2010-08-08

ملفات الثقافة الجنسية في الإعلام السوري


كثير من اللف, قليل من الثقافة, ... ومن دون جنس





لطالما بدا الإعلام المحلي السوري في الفترة الأخيرة مفتونا بصيغة (فتح الملفات) والمجلدات والدفاتر, قديمها وحديثها, ما استطاع إلى ذلك سبيلا, وبشهية طيبة ربما, مقارنة بالفترة الماضية التي نال فيها الكبت والتضييق من أغلب عناوين السياسة والدين والجنس فيما يعني السوريين؛ حدا انقرضت فيه هذي الثيمات من التداول الاعلامي المحلي أو كادت.

ومن هنا, نجد أن هذا الإعلام كثيرا ما انساق مؤخرا -مغفورا له إلى حد ما- وراء غواية التطرق لمواضيع تحمل نكهة هذه التابويات وأثقالها, متسقطا لبلوغ مأربه غفلات الرقيب والعميد وسواهما, أكثر منه مستثمرا هامش ما يقال أنها حرية يمكن له أن يراهن عليها لإثبات استقلاليته المزعومة كإعلام خاص في طور تمييز نفسه عن التيار الرسمي شبه الجاف؛ إنما الجارف.

غير أن عددا لا يستهان به من أولئك الذين خاضوا إعلاميا في تلك الملفات إذ فتحت, سواء في المجلات والجرائد المطبوعة, أو البرامج التلفزيونية والإذاعية, وبطبيعة الحال المواقع الالكترونية السورية, انتهوا بطريقة أو بأخرى إلى التعلق في نهاية المطاف بـأستار (شرف المحاولة), بعد أن فجأ القوم قليل وتواضع ما وصلوا إليه في مادتهم النهائية, على الرغم من كل تلك الفتوح المانشيتية, والاستهلالات التعبوية في الافتتاحيات وبانرات الإعلان, متذرعين أحيانا أمام الأسئلة بضيق الوقت والكوادر عن استكمال العمل, وبأنهم (عائدون) لابد في جولات قادمة, ومتعللين أحايين أخرى بالداهم من متغيرات السياسة والاقتصاد, مستبدلين موضوعا بغيره, وملفا بآخر, وربما منساقين في النهاية –وخروجا من خلاف- لاعتبار أن لملفهم (ربا يحميه), وأن الأعمال إنما هي بالنوايا, وإن إلى حين.

وما تقدم يصلح بلا ريب, ودون تجن يذكر- لوصف حال العديد من تلك الملفات المفتوحة أبدا على مصراعيها في تناولات إعلامنا السوري, ولعل (ملف الثقافة الجنسية) يأتي في مقدمة تلك الملفات, متقدما على غيره في شؤون السياسة المرة, والاقتصاد الذي لا تهمد ناره, ويعتقد كثيرون أن ملف الجنس والثقافة الجنسية ودون مبالغة كبيرة هو صاحب الرصيد الأعلى في التداول الإعلامي على هذا الصعيد.

على أن ملفات الثقافة الجنسية في الإعلام السوري مطبوعة منذ زمن غير يسير بطابع يحمل في طياته مزيجا مرتجلا يجمع قلة الخبرة, إلى الكسل, ومحدودية الأفق, والاستسلام للنمط, من طرف المجتهدين الإعلاميين المحليين تجاه مقاربات من هذا النوع, أكثر منه توجسات رقابية, أو محاذير تحريرية, من دون أن نغفل بحال الكبت الجنسي نفسه موضوع البحث الأثير لدى هؤلاء الإعلاميين, والذي إن لم يعانوا منه كلهم ممارسة, فإن جلهم بالتأكيد ليس بمعصوم عن مفاعيله الاجتماعية والثقافية.

لدرجة أن الخارج عموما من معمعة تصفح ملفات من هذا النوع, بالكاد يحظى بأي جديد, سواء في حقل الفكرة أو الطرح, أو لجهة شكل الإخراج والتقديم.
وكل ما يمكن تحصيله عادة على هذا المستوى لا يتعدى قائمة موسوعية خطيرة من المفردات والاصطلاحات الطبية -لاتينية ومعربة- لعديد الأمراض الجنسية, أو ما بحكمها, والتي تبدوا أعراض بعضها أرحم من أسمائها, وهي تصور لنا وفق تلك الاستطلاعات والمداخلات كمفترس رابض لنا في جنبات وزوايا كل سرير أو خلوة.

فمن الحلأ التناسلي إلى الكلاميديا, ومن السيلان إلى الهربس, ومن الترايكومونس إلى رايتر, ومن الجرب إلى التهاب البروستاتا, مع احتفاء إحصائي خاص كل مرة بالأكثر كلاسيكية.. الايدز.

هذا, أو دزينة مجانية جليلة من الفتاوى الدينية والأحكام الروحية التي لا راد لقضائها, في أرجوحة الحلال والحرام, وبصلاحية مفتوحة ومدى فضفاض يطال مختلف المذاهب والملل, بدء بأحكام البلوغ والحيض, مرورا بأنواع الأنكحة وآداب الجماع وأذكاره, وصولا إلى رجم الزاني المحصن, وكراهة-تحريم إتيان الحلائل في الدبر, وموبقات الاستمناء, وأحكام فرك المني وغسله, وليس انتهاء بالأكثر إثارة للجدل –لاحظ الجدل لا المتعة- من الانعاظات الماراثونية في أحضان الحور العين, والتأويلات التطهرية لنكاح الغلمان المخلدين في الفردوس.

وذلك كله لا ينقضي بحال من الأحوال دون جولة أفق نفسية -غالبا ما تكون بدون أفق- والتي باتت لازمة في ملفات من هذا النوع, بمعلوماتها المكرورة حول الباراسيكولوجي, والعقد النفسية ذات المنشأ الجنسي, من أوديب إلى إلكترا إلى ديانا وسواها, في استنزاف فرويدي طقوسي ممض.

أما الآفات المجتمعية التي تندرج في السياق, فهي المفضلة ولاشك, وتحظى بحصة الأسد من المتابعة والتحليل, ويتم إيلاؤها عناية خاصة, كونها ستمسي قريبا جدا, بعد التفريغ النهائي للمنتج الإعلامي إياه, المصدر الأساس للعناوين الطنانة, والمادة الدسمة للاقتباسات الميلودرامية, التي ستتصيد المشاهدين والقراء الغفل متى سولت لهم أنفسهم تشغيل التلفاز, أو فتح الموقع الالكتروني.
وتتربع على عرش تلك التشوهات المجتمعية أحاديث العنف الجنسي الأسري, وقصص الاغتصاب, وبوليسيات سفاح القربى, وعوالم الدعارة, والشذوذ, وزنا المحارم, وكوابيس التحرش الجنسي, وإتيان البهائم, إلى آخر تلك القائمة الممطوطة.

وبالطبع ترقد هناك في الأثناء وبسلام يقيني لايتزعزع, المقاربة الفلكلورية للمثلية الجنسية, والتي تتعمد تنحية التحليلات النفسية والبيولوجية العلمية الحديثة لهذه الظاهرة, تطهرا من الترويج للـّواط أو السحاق, وفق الانطباعات الرجعية لكثير من إعلاميينا المنفتحين على العالم في مكان آخر, والذين لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتدقيق, وتقديم المادة في إطارها العلمي الموضوعي, مع ضمان حقهم بالاحتفاظ بآرائهم الشخصية لأنفسهم.

لتغدو هذه الملفات وقد (ارتكبت), مسلسل رعب متكامل الحلقات, دونها ملفات عن (القاعدة) و(الأسلحة الذرية) و(الإرهاب الدولي).

فهل الجنس كله يا ترى عبارة عن أمراض فتاكة, ومحرمات مهلكة, ومنازعات اجتماعية متوعدة؟

هل يشفع لنا التذرع بواقع الحال –على افتراض انه كذلك- في التهرب من واجب إلقاء الضوء على زوايا أخرى للموضوع موجودة بين ظهرانينا بالفعل, ولا تحتاج منا إلى أي اختراع أو فبركة, بقدر ما تحتاج إلى إمعان لعين النظر والتفكير, لإنزالها المكانة التي تستحق.

أين هي حصة المتعة واللذة والإشراق الحسي في (جنسنا)؟

أين هو إيروس (كيوبيد لدى الرومان)، بقوسه المتأهب لإطلاق سهام الحب, من كل ذلك اللغط الإعلامي المتصحف, والجلبة التثاقفية المصطنعة.
(لا صلة للكلمة اللاتينية بالمرادف العربي في اللهجة الدارجة للعضو الذكري)

أين هي مطالعات الكتب التراثية –لمن لا يتقنون لغة أجنبية- والتي قد تفتح بعض صفحاتها آفاقا ما أمام هؤلاء الإعلاميين لسد تلك الثغرة الخطيرة في مقارباتهم البائسة تلك لموضوع على ذلك القدر الرهيف من الحميمية كالجنس.
بل لعله من الطريف أن يجد المرء أن معظم تلك المؤلفات والكتب الإيروتيكية العربية إنما كانت بأقلام أئمة وشيوخ ومحدثين, يفترض بهم أن يكونوا أكثر محافظة وتزمتا من الإعلاميين السوريين, الذين أثبتوا أنهم شديدوا التشبث على ما يبدوا بذلك النوع من الوقار النكد الذي لا يخلوا من غباء, مما وسم مسيرة إعلامنا المحلي لفترة ليست بعيدة.

تقول الكاتبة السورية سلوى النعيمي: اللغة العربية هي لغة الجنس, وطالما هناك التيفاشي, والتيجاني, والسيوطي, والنفزاوي, فلماذا علي أن أقرأ جورج باتاي, وهنري ميللر, ودو ساد, وكازانوفا, والكاما سوترا!

بل بالإمكان الذهاب أبعد من هذا نحو الألف الثالث قبل الميلاد, مولين وجوهنا شطر الشعر الايروتيكي السومري, حيث غراميات الراعي دوموزي والربة إنانا، لنقرأ مع القارئين تعويذة طقوسية طبية لعلاج مشاكل الضعف الجنسي تقول ترتيلاتها: "لتهب الريح، لترتجف الحديقة، لتتجمع الغيوم، ليتدحرج المطر، ليكن انتصابي نهرا فائضا، ليكن قضيبي، المشدود كوتر قيثارة، فيها لا يخرج منها ابدا".

ولوارد ألف ليلة وليلة ما يروي الظمأ, ففي قصة (خفيفة) تحمل عنوان (الحمال والثلاث بنات), يجد المطالع كيف تبدأ الليلة بالطعام, والشراب, والهراش, والبوس, والعض, والفرك، وعندما تبلغ الإثارة مداها؛ تتناوب النساء علي خلع ملابسهن, والارتماء في بحرة الماء, والإشارة إلي موضع (الحياء), والسؤال عن اسمه، وكلما أجاب الحمال باسم، ضربنه علي قفاه عقابا علي قلة حيائه، حتي علمنه الأسماء المحتشمة كلها، وجاء دوره في التعري, فبدأ يختبرهن بالأسماء الممكنة لـ(شيئه)، ولأن الدرس اللغوي طال أكثر من اللازم، أو بسبب تأخير الحمام في ترتيب الطقوس، فإن الحمٌال لم يظفر بأكثر من هذه الملاعبات, إذ دخل القرندلية الثلاثة, وبعدهم الخليفة الرشيد ووزيره جعفر, فسكت الساهرون عن الهراش المباح.

يقول الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا :"الإيروتيكية تعني نزع صفة الحيوانية عن الفعل الجنسي، وتحويله عملا فنيا يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا والثقافة. إنها عامل مغن ومنتج حضاري", ويتابع " في المجتمعات البدائية لم يكن ثمة إيروتيكية، وكان الفعل الجنسي فعلا شبه حيواني جل ما يؤدي إليه هو الإنجاب, ولم تشرع الايروتيكية في الظهور إلا مع تطور المجتمع وتحرره وتثقفه. آنذاك احاطت بفعل الحب طقوس واحتفالات واخراجات ومسرحات، واغتنى هذا بالصور والاستعدادات والغرائز (الذكية) والرغبات السرية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالفن.".

وحبذا لو يصخي بعض إعلامينا السمع قليلا لـ(تصريح) الإمام الحافظ ابن قتيبة الدينوري, إذ يقول "وإذا مرَّ بك حديث فيه إفصاح بـِذكر عورة, أو فـرج, أو وصف فاحشة؛ فلا يحملنك الخشوع -أو التخاشع- على أن تصغـَّر خدَّك, وتعرض بوجهك, فإن أسماء الأعضاء لا تـُؤثم، وإنما المآثم في شتم الأعراض, وقول الزور, والكذب, وأكل لحوم الناس بالغيب.".... والله أعلم.


_________________________________________
للاستزادة
برهان العسل, سلوى النعيمي
ماريو فارغاس يوسا, حوار: جمانة حداد, النهار 2005
الاستشراق جنسياً،إرفن جميل شك, تر: عدنان حسن, تقديم: ممدوح عدوان
الميلاد المتكرر للمتعة والورع, عزت القمحاوي





2008

ليست هناك تعليقات: