2014-10-20

فيلم "بلدنا الرهيب": سفر خروج "المثقف".. إلى "الثورة"






ليست رحلة يسيرة تلك التي يقترحها علينا الفيلم الوثائقي السوري "بلدنا الرهيب"، للمخرجين محمد علي أتاسي وزياد حمصي. فالشريط الذي قدّم في عرض أول مؤخراً في بيروت، يتعرّض لجزء من مسيرة الكاتب السوري المعارض ياسين حاج صالح، الذي يقرّر مغادرة الغوطة الشرقية الخارجة عن سيطرة قوات النظام القمعي، متوجهاً نحو مدينته الأم، الرقّة، والتي سرعان ما سيكتشف، استحالة البقاء فيها، بعد أن عاثت فيها المليشيات الإسلامية المتطرفة قطعاً للأرزاق والأعناق.

يوثّق المخرجُ الشاب، حمصي، الرحلة التي قد تتخذ في أي لحظة منعطفاً يهدد حياة الجميع. ليعبر مع حاج صالح هضاباً وفيافٍ نحو الشمال، حيث يدخل المخرج الثاني، أتاسي، على خط العمل، في وقت يقرّر حاج صالح مغادرة البلاد نهائياً إلى تركيا.

يبدأ الفيلم بسلسلة لقطات مؤلمة للدمار الخرافي الذي آلت إليه مناطق شاسعة من البلاد بسبب الحرب الدائرة، قبل أن نجد أنفسنا داخل المنزل المتواضع الذي كان يعيش فيه الكاتب المعروف مع زوجته (سميرة الخليل) في الريف الدمشقي، حيث تبدأ قصة الشريط. 

ينتاب المرء للوهلة الأولى إحساس مشوِشٌ بأنه بصدد مقابلة تلفزيونية، وأنّ الكيمياء المهنية بين المصور الشاب وحاج صالح ليست في أفضل أحوالها، وذلك فيما يحاول حمصي تقديم "الحكيم" لجمهور فيلمه عبر أسئلة تعريفية واستيضاحية.

على أنّ هذا المأخذ الأولي، سرعان ما يتوارى وراء جهد حمصي في التقديم السلس للبيئة "الثورية"غير المستقرّة، بين عسكرة وحملات تطوعية، والتي يتحرك حاج صالح في إطارها.  إنّما مع بروز عثرات المنهجية السينمائية التي اعتمدت من قبل واضع السيناريو، أتاسي، لتقديم ثيمة العمل ككل، وهي دور المثقف في مفصل تاريخي راديكالي من حياة المجتمع الذي ينتمي إليه، مجسَداً بالحرب الأهلية، ومن قبلها الثورة، لا أقل. وهي معضلة لا يُحسد أحدٌ على التنطح لها. 

فالتحدي الماثل أمام وثقائي يلاحق شخصية مثل حاج صالح، هو وضع استراتيجية للتعامل مع مثقف كبير ملمّ بـ"لعبة" الكاميرا وأحابيلها، سواء أنْ انخرط فيها أم لا. وهنا نلمس منذ البدايات انتصاراً للبطل على الإخراج، لتمكّن الأول من فرض تقنية الروي الخارجي لنصوص وضعها ونقّحها وتلاها هو نفسه، بعيداً عن منسوب التلقائية الذي كان يتوقعه كثير من الجمهور أن يأتي أعلى مما كان، أو مما هو موجود في كتابات المثقف المتاحة هنا وهناك أصلاً.

ملاحظات أخرى تشكك في وجود سيناريو واضح لدى أتاسي، تتمثل في المشهدية المتواضعة التي 
يقترحها علينا لأحداث لن تتكرر في حياة حاج صالح الذي أمضى جلّ عمره إمّا بين جدران سجون الطاغية الأب، أو وراء حواجز السلطة الأمنية التي منعته لأعوام من السفر. وهاهو الآن يغادر سوريا، أمام الكاميرا، ويحلّق في طائرة، ويركب "مترو"، للمرة الأولى، فيما لا نرى في العدسة المرافقة له "سينما" تليق بتلك اللحظات.

بيد أنّ الفيلم ينعش فينا، في أماكن أخرى، نزعتنا المستترة أحياناً نحو تفكيك رمزية مشهدية تبدو وكأنّها وحدها الشاهد على عفوية مستحقّة في الشريط. 

فنرى في إحدى اللقطات المشادّة الكلامية التي احتجّ فيها صاحب المطعم الحلبي في تركيا على اعتراض حاج صالح على فاتورة طعامه. وقبلها مشهد حملة التنظيف التطوعية (الفاشلة) في دوما "المحرّرة"، بسبب تلهّي الناس بالكاميرا وفق تعليق حاج صالح، وما رافقها من تحفّظ أحد وجوه المجتمع المحلّي على خروج سافرات في الشارع، رزان زيتونة وسميرة الخليل. (كلتاهما ستختطفا لاحقاً على يد ميليشيا إسلامية مجهولة)

إذ يصعب على المتفرج أن يتجاهل تلك الفجوة بين المثقف ومحيطه، في اللقطتين الأخيرتين، واللتين تنتهيا بـ"استسلام" المثقف (حاج صالح) ومغادرة الموقعين، دوما والمطعم، دون مزيد نقاش. 

وتعبير "استسلام" هنا مقتبس عن فتاة ظهرت في الفيلم، واستخدمته لوصف قرار حاج صالح بالخروج من سوريا إلى اسطنبول، ليأتي تبرير الأخير بالقول:"ولكنني لست سياسياً، ولا عسكرياً، ولاحقوقياً". مفترضاً أن لهؤلاء وحدهم دور في "الداخل"، ومناقضاً ذاته في لقطة أخرى يقول فيها: "أحسّ أني لا أفهم خارج سوريا. كنت أفهم في سوريا". فهل المشكلة حقاً في المكان نفسه؟ وأين هو "التجريد" الفكري الذي يعيننا على الفهم، خاصّة وأن التعليق يأتي على لسان من يُقدّم عادة بوصفه "مفكراً" سورياً، ويُلصق به بغير رضى منه، لقب "حكيم الثورة"؟


 من جهة أخرى، تبدو المعالجة الدرامية للخطّين المتوازيين في مسيرة جيلين من المثقفين، حاج صالح وحمصي، التي يقول تقديم الفيلم إنّه يتطرق إلى إشكاليّاتها؛ ملتبسةً بدورها ضمناً، ويحددها فقط دخول أتاسي إلى الرقّة، وتوليه زمام التصوير بدلاً عن حمصي، والتحوّل المفاجئ للمخرج الشاب، إلى شخصية مشاركة في الفيلم، من دون حامل بصري ممهد لإسهام هذه الشخصية المستجدّة، عندما كان لا يزال في الغوطة مثلاً.

بل وسرعان ما يغيب حمصي عن العدسة لاضطراره إلى العودة من حيث أتى، حيث تتشكّل كلّ دراماه الشخصية المواكبة لتصوير الشريط، من اختفاء أحد أقاربه، واختطافه هو شخصياً من قبل ميليشيا "الدولة الإسلامية"، ومن دون وجود كاميرا مرافقة توثّق تطورات هذه الأحداث الهامّة، ليظهر، فجأة مرّة أخرى، لمجرد أن يتلو شهادته، وهي على أهميّتها لا تختلف "سينمائياً" عمّا تعودنا رؤيته في شهادات آخرين على "يوتيوب".

على أنّ حمصي لا يخفي في السياق ولعه "المبدأي" ببطل فيلمه، ليصبح الشريط برمّته مُنتجاً لمخرِجَين تربطهما علاقة سابقة ما بشخصيتهما الأساس، متناوبين عليها بين صاحب ومريد، آخذين في الاعتبار "الرفاقية" التي جمعت يوماً أتاسي بحاج صالح. لينحو الشريط إلى تكريس مشهدية تطويبية لما هو ناجز أصلاً، أكثر من اهتمامه بطرح أسئلة أعمق وشائكة حول علاقة النخبة المثقّفة بمحيطها الاجتماعي. وليكون الفيلم شريطاً إضافياً على رفّ ما يسمى بسينما الـ"هاغيوغرافي" (سِير القديسين)، مقابل سينما الـ"بيوغرافي"، والتي تحاول غالباً مقاربة حيوات أناس من سلالة المشاة على الأرض.

ويتصادف في هذا السياق أن تقع عين المرء على مقابلة فلمية قصيرة أجرتها مجموعة "أبو نضارة" مع حاج صالح في وقت أسبق، وعنونتها بـ"المثقف وشبيحته"، والتي يقرّ فيها حاج صالح، ضاحكاً، بوجود هؤلاء فعلاً.

بقي حاج صالح متوارياً في العاصمة قرابة العامين ونصف العام، وللعواصم دائماً حسابات أخرى في هذا السياق تتكشّف خصوصيتها لدى الانتقال خارج سواترها المدينية، حيث لا "عاصم" من جلافة التناقضات الثقافية وإقصائيّتها في ظرف متطرف كالحرب الأهلية. لتنحسر قدرة المثقف "الغرامشي" على الصمود من أشهر هناك، إلى أسابيع وأيّام خارجها. 

فما إن يضع المحلّل النخبوي أول إصبع على المعطى الاجتماعي المستجد بعد "ثورة" فاجئته ضد نظام يعتقد أنّه يعرفه؛ حتى يباغته "نظام" جديد في مسقط رأسه، ويعجز هناك عن الصمود، أو الأخذ بيد من حوله نحو بوصلة ما.

نظامٌ طارئ آخر لم يعدّ له أي عدّة، ولا يجدّ بُداً من الدعاء عليه تهكماً تارةً، أو وصفه بالـ"غول" طوراً آخر، في استعارة لتعابير "العوام" في حكايا الجنيّات. ليصبح "داعش" أسطورة بفضلنا، كما، بفضلنا، هو المثقف "مؤسطر".



يصنّف أتاسي فيلمه بأنّه ينتمي إلى "سينما الطوارئ". على أنّ هذا التبويب لا يعدو كونه نحتاً متعجّلاً، والتفافاً على تصنيف موجود أصلاً باسم "التقرير الإخباري العاجل". ويحمل في طيّاته تبريراً للعثرات "السينمائية" التي سيقع فيها صانع أفلام مثقفٌ إبّان محاولته منافسة البث المباشر للمجريات "الوثائقية". وهذا ما يبدو جلياً في الفقر السينمائي البصري بعد دخول الشمال السوري، وعجز المخرج سوى عن تصوير علم واحد لتنظيم "الدولة الإسلامية"، مع أنّ الأخير سيستهلك لاحقاً جُلّ النقاش الدائر في الفيلم.

لا يجب، في حال من الأحوال، أن تقودنا الخيارات الإخراجية في "بلدنا الرهيب" (الجائزة الكبرى في "مهرجان مرسيليا الدولي" 2014) إلى محاكمة شخصيّته الرئيسية كما ظهرت أمامنا بمعزل عن باقي انتاجها الغزير السابق واللاحق على الثورة في  سوريا. بل قد تتجلى بركة الفيلم الجديد في إثارة كل هذه الأسئلة بالذات.

علّنا نصل يوماً إلى خلاصة "رهيبة" بدورها، تقول: "نعم، لقد فاتنا نحن المثقفين أن نكون من طينة هؤلاء الناس، ولكن دعونا نصنع شيئاً آخر من كل هذا التراب".




نشر معظمها في العربي الجديد