـ حتّى الآن ـ لأحد "المثقّفين العضويين" السوريين مضرباً للمثل والعبرة لمدة طويلة ولا بدّ. فبعد أكثر من سنتين من النضال "المثقّف" في العاصمة، والعاصمة لا تعصم؛ يضطره الظرف الأمني القاهر إلى الفرار إلى بلدته ومسقط رأسه في الشرق، والتي، بحسب النظرية الغرامشية، كان من المفترض بها أن تكون أكثر أماناً بالنسبة إليه تحديداً، لكنّه لن يتمكن من الصمود فيها لأكثر من عشرين يوماً.

وللمرء أن يتخيل تلك الفجيعة المؤلمة لنا جميعاً.نعم. كان الأحرى بنصف المليون فلاح الذين نكبهم الجفاف المتواصل منذ 2005 ـ على أقرب تقدير ـ وهجّرهم من أراضيهم في شمال وشرق البلاد؛ أن يفتحوا جلابيبهم طوعاً لرصاص النظام الذي ألجأهم إلى غور الأردن على حدود فلسطين المحتلة بحثاً عن عمل.
وكان الأحرى بهم قبل ذلك، وهم المتروكون بلا مدارس أو كهرباء أو خدمات زراعية حتّى، أن يهتفوا "فولتير.. سبينوزا.. دريدا" عوضاً عن "مالنا غيرك يا الله". ومَن يعلم، ربما كانت "الثورة السورية" حينها ستكون أليَق بروايات وأشعار ما قبل النوم التي كان مثقفونا على أهبة الاستعداد لتسطيرها، بدلاً من هذا الأحمر الوحشي الذي يفترس وثير كراسي مؤتمراتهم بلا هوادة.



 

يا "تكنوقراط" العالم اتحدوا Technocrats Of The World Unite





يدخل بلحيته الرماديّة المشذبة، وعطره المدروس تحت ياقة بيضاء. يفتح الـ"الباور بوينت" مباشرة على شاشة "الديجتال" 42 إنش، ويجلس بانتظار اكتمال وصول الحضور. صديقي الجديد القادم من "كفرنبل" والذي سيفقد ذراعه إن لم يستطع تأمين حجز المستشفى في طرابلس اليوم؛ ينظر إليه ويهمس لي:" شكلو الأستاز فهمان".

 إنّه "الخبير".

بعد استفحال انتفاضة التِقانة بين ظهرانينا؛ أصبحت السلطةُ للمعرفةِ ومنتسبيها من فنيين وتقنيين وخبراء. آمين.

لكن أن يقتنع المرء بأنّ هؤلاء القوم ينحتون في صخر الملمات الداهمة بلا أهداف سياسية؛ أمر يصعب ابتلاعه. يتّخذ "التنكنوقراطي" المعاصر، ومثاله سوري هنا، من فرقعة "بالونات" الأيدولوجيات المتطايرة يمنة ويسرة هواية محببة إليه. وعندما يدخلُ بلداً "ما" يعيش ثورة شعبية؛ يصبح المرادف التقني لها مفردة "أزمة" أو "اضطراب"، مقارنة بعقود استقرار الديكتاتورية المحلية، والتي كان يمكن لها -برأيه- مع شيء من "الإصلاح" والشركات القابضة أن "تتغير" إلى ديكتاتو-قراطية عابرة للقارات.

إمعاناً في الابتعاد عن السياسة، ونموذجها البائس ذلك المثقف السوري العتيق الذي أضاف مؤخراً "ميكافيللي" إلى قائمة أصدقائه على "فيسبوك".

الحديث عن إعادة الإعمار -بهذه السطحية- فيما لا تزال أسقف البيوت تتهاوى تحت أطنان القذائف المرسلة؛ لا نقول إنه يزيد من وحشية "النظام" ويخدّر عيون الضحايا الدامعة فحسب؛ بل ويهمل الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية، والاقتصادية -بطبيعة الحال- التي يتوجب أن يُعاد هذا الإعمار على أساسها -وهي مسألة عقائديّة- كيلا ننجرّ إلى جمع قشٍ نبني به ذات العش المثقوب ثانية.

لكنّ الحاصل هنا هو أنّ النخبة الخبيرة تدور في هذا الربيع كالنحل الطنّان برعاية "ديموقراطية" المانحين و"أمن" البلد المضيف، مسخّرةً ورشات العمل و"الووركشوبز" لإنتاج جيل من سائقي التاكسي المستعدين لتلقف أي عابر وإيصاله إلى أي مضافة شعبية متواضعة في هذا الوطن المحرر المحتل.

وعليه فقد صار عندنا اليوم قناصٌ "تكنوقراط" يسند بندقيته الـ"شتاير" إلى كتفه ويزرع رصاصة تماماً في "البصلة السيسائيّة" للهدف الذي يتحرك أمامه أولاً من أحد المعسكرين على الجبهة.

