2010-08-08

محاولة للإمساك بزمن الكتابة عن وفي ... "من وإلى"

على الرغم من أنّ "الـمقالات تعبّر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مجلة (من وإلى)" غير أنه ليس بوسع الـمرء إلا أن يفتري على الـمطبوعة الجديدة بعكس ذلك، على اعتبار أن ما ضمّته بين دفتيها منذ عددها الأول وحتى اليوم يعبـّر عنها أيما تعبير.

وعندما يستبين الـمرء سريعاً أن اقتراح النشر فلسطيني أيضاً، فإن ذلك لابد له أن يحسم للتو مذاقاً مختلفاً للتوقعات لا يد للـمجلة فيه ولا حيلة. وقد تريده وقد لا تسأل فيه.
بالطريقة نفسها ربما التي يصطاد العين فيها ويغويها منذ اللحظة الأولى الشكل والـمقاس الـمختلف والرشيق لها.

ليس من باب البهلوانيات اللغوية، ولا الجناس الطربي الـمبذول. "من" و"إلى"، أحرف الجر الهيـّنة التي يسهر على حركات ما يليها لغويو الإعدادية ومدققو إملاء الصحف قادرة كما لقنـّا مراراً على جرّ الجبال. ولا يبدو أن مهمة أحرف الجرّ تلك عنواناً لدوريـّة ثقافيـّة هذه الـمرة ستكون أسهل بحال من الأحوال.
(من وإلى) تفترض في ذهن مستطلعها جهات ما، أو أقطاب إرسال واستقبال تدور في بوصلتها الأشعار والقصص والـمنثورات والرسوم، وسواها من مواد العدد.
وبالنظر إلى غياب الافتتاحيات الكلاسيكية عن الـمجلة والتي عادة ما يكون من دأبها التوجيه وتيسير التأويل وابتكار السياق بحسب (سياسة) التحرير، فإن على القارئ هنا الالتحاق بفضاء تمهيدي بديل من قبيل:
"أعداؤنا يسمـّون البيانو (أفسنتير)
منذ متى وهذه الأفسنتيرات تضربُ في
يقظة الـميّت النائم؟
منذ ُمتى تـُواصل شـُغلها من إذاعة (كول
هاموسيكا) ــ بينما طائراتهم تقصف
(الضاحية الجنوبية) وتـُغيرُ على بيت من ثلاث غـُرف في مخيم جـَباليا؟"
إنما تحت اسم مقارب لـ"الافتتاحية"، وهو هنا "فتّاحة عدد". وإن كان يصلح كذلك برأي كثيرين كفتـّاحة مبدئية للفكرة، يسأل الـمرء من خلالها وبلؤم أحيانا، ماذا يريد نجوان درويش، الـمقدسي الشاب، شاعرا أو كاتبا ناشرا، من مجلته وقد بلغت روحها التاسعة؟
أصوات عربية جديدة، كإجابة أولى صارمة، مطوبة منذ الغلاف، قالت إحدى الصديقات مستغربة تجشّم عناء السؤال حتى. ومستشهدة بالجهد التنقيبي الذي قاد الـمحرر "من" رام الله الضفة الغربية "إلى" عربستان فارس. آخذاً بتلابيب أحوازيين جدد إلا عن عروبتـ(ـهم)، من الذين تتخلى عنهم اليوم دون جلبة تذكر أنظمة طوّبت نفسها لعقود حامية حمى هاتيك العروبة.
والصورة في (من وإلى) ليست ــ تشكيلا أو فوتوغرافا ــ متاعا طارئا على النص، بل تكاد تأخذ موضعها هناك في تتام وتناغم مع الـمكتوب الحروفي، كأنه لها وكأنها له.
من منزل دمشقي سرعان ما ينسى الـمرء اصطناعيـّة ندف القطن على سلّمه لتستحيل للتو عتبات لسحاب (زياد حلبي)، إلى غرف غزاويـّة في نسخها الأحدث 2008 ــ 2009 بعد القصف، والعربدة الإسرائيلية الأخيرة، وسطح منزل بصحن لاقط (مجعلك) كمظلة كسحتها ريح داهمة، وحمـّام على الشمع (محمد مسلـم).
نجاح عوض الله، حزيمة بشير، أميمة عبد الشافي، حمزة كوتي، فارس البحرة، مصطفى مصطفى، عناية جابر، حمدي زيدان، عبد الوهاب عزاوي، بهيج وردة، سحر مندور، شادي الزقزوق، حازم حرب، هاني زعرب، بهمان غوبادي، آلاء يونس، نسرين بخاري، صلاح أبو الدو، أحمد فارس، عثمان فكراوي.
هنّ وهم بعض شركاء العدد الأخير للـمجلة، منثورون بغير تساوٍ على أبواب لها إشارات ودلالات... "سرد متقطع، قاع الـمدينة، تجارب، قصيدة، قصة، بما إنو، بورتريه، أصوات الجوار، ملامح، فصول، رفوف".
ومن يعرف بعض أولئك الكتاب والتشكيليين يستدل بيسر على أنّ (من وإلى) لا تنتحل ــ أقلـّه حتى الآن ــ أمام قرائها أي غيتو شبابي تبسيطي وفق تعريفات سِنيّ الوجود الفيزيائي للشخص.
رغم أن بعض الـمشاريع الاستشرافية فيها تأتي (آلاء يونس) إنقاذاً للـماضي من تأريخيته الـمزمنة بصيغة "نفرتيتي" ماكنة خياطة فرعونية شغّلت وشغلت أرامل وأيامى الحروب الـمصريات إبان 1952.
أو كشفية فوتوغرافيا أخرى (محمد حرب) لطفل كان عليه أن يمشي على الـماء قبل أن يصل إلى شربة تروي ظمأه. كما يهيئ للناظر.
على أنه يبدو أن (من وإلى) لا تلقي بالاً لـمعاناة جدّاتها العربيات، أو حتى الغربيات الأكثر "إفصاحا" عن بلواهن. مثل (كريستيان ساينس مونيتور) (christian science monitor) و(نيويورك تايمز) (New York Times) و(شيكاغو تريبيون) (chicago tribune) وغيرها من مشيـّدات النشر و"العقارات" الصحافية الـمطبوعة الآيلة سراعا للانترنت، والإفلاس.
فللـمجلة موقع افتراضي على الشبكة الدولية لا تخشى من بث مطبوعها عليه دون كلفة إضافية، ولا تضن بشيء مما "يحبـّر" فيها على متصفحها الالكتروني الذي لا يتحمل أية أعباء مالية على الإطلاق. كيف لا، ومطبوعتها توزع بلا مقابل مادي أصلاً، وتخلو تقريباً من الإعلان والترويج التجاري.
ولعل هذا الأمر دون غيره أثار لدى بعض الدمشقيين بالذات حكة خفيفة في الذقن، خاصة وأن دمشق لـم تلبث طويلا خارجة من "تأميمات" الثقافة و"مجانية" التثاقف. إنْْ في العام الـماضي كعاصمة ثقافية، أو فيما غبر وعبر من "اشتراكية" الفكر ماضيا!.
سؤال الـمنشورات الجديدة حولنا وبلغتنا لـم يعد أقل خطراً اليوم من سؤال الكتابة الجديدة والكتـّاب الجدد، ثالوث يشد بعضه بعضا، أو يرخيه. ودائما نخب قارئ أكثر جدّة، ففاعل مجدد.
ولالتقاط هذا الأخير بالضبط لا مندوحة من انتظار الغد. على أن الغد "أقرب بكثير مما نظن" (نادين باخص).
* الهوامش والاقتباسات والإحالات من مجلة (من وإلى)، العدد التاسع، نيسان 2009، منشورات جيل للنشر، رام الله، فلسطين.

ليست هناك تعليقات: