2015-04-28

علاء رشيدي.. اقتحام هادئ لكواليس الثورة




"اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد" مجموعة قصصية للكاتب السوري الشاب علاء رشيدي صدرت حديثاً عن دار "أطلس". 

مجموعة لا يبدو أنّ كاتبها كان مفتوناً لدى عمله عليها بإعادة اختراع عجلة الكتابة، أو حتى مجرد تجريب قوالبها الأكثر تداولاً. عوضاً عن ذلك يدخل رشيدي في نسق حكائي يترك له حرية انتقاء الزي السردي الذي يريد أن يظهر، أو يتنكّر، به.

هناك راو مراقب ورزين للحكاية، وهناك الشخصية التي تحكي قصتها بنفسها وكأنها لا تثق بأحد آخر لأداء هذه المهمة. حوارات مسهبة على الـ"سكايب"، ورسائل بريد إلكتروني، وربما فصول متوالية لقصة ممسرحة. قد يُستدرج القارئ إلى هيولى أحلام قلقة وهلوسات سائلة، ليجد نفسه في الصفحة التالية وهو يطالع فهرساً (حرفياً) لأحداث القصة اللاحقة وكأنه تبويب تقرير أكاديمي. والمحكية لغة للحكاية أيضاً إلى جانب الفصحى.

قوالب وتقنيات متعددة بتعدد شخوص الأحداث المروية التي يتورط الكاتب في توثيق مساراتها وأهوائها، أدبياً هذه المرة، إنّما من دون أن تفقد للحظة ارتباطها العضوي بما يُحكى، حقيقة، على الأرض السورية، وعنها. لنلج مع الكاتب بسلاسة أقبية الحراك الشعبي في البلاد، ونحلّق فوق أسطحه التي ستنهار "سلميّتها" في المستقبل الذي يبدأ مباشرةً بعد طي الغلاف الأخير للكتاب.

اقتحام هادئ لكواليس "الثورة" عبر ثماني قصص طويلة، يبدو وكأنّه يحدث اعتباطاً، دون قصدية مبيّتة، من خلال لغة وصفية متقنة، ترتكز على تفاصيل قد تكون متخيّلة تماماً في تتابعها وفضاءات حدوثها، غير أنّها تلمس في الذاكرة الجمعية المحلية خلايا حنينٍ ما زال غضّاً على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.

يكتب رشيدي عن جثث بلا هويات تتوافد إلى منزل فرضت "قواعد اللعبة" على أهله أن يخصّصوا إحدى غرفه لتكون مشرحة مرتجلة، تستريح فيها الأجساد الهامدة ريثما يتم نقلها إلى غرفة أخرى تستحيل بدورها، بين عشية مظاهرة وضحاها، إلى ورشة "روتينية" لخياطة الأكفان، وبحضور ثلاثة أطفال يعتادون هذا الـ"ديكور" الطارئ الرهيب الذي لا يعرف البالغون إلى متى سيستمر.

وهنا لا يجد رشيدي حرجاً من تناول أُناس يستقبلون مصائرهم الجديدة كما يستقبلون بالخطأ مشروباً ساخناً لم يطلبوه من النادل الجديد:

"توقعنا في ذلك اليوم عدداً أكبر من الجثث المجهولة، وحضّرتُ في ذلك النهار ثلاثة أو أربعة أكفان. مساءً، حين لم يصلنا إلا الجثة رقم 15، لم نكن نعرف ما يجري حقيقة في المدينة" (حكاية فريق الموتى).

أمّا في "أسماء مستعارة للمغامرة، أسماء مستعارة للحنين" فتبدو جميع الشخصيات، التي تتفاعل مع بعضها بعضاً عبر البريد الإلكتروني، مربوطة بخيط استعادي، لا يشد إلى الوراء بقدر ما يستدعي قراءة أخرى لما كان ومضى، وكأننا بالكاتب يحاول أن يطلعنا على "مواهبنا" الاستشرافية التي التبست علينا دهراً، وفقدنا النسق المنطقي للاستدلال بها في حينه؛ أو لعله يضيء لقارئه الزمن "المضارع" الذي ليس في النهاية سوى البرزخ الذي تلتقي فيه لحظتا تحقّقِ النبوءة وانقضائها: 

"قامت الثورة وأنا شغّلت هالكاميرا، بس أُصبت بصدمة. لأنّو حتّى وقت بْصوّر وفاة شهيد عم يلفظ أنفاسو الأخيرة؛ ما بحس حالي عم صوّر شي جديد. بحس وكأنّو عم صوّر أشياء كنت إحلم فيها من زمان، من قبل ما يموت الشهيد".

يتقمّص رشيدي دواخل سكّان قصصه بحساسية "إجرائية" بالغة، وكأنه ينقل عن "موديل" واقف أمامه، أو هو مرّ منذ برهة وجيزة قربه؛ مثل ذلك التفصيل الدقيق المتمثل بإيراد أخطاء "زنجار" (أحد شخوص القصة السابقة) في الإملاء كما هي، وهي الصحفية السويدية التي تتخفّى وراء اسم مستعار، وتحاول كتابة رسائلها إلى أصدقائها السوريين في الداخل بالعربية التي ما زالت في طور تعلّمها.

بيد أنّ تقدير هذه الحساسية "اللغوية" بالذات، إلى جانب استخدام العامية في بعض النصوص، يشوّش عليها أحياناً وقوع الكاتب الشاب في بعض الهنات اللغوية، إملاءً ونحواً، في النصوص المعتمِدة على الفصحى، ما ينغّص إلى حد ما استمتاع القارئ وتركيزه على هذه الميزة بالذات، خاصة عندما يتمدد السرد، وتبدو الجمل بحاجة إلى من يضع لها نقطة على السطر.

على أنّ رشيدي لا يقف عند التوثيق الرومنطيقي لـ"ثورة" كان قد حسم أمر انحيازه لها باكراً في سطور نصوصه الأولى؛ بل يفصح بأمانة عن مطامح وتوقعات "ثوّاره" أنفسهم، ويأخذ حديثَ الانتفاضة السورية إلى مستويات يتم تجاهلها، سهواً أو عمداً، من قبل كتّاب آخرين في الحراك. إذ تصرّح مثلاً إحدى شخصياته بالقول: 

"إنّ ما يحدث في سوريا، وخصوصاً في باب النهر، ليس ثورة، إن لم تحرّر المثليين والمرأة. إن لم يتغير القانون الذي يعاقبهم على رغبات الجسد".

"اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد" (منحة "الصندوق العربي للثقافة والفنون"، 2012) مغامرة في الكتابة، ومغامرة في استكشاف دهاليز الحراك الشعبي المنفلت في البلاد، وبرهان جديد على أنّ "الإبداع" الفني المنبثق عنه، والذي بدأت بواكيره في الخروج إلى النور مؤخراً، يملك حساً نقدياً اجتماعياً عالياً، ومكاشفةً لا تكترث بالحسابات السياسية المبتذلة. 

وهو أمر يفتقر إليه دون شك "إبداع" الطرف الآخر، الذي سيبدو بالمقارنة محافظاً، مطموس الملامح بالمانشيتات، والخطابيات المائعة، ومتمترساً وراء لغة إعلانيّة لا تخاطب في الجسد سوى الأدرينالين، ولا في الروح سوى ثقبها العدمي الأسود.

ومن هنا يلتف الكاتب بمهارة على الإنشائيات الإخبارية والتحليلية ليضع القارئ على الكلمة التي كانت في البدء: "تهلّ الخفة على أعضائها كشلال، وتنسى الوجود، كأنّها تتحرر من ثقل الماضي. وفي الوقت ذاته، من قلق المصير في المستقبل. وفقط حين يغيب هذا المستقبل، تتوهم جمانة أنها قادرة على الطيران". (الضحية تنتصر بالبراءة).