2010-11-15

نعم سيدي، كل شيء جاهز لقانون إعلام سيء آخر (1)

Yes Sir, all is ready for another lousy Syrian media law

(1)


طوال ما يقارب الثماني سنوات ظلت الانتقادات التي أمطر بها الإعلاميون والصحفيون السوريون من مختلف المشارب قانون المطبوعات رقم 50 للعام 2001 محافظة على حدتها وحرارتها.


وهي لا زالت كذلك اليوم أيضا ونحن نستعد لتلقف قانون جديد يجري الإعداد له، والذي سيتفوق دون شك على سابقه من حيث السوء والتخلف، بحسب ما قرأنا عنه وفيه مؤخرا.
على أن أية أضرار إضافية يمكن للقانون الجديد أن يلحقها بجسد الإعلام السوري لن تعدو كونها تنويعا إضافيا على ما في ذلك الجسد المثخن من جروح وندوب وعاهات، تكاد تكون في ذاتها أصلا لأي نكبات أخرى في أي قانون جديد فضلا عن أن تكون ناتجة عنه أو عن غيره.

لدرجة تنتفي معها أي مفاجئة تجاه مواد أو بنود بعينها في التشريع الجديد قد تكون مثارا للندب أكثر منه للانتقاد، إذ أن كل شيء جاهز عمليا لقانون إعلام سوري سيء ثالث، يراد له في الخطابيات أن يسهم في تحسين أداء الإعلام السوري, غير أنه لن يفلح في حال كان أمينا لما فيه من كوارث سوى في تطوير أداء "معامل البصل والكونسروة".[1]

وفيما يلي بعض هذه الأسباب / النتائج التي لا يمكن لأحد على أساسها إلا أن يتأبط شرا من أي قانون جديد أو قديم.


-1-
لن يكون بعيدا جدا ذلك اليوم الذي سيفتح المرء فيه إحدى الموسوعات العالمية الشهيرة والفخورة بموضوعيتها وحصافتها على كلمة "سلبطة" لتظهر له على الفور صورة لوغو "المؤسسة العربية للإعلان" كتعريف مباشر وواف لهذا التعبير الذي باتت له خصوصية سورية لافتة مؤخرا.

فالخدمات التي توفرها هذه المؤسسة لزبائنها الإعلاميين كي تستحق عليه ما تقتطعه من دخلهم الإعلاني هي في أحيان كثيرة أقل من "لا شيء".

وتكاد تكون الرسالة الوحيدة لـ"مؤسسة الإعلان" لعقود هي استغلال سلطاتها الاحتكارية والانتهازية لتجفيف أية منابع محتملة للكفاية المادية والتمويل الذاتي لمختلف الوسائل الإعلامية في البلاد، حارمة إياها من أحد أهم دعائم استقلالها المنشود، وهو الاستقلال الاقتصادي، في ظل غياب أي دعم حكومي مالي مستحق لهذه الوسائل الخاصة.

ليمسي دور المؤسسة الهدام أفدح فأفدح على أبواب –بل في غرفة نوم- أزمة مالية يعرف أصحاب وسائل الإعلام والإعلان كما مديرو المؤسسة الطفيلية إياها أنها بالغتهم. بغض النظر عن التطمينات الوزارية الجوفاء بين حين وآخر، والتي بلغت حدود التضارب والتناقض.

وتفتح "العربية للإعلان" عبر ما تفرضه على وسائل الإعلام الخاص الناشئ، والجبان ماديا، من الضرائب والرسوم والنسب والاقتطاعات والخوات الجائرة والصفيقة الباب واسعا أمام احتكار المتنفذين السابقين والحاليين وأولادهم وشركاهم للقدرة المالية الضرورية لإصدار وتأسيس مؤسسات إعلامية وصحفية وفق المقاييس والمواصفات الرسمية، كأذرع إضافية للبروباغندا الحكومية. مع كل ما قد يشوب ذلك المال من شبهات فساد، نرى انعكاساتها ونسمع صداها بشكل شبه يومي.


-2-
سبب آخر يجعل قانونا مجحفا للإعلام أمرا يسير التطبيق، وهو وجود "المؤسسة العامة للنشر وتوزيع المطبوعات" وتمتعها بصحة وظيفية أكثر من ممتازة حتى الآن.

إذ يكاد من شبه المستحيل أن يمر مطبوع أو مكتوب أو منشور إلا من تحت إبط هذه المؤسسة الديناصور، والتي تستغل عند الطلب طاقاتها الكبيرة وطاقم موظفيها المنتشر على مساحة البلاد لعرقلة توزيع أي صحيفة أو مجلة عبر وسائل باتت معروفة للقاصي والداني، وتكاد المؤسسة نفسها لا تنكرها.
من تأخير التوزيع أو تحديد عدد الأعداد الموزعة، إلى سحب أعداد المطبوعة المغضوب عليها من الأسواق والمكتبات، أو نزع بعض صفحاتها، وصولا إلى منع توزيع المطبوعة نهائيا.

وعلى الضد من شقيقاتها في القطاع العام؛ لا تشكو هذه المؤسسة فيما يبدو من البيروقراطية السورية الممضة، بروتينها الرسمي الأشهر، إذ يمكن لإحدى تلك الإجراءات أن تأخذ طريقها للتنفيذ بسرعات قياسية، وعبر مكالمة هاتفية مقتضبة، وأوامر مرتجلة من قبل هذا المسؤول أو ذاك، كما سبق وأن حصل مع صحيفة الوطن شبه الرسمية، وجريدة بورصات وأسواق المحليتين، وصحيفتي الأخبار والديار اللبنانيتين، على سبيل المثال لا الحصر.

وترفض المؤسسة –التزاما بقانون الحصرية المبنية على أساسه- رفضا باتا، أن توكل مهمة التوزيع لمؤسسات محلية خاصة لا تنقصها الموارد والخبرات أحيانا، ما لم تخضع الأمر لمساومات مجحفة، تبقى تفاصيلها مثار التكهنات كما وقع مرة مع صحيفة "بلدنا" اليومية، والتي تملكها المجموعة المتحدة للإعلام، رغم ما هو مشهود لها من التزام الخط الرسمي في معظم ما تقوم به.


-3-
أما عن اتحاد الصحفيين السوريين فحدث ولا حرج. بدء بتعريفاته التمييزية ضد الصحفيين الذين لا يروقونه، ومرورا باستثناءه صحفيي الإعلام الخاص من عضويته، واحتكاره تمثيل صحافيي البلد في المحافل الدولية –إن كان له أي تأثير فاعل فيها أصلا- وصولا إلى وقوفه مكتوف اليدين، تجاه مصالح من يفترض أنه يمثلهم داخل كيانه وخارجه، وتحوله مع الأيام إلى مركز جباية للاشتراكات من أعضاءه الحاليين، بدل المنافحة عن حقوقهم المادية المتدهورة والمنتهكة.

ولا يسع معظم صحفيي الإعلام الخاص إلا الاكتفاء بالتقاط بعض التصريحات الثمينة من رئيس اتحاد زملائهم "الموظفين" والـ"بلا إبداع" **** في الحكومي، خاصة وهو يقرّع هؤلاء الصحفيين "الخاصـّين" بقول من قبيل "لا يلومن صحفيو هذا القطاع إلا أنفسهم لعدم تمكنهم من توفير مصادر معلومات لموادهم" !

وهو العارف أن اتحاده بقي عاجزا لسنوات طويلة رغم الانفتاح النسبي هنا وهناك في قطاع الإعلام عن استصدار أو طرح تشريع يتيح حرية الحصول على المعلومات أمام الصحفيين السوريين على الجملة، كسبيل بديل عن الطرق الكلاسيكية في تحصيل المعلومة والخبر سوريا، والتي كثيرا ما تعتمد على التلفونات الاستنسابية لرؤساء تحرير الرسمي ذوي السلطة ما فوق الصحفية، أو تسهيلات رئيس الفرقة الحزبية هنا وهناك، أو واسطات شهبندر التجار، أو شيخ الكار، أو دفع الرشاوى، أو الاعتماد على الإحصاءات والمعلومات "المغرضة" للمؤسسات الدولية المتآمرة على اقتصاد البلد وسياسته واجتماعه ورياضته ولحمته الوطنية.
وكل ذلك للتمتع بخمر وعسل بضع ليرات سورية للمادة الواحدة وفق أسعار الصحافة غير المدرجة في بورصة هذه الأيام.

والشيء ذاته ينطبق على أداء وزارة الإعلام السورية، والتي بلغ من "مهنية" ممارساتها أنها تعيق في بعض الأحيان دخول الصحفيين إلى البلاد رغم موافقة جهات أخرى لا تقل عنها نفوذا، وتعرقل بعض المشاريع الإعلامية الإنمائية في الجامعات السورية، وتمنع إعطاء بعض المعلومات الخاصة بالوسط الإعلامي المحلي لإعلاميين سوريين، ناهيك عن فهمها المتأخر لدور الإعلام الحكومي وقصره على تمثيل وجهة نظر الدولة كما جاء على لسان مديرة التلفزيون مؤخرا.

-4-
وإمعانا في النظرة التشكيكية بدور الإعلام السوري الخاص حد ابتذالات التخوين والعمالة أحيانا [2] فليس من المستغرب تماما السعي الرسمي الدؤوب لتدجينه و"تربيته" مع إسناد مهمة طباعة منشورات وزارة الأعلام -والتي هي ملك لكل الإعلاميين السوريين مادامت قائمة- إلى وزارة التربية، رغم الوظيفة المختلفة تماما لهذه الأخيرة.

ولو أن الإعفاءات الضريبية والجمركية الواسعة التي تتمتع بها المؤسسة العامة للمطبوعات توضع في خدمة جميع الصحف والمطبوعات السورية لهان الأمر، لكن خدماتها أيضا وأيضا حكر على المطبوعات والصحف الحكومية، ما يسبغ عليها ميزات تنافسية كبيرة تنعكس لاحقا وحكما على سعر مبيع تلك الصحف -دون الارتقاء بمستواها المهني ضرورة- ما يجعل منافستها لجهة التكلفة المادية الصافية من قبل المطبوعات الخاصة أمرا عسيرا وبالغ التعقيد، في بلد لايزال الإعلام الخاص فيه ناشئا، برؤوس أموال جبانة وعديمة الخبرة. ناهيك عن اضطراب دخل الفرد في البلاد نزولا، وتقلص إنفاق السوريين الضئيل أصلا على القراءة يوما بعد يوم.

ناهيك عن أن فصل عملية الطباعة للصحف الحكومية عن إجراءات التحرير وجعل كل منهما في جزيرة معزولة عن الأخرى, هو قرار أقل ما يقال فيه إنه "غير مهني" و لا يصدر عن خبير بأعراف العمل الصحفي.

-5-
أما "الاتصالات" فقصة أخرى. فـهذه المؤسسة العامة التي وبرغم أرباح جبايتها التي تقاس منذ سنوات بالمليارات إلا أنها تقدم خدماتها للسوريين بمفهوم الصدقة.

وتتعاطى "الاتصالات" مع المساءلات الصحفية والاستجوابات الإعلامية بطريقة فوقية تدعو للغثيان أحيانا،
ولا أحد تقريبا عدا المرضي عن تحريرهم من الصحف الرسمية وأشباهها يجد منفذا ليسأل أحدا فيها مجرد سؤال عن مسببات واقع الخدمة السيئ, والانقطاعات المتكررة أثناء الدخول على شبكة الانترنت المحلية، وبطء هذه الشبكة وغلاء أسعار خدماتها.

مع أن بعضا من أكابر متنفذيها والمسؤولين عنها لا يعدون كونهم –كما تبين لاحقا- لصوصا محترفين وسارقين وقحين للمال العام. [3]

ولا تكلف المؤسسة نفسها عناء الاعتذار عن أداءها المخزي بالمقاييس الإقليمية والدولية، والذي غالبا ما يعقب بعض فصوله ترقيعات إعلانية نافرة، و"وتوك شو" استعراضي أكثر منه مؤتمرات صحفية لكل تلك المنجزات التي لا يجد المرء منها مسمارا على الأرض.

ناهيك عما تضعه من شروط غير مهنية مقابل منحها رخص استثمار مقاهي الانترنت، وتحميلها المواطن العادي جريرة قوانينها المتخلفة، وكادرها الحقوقي والإداري المترهل والذي يحار منذ سنوات في مخارج قانونية لما يحلو للمؤسسة أن تطلق عليه اسم "تهريب الاتصالات عبر الانترنت".

إضافة لكون المؤسسة أداة تنفيذية طيعة لتوقيع سياسة الحجب الرسمية على المواقع الالكترونية السورية وغير السورية، وبمزاجية لا يفقه المتابع لها منهجا ولا منطقا.


(يتبع)
_____________________
[1] تصريح للمعاون السابق لوزير الإعلام طالب قاضي أمين.
[2] راجع صحيفة الوطن اليومية والأحكام القضائية الصادرة بحقها على خلفية مادة تتعلق بـ"سفراء إسرائيل العرب".
[3] راجع بعض مواد الرأي والتحقيقات في الصحف الرسمية في الفترة السابقة.

2010-10-21

29/10 يوم عالمي للتضامن مع ضحايا جرائم الشرف






في هذا اليوم الحزين، 29/10/2009، قررت محكمة سورية أن قاتلا لشقيقته هو بطل لأنه ادعى أنه قتلها باسم "الشرف"! مئات النساء السوريات يقتلن كل عام تحت هذه الذريعة على مرأى ومسمع وتأييد من الحكومة السورية!

آلاف يقتلن سنويا في سورية والأردن والعراق وفلسطين ومصر والسعودية والجزائر والمغرب وليبيا وغيرها.. على مرأى ومسمع وتأييد من حكومات دول لا تلتزم بأهم مبرر لوجودها: منع التذابح بين مواطنيها!

عشرات الآلاف يقتلن سنويا على مدار الكرة الأرضية تحت مسمى "جرائم الشرف"، الاسم الذي يعبر جيدا عن الانحطاط البشري في هذه الجرائم، على مرأى ومسمع من العالم أجمع.. الذي يقدم "إدانات" نادرا ما ترقى إلى مستوى الفعل على الأرض!

حان الوقت في القرن الواحد والعشرين لكي تنتهي هذه الجريمة القذرة. حان الوقت لكي لا يكون هناك أي مجال للتهاون مع "قتلة الشرف" عبر منحهم عقوبات رادعة تطال كل من حرض أو وافق أو صمت على ارتكاب الجريمة!

لذلك، نعلن هذا اليوم، التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول من كل عام، يوما عالميا للتضامن مع ضحايا "جرائم الشرف"، يوما لكي نتذكر أن هذه الجريمة لن تصير تاريخا أسود ما لم نقم جميعا بمواجهتها دون كلل ولا ملل، دون تساهل ودون أعذار.

وندعو الأمم المتحدة، وجميع المنظمات المعنية بحقوق الإنسان متضمنة حقوق المرأة، وجميع الأحزاب والقوى التي تدعي أنها تعمل من أجل المجتمع، كليا أو جزئيا، كما جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، إلى تبني هذا اليوم لجعله شوكة في حلق مؤيدي القتل الحرام، لجعله سلاحا فعالا في مواجهة جرائم القتل المسماة "جرائم الشرف".

*- هذا الإعلان ليس ملكا لأحد، ويمكن لمن يتبناه أن يعيد نشره بالشكل والطريقة التي يراها مناسبة.

2010-10-10

الثقافة السورية بين الواقعية الغيبية والفانطاستيكية العلمانية (2)



Syrian Ministry of Culture: like Secularism.. don`t like Secularism




9-
كثيرا ما كان يحلو لوزير الثقافة السوري السابق رياض نعسان آغا فرض تصوراته الأدبية الخاصة على غيره، من قبيل تصريحات منشورة له يعلن فيها عن هواه النقدي المتمثل بأن "ما يحتاجه الأدب هو الإيحاء وليس التصريح"، وهو ينظر بذات العين إلى أسلوب الكتابة المفترض به تناول الدين أو السياسة. *(14)

وربما من هذا المنطلق خرج علينا في تصريح - فتوى - آخر له قائلا أن يجب ألا "نقيم الدنيا من أجل موضوع الحجاب في الثقافة العربية"، لأنه موضوع "فـُرض منذ زمن طويل"!!

وإذ يفخر نعسان آغا بأعضاء قيادته الثقافية الذين أتى بهم والملتزمين صراطه المستقيم، نسمع اليوم عن مدرس يرفض تدريس "بريخت" لأنه يهودي وكافر، وآخر يفلتر نصا أدبيا مترجما، من المؤخرات والأحضان، حرصا على الأخلاق العامة وحياء شبيبتنا الطلاب القاصرين، وهذا ليس في محراب كلية الشريعة، أو بطريركية الروم، أو معهد الفتح، أو مجمع أبو النور، وإنما في قاعات "المعهد العالي للفنون المسرحية".

في تساوق لافت مع استمرار انتشار تخوينات المخالفين في الرأي في رقعة أخرى من البساط الثقافي السوري غير الأحمدي هذه الأيام، مثل تفوهات رئيس "اتحاد الكتاب العرب" في سوريا حسين جمعة ضد "بوكر" العربية، وجائزة "نجيب محفوظ" اللتين تشرف عليهما وفقا له "جهات صهيونية"*(15) حيث يلمس المرء استمراء واستدامة ثقافيين لـ"التخوين"، و"التعميل" اللذين سبق لعضو آخر في الاتحاد المذكور -حسن حميد- ومحررين "مقاومين" في صحيفة "الوطن" شبه الرسمية أن كان لهم قصب السبق في بعث هذ العادة المسفـّة
والقميئة من قبرها النتن. *(16)


10-
ما سبق كان بعضا من ملامح البيئة الثقافية التي فاخر السيد الوزير السابق بها مرارا وتكرارا، والتي وصلت وفقا له إلى "ذروتها"، حيث "العالم كله يهنئنا على الدور الثقافي الضخم"، على اعتبار أننا "الآن نعيش حراكاً ثقافياً غير مسبوق"،..كذا. *(17)
ثقافة كهذه هو ما يجعله ممكنا إعادة نشر "تحقيقات" صحفية ثقافية عمرها أكثر من 3 سنوات على أنها جديدة راهنة، في إحدى المطبوعات المحلية الخاصة العائدة من التوقف، دون أن ينتبه أحد أو يلحظ أي فرق أو تطور - تخلف - ما.
وهي الثقافة ذاتها التي تقوي من شوكة رقابات مخزية، كتلك التي تعرقل توزيع صحف محلية خاصة بذريعة حماية البشرة الدينية الحساسة لبعضهم من مواد "مسيئة"، رغم أن المواد ذاتها مصرح بتداولها من قبل رقابات أخرى، لا بل وتنشرها صحف حكومية تلتزم الصراط. *(18)

ولكن هل كان السيد الوزير السابق يدري حقا بحال ثقافة البلد؟ أليس هو من اعترف في وقت من الأوقات كانت فيه دمشق عاصمة الثقافة المتوجة -كما أشيع عنها- بأنه ووزارته العتيدة لا يعلمان شيئاً عن دورهما فيها، وأنه شخصيا غير دار بما يدور في أروقتها والكواليس؟
هل كان السيد نعسان آغا يصغي حقا أو يلقي أي بال لتصريحات تأتي ممن هو أعلى شأنا منه في صالح العلمانية في البلد، وربما من وزراء مثله أيضا، أم أنه كان أكثر انشغالا برفع الدعاوى على منتقديه-الراغب بعضهم بالمصالحة بالمناسبة- وباللقاءات الصحفية التي يمكنه من خلالها الترويج لانجازاته الافتراضية وعلى رأسها ذلك الشيئ الأثير، بل الأثيري المدعو "حوار". ودائما لحساب تصريحات لا يفخر كثيرون من زملاءه سوريين وعربا بتردادها اليوم، من قبيل "لم يجلب لنا الحداثيون غير الإلحاد". *(19)
كان الوزير السابق ليحسن صنعا حقا لو أنه أخذ التنوع الحضاري السوري بعين الاعتبار، ووسع "ترسانته" الدفاعية الثقافية شيئا ما. إذ لم يعد كافيا اليوم الركون اليقيني النهائي إلى مقولات من نمط "الولايات المتحدة تقود العالم عبر قواعدها العسكرية بينما دمشق قادت رسالتها الحضارية"، والتي يعرفها –الرسالة- بأنها "والرسالة معروفة بكل العالم، وهي رسالة القرآن الكريم وهذه ميزة مهمة". *(20)


11-
أليس مؤسفا أن يتحمس سيادته ويظـّهر توقه الشديد لإقامة مآدب الحوار، نظريا على الأقل، ولا يكون المدعوون الأوّل سوى جماعة "الإخوان المسلمين". وهو من قال بالفم الملآن حينها "أتمنى أن يكون لي شرف المساهمة في حوار مع الإخوان"، وهو "حماس" لـ"شرف" لم نعهده في دعوات أخرى له. *(21)

هل من الممكن أن تكون هذه هي حصيلة حوار "أكثر من ‏500‏ شخصية أدبية وإبداعية في الوطن العربي‏" أيام عمله الإعلامي، بحسب ما يقول عن نفسه، متناسيا أن وزارة الثقافة اليوم ليست كالتلفزيون السوري في بداياته، عندما كان سيادته مسؤولا عن قناة واحدة يتيمة، لا مناص للسوري منها، من العلم إلى العلم.


12-
ولعلنا بعد مطالعة كل تلك الشواهد أقرب الآن للاقتناع بحجة الوزراة في إلغاء "مؤتمر العلمانية" في دمشق. نعم، ثمة خلل في أجهزة الصوت العلماني التابعة لوزراة الثقافة السورية بكل تأكيد.

بل لعل المشكلة نابعة من التباس لدى السيد نعسان آغا في الفرق بين كونه وزيرا مسلما للثقافة -وهو مالا ينازعه فيه أحد- وبين كونه وزيرا لثقافة مسلمين بعينهم. وهو أمر لا يمكن أن يستقيم في بلد مثل سورية، والتي أحصى أحد الباحثين فيها ما يزيد عن 40 ثقافة محلية أصيلة، و"أصولية" بالمعنى الإيجابي الذي يحلو للسيد الوزير تعريف الأصولية به.

ولا مكان هنا، لادعاءات إطلاقية لا ضابط لها، ولا عقال. إذ وبعد سفسطة مكرورة حول فتح العين أو كسرها علمانيا، وربط أحدهما ثانية بالإلحاد، يختتم السيد الوزير إحدى مقالاته بالقول: "... وبين الفلسفات التي رفضت حضور الدين حتى في النفوس، فانهارت تلك الفلسفات القمعية، وبقي ما في النفوس راسخاً وسيبقى". *(22)

وإن صح قول الوزير "الذين يطالبون بأن توزع عشرة ملايين نسخة من رواية ناجحة مع الخبز فهذا «فنطاستك» فيه الكثير من التوهّم"، فهل يكون من "التوهم" أيضا والـ"فنطاستيكية" أن نحلم بسرافيس وتكاسي خالية من جحيم الوعـّاظ الأغرار ورؤوس ثعابينهم وأجنحة ذبابهم الشافي؟ ومن هؤلاء وأشياخهم من سبق له أن سجد ثلاثا شكرا لربه على هزائمنا "العربية"، ومنهم الآخر من يرفض اليوم أداء التحية للعلم الوطني. *(23)


13-
لا يطمح أحد في سورية اليوم، ولا يمني نفسه العلمانية الأمارة بالسوء، بتبشير "علمانوي" لاسلكي من نموذج ما يصلنا اليوم عبر احتكارات شركات الهواتف النقالة، والتي اكتشفت على ما يبدو منجما "مباركا" جديدا للذهب، من قبيل إعلان "إحصل على دعاء الرزق الخاص باسمك، أرسل إسمك إلى 1866". ولا نتوقع أن تصبح -وحال الثقافة على ما هو عليه- أي من "إم تي إن" أو"سيرياتل" "سبونسر" للثقافة العلمانية في البلد.

لكن حيفا وظلما كبيرا سيلحق بالسوريين إن تمكن أشخاص مثل البوطي وحبش والنابلسي وسالم ومن هو من طينتهم -بطريقة أو بأخرى- من تسلم دفة الحياة الثقافية الوطنية في سوريا. *(24)

كيف لا، وهذا الأخير –سالم- لم يتورع عن تخصيص كتب دينية دعوية إسلامية كجائزة لإحدى مسابقات الأطفال الثقافية، حتى عندما كان الفائزون أطفالا لآباء غير مسلمين. علما أن دار النشر التي يديرها لا تهتم من قريب أو بعيد بالملل والثقافات السورية الأخرى، ولا يعنيها من التنوع الثقافي الروحي في البلاد إلا "روحها" والسلام.


14-
وكما أن "برامج الحياة في سورية" لن تتوقف لحين صدور أحكام بحق مثقفين في السجون، حيث "الآن يتحدّث بعض الذي يكره أمتنا العربية عن نقص الحرية في التعبير"، علاوة على أن "المثقف ليس معصوما، العصمة للنبي وحده" وفق تعبيرين للسيد الوزير السابق، فإن برامج الحياة نفسها لن تتوقف أيضا وإن طال عمر السيد نعسان آغا داخل قميص الوزير أو مناصب أخرى مع سياسته الثقافية الراهنة. على أمل ألا تتحول وزارة الثقافة إلى "معتقل" للمثقفين المخالفين رأي الوزير ومسلماته. *(25) أو يضطر هؤلاء إلى كتابة وصاياهم وهم أحياء *(26)

لم يكن خبرا (عاطلا) أن نسمع ان رياض نعسان آغا قد تخفف من أعباء منصبه الحكومي الأخير، كي يعود إلى أوراق المنصب الذي عينه فيه الله كما قال "عينني الله سبحانه وتعالى كاتباً منذ أن بدأتُ أخربشُ على صفحات ورقة بيضاء".

نعم، إن الوزير السابق، مجرد وزير واحد، لحقيبة واحدة، صادف أنها تحمل اسم "ثقافة"، لكنه أيضا يتحمل مسؤولية ما كان يجري في عهده وهو القائل "لا أصدر قرارا خلاف رأيي إطلاقا".

ونعم، إن مقالا كهذا قد لا يكفي مردوده المادي كاتب سطوره أو غيره من الصحفيين لشراء فردة حذاء واحدة، لكن هذا ليس مسوغا لنا لترك –كما فعل الوزير- نقد الاعوجاج والانحراف الذي نراه كل يوم. *(27) إنه مما يثلج الصدر أن يكون فعلا "فساد وزارة الثقافة دون العشرة آلاف ليرة سورية"، *(28) لكن من قال أن معيار الفساد في الثقافة مقصور على المالي المحض؟

جلّ ما نرومه في يومنا السوري الثقافي الطويل هذا، هو أن نتيح الفرصة أمام طلابنا السوريين في أحد المعاهد الرسمية ليتمكنوا من الإجابة بوعي وصدق عن سؤال وجهته لهم مؤخرا وزراة التعليم العالي، زميلة وزارة الثقافة في الحكومة ذاتها، وذلك ضمن الموسم الامتحاني الجارف -وليس في اختبار قبول جامعي خارجي مثلا- حول ما يعرفونه عن "الديموقراطية" و"العلمانية"، ولئن كان من المتوقع أن تتعذر أو تتعثر إجابات الطلبة بشكل دقيق وواف عن كلا المصطلحين معا، فدعوا لهم ان يجيبو بصدق عن أحدهما على الأقل، وهذا أضعف إيمان الثقافة، ولا يضعف في شيء من ثقافة الإيمان.


الثقافة السورية بين الواقعية الغيبية والفانطاستيكية العلمانية (1)

...................................
هوامش

*(14)- يتفق معه رئيس اتحاد الكتَّاب العرب في سوريا حسين جمعة، والذي أعطى رأيه بجائزة "نجيب محفوظ" التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، والتي تدرس ضمن مناهجها رواية "الخبز الحافي" للروائي المغربي الراحل "محمد شكري"، وقد وصف جمعة الرواية بأنها "منحرفة" و"شاذة". ناهيك عن نعته بعض الكاتبات السوريات بأنهن سرن "على الطريق ذاته"، وذلك "أملاً في الشهرة والمال" على حد زعمه.

 *(15)- سبق للمذكور اتهام الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس بأنه سارق!

 *(16)- راجع ما كتب الأول في بعض الصحفيين السوريين، وما نشرت الثانية في بعض الكتـّاب السوريين.

 *(17)- جريدة "البعث".

 *(18)- راجع "صحيفة سورية تتهم مديرية الإعلام المحلي بتعمد تأخير توزيعها ومنع أعدادها" – كلنا شركاء

 *(19)- هامش سابق، راجع "ارتجالات مزمنة في راهن الثقافة السورية".

 *(20)- تصريح صحفي لوزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا.

*(21)- وهو المعجب ببعض آراء شيخ قناة "الجزيرة" يوسف القرضاوي. راجع كتابات الوزير في صحافة الخليج.

*(22)- مجلة "المعرفة". علما أن قضايا الإيمان والكفر والإلحاد وما إلى ذلك، ليست من شأن الوزير ووزارته، ولا يوجد لها بحسب علمنا اعتمادات من رئاسة مجلس الوزراء لينفق السيد الوزير جل وقته الحكومي وهو يناقشها.

*(23)- راجع ما قيل عن الشيخ الشعراوي في هذا السياق، وخبرا نقلته "بي بي سي" مؤخرا من الجزائر.

*(24)- رغم حق هؤلاء المحفوظ في إبداء آرائهم المحافظة وممارسة عقائدهم.

*(25)- راجع مقابلة مع وزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا في "كلنا شركاء".

 *(26)- راجع وصية الروائي السوري حنا مينة.

 *(27)- . يقول السيد نعسان آغا :"فغادرت المسرح وأتيت إلى النقد فاكتشفت أنني قادر على أن أكون ناقداً كبيراً وهذا ما شهد لي به أصدقائي بالسبعينيات لكنني اكتشفت أن الأجر الذي أتقاضاه من الجريدة على المقال الذي يكلفني شهر عمل لا يكفي لشراء فردة حذاء فتركته".

*(28)- تصريحات صحفية لوزير الثقافة السوري السابق رياض نعسان آغا.