2014-03-30

"بانكسي" ناشطاً على "يوتيوب" السوري Banksy as an Activist on Syrian YouTube

 
 
 
 
ستة ملايين ونصف المليون مشاهَدة حتى اللحظة، هي نصيب الفيديو المثير للجدل الذي وضعه "فنان الشوارع" البريطاني المعروف باسم "بانكسي" على موقع "يوتيوب" منذ أشهر قليلة، ويَظهر فيه مقاتلون يتحدثون اللهجة السوريّة ويسقطون إحدى شخصيات "والت ديزني" الكرتونية بصاروخ مضاد للطائرات.
ويظهر العمل المصور رجالاً بزي مقاتلين إسلاميين بمصاحبة تسجيل صوتي يبدو أنه مأخوذ عن تسجيل آخر لمقاتلي المعارضة السوريّة على "الانترنت"، باسم "المجلس الثوري العسكري" في حلب، يسقطون فيه طائرة للجيش السوري النظامي.

وبعد التكبير والتهليل، ينجح المقاتلون في إصابة الهدف الذي سرعان ما يكتشف المشاهد أنّه ليس سوى الفيل "دمبو" إحدى الشخصيّات الكرتونيّة الشهيرة لشركة "والت ديزني".
ويلفظ الفيل الصغير أنفاسه الأخيرة فيما يقف أمامه طفل صغير غاضب سرعان ما يوجه ركلة قوية إلى ساق الرجل الذي أطلق الصاروخ، ليقع الأخير أرضاً، وهو يتألم.

وبما أنّ "بانكسي" لم يوضح صراحة قصده من وراء بثّ هذا الفيديو، ولا الرسالة التي أراد إيصالها؛ فقد سارع زوار "يوتيوب" إلى إبداء وجهات نظرهم بالموضوع. ويلحظ المتابع مدى الانقسام الحاصل بين من يرى في المقطع تنبيهاً إلى حقوق الطفل المنتهكة في مناطق النزاع المسلح، ومنها سوريا، ومن يقرأ العمل على أنّه انتقاد لسياسة الدفع بالمزيد من مشاهد العنف التي تستقطب مشاهدي شاشات التلفزة، وبالتالي أموال الإعلان الطائلة.

و"إثارة الجدل" ليس أمراًغريباً على "بانكسي" الذي يصر على الاحتفاظ باسمه الحقيقي سراً حتى اليوم، والتفاته هذه المرّة إلى انتاج أعمال فيديو يزيد من هذا اللغط الدائر حوله، فيما إذا كان هذا الأمر مجرد "تكتيك" فني، أم تبنيّاً مستجداً لـ"الفيديو آرت"، على حساب، أو بالتوازي، مع شغفه الأصلي بالرسم على الجدران.

فنان "غرافيتي" سوري مقيم في بيروت، وأحد "مريدي" الفنان الشهير قال لـ"العربي الجديد" إنّه يتأرجح بين تأويلين للعمل، أولهما أنّ الفنان البريطاني "الثوري" يسخر بمرارة من طريقة تعاطي وكالات الأنباء مع "الحدث السوري" باعتباره "منجم ذهب" لترسيخ الصور النمطيّة عن أبناء هذه المنطقة من العالم، و"تسخيف جهودهم للخروج من واقعهم السياسي البائس، عبر تظهير أخطائهم اللوجستية، وتعميمها كأنّها هي الخيط الناظم لكل هذا الحراك الشعبي".

أمّا "التأويل" الثاني لمحدثنا الذي لن يفصح عن اسمه، قبل أن يفصح "بانكسي" ذاته عن اسمه الحقيقي، كما قال؛ فيذهب في اتجاه تفسير "لا يحبذه" عن كون "بانكسي" قد تقصّد التهكم على المعارضة السوريّة المسلحة مباشرة. لكنّ فنان الـ"غرافيتي" السوري الشاب، يستبعد هذا الاحتمال سريعاً، بالنظر إلى مواقف "بانكسي" المشرّفة من قضية فلسطين، دون أن يصادر حقّ "الفنان" في التعبير عن مواقفه أياً كانت، "وله في أدونيس أسوة حسنة!". لكنّ ذلك يظل مستبعداً، ما لم يعبّر "بانكسي" عنه بـ"صريح القول"، على حد تعبير معلّقنا.

