2010-08-05

(مار موسى) والتلاقي الثقافي مع شبيبة الغد

أجيال شابـّة, وهويّات شائخة



كانت الدراما بادية على وجوه تلك الثلة من الشباب التي اختيرت بشيء من العشوائية والارتجال ليقع على عاتقها مهمة صياغة ما يشبه بيانا ختاميا لهاتيك الندوة التي عقدت تحت عنوان متطلـّب هو (التلاقي الثقافي وشبيبة الغد).

ومن بين التعليقات والمداخلات الوفيرة لم تجد المجموعة قليلة الخبرة بمتاهات (المنفيستوات) بدا من أن ترمي ورائها -آسفة- الإنشاء والمجاز الوردي الذي لم يبخل به جمهور الجلسات المتوالية, لتختزل في النهاية وبموضوعيتها الخاصة أفكارا تخالفت بقدر ما تآلفت عبر أيام أربعة سخرها المنظمون بإخلاص للتداول في مانشيتات ليس أقلها (تطور الهويات الثقافية) و(صراع الحضارات عبر الأصولية والعولمة والتعصب) و(استراتيجيات اللاعنف في العلاقات الثقافية), وغيرها مما يشفق كثير من الدارسين بل ومراكز البحوث من تناولها على الجملة كحال هذا الملتقى.

على أنها ليست المرة الأولى التي يستضيف فيها دير مار موسى الحبشي مثل هذه النشاطات الحوارية, إذ له معها تاريخ مشهود ينوف على العقد, بهمّة لا تعرف الكلل من عرّابها الأول الأب الإيطالي باولو دالوليو, الذي قلّ من له سهم في هذا المجال ولم يسمع به.
الراهب الذي تستلذ أذنه وقع اسمه بالعربية (بولص)؛ لاينفك يلوب في الأرجاء.
فتارة تراه في الدير بجلباب كهنوت داكن وحزام جلد معتـّق, وأخرى في ندوة مدينية ببنطال و قميص وحقيبة ظهر تصلح لطفل, وتارة تلمحه بين العامة متسربلا (قمبازا) محليا ذا تطريزات أنيقة.

وإن كان لا يعوزنا كثير عناء لتلمس ردود الفعل التي تخلفها عادة لسعات وبلسمات هذا القسيس كثير الجلبة بين المفكرين ورجال الدين هنا؛ فإن جهدا أكبر يلزمنا حقيقة لتقصي آثار سعيه وآخرين بين شرائح الشبيبة المختلفة, ولعل هذه الندوة عن (التلاقي الثقافي وسؤال الهوية) شكلت فرصة طيبة لـ(نافع) على سبيل المثال الشاب العشريني المندفع ليدلي بدلوه في سجال سبق أن أهرق فيه الكثير من الحبر إن لم نقل الدماء, فتجده لا يتوانى عن التصريح دفعة واحدة و من دون مقدمات:(الحوار الإسلامي-المسيحي كذبة كبيرة, وعلينا ألا نتكلم عن هذه الأمور هنا, لأننا سنفتح عيون المسلمين والمسيحيين على أشياء لا يجدر بهم التفكير بها مجددا)!
وبعد أن يبدي شيئا من الفخر بمسيحيّته كنوع من التكفير المسبق عما سيضيفه يقول:(أعتقد ان على الأب باولو أن يتخلى عن مشروعه العقيم هذا في الحوار. إنّه لا يعرف ما الذي يفعله).

وهو رأي ستشاركه إياه في اليوم التالي (رولا) طالبة البكالوريا التي تملك كما تقول -على حداثة سنها- (ذكريات سيّئة) عن المشاحنات والملاسنات التي تجرها طروحات كهذه على كل من يتورط فيها.

ومن الطريف أن الأب باولو نفسه سيستشرف هذه الهواجس قبل شهرين بالضبط في مداخلة له على بعد
-80-كيلومترا إلى الجنوب من هذا المعتزل.
فهناك في باحة المعهد الدنمركي بدمشق, , وردا في حينه على ما اعتبره استفزازا من أحد العلمانيين, سيستخلص السيد دالوليو بعربيّة واضحة أنّه (من الأفضل لنا اليوم أن نكتفي بتقدير بركة وجودنا مختلفين كما نحن, إنما متعايشين جنبا إلى جنب, وهو أمر يفضل بأشواط سعي كل منا محاولا تحويل الآخر إلى ملته).

وبالعودة إلى المؤتمر و الدير الذي يعود تاريخ إنشاءه إلى القرن السادس الميلادي؛ فقد ترك غياب بعض المحاضرين عن أعمال الندوات نتيجة كسل موروث أو هنّات في التنظيم, مساحة مـُلئت على عجل بالمزيد من حلقات الحوار والنقاش المصغرة, التي انبثت بعناصرها الشابة في كل أرجاء المكان من غرف وباحات ومغاور, حلقات جسدت في تشكلاتها الأولى تلمسا حذرا للآخر واستطلاعا للسقف والحدود, قبل أن تسترسل فيما بعد جسرا عبرت فوقه الخواطر والآراء بين المتجادلين, الذين لم تنقصهم بحال أي من أمراض الحوار وآفاته التي ورثوها بأمانة فذة عن آبائهم الأوّلين.

(حسنا, أنا لا أريد ان أصدر حكما على أولئك الذين يتسكعون الآن في هذه اللحظة في الشعلان بأنهم ضائعون أو تائهون أو بلا هوية, بالطريقة التي تريد بها ديمة أن تصور الأمور, لكنني سأسأل: إلى أين يتوجب علي أن أمضي بهويتي عندما أعرفها؟).

سؤال (محمد) هذا الذي أصرّ على طرحه جملة جملة, على الرغم من أنه كان قد استهلك لتوه الدقائق الخمس المخصصة له للحديث, استدعى احتجاجا عاجلا من طرف (جورج) الذي ذكـّره بما يشبه التأنيب بنقاش الأمس, من أنّه لا يملك هوية واحدة, فهو -أي محمد- مسلم, وعربي, وسوري, وإنسان, و..., و(فيك ترتـّبهن على مهلك بعدين) يضيف (جورج) شبه مازح.

أما (ديمة) طالبة الصيدلة المنقبة, فلم تستغ بحال الدفاع عن أمثال هؤلاء الشباب (الشعلانيين) المنقطعين عن مستقبلهم حسب رأيها, (الذين لم يحاولوا أن يكملوا قراءة كتاب واحد في حياتهم), وواصلت حملتها عليهم بمن فيهم أختها نفسها, لتقرر في النهاية(فعلت المستحيل, ولكن لاسبيل للتفاهم بيننا), وذلك قبل ان تأخذ (ناديا) -نصف السورية-نصف الروسية- بناصية الحديث مؤكدة على فكرة صديقتها نفسها مضيفة إلى قائمة (ديمة) العصيّة على التواصل ركام الجيل السابق برمته الذي (لا يستوعب التغيرات الحاصلة في العالم, ويريدنا بشكل مرضي ومرفوض أن نكون نسخة عنه).

أن تحكم على الشخص مما يظهره أو مما يظهر لك منه, أن تكون لك حال نافرة تسبطن أحوالا متعددة, أن توسع الخطا نحو الآخر, أو أن تتمهل لـيأتيك, أن ترث أهلك ممتنا, أو أن تجهد في إثرائهم على طريقتك, استخلاصات جائرة ربما, إنما حقيقية, وهي لا تعدو كونها حصيلة مؤقتة لسجالات لم يكن ليقطعها طوال الأيام الماضية سوى مؤونة النهار التي تتدبر(تيريز), الخمسينية المتحمّسة بمعجزة صغيرة كل يوم أمر تحويلها إلى وجبة حواريين محترمة, جنبا إلى جنب مع الأمسيات الموسيقية واستلهامات قرائح عازفين فرنسيين وسوريين في ساحة الدير أو بطن الوادي.

بيد أن الأطراف المدعوة إلى مائدة النقاش لم تكن لتتشاطر جميعها القدر ذاته من الحماس, إن لم نقل المسؤولية, فظهر بعضها وكأنه قد ولج المسالة من باب المجاملة ورفع العتب الفلكلوري, مما درجنا عليه في تقاليد لقاءاتنا المكرورة, فبدا حضور هؤلاء أشبه بمن اعتقد أن مجيئه إنما كان لمجرد أن يلقي عصاه على ثقة من أنّها ستلتهم حيّات الآخرين وحبالهم!
فلا نقاش, ولا تبادل رؤى أو أفكار, ولا مشاركة حقـّة, بذريعة أزلية هي ضيق الوقت.
كما كان مثلا من حال ما يفترض أنّها مجموعة (جامع أبو النور), التي تحللت بنظر كثيرين من جوهر اللقاء, وترفعت عنه.
ووقائع كهذه هي بالطبع برسم المنظمين مستقبلا, فمشاركات على هذه الشاكلة لعل عدمها يكون أفضل وأخير لمبدأ التواصل نفسه.

تلفريك بدائي للحوائج, وستالايت, وحواسب شخصيّة, وخط إنترنت, وتغطية موبايل متوسطة الرداءة, وماء مسخن على الطاقة الشمسية, وجهاز عرض سلايدات, وهاتف ثابت, ودزينات متتالية من المتعبدين والحجيج والسياح الصرف, أشياء باتت على ما يبدو جزء لا يتجزأ من رهبانية هذه الأيام في دير مار موسى, حتى لتبدو ساحة الدير للناظر من زاوية من زواياها وكأنها لقطة مستعارة من أحد مقاهي باب توما المكتظة على الدوام!
إنما من دون أن تنتقص هذه (العولميات) الطارئة بحال من جلال روح الصومعة ونسكها, معلقة بين خليج صخري هار, وسماء محفورة بضوء المجرة.

بيد أن الإخلاص المزمن والرغبة الصادقة من قبل المنظمين والداعمين لإنجاح الملتقى في مكان له مثل هذا الطقس الفريد؛ لم يشفع لهم في رأي مراقبين أنهم -من حيث دروا أو لم يدروا- قد اختصروا أبعاده الرحبة التي يشتمل عليها سؤال الهوية المتسع أفقه أبدا إلى بعد يتيم واحد هو البعد الديني, والذي على أهميته لشريحة واسعة من مجتمعاتنا اليوم؛ لا يشكل لشرائح أخرى في المجتمع ذاته السطر الأخير في محاولة الإجابة على ذلك السؤال, كيف والمعني هنا هم الشباب دون غيرهم, بعد أن كان سعي الملتقى في إطاره العام مركزا على البعد الثقافي للحوار, (أكثر منه على البعد الديني أو السياسي), على ما جاء في متن الدعوة نفسها.

بل ذهب بعضهم إلى أن الانسياق وراء هذه الأحادية في التعاطي والتي كان الاقتصار فيها قاصرا والاختزال مخلا, سرعان ما جرّ بدوره إلى اختصارات أخرى لا تقلّ فداحة, كان ضحيتها الأولى التنوع الثقافي نفسه الذي بدأ الحوار على أساسه, ناهيك عن غياب الحديث عن الأطر القانونية والحقوقية التي من المفترض بها أن تكون ناظمة لسير المجتمع وحراكه, كمبدأ المواطنة وتكافؤ الفرص وعلمانية الدولة وغيرها, وهي ما يجدر حقا بشباب اليوم أن يكونوا على إطلاع عليها, ووعي بها.

لقد كان أمرا ذا دلالة بالغة أن ينبري أحد الشباب في جلسة من الجلسات التي استفحل فيها الجدل ليسكت الأب باولو وضيفه الإسلامي اللجوج طالبا منهما نقل سجالهما خارج القاعة, مستندا إلى أنّ هذا اللقاء خاص بالشباب المفترض بهم أن يكونوا المتكلم الأساس هنا, وبدلالة لا تقل بلاغة؛ يضع القسيس الكهل كفيه على رأسه الحليق علامة الرضوخ.

نهاية ً, لايملك الهابط من دير مار موسى الحبشي في طريق عودته, إلا أن يبدي غبطته بما أسبغه ذلك المكان وأهله من رونق وغنى ميداني على موضوع النقاش في الهوية لدى الشباب, لدرجة أن ثمة من بادر بالتحسر علانية كوننا سننتظر سنة كاملة قبل أن نحظى بفرصة أخرى للقاء من هذا النوع.

بيد أن فتاة جميلة جالسة إلى جانبي باغتتنا وهي بالكاد تعرف ما نتحدث عنه بتعليق زاده الاقتضاب جزالة.
(دينا) التي تحمل منذ بعض الوقت شهادة في التجارة؛ كانت أول من تململ عندما تلقفتنا على حين غرة طلائع هواء الديزل على مشارف النبك مخلفين ورائنا الدير ونسيمه العليل, وعلى الرغم من أنّه لم يتسنى لها حضور أي من ندوات المؤتمر أو نقاشاته, لكنها تعلم يقينا من روح حكمة غامضة أنّ (ما لا تستطيع القيام به هنا والآن, لن تنفعك هناك مشقة ارتقاء الدرجات الثلاثمائة والأربعين في تحصيله غدا)!!


2007
ملف "العلمانية في المشرق العربي"


الفكر الديني متضمن معرفيا في الفكر العلماني
والمطلوب من الإسلاميين مضارعة العصر, لا خفة اليد الخطابية



نصيرا بالغ الحماس لدنيوية الواقع المنفتح جملة و أبدا على التحول ...
موغلا في أحافيره النقدية اللاذعة داخل الاجتماع العربي ...
وراء حصن للعلمانية يعاند خصومه أنه بات أطلالا دارسة, وينافح هو عن خصب لازال فيه, -على أزمته- رحبا للدراسة...
فهل عساه -وهو المولع بتاريخانية القراءات- يستل ثانية من دون أن يشعر سيف عمه الأكبر يوسف العظمة, لغمار معركة أخرى لا يعول هو نفسه فيها على معجزات.
عزيز العظمة على سجيته في حديث خاطف


• يطاَلب الفكر الديني و يُحثُّ دائما من منابر مختلفة على تقديم طروحات إصلاحية, مقصدية و شريعية, تمس متنه المقدس أحيانا أو تكاد.
هل يمكننا بالمقابل أن نتوقع جديدا من التناولات العلمانية الحديثة للموضوع العلماني ذاته؟
وبالتالي, ألا تعتقد أن (الاجتهادات) التي قدمت في أفق العلمنة حتى الآن؛ تحتاج بدورها إلى مثل هذه الأطروحات الإصلاحية, وصولا إلى مقاربة أكثر ملائمة للمعاصر المجتمعي؟

من البديهي أن يصار إلى معاصرة كل شيء دينيا كان أم علمانيا, سواء في مجالات الفكر, أو في غيرها من المجالات, وفي الواقع يوجد هناك في العالم أجمع, في جنوب أميركا وفي أوروبا, معالجات ومقاربات تاريخية وموضوعية للعلمانية وتعقدات العلمانية واختلاف مساراتها عن بعضها بعضا حسب الأوضاع المتعينة, وهذا بالطبع أمر أساسي ويجب أن يكون, ولكن لا يمكن الموازاة بين المراجعة العلمانية والمراجعة الدينية, لأن المراجعة الدينية يفترض بها أن تبتدأ من مكان آخر.

المراجعة العلمانية في نظري في إحدى نواحيها إنما هي إلمام بواقع معلمن ومتعين, ومعرفة به, ويقع على عاتق الفكر الديني أن يقر بما حصل من تحولات في مجتمعاتنا في القرنين الأخيرين, وهي تحولات بالغة السعة, وهي بينة بمكان بحيث لا يمكن إنكارها, وبالتالي إن المطلوب ليس (التوازي) وإنما (التمايز) في المقاربات, لأنه لا يمكن بحال أن يوازى بين هذا و ذاك, باعتبار أن لكل من هاتين المقاربتين منطلقات مختلفة ومتباينة, وبالتالي إن كان الدينيون قد (راجعوا) فإن هذا لا يفترض بالضرورة أن نراجع من موقعنا كعلمانيين.

ليس في الأمر عملية تكتيكية أو تحالف تاريخي, فالعلماني ينطلق من الواقع, والديني ينطلق من المتوهم, فعلى الوهم أن يوازي الواقع, وأن يقارب هذا الواقع بدرجات أكبر, وعلى الديني أن يوسع من نطاق هذه المعالجة التي قد تكون جزئية, أو يبدو أنها كانت جزئية في بعض من نواحيها, بغاية تنشيط الفعالية الذهنية والمقدرات التحليلية لهذا الفكر,فالغرض من الطرح العلماني أساسا هو التحليل العياني, والغرض من الطرح الديني هو موائمة ديني تليد مع متطلبات العصر التي يضارعها الفكر العلماني بدرجات لا تقارن مع ما يقدمه الفكر الديني.
باختصار؛ يجد الفكر الديني والتصورات الدينية تفسيرها المعرفي في الفكر العلماني, أما العكس فهو ليس صحيحا.

لقد حاول الفكر الديني الاقتراب من واقعنا المعاش, ومن تحولات نظم التعليم والعلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل, ومن تحولات النظم القانونية والسياسية إلى منحى علماني و(عالمي أيضا)-وعليه أن يفعل-, بيد أن خطواته شابها التعثر.
طبعا يوجد هناك جملة واسعة من المواقف المتباينة لدى الطرف الديني, تتفاوت بين المتشدد شديد التشدد, والمتحرر شديد التحرر ممن يحاول أن يوائم ما بين نصوص قرآنية أو نصوص حديثية أو تجارب تاريخية, وبين واقع اليوم.

و هذا بالطبع شأن ليس بالسهل, بالنظر إلى أن تلك النصوص نشأت في بيئة وفي عصر مختلف, ومباين تمام المباينة لعصرنا هذا, وبالتالي فإن القضية في رأيي تتطلب أكثر مما هو مبذول الآن, من قبيل ما يصار على سبيل المثال من ترجمة الشورى بالديموقراطية, أو الديمقراطية بالشورى, ففي هذا شيء من خفة اليد الخطابية, وعلى الخطاب الديني أن يخطو إلى أبعد من ذلك, وأن يرى النصوص الدينية في سياق عصرها, و في حدود هذا السياق.

سبق لي مرة في تجمع غلب عليه الطابع الإسلامي في (كوالا لامبور) -عاصمة ماليزيا- أن سئلت: (هل تعني بكلامك يا أستاذ أن النبي لم يفهم القرآن على نحو جيد؟)
فأجبت السائل: (بلى, هو فهم القرآن, ولكن ضمن الحدود العقلية و الثقافية و الذهنية لعصره.)



• ... إذا في أي إطار تضع ما راج مؤخرا على ألسنة بعض من أشد المدافعين عن العلمانية حماسا من دعوة وجهت إلى أوروبا بالذات لإعادة اكتشاف علمانيتها اليوم؟

هي -حسب فهمي- دعوة للتنشيط, بمعنى أن هناك قدرا معينا من الانحسار في التوجه العلماني, خصوصا فيما يتعلق بالجاليات المسلمة المقيمة في أوروبا, وفي رأيي أن ما يقترحه الدكتور جورج طرابيشي –وظني أنك تعنيه- هو بالضبط إعادة تنشيط الفكر العلماني في هذا المجال, وليس ترك الأوروبيين المسلمين وحدهم -و أنا أنوي التشديد هنا على عبارة (الأوروبيين المسلمين)- على اعتبار أنهم متخلفون, وأنهم آتون من كوكب آخر, إلى ما هنالك من هذا النوع من الكلام, أنا أعتقد انهم يجب أن يعاملوا بالمثل.
و إذا كان الجميع الآخر يخضع لمعايير العلمانية, فعلى المسلمين أن يعاملوا بذات الطريقة العلمانية.



• يميل منظرو العلمنة في منطقتنا أكثر فأكثر إلى تبني مقولة أن التغيير من فوق فيما يخص هذا الشأن يوشك أن يكون استراتيجية فاشلة على صعد عدة, بل هناك توجسات تعاند بأن توجها كهذا قد يأتي بنتائج عكس المبتغى.
و من ثم جرى اقتراح التأسيس التربوي و التعليمي كطرح بديل, على ماذا يتم الرهان في هذا الصدد بالذات في رأيك؟

أنا أعتبر أن الطرح العلماني موجود فعلا في أجندة المناهج التربوية, يعني أننا نقوم بدراسة التاريخ على أنه تاريخ, وليس على أنه مدونات عجائب, و ندرس الجغرافيا على أنها جغرافيا, لا جغرافيا جبل قاف, وندرس العلوم الطبيعية على أنها علوم, وليس على أنها إعجاز قرآني, وبهذا المعنى, فالمناهج التربوية لدينا معلمنة كليا.
لذلك فإن المناهج التي يجب الانتباه إليها في هذا الإطار, هي مناهج التعليم الديني, التي تنحو إلى المحافظة, والكثير من التشدد, وتسمها نظرة رجعية للعالم وللعلاقات الاجتماعية.

كذلك يجب الانتباه إلى بعض مناهج التاريخ التي ترى في تاريخ الإسلام تاريخا للعجائب و الإنجازات, بالطبع لا ينكر أحد أهمية تلك المنجزات, ولكن من المفترض بنا أن نضع كلا ً في سياقه التاريخي, وضمن حدوده التاريخية.
أما القول بأن الإجراءات العلمانية التي أتت من فوق كانت فاشلة, فهو أمر ليس بالصحيح على الإطلاق, إذ أنه قد تم لنا علمنة النظم القانونية, بمعنى أنه يوجد لدينا نظام مدني في القانون سواء في القضاء أو في العلاقات الاقتصادية و سوى ذلك, كما قمنا أيضا بعلمنة نظم الدولة, حيث يوجد لدينا دولة وبيروقراطية و .... لا سلطنات أو إمارات بالمعنى التقليدي.
وليس هناك (خلافة) -و لن يكون-, كما قمنا كذلك بعلمنة أجهزة التعليم, بمعنى أنه يوجد لدينا مدارس, والطلاب يذهبون إليها لا إلى الكتاتيب, و يذهبون إلى الجامعات, وليس إلى حلقات المساجد -مع أن هذه الأخيرة لا زالت موجودة على نحو ما- ....

فبهذا المعنى كانت الإجراءات الفوقية ناجحة, وهذه الإجراءات الفوقية التي انطوت على قدر كبير من الهندسة الاجتماعية على امتداد أكثر من قرن, لا يمكن نعتها بالفاشلة بأي حال, مع أنه يمكن القول الآن أنها متعثرة ومتأزمة, إلا أن هذا لا يعني الإخفاق, الأزمة تعني أننا نواجه أوضاعا جديدة علينا أن نتلاءم معها.
و القضية بالتالي ليست قضية انتظار نضوج المجتمع, وإن كان علينا أن نعتبر أن المجتمع غير ناضج فإن العمل على إنضاج هذا المجتمع عبء يقع على عاتق الدولة والمثقفين, مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا أن للمجتمع العربي والمجتمع السوري بنية متراكبة ككل المجتمعات, و هناك فئات, و مناطق وطبقات و .. الخ
و عليه فإن درجة تغلغل العلمانية فكرا وممارسة متفاوت بين هاتيك الفئات, وإذا كان هناك ثمة فئات يمكن أن نحكم أنها على قدر من التخلف, فان ذلك يرتب علينا بالمقابل العمل على الارتقاء بها.



• يتم من حين لآخر العودة إلى مسارد تاريخية مضنية -إنسانيا أقله- تتعلق بالمذابح و المجازر التي اجترحتها في منطقتنا الطوائف المختلفة -خاصة المسلمة منها- في حق بعضها وحق الآخرين, إلا أن مآس مشابهة سبق ووقعت في أوروبا أيضا, حيث كان السؤال العلماني لحظتئذ -مسيحيا – مسيحيا- بدل أن يكون -إسلاميا – إسلاميا- على ما يجادل اليوم, وبالتالي أين تكمن معرفيا الإضافة التي تسعى أمثال هذه المطالعات التاريخية إلى اقتراحها في هذا المضمار؟

ما تقوله صحيح تماما, فتاريخ التنازع الطائفي لدينا ليس فريدا من نوعه, أو غير قابل للتكرار, إذ يوجد هناك تنازعات طائفية في كل أنحاء الدنيا, إنما باعتقادي أن الشرط اللازم لمقاربة مثل هذه الأمور ليس مجرد الإتيان على ذكر أن السنة و الشيعة مثلا قد تقاتلا في ذلك المكان, و تلك الحقبة, وبشكل مستمر -وهذا صحيح-, وإنما المهم برأيي هو النظر في الظروف الاجتماعية التي أدت إلى تلك التنازعات, لأن عملية الفرز الطائفي تترافق دوما مع عمليات فرز اجتماعية أيضا, وثمة دائما تنازعات بين فئات يحلو لها أن تكسو خلافاتها لبوسا طائفيا.

أما عن التاريخ وما قد يضيفه فأقول أنه لا يمكن لتفكير علماني منضبط أن يقوم دون الإلمام بتاريخية الأمور وتحول الأشياء, ومقدار سعة هذا التبدل, فالتاريخ مجال للتحول وليس مجالا للثبات, وهذا يحدونا -نحن ذوي النظرة التاريخية للأمور- أن نلحظ الكيفية التي تتحول فيها مجتمعاتنا, والصفة التي تنزاح إليها, وأن تلحظ كذلك وتائر تلك التحولات.

وعن ذلك بالضبط ينبثق ما قد قلته في بداية هذا الحديث من كون العلمانية في وجه من وجوهها الفكرية إلماما بالواقع المتعين والمتحول, وبما يقال عن وقائع ثابتة, وحتى القول بالوقائع الثابتة -ومنها الوقائع الدينية- يخضع عندي إلى معيار نظر تاريخي, وإلى ظروف تاريخية, تجعل من التأكيد على الثوابت الدينية أمرا هاما في فترات معينة, وغير ذي أهمية في فترات أخرى.



• ألا تخشى من التجيير الخاطئ لطروحاتك التي قد يرى بعضهم في مقدماتها الحادة استفزازا من نوع ما, خاصة ما تعلق منها بمظاهرتك للعسكري التركي خلاصا من تحزب إسلامي لا تخفى شعبيته اليوم في ذلك البلد؟

القضية ليست قضية اصطفاف مع العسكر كما فهم بعضهم**, بل هي مسألة حرص على النظام الدستوري في تركيا, نظام يحاول الحزب الحاكم الالتفاف عليه باللجوء إلى الشارع مباشرة من وراء ظهر العملية السياسية, و في رأيي أن في ذلك سابقة خطيرة جدا, و أعتبرها -كما هي في واقع الأمر- نوعا من الانقلاب على الدولة, و إن اتخذ هذا الانقلاب شكلا دستوريا هذه المرة.
فالشارع هو جزء من العملية السياسية, و ليس جماع العملية السياسية, الشارع هو من يقوم بالانتخاب, أما العمل السياسي التنفيذي, فهو أمر يرجع إلى مجلس النواب, وإلى الحكومة, وإلى الدولة, والدولة جهات, والدولة متمايزة عن الشعب, وهي متمايزة كذلك عن الشارع, وهذا -كما لا يخفى- من المعطيات الأساسية لعلم الاجتماع السياسي.

الدولة كيان ونصاب متمايز, ولا يمكننا أن نخلط بين الدولة وبين الشعب,-وبالطريقة نفسها- لا يمكن الخلط بين البرلمان هو من هو ممثلا للشعب, وبين الشعب نفسه, لأنه عندما يصار إلى انتخاب نائب ما, يصبح هذا النائب نائبا ليس فقط عن منتخبيه المباشرين, وإنما يصبح فاعلا في عملية سياسية تتجاوز معيار النصاب الانتخابي, ذلك أن العملية السياسية في جوهرها أكثر تعقيدا من أن يصار بها إلى الرجوع دوما إلى الشارع كلما عنّ لأحد الأطراف ذلك.

و بسبب من الظرف الحالي بالذات؛ حيث يملك الحزب الحالي الحاكم أكثرية من نوع ما, يجب أن ننتبه إلى أن هذه الأكثرية ليست بالضرورة أكثرية مستديمة, بالنظر إلى أن العملية الديموقراطية في حد ذاتها وبطبيعتها تؤدي إلى تداول السلطة بين القوى والأحزاب السياسية المختلفة. فأن يستغل حزب ما أكثرية في هذا الوقت لكي ينفذ انقلابا على الدستور, أمر غير مقبول في النظام الديموقراطي.

أما فيما يخص مسألة الحريات وما يطرح أحيانا من بدائل لفظية للعلمانية كـ(المدنية) و غيرها فأقول أن هذه عبارة عن حلول خطابية لا معنى لها على الإطلاق, فسواء أأسميناها علمانية أم أسميناها مدنية فالمحصلة النهائية هي عمليا الشيء نفسه, هم يحاولون فقط تفادي لفظة (العلمانية) وهذا شأنهم, وأسأل من يثير قضية الحريات الدينية إن كان هؤلاء يجدون أننا نشهد أي قمع على الفكر الديني أو على المساجد و العبادات؟ .... هل يجدون أننا نحد من حرية نشر الكتب الدينية و حركة المشايخ ؟ هذه ادعاءات غير صحيحة البتة, مشكلة الحريات الدينية مشكلة مفتعلة, وليس عندنا كعلمانيين مشكلة حريات دينية, والشيء نفسه بالنسبة للمسيحيين, فالكنائس مشرعة الأبواب, ونشر الكتب الدينية قائم على قدم وساق, كذلك في كل ما يتعلق بالجمعيات المذهبية والخيرية والنوادي..., ليست هناك مشكلة حريات دينية, ما هذا الكلام.
هل هناك ثمة من يمنع الشيخ البوطي من نشر الثقافة الظلامية, أو من يحول دون تمدد القبيسيات في المجتمع؟



• تقترح علينا التأويلات المختلفة كما للإسلام للعلمانية مجموعة من التجارب و التفاعلات المجتمعية مع هذه المفاهيم, و تصل هذه القراءات أحيانا بين بعضها بعضا حد المباينة و الافتراق, فإلى أي منها تجد نفسك أميل تساوقا والشرط الاجتماعي المحلي؟

المسألة ليست قضية الاستفادة من هذا النظام أو ذاك, فالعلمانية لا تقوم على استيراد للنماذج من هنا وهناك, العلمانية -كما اقترحها وكما ذكرت في مداخلتي في المؤتمر-*** هي عملية موضوعية متعينة في التاريخ, و بالتالي فإن التحولات العلمانية, بما تشمل من تحولات في نظم التعليم والمعرفة, والنظم القانونية الخ؛ تتخذ أشكالا مختلفة باختلاف الظروف.
فالعلمانية في فرنسا تختلف عن تلك الموجودة في السويد, أو في بريطانيا, وهلم جرا, وبالتالي فالشيء ذاته ينسحب علينا في منطقتنا.
ومعنى أن العلمانية علمانيات لا يمكن أن يفهم منه أن لكل مكان علمانية خاصة به, بل يعني أن هناك صيرورة تاريخية عالمية سمتها العلمانية, وتتخذ أشكالا مختلفة حسب الظروف, وهذا شيء طبيعي جدا, والشيء ذاته ينسحب على الإسلام, بمعنى أن للإسلام تأويلات كثيرة, وأن التعبيرات السياسية عن الإسلام تتخذ أشكالا متعددة, ومؤهلة لأن تتحالف مع أيديولوجيات سياسية مختلفة, مع الأخذ بالاعتبار, أن الإسلام دين, وأن هناك مجموعة من النصوص المثبتة, وجملة من العبادات الأساسية, ولكن إضافة لذلك هناك تأويلات كثيرة, وهناك اندراجات في سياقات سياسية واجتماعية مختلفة وبهذا المعنى هو (إسلام).



• درجنا فيما يخص حوارات من هذا النوع على إبراز محاور الخلاف و التمايز بين الأطراف, فهل عساك تلحظ نقاطا للتقاطع أو التجاور بين الطروحات العلمانية و ما يتوصل إلى إعلانه الإصلاح الديني بين الفينة والأخرى؟

نقطة الالتقاء التي يمكنني التفكير فيها هي عمليا نوع من السعي المشترك لترشيد وتحديث الفكر الديني, وهذا هو السبيل الذي سيمكن هذا الفكر من الإلمام بالواقع الذي نعيش, وهو السبيل الذي سيعينه كيلا يجنح إلى الحنين -كما هو الحال دائما- نحو أزمان مضت, أزمنة أعني بها نظما اجتماعية انقرضت, ونظما قانونية تقادمت, وعلاقات اجتماعية ما عادت مساوقة للدرجة التي تطور إليها المجتمع, وبالتالي في نهاية المطاف إدخال أو أعمال العقل التاريخي في النظر إلى الشأن الديني ذاته.



• هل تعتقد أنه لا يزال بالإمكان رفع العلمانية كشعار أو مأثور مجتمعي موجه, أم أن العلمانيين يشفقون -إن فعلوا ذلك- أن يحل بها ما حل بغيرها من شعارات طغى في المآل ذكرها على جوهرها؟
و أين يجدر برأيك أن يكون مكانها ضمن أولويات الراهن السوري؟

أنا أعتقد أنه لا زال بإمكاننا أن نضع العلمانية الموضع الذي ذكرت, بالرغم من أنني أظن أن العلمانية لم تكن شعارا يوما, وإنما ممارسة وصيرورة تاريخية, آسفا لأن الكثير من العلمانيين ضمنا لم يتناولوا هذه القضية بشكل مباشر على امتداد عقود.
أما اليوم -وأقصد العشرين سنة الأخيرة- فنحن نشهد هجوما عارما, سياسيا, واجتماعيا, وثقافيا, من قبل الإسلاميين, وهذا الهجوم هو الذي أدى إلى تصدر شعار العلمانية مساحة من مساحات الفعل الثقافي والاجتماعي, ولولا هذا الهجوم على منجزات التحديث, ومنجزات الترقي التي حصلت لدينا في القرنين الأخيرين, لما رفع شعار العلمانية.
وكما سبق لي واقترحت في مداخلتي, فإن شكلا جديدا من الإسلام ما برح يطغى على الساحات العامة, ويلوث أيضا حتى بعضا من الفكر الإسلامي السمح والمنفتح, من خلال ما يطرحه من مزيد التشدد, ومزيد التزمت, ومزيد القراءة الحرفية للقرآن.

في الشأن المحلي أنا أرى أنه لدينا في سوريا خطر أساسي, وهو خطر بالطبع يهدد المنطقة بكاملها, وهو تنامي النزعات الأصولية اجتماعيا, وحتى عسكريا, بمعنى (الإرهاب).
ولدينا كذلك مخاطر تتمثل باحتمال اندلاع نزاعات قد تكون طائفية.
وليس من سبيل لتفادي هذه الأخطار سوى العمل اجتماعيا وسياسيا وثقافيا على تحييد الدين عن السياسة, ونزع الدين عن المجال السياسي, وإلا فسنكون على شفا الدخول في كوارث لا نهاية لها.
وأنا لا أطرح هنا ما قيل عن إحلال العلمانية بدل الدين كدين هي بذاتها للديموقراطية, إذ أنني لا أعتقد في العلمانية دينا, العلمانية نوع من الإدراك و الصيرورة الاجتماعية و المعرفة الموضوعية, هي ليست دينا على الإطلاق, ولا ألزم اشتراطا بين العلمانية والديموقراطية, فهناك دول علمانية غير ديموقراطية, وهناك دول علمانية ديموقراطية, إنما ليس هناك دول دينية ديموقراطية, وإن تزيت العملية السياسية فيها ببعض شكليات الديموقراطية.

يجب أن يصار -فيما أرى- إلى تكامل بين الاتجاهات المختلفة الموجودة عل الساحة السورية فيما يخص الشأن العلماني, إضافة إلى تنشيط المجال الثقافي في هذا المضمار, وأظن أن إنشاء جمعيات في هذا السياق يكتسي قدرا كبيرا من الأهمية, كونه يؤدي إلى نوع من المأسسة لهذا الهدف, ويغطي جانب العمل في المجال الاجتماعي والتوعية بهذا الأمر.


______________________________________

* عزيز العظمة: ولد في دمشق عام 1947, دَرَس في جامعة توبنجن بألمانيا, ونال الدكتوراه في العلوم الاسلامية من
أوكسفورد – إنكلترا.
أستاذ في جامعات عربية وعالمية, منها: جامعتا الكويت والشارقة, الجامعة الأميريكية في بيروت, جامعة اكستر -
إنكلترا وبودابست – هنغاريا.
من مؤلفاته : التراث بين السلطان و التاريخ, الإسلام و الحداثة, العلمنة من منظور مختلف,العرب و البرابرة, وغيرها.


** سجال كان أثاره الدكتور محمد حبش رئيس مركز الدراسات الاسلامية, و عضو مجلس الشعب السوري, في
معرض مداخلته التي تلاها تعقيبا على محاضرة الدكتور العظمة و التي كان عنوانها (جولة أفق في العلمانية وشأن
الحضارة), وذلك في مؤتمر " العلمانية في المشرق العربي" الذي عقد في دمشق في أواسط أيار الماضي - 2007

*** المؤتمر الآنف ذكره.


2007

لقاء مع الباحثة الدنمركية الدكتورة ماني كروني

العلمانية لن تخطف إيمان الناس منهم, وعلمانيّوكم متشددون

ملف "العلمانية في المشرق العربي"

• كيف تنظرين دكتورة كروني إلى مآلات العلمانية اليوم ضمن حراك مجتمعات و سياسات حكم عالمنا المعاصر هذا؟

أعتقد أن سؤال العلمانية بات يحظى بمتابعة واهتمام كبيرين هذه الأيام وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة إن شئت الدقة, وهذا ليس حكرا على منطقة جغرافية بعينها بل عمليا يحدث هذا ونحن نتحدث الآن في مناطق عدة من العالم, كأوروبا و الولايات المتحدة و أصقاع أخرى من الأرض, و أنا شخصيا أعتقد أننا لم نتناول العلمانية بهذا القدر من الإلحاح في السنوات العشر أو الخمس عشرة الأسبق.
الناس الآن يتكلمون عن موضوع العلمانية بغرض تلمس كنهها و معرفة المزيد عنها, بعد أن وجد كثيرون أنفسهم أنهم لا يعرفون بالضبط ما هي هذه العلمانية.

أما إن أردت التركيز على هذه المنطقة بالذات؛ فمن نافلة القول الحديث عن أن العلمانية ضرورة ملحة في هذا الإقليم, وذلك لأسباب عديدة جدا, لعل من أبرزها فيما أرى –وهو على كل حال موضوع تم التطرق إليه في المؤتمر- ما شهدناه جميعا -وما زلنا نشهده- عبر السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة من صعود المزيد من الحركات الدينية إلى الواجهة السياسية, وهو سبب كاف باعتقادي كي تكون وتيرة تناول موضوع العلمانية أكبر عن ذي قبل, خاصة ونحن نرى كيف تسعى و تحاول هذه الحركات الدينية جاهدة كي ترسخ مزج الدين بالسياسة وفقا لمعتقداتها.

لكن من الملاحظ أن هناك ثمة تباينات و اختلافات في أسلوب الحوار الذي يجري, والطريقة التي يتم بها التعاطي مع هذه المسألة, بالنظر إلى وجود أنظمة حكم مختلفة في المنطقة, و مواقع متمايزة بالتالي لهذه الحركات الدينية داخل المجتمعات المحلية التي تنشط فيها, ولاحقا آفاق متباينة لما يمكن أن يكون عليه تأثيرها على المحيط الذي تتواجد فيه.
و بالإمكان مثلا في هذا السياق أن نتجه على سبيل المثال إلى بلد مجاور مثل إيران, و التي أنوه هنا أنه لم يتم التحدث عنها كثيرا في هذا المؤتمر, و هذا كان أحد الأمور التي فاجأتني في الواقع, لأنني كنت أنتظر حقيقة أن ينال الحديث عن إيران جانبا أوسع من اهتمام المحاضرين و الحضور,
على الرغم من أنها ليست بلدا عربيا و هذا أمر أدركه, لكنها في مقابل هذا بلد ذو نظام ثيوقراطي ديني تتعاظم قوته يوما بعد يوم , وذلك على غرار التطرق لتركيا, و التي كان الحديث عنها لافتا نوعا ما, و هي كما نعلم جمهورية علمانية و بلد مهم كذلك في الجوار العربي.
وهي -أي تركيا- من وجهة نظري نموذج جيد و مثير للاهتمام لدراسة ما يحصل الآن في المنطقة,
و هي تعطي كذلك اقتراحا لأحد الأسئلة الجوهرية في موضوعنا عن العلمانية وهو عن الكيفية التي من الممكن من خلالها أن يكون لدينا علمانية في الدولة؛ و حركات و أحزاب دينية في الوقت عينه تنشط في إطار تلك الدولة.


• عقود مرت منذ أن طرح هذا السؤال للمرة الأولى, لكن يبدو أن ثمة -و من الفريقين- من يصر على أن تبقى الـ(لادينية) ظلا للعلمانية, هل في الميدان من تجارب ترجح أياً من هذين الطرحين؟


أعتقد أن كثيرين -وكما تشير في سؤالك- قد سبقوني إلى قول هذا و لكن (لا), ليس من الضرورة أن تكون العلمانية معادية للدين.
بيد أنه إذا أمعنا النظر في تاريخ العلمانية فإننا سنلاحظ بلا ريب أنه لم يكن لدينا و لوقت طويل في أوروبا -وفرنسا تحديدا- سوى نوع واحد من العلمانية, وهي علمانية كانت قريبة أكثر إلى الطرح الذي يجعل منها مناهضة للدين و التدين, و حملت في جعبتها أفكارا من نمط أن الدين في نهاية الأمر مصيره الزوال, و أن حركة التاريخ وفق تلك الرؤية تتجه نحو تدين أقل فأقل داخل المجتمعات البشرية.
وأنا لا أفشي سرا عندما أقول أن هذه الفكرة لازالت إلى حد ما موجودة لدى كثير من الناس, و من ضمنهم علمانيون ممن يرون التضاد بين العلمانية و الدين, وأن كون المرء علمانيا يحتم عليه معاداة الدين, لكن في المقابل وهو أمر لا يجوز إهماله بحال يوجد علمانيون كثر أيضا لا يعتقدون بهذه الضدية بين العلمانية و الدين, ولا يعتبرونها لازما منطقيا و لا ضرورة محتمة.


و لنا في النموذج الأميركي للعلمانية مثال جيد عن الفريق الثاني من العلمانيين الذي أشرت إليه, حيث نجد بشكل أوضح ما يكون كيف أن العلمانية الأميريكية مناقضة تماما لفكرة معاداة الدين, و أنها تقوم عمليا على اعتبار العلمانية حلا تتوافر بمقتضاه ضمانات الحرية في التعبير عن المعتقدات الدينية, و الممارسة غير المقيدة لمعتنقي الأديان المختلفة لطقوس و شعائر أديانهم كافة, و التكفل بحماية هذه الحريات للجميع ضمن إطار القانون الناظم.
فدولة يحكمها دين بعينه ستكون بعيدة عن توفير هذا النوع من الحريات الدينية لمواطنيها بمثل هذه النزاهة, لذا فان النموذج الأميركي العلماني الذي أنوه به هنا؛ ليس ضد الدين على الإطلاق, بل هو عمليا وبهذا المعنى يتيح حريات واسعة و حيزا رحبا لنشاط المتدينين.
وهو بهذا يقدم وجها آخر بالغ الأهمية للعلمانية اليوم, ويمثل تطورا يحتذى مفاده أن الدين ليس عقبة أمام قيام نظم علمانية, و أنه من المتاح التوصل إلى صيغة مجتمعية حداثية و معاصرة من دون أن يكون الدين على تنافر و تناقض معها.

وأنا أظن أنه من الممكن رد الاختلاف بين التجربتين الفرنسية و الأميريكية إلى أن الناس الذين سنوا القوانين المعمول بها في فرنسا اليوم كانوا إلى حد ما (لادينيين), وأن هؤلاء الناس قد عملوا في وقت من الأوقات ضد الدين, و اعتبروه شيئا يجب محاربته بوصفه حالة لاعقلانية تناقض العلم النيـّر الذي يربح في النهاية على الظلامية الدينية و التخلف, و ما إلى هنالك من هذا القبيل.
لكن تلك كانت النسخة الفرنسة, و هو أمر لا تجده أبدا في باقي أوروبا اليوم, و بالطبع ليس في الدول الاسكندنافية.


• كيف تنظرين إلى السرد التاريخي المسهب الذي لجأ بعضهم إليه لإثبات مدى فداحة ثمن (تطييف) مجتمعاتنا المشرقية, السرد نفسه الذي استخدمه آخرون للبرهنة على عدم قابلية مجتمعاتنا لـ(العلمنة)؟

الأسباب التاريخية بالطبع تلعب دورا رئيسيا في هذا الخصوص, فالمهاجرون إلى الولايات المتحدة على سبيل المثال انتموا تاريخيا إلى فئات عرفت إلى حد بعيد بتدينها, في حين أنه لدينا في أوروبا تجد أن فلسفة التنوير في إحدى تجلياتها كانت على الضد من الدين.
بيد أنني لا أحبذ الانسياق كثيرا وراء التاريخ, وأنبه من أنه لا يمكن إرجاع كل شيء و تبريره بأسباب ذات أصول تاريخية.
فالإفراط في اللجوء إلى التاريخ خطأ لا يجب الوقوع فيه, و المقدمات التاريخية لا ينبغي لها أن تتصدر على حساب الأسباب الأخرى التي لا تقل خطورة, كأهمية إدراك الواقع الحالي و السياق المعاصر للأمور و الإلمام بعناصره هذا السياق و راهنية إشكالياته.
و هذا بالضبط ما لفت نظري هنا, إذ اكتشفت أنكم تكثرون من استحضار التاريخ –و أنتم تمتلكون الكثير منه بالطبع-, وتجعلون منه أسانيد أساسية في أطروحاتكم التي تتمحور حول ما يجب أن يكون عليه الوضع اليوم أو مستقبلا في مجتمعاتكم.
أعتقد انه أمر ينبغي إيلائه المزيد من الاهتمام, أن ينظر المرء إلى الأشياء الموجودة حوله اليوم و يحاول أن يعيها بما هي عليه الآن, وأن يلتفت بقدر أكبر إلى ما يفكر فيه الناس في هذه اللحظة, و الكيفية التي يتعاطون بها مع الدين في حال كانوا متدينين مثلا.
قد يكون لدى التاريخ ما يجادل فيه, لكن من المهم بطبيعة الحال أن ندرك مكان وقوفنا حاضرا.

لا يحضرني الآن بالضبط اسم الشخص الذي صاغ هذه العبارة, لكن كان هناك ثمة من قال أن على كل ٍ أن يبتكر علمانيته الخاصة به.
ومن هذا المنطلق أستطيع أن أنظر أنا مثلا إلى بلدكم هذه و أقول أنني أرى أنكم هنا في سوريا لديكم نوع من العلمانية.
و مؤتمر كالذي شاركنا فيه وحضره الناس؛ جيد من باب أنه يعطينا فرصة للتعرف على الاحتمالات المختلفة للعلمانية, غير أنه في المحصلة يقع على عاتق كل بلد على حدة أن يجد لنفسه النموذج الأمثل لحالته من العلمانية, نموذجا من المطلوب فيه لا أن يراعي ملاءمته للنظام السياسي في ذلك البلد فحسب, و إنما مدى مناسبته للمجتمع كذلك سواء بسواء.
ففي بلدي الدنمارك على سبيل المثال, لا ينظر إلى الناس هناك عموما على أنهم متدينون, و لكن في نفس الوقت يوجد لدينا في المقابل كنيسة رسمية للدولة.
ما أود قوله أنه في حال كان لدينا مجتمع يغلب التدين على أفراده؛ يجب علينا عندها على المرء أن يفكر في نوع آخر من العلمانية توائم تطلعات ذلك المجتمع.

وهذا النوع من الاختلافات مشروع تماما, فلو استنكف مرشح ما للرئاسة في الولايات المتحدة الأميريكية اليوم خلال حملته الانتخابية عن التحدث عن الله, لسقط سقوطا مدويا بغض النظر عن باقي سياساته و أجندته المحلية و الدولية!
أما إذا لجأ بالمقابل مرشح الرئاسة الفرنسي إلى توسل دين الجمهور للوصول إلى الإليزيه وفق الطريقة الأميريكية فسيصاب بخيبة أمل كبيرة و لن ينتخبه أحد تقريبا!
والنظامان كلاهما في الولايات المتحدة و فرنسا علمانيان.


• هل من شرعية للحديث عن إصلاحات (علمانية) بما يوازي المطلب العنيد ممن هم على المقلب الآخر بالقيام بإصلاحات دينية؟

أعتقد أن الأوروبيين قد بدؤوا بذلك فعلا, وهم يحاولون اليوم إعادة اكتشاف علمانيتهم على ما جاء من دعوة على لسان الدكتور جورج طرابيشي, و في حال عدنا سريعا إلى فرنسا لنأخذها مثلا من جديد لوجدنا أنهم أي الفرنسيون يعملون حاليا على البنية القانونية للمسألة, وما السجال حول قانون منع تقلد الرموز الدينية في المدارس إلا دليل ملموس على ذلك, وهو أمر دفع بالكثيرين لإعادة طرح سؤال العلمانية مجددا, إن من قبيل تطوير الجدل و النقاش حول الموضوع؛ أو من باب اكتشاف مجهول جديد.
و قد يستغرب بعضهم ما سأقوله لك الآن؛ لكن حتى في دولة علمانية قحة مثل فرنسا, و التي كان لها قصب السبق في تطوير وصفتها الخاصة و الشهيرة من العلمانية؛ لا يزال هناك أناس و مواطنون فيها لا يعرفون شيئا عن العلمانية!
لذلك أجد نفسي متفقة مع هذا الطرح الذي تـُستحث فيه أوروبا -و البلدان العلمانية الأخرى خارج القارة الأوروبية- لإعادة اكتشاف حقيقة علمانيتها, و أظن أن هذا الأمر هو ما يجري فعلا على أرض الواقع, يشهد له العديد من المحاضرات و المؤتمرات التي تم عقدها في السنوات الخمس الماضية.


• أتيت على ذكر إيران في بداية الحديث, يبدو أن الأمور تسير جيدا في صالح هؤلاء القوم على رأس ثيوقراطيتهم, ألا تعتقدين ذلك؟

أبدا, على الإطلاق.
فعلى الرغم من أن إيران دولة قوية اليوم, و تمتلك الطاقة النووية على حسب ما يرددون على مسامعنا في الأخبار كل يوم, غير أن امتلاك الطاقة النووية أمر لا علاقة له بالدين.
و إذا نظرنا إلى إيران كدولة و من ثم كدولة (إسلامية)؛ لتبين لنا مقدار الفشل الذي يعانون منه هناك.
فهم على سبيل المثال قد سعوا جاهدين إلى تطبيق قوانين (الشريعة), و مضوا قدما في الطريق نحو ذلك الهدف, فماذا كانت النتيجة؟
لقد اضطروا في المحصلة إلى التراجع في كثير من المناحي و الأمور, و لاحقا تخلوا عن قدر مهم من حماسهم في ذلك.
أما الاستثناء في هذا السياق؛ فقد يراه بعضهم متمثلا في الجانب السياسي, حيث الدور الإقليمي البارز لهذه الدولة و الذي لا يمكن لأحد أن ينكره,إنما و من جديد يجب الانتباه إلى أن هذا لا علاقة له من قريب أو بعيد بكون إيران دولة دينية, على الرغم من أن الإيرانيين قد يستخدمون -وبنجاعة أحيانا- الدين كسلاح للتأثير في سياسات و توجهات الآخرين بما يتناسب وما يجدون أنه في مصلحة استراتيجيات سياستهم الخارجية, وفيما سوى ذلك فإيران فشلت في أن تكون دولة إسلامية نموذجية وفق معايير تطبيق (الشريعة) و ما إلى ذلك.

وأنا لا أعتقد -كما ألمح بعضهم في مكان ما من المداخلات التي أتت من طرف الجمهور- أن الوقت لازال باكرا على طرح سؤال العلمانية في هذه المنطقة, بل على العكس تماما من ذلك, إذ أن البديل الوحيد المتوفر هنا في حال استثناء دولة علمانية هو بكل بساطة الدولة الدينية, وليس في الأفق خيارات منطقية سوى ذلك.
بيد أنني أملك مقاربتي الخاصة حول هذا الموضوع, إذ لا أعتبر أن السؤال بصيغته الحالية و الذي يستقصي إمكانية قيام دولة إسلامية من عدمها هنا و هناك أو مدى قرب تسلم سلطات متدينة مقاليد الحكم في هذا البلد أو ذاك سؤالا صحيحا تماما.
ففي نظري أن السؤال الأجدى بالطرح والأكثر أهمية هو سؤال الناس عن نوع الدولة التي قد يقررون أنهم ميالون إليها, وهو سؤال يتعلق بمدى تدين المواطنين أنفسهم, و الشوط الذي هم مستعدون أن يذهبوا فيه في هذا التدين, أكثر منه سؤال عن الحد المقبول أو غير المقبول الذي من الممكن أن تكون فيه السلطة متدينة أو غير متدينة.


• ماذا عن جارة إيران و جارتنا؛ تركيا؟

التجربة التركية في مآلاتها الحالية تطرح علينا واحدا من أكثر الأسئلة إشكالية اليوم؛
ماذا لو كان لدينا ديموقراطية و اختارت غالبية المقترعين تغيير الدستور لجعله أكثر دينية (إسلامية)؟
هذه إشكالية بكل ما للكلمة من معنى, إذ كيف بمقدورنا معاندة هكذا خيارات للناس ونحن ندعي الديموقراطية؟
أعتقد انه سؤال حساس برسم العلمانية, وهو في الوقت عينه بذات المقدار من الأهمية بالنسبة للديموقراطية كذلك.
أنا شخصيا -وأعتقد أنك ستطلب إلي الإجابة فورا- سأقف في صف الديموقراطية, لأنني سأنظر إلى نفسي في هذه الحالة على كوني أقلية في دولة الغالبية المفترضة من مواطنيها ترغب في شيء مغاير تماما لما أريده أنا نفسي أن يكون, لكنني سأتصرف على أساس أنه في هذه اللحظة لا يمكنني أن أدعي أنني أكثر صوابا من كل الآخرين.

وعندها سأنتقل للعمل بشكل آخر, سألجأ إلى تغيير نظرة الناس من خلال التفاعل معهم عبر ما تصل إليه
يداي من إعلام و إنترنت ووسائل أخرى لإيصال الفكرة و المعرفة.

وأنا هنا -ولتسمح لي بأن أقول رأيي الشخصي- أعتقد أن معظم العلمانيين الذين التقيت بهم أو سمعتهم في هذا الجزء من العالم هم علمانيون من النوع لنقل (المتشدد) نسبيا, وهم ينتمون بامتياز إلى ذلك الصنف الذي يشتم الخطر في نشاط الحركات الدينية من حوله.
لذلك فالعلمانية التي يمكن للمرء أن يصدفها في هذه البلاد هي عمليا من النوع القديم, و هي أقرب للنسخة الفرنسية من العلمانية, و التي كما كررنا ترى التناقض مع الدين, و تتوسم في المتدينين تهديدا لاستقرار النظام السياسي في العموم.

وهنا أجد وقبل أي شيء آخر, أن الأولوية يجب ان تتجه إلى طمأنة الناس بأن العلمانية لن تعمد إلى أخذ إيمانهم منهم, وجعلهم يدركون حقيقة أن العلمانية هي الوسيلة الصحية التي من خلالها يمكن أن يضمنوا لأنفسهم ممارسة اعتقاداتهم بحرية.
و هذا النوع من الخطاب يجب التوجه به في المقام الأول إلى المتدينين, بغرض تخليصهم من مما يظنون أنه تعارض منطقي بين المفهومين العلمانية و الدين.

كذلك لا يقل إلحاحا عن ذلك, واجب التعمق في دراسة ظاهرة مثيرة للانتباه و هي أنه حتى الإسلاميون –بمن فيهم من يعتقد على نحو ما أن السياسة يجب أن يحكمها الدين- يلجئون اليوم أكثر فأكثر إلى الانخراط في العمل ضمن أطر أنظمة علمانية, كما هو الحال في تركيا و مصر و أماكن أخرى منها سوريا أيضا.
فالإسلاميون لهم الحق في أن يأتوا و يناقشوا و يدافعو عن وجهة نظرهم في هذه القضايا, وأن يحاولوا إقناع الناس بأن ما يرونه هو الشيء الأفضل لهم, و العلمانيون بالمقابل لهم الحق نفسه في أن يذهبوا إلى عين المكان, و يتكلموا على الملأ بما يرون أنه يفضل آراء من سواهم حول الموضوع, و لكن لنبق في أذهاننا أن جوا كهذا يندر أن يوفره نظام شمولي ديني.



التقاها وصاغ الحوار عن الإنكليزية
خالد الاختيار

______________________________________

*ماني كروني : دكتوراه في علم الاجتماع , بروفيسور مساعد في قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية – جامعة كوبنهاغن, حائزة على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من معهد باريس للدراسات السياسية, تهتم أبحاثها بالأفكار السياسية الإسلامية، والإسلام السياسي في أوروبا, والعلمانية من وجهة نظر الإسلاميين.