ومسؤول إغاثة "تكنوقراط" لا يستخدم حساب منظمته الإنسانية مرتين مع ذات العشيقة، أو ذات الممول.

وناطور "تكنوقراط" يغلق هاتفه الجوّال مباشرة بعد انقطاع كهرباء المصعد في برج قيد الإنشاء، وحده الطابقُ الحادي عشر مأهولٌ فيه.

وصحافية "تكنوقراط" تقول إنّها قادمة من الداخل لتوها، وتُعَرّض بتمييع الثورة إعلاميّاً في بلجيكا، قبل أن تحزم جوائزها وتعود إلى منزلها التركي في "غازي عنتاب".

إذا كنت في بيروت، سيرن هاتفك اليوم وتصلك الرسالة النصيّة التالية: "3 أيام من التسوق بدون (TVA) في كل فروعنا". فإذا حثّك الشخص الجالس بجانبك على اغتنام الفرصة دون التوقف عند الطريقة المخزية التي تعامل فيها تلك الشركة موظفيها؛ فاعلم إذاً أنّه هو الآخر ...

..."خبير".



رياض الكتب وجحيمها






فجأةً، يسارع مثقف عربي مكرّس إلى التخفّف من مكياج رزانته الثقيل، ويلم خصلات شعره الطويلة داخل قناع صوفي داكن، ويخرج من أدراجه السفلية ـ حيث ترقد أفكاره التي ستغيّر العالم ـ قفازاً أسود بنهايات مطاطية سميكة تساعده على إخفاء بصماته الثقافية المميّزة، داسّاً في جيبه كيساً من الكتان يحمل شارة آخر مؤتمر دُعي إليه منذ عقد على الأقل، قبل أن يضع جوّاله في وضعية "صامت"، منتظراً غياب الشمس.

 لم يتمكن أي ناشط في الربيع العربي حتى الآن من بث فيديو المشهد السابق على "يوتيوب"، لكن هذه هي بالضبط التحضيرات التي يستقبل بها معظمنا أنباء ثبوت رؤية هلال معرض الكتاب في إحدى عواصمنا القومية. فقد باتت هذه المعارض توفّر دورات تدريبية مفتوحة لتمكين مَن يسمى بـ"المواطن العربي" من فنون اللصوصيّة والاحتيال. فرص "رسمية" عزّ أن تجد لها نظيراً في أماكن أخرى على هذا الكوكب القارئ.

فبغير هذه الطريقة كيف هو السبيل إلى الحصول على نسخة من كتاب "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد، أو معرفة أسماء "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أو السير على "درب الآلام" السوري لعزمي بشارة، أو حتى تذوّق "الخبز الحافي" لمحمد شكري يومَ جوع؟

فوفقاً لدوائر الحسبة والتحسّب في جزيرة العرب ـ وزارة الثقافة والإعلام وكذا ـ حرّمت إدارة معرض الكتاب في الرياض، على سبيل المثال، هذا العام وحده مشاركة أكثر من 350 دار نشر عربية. وهو رقم يفوق عدد الدور المشاركة في معرض الكتاب العربي في بيروت، ويقارب نصف عدد الناشرين الحلال في معرض القاهرة.

هذا كلّه ولم نقارب بعد "ميلودراما" الثقوب الغائرة في جيب القارئ العربي، الذي يستغفر راتبه كلّما مسّت يده بالخطأ مخطوطاً يحمل في زاوية "باراكوده" ـ التي تشبه قضبان الزنازين ـ أصفاراً تزوغ منها الأبصار، أو انخفاض معدل السعرات الحرارية المطبوعة للفرد في منطقتنا، أو المعدل الأكثر انخفاضاً منه والخاص بنسب القراءة للفرد ذاته وللمنطقة نفسها.

يدخل المثقف، يقف عند زاوية الجناح، يحكّ أذنه مرتين، يمسّد طرف شاربه الأيسر مرة، ثم يدسّ عشرين دولاراً تحت طبق "البرغر" الساخن على الطاولة. يقف الناشر، يستشرف منحنيات الممر النظيف بطرف عينه، يكرّج فيروز حبات سبحته، يرمي بطبق "البرغر" في القمامة طاوياً ورقة العشرين في باطن كفه. ثم يدفع الطرد الملفوف بجريدة الأمس سنتيمترين إلى الأمام وهو يتثائب.يأخذ المثقف نفساً عميقاً، ثم يسحب الطرد من تحت رزمة الفواتير الفارغة إلى داخل جيب خاص وواسع في معطفه البني بحركة واحدة، ويمضي.يجلس الناشر، يفرقع أصابعه، ويخرج طبق الـ"هوت دوغ " ويضعه على الطاولة أمامه، فيما يصدح صوت إمام مسجد المعرض شجيّاً في صلاة العشاء:"إقرأ باسم ربك الذي خلق".