وسبق لـ"بانكسي" أن شدً رحاله إلى الضفة الغربية في 2005، حيث وضع "لوحاته"على الجانب الفلسطيني من جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، راسماً صورتين باتتا معروفتين اليوم، تمثل إحداهما فتحة في الجدار تظهر للمشاهد وكأن شاطئاً جميلًا يمتد خلفه، وأخرى تجسد طفلة تحاول الطيران فوق الجدار بواسطة "بالونات" تحلق بها عالياً.
واشتهر "بانكسي" خلال تسعينيات القرن الماضي، وخاصّة بعد تصويره ملكة بريطانيا "إليزابيث الثانية" على هيئة "شامبانزي" في 2002، قبل أن يصدر كتاباً بعنوان "انطح الجدار برأسك". وهو الذي يصرّ على عدم عرض أعماله في المعارض والصالونات الفنية. لدرجة أنّه تسلل في أحد أيام 2005 إلى المتحف البريطاني ووضع قطعة من الحجر مرسوم عليها رجل وهو يدفع عربة تسوق، مظهراً الحجر وكأنه مأخوذ من أحد كهوف الإنسان القديم.

يذكر أنّ صالة مزادات "فاين آرت أوكشنز" الأميركية، باعت الأسبوع الماضي جداريّة له تحمل اسم "قبلة بين رجلي شرطة"، بمبلغ وصل إلى 575 ألف دولار، حيث سبق لهذا لعمل بالذات أن ظهر للمرة الأولى على جدار مبنى في مدينة "برايتون" (إنكلترا) عام 2005.

ولجأ "بانكسي" إلى وضع رقم هاتف قرب بعض رسوماته الأخيرة، بحيث يمكن لمشاهد عمله الاتصال به ليستمع إلى تسجيل صوتي لرجل يتحدث عن اللوحة، لكن لا يعرف إن كان المتحدث هو "بانكسي" نفسه أم لا. ما نعرفه على وجه الدقة هو أنّ "بانكسي" سبق له أن قال مرّة: "بعضهم يحاول أن يجعل العالم مكاناً أفضل، أما أنا فأحاول أن أجعل منه مكاناً أجمل، إن لم يعجبك رسمي، يمكنك محوه".

                                                                                                                                                                                                           23  فبراير 2014

حركة "بركات" في مثلث برمودا الجزائري

 
 
 
 
لا خلاص قريبا للاشتباك الأزلي بين السياسي والمثقف. وإنْ نَحَتِ الأمور في سنوات الديكتاتورية المتصلة لعقود في عالمنا العربي إلى جهة غلبة تسلّط السياسي، وتغوّل التثاقف السلطوي.
وعلى الرغم من أننا نلمس، مع شيء من التجريد والابتعاد عن المظلومية القمعية لمثقفي المعارضات المحلية، مطامح ومطامع المثقف والسياسي، كل منهما في الآخر؛ لكنّ الحال يتبدّل اليوم ليكسر نمطيّة الصورة التي أريد لها أن تستوطن مخيال مواطننا المقيم، والتي تطوّب لمثقفه "ثوروية" ناجزة بالضرورة مقابل "رجعية" سلطته، وإن كانت تحتل - في عين ذاتها - أعلى عليين "التقدمية"، أو ترفع من شأن أي سلطة، وإن عتت وعتهت، مادامت "تناضل" ضمن موروث ثقافي "طاهر" بعينه، تعينها قوتها الغاشمة على تغليبه و"تقذير" ما سواه.

المناسبة التي تفتح صفحة جديدة في هذا السجال القديم - الحديث، اليوم، هي إعلان الكاتب والصحافي الجزائري مصطفى بن فوضيل* وعدد آخر من مواطنيه المثقفين تأسيس حركة سياسية تحت مسمى "بركات" (جمع بركة وتعني كفى باللهجة الدارجة). ليس لـ"مكافحة" آفة إصرار ترشيح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة نفسه لولاية رابعة، وهو شبح مريض على أبواب الثمانين فحسب؛ وإنما لـ"التأسيس للجمهورية الثانية التي تكون فيها السيادة للشعب والدستور".

ما يحسب لفوضيل وصحبه أنهم يحاولون تدارك ما وقع فيه، ربما الجيران الأقربون والأبعدون من مبدأ شخصنة الحراك برأس هرم السلطة كمُشكلٍ، ومعيار نجاحٍ، يمنح التحرك نشوته بمجرد التخلص من الاسم الذي اخْتُصر فيه "النظام" في مقولة إرادة الشعب الشهيرة.
يقول المثقف الجزائري إنّ "بركات" تؤمن بأنّ المسألة "أعمق من ترشح بوتفليقة أو من عدمه.. وأنّه حتى إن قال لن أخوض الرئاسيات، فلا يوجد مشروع جاهز لدى المعارضة للوصول بالجزائر إلى بر الأمان، نظراً إلى هشاشة الوضع السياسي وصراع الزعامات التي تعيشه كل الأحزاب في السنوات الأخيرة".
وهو أمر حتّم منطقياً على "بركات" عدم الخضوع لـ"أيديولوجيا" أو انتماء دون غيره، لتصل الحركة سريعاً إلى ما استغرق غيرها زمناً لإدراكه، وهو أن الفعل الثقافي/السياسي يجب أن تكون "المواطنة" لبّه، وزبدة مادته الأصيلة. وعليه فلا مندوحة من أن ننفق الوقت حيث يجب إنفاقه في "الهيكلة وتحديد الأهداف". انتقالاً بالعمل إلى "اللحظة التي يجب التحول فيها من التعبير العاطفي إلى تعبيرٍ أكثر فعالية، اللحظة التي نقول فيها (بركات) أي كفى".

ويلفت فوضيل الانتباه هنا بهدوء بالغ ـ لا حماسي و لا ديماغوجي ـ إلى قاعدة أساسية منسية في ممارسة "النضال" المحلي هذه الأيام، وهي أنّ "إعادة خلق طقوس وثقافة نضالية ليس أمراً سهلاً"، خاصة ونحن نتحدث عن الوضع الجزائري ـ وتصلح المقاربة في سواه ـ الذي عانى من مخلفات الإرهاب النفسية، ومن عملية تحطيم وتصفية النخب، وهو ما أفقد الجمع لفترة "القدرة على المقاومة".
وحبذا لو كان كلّ "المقاومين" المكرسين يلتفتون إلى طروحات من هذا القبيل، بدل المكابرة والتبجح بأنّ كلّ هذه العواصف التغييرية في الثقافة التي سادت دهراً؛ هي إمّا نتاج طبيعي لمسيرتهم الفكرية المظفّرة، عندما تناسبهم سياسياً في مصر وليبيا وأحياناً البحرين، أو "مؤامرة" ـ سياسية ـ ثعبانية، عندما تخالف بعض منطلقاتهم "النظرية" التي يبنون عليها فهمهم القاصر للمقاومة، كما في سوريا. المثلُ الذي تسير به ركبان "الصمود والتصدي" اليوم.
يقول فوضيل في نسق موازٍ تعليقاً على "لعبة الأمم" هذه التي تلهو بها بعض الفئات أحياناً "فعلاً، تعشيت ليلة أمس مع رئيس الموساد في مثلث برمودا كي لا يسمع أحد حديثنا حول التخطيط للهجوم على مكتب الجنرال والإطاحة بالرئيس".

لم يكن مطلوباً من صدام حسين في يوم من الأيام ـ إلى جانب الانسحاب من الكويت ـ كتابة رواية باسم "زينب"، أو اعتقال أحد ليكتبها له. وأدونيس لم تفرض عليه المخابرات، وهو في معمعة ليلة "نوبل"، مراسلة "السيد" الرئيس بدل مخاطبة "الرعية" الشعب. ولم يستعجل القرّاء إصدار معمّر القذافي "القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء" فهم بالكاد كانوا قد فكوا طلاسم منشوره البكر "الكتاب الأخضر". ولا ندري إن كان ما زال من المبكّر تناول "إنصاف" المرزوقي في معادلته بين الثقافي والسياسي، شطري كينونته اليوم، أو مراجعة غليون في "برهانه" على أنّه أدار "المجلس الوطني" المعارِض و"مركز دراسات الشرق المعاصر" في جامعة السوربون بالكفاءة والمستوى ذاته. لكن أن تصل المناكفة السياسية مع المثقف حداً تجبر الأخير على استلال حججه من التقارير الطبية وبرامج "الصحة الإنجابية" لإثبات تهافت ذرائع الطرف المقابل سياسياً؛ فهذا ما لم يسبقنا إليه أحد. 

إذ لا يجد بن فوضيل مهرباً له من الدخول في تشخيص الحالة السريرية الصحية للنظام ـ لا الاستراتيجية ولا الجيوبوليتيكة ـ لأنّ ما يحول دون ثلّة من الزعماء المزمنين والاستمرار في الحكم "ليس فقط انسداد الأفق السياسي والمسؤولية الأخلاقية"؛ وإنما العامل "البيولوجي" المتمثل بتقدمهم في العمر، وأمراض شيخوختهم ـ غير الفكرية ـ التي تحول فيزيائياً بينهم وبين أدائهم لمسؤولياتهم، حتى بالحجم الذي قضوا حياتهم كلها يفصلّوه لأنفسهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقابلة أجرتها معه صحيفة "الجزائر نيوز" الأسبوع الماضي.


                                                                                                                21 مارس 2014