2014-04-12

شعر طائش للموت السوري







الهواء الذي تشهقه دمشق في الأشهر الأخيرة، بعد أن دفع النظام المعارك إلى جبهات أخرى؛ تتنسّمه براعم صغيرة، لا يدخّر نسغ الحياة فرصة كي يندفع فيها بخضرته الطرية موازياً أسنة الحراب الناتئة.

"ثلاثاء شعر" أحد تلك الأعشاب البازغة التي تحاول إن داسها "بسطار" عسكري طارئ في "باب توما"؛ أن تنبت قريباً من ساحة "الشهبندر"، أو تمدّ أوراقها الغضة ثانية وراء أسوار السفارة الفرنسية في "العفيف". أيام قليلة، ويمرّ عام على إطلاق هذا الملتقى الأدبي الذي واكبه تأسيس دار "سرجون" للنشر، التي سارعت بدورها إلى إصدار "كريستال طائش" (2013)، باكورة مجموعاتها الشعرية الموعودة، وأول حصيلة لنشاطها الثقافي الأسبوعي، كتابة ونقدا،ً مع شباب عشريني يناور بحواسه لالتقاط ما يفوت باقي القناصين قنصه.

أحمد ودعة، ومعاذ زمريق، وجوزف حداد، وأحمد علاء الدين، وأحمد سبيناتي، خمسة أمزجة في الكتابة السورية الجديدة بعد "الثورة"، أو "الأزمة" ربما، أو "الحرب الأهلية" باللغة الأممية، ولكن بالقطع بعد أن بات دوام الحال الآفل مُحالاً، سياسياً وثقافياً.

يأتلف خماسي الشعر في المجموعة المشتركة بعفوية مفهومة على مقارعة اليومي الكارثي الذي يفرض نفسه وقذائفه، وكلٌّ بطريقته. لكن النوسان بين التفعيلة وقصيدة النثر والاتكاء على التراثي بين التجارب التي يضعها كُتّابُها أمامنا؛ يكاد يحسم تأرجحه ميلٌ جامحٌ لا يمكن إغفاله إلى السرد والاستطراد لديهم جميعاً.

سرد لاهث في المسافة البعيدة، التي تفصلهم في قصائدهم عن الأنثى المتوارية وراء دخان الاحتراب المستعر، والتي إن أطلّت أحياناً بحضورها المشتهى، عادت أطيافها سراباً عصياً، كما يستحضرها لنا جوزيف حداد في "قلّة آدمية ليس إلا" "ما ذنبي/ إن كان كلما تراءى لي نهد/ منتفخ قليلاً/ حفزني بصعوبة لاجتياز "الأوتوسترادات" لألحقه/ ومن ثمّ أُشيد منه آبدة في خيالي لأنتشي قليلاً/ ناسياً الوصايا العشر بأكملها/ ما ذنبي إن كان قلبي كعكة إسفنجية فاسدة/ وأصابعي عشر سجائر مبللة بالدمع/ ودماغي كرة جوز بني، في أوسطها/ نُزُل فاخر للسوس والبكتيريا".

والسرد الآخر ـ إن لم يكن الأول ـ الذي تنساق قصائد المجموعة وراءه ليس سوى شبح الموت الذي يخرج عن كونه هاجساً ليصبح حالة تتلبس المجاز كما الإفصاح. ويتجلى ذلك في عدد من عناوين قصائد المجموعة: "سأقبّلك قبل أن تنهي الحرب"، "في البدء كان الموت"، "أنعي لكم"، "انتحاري بجسد منسوف"، "أبجدية الموت". ويضيف عليها أحمد ودعة قصيدته "بورتريه للموت" التي يقول فيها: "رأيت صور أناس/ رُسمت بمهارة وإتقان/ فاكتشفت أنّ الموت/ يملك موهبة/ غير قطف الأرواح...!/ فهو يرسم "بورتريه" للأبرياء/ ويحتفظ به على هيئة اعتذار...!/ سُلبت ما جئت لأجله/ وأنهكني الخوف المتصبب من أصابعي/ حطّمت أقفاله الصدئة/ وتهت في أزقة مذكراته/ لأجد ألبوم صور/ يروي ماضيه../ لكن الشيء الغريب/ أنه كان وحيداً في هذا المكان".

أمّا الحزن واليأس، فهما ظلان حميمان للموت الرابض ينهكان أحمد سبيناتي "حتّى الذوبان". يقول في "سيناريو حزين لليلة حزينة": "يصدر الحكم بالحزن حتى الذوبان/ على أقلام الرصاص... والممحاة/ بتهمة التحفظ على الذكريات/ الحزن يملأ حنجرتي يرتعش في دمي/ يختبئ خلف دريئة عمياء/ يسمع أوجاعنا ويحزن/ يشارك بالبكاء... ويجهش/ ..../ يدخل الحمام/ ويتبول بنشوة مفرطة/ ثم يجلس حزيناً".

بيد أنّ عدم امتلاك أصحاب النصوص ناصية لغتهم حتّى الآن؛ جرّهم إلى الوقوع أحياناً في الإنشائية، والصور المتداولة المطروقة. ومع ذلك فإنّ العين لا تخطئ الالتماعات التي تعيد الإمساك بالقارئ إذ يتفلت بعض النص منه. يقول، معاذ زمريق، في "مقتنيات كاتب فاشل": "لديّ ما يكفيني من الجرأة/ كي أصيح: أيّها الجندي/ تعال كي تقطفني/ ألا تريد تذوّق ما سيجود به جسدي/ من دمار شهي..؟/ تعال.. لا تتردد/ لديّ إخوة كثيرون/ نحن وجبة دموية كاملة الدسم..!".

من جهته ينسج أحمد علاء الدين أجواءه الخاصّة بنثرية عالية تتجاوز ما لدى زملائه، متلاعباً بعلامات الترقيم. بل إنّه يترك انطباعاً لدى قارئه أنّه يتعمّد الشطح أحياناً ومداورة "الخاتمة". حتّى وإن بدا السياق التعبيري بصوره ومعانيه أقرب إلى الاكتمال بصيغة أقلّ انفلاشاً. يقول في "إبحار الخلاص": "بادياً من آخر البحر وجسمي أُبّهة التعب/ جئتكم والباقيات من عمر قصير. قرون ويل-/ صبايا الثلج يرتحلن، والسنين اللافحات مرآة للعمق./ وأنا أمدّ الشوقّ للشاطئ المغطى بشرايين موتى متصلبة./ جماجم مرصوصة تحت السماء/ والأكباد تشدّ الموج المجرّح بأظافر الشرر-تنهش أطراف قلوبٍ/ لم تزل فيها أمارات الحبّ الأخير/ لعينيّ يلوح منظر الوجوه اللئيمة/ لأبناء رايتي".

هو إلى الآن تجريب للكتابة أكثر منه تجريباً في الكتابة نفسها، ولا يشذّ هذا القول عن تعريف الشاعر، زيد قطريب، نفسه للملتقى الذي أنتج هذه الأعمال بأنّه "نواة ورشة عمل إبداعية تهتم بالشعر"، من دون أي ادعاءات. لكنّ ما يحسب لهذه الثلة من المتأدبين الشباب نفضهم الغبار عن خيار المقاومة الثقافية، ومبادرتهم إلى استرجاع مساحة عامّة قد يعجز نظراؤهم عن مقاربتها في مدن سورية أخرى أكثر اكتواء بنار القمع والمنع. وإن لم تأت ثمارهم الأولى يانعة كما نشتهي ونحب؛ فلا ضير في ذلك:

"كلما قلت لها: أحبّيني/ تقول: إن أحببتك اليوم/ فماذا أفعل غداً..؟!